الافلاس الواقعي

إعادة نشر بواسطة محاماة نت 

رضا شيت خطاب

عضو محكمة استئناف بغداد

نشر المقال في نيسان / ابريل 1961 ، العدد السادس ، الرائد العربي

ماهية الافلاس

الافلاس طريق للتنفيذ الجماعي على اموال المدين التاجر الذي يتوقف عن دفع ديونه التجارية ، بغية تصفية امواله وبيعها وتوزيع العائدات على الدائنين . وتعتبر احكام الافلاس من النظام العام لأن القانون التجاري قد قررها بنصوص آمرة .

لا بد للافلاس من دعوى ترفع لدى المحكمة الابتدائية المختصة ، وفق القواعد المقررة بالقانون التجاري وقانون المرافعات المدنية ، ذلك ان الافلاس حالة قانونية ، نظَم لها القانون طريقة قضائية خاصة ، إذ لا بد لشهره ، من حكم قضائي صادر عن محكمة مختصة ، وذلك هو حكم شهر الافلاس كما أشارت اليه القوانين التجارية المطبقة في كل من الجمهورية العربية المتحدة والعراق ولبنان وليبيا وتونس وغيرها من الدول .

السؤال الآن ، هل حكم شهر الافلاس الصادر عن المحكمة الابتدائية المختصة واجب لكي يعتبر التاجر في حالة افلاس ، ام ان حالة الافلاس تنشأ واقعياً من مجرد توقف المدين التاجر عن الدفع ومن دون حاجة الى صدور حكم بشهر الافلاس من المحكمة المختصة ؟

إن الحالة الثانية ، وهي حالة الافلاس التي تنشأ واقعياً من مجرد توقف التاجر المدين عن الدفع تسمى حالة الافلاس الواقعي او الافلاس الفعلي او الافلاس غير المشهر او غير المعلن . وهي حالة محل خلاف شديد ، تأخذ بها بعض التشريعات وترفضها الاخرى . وهي محل خلاف ايضاً بين الفقه والقضاء . فبينما يأخذ القضاء الفرنسي مثلا، بنظرية الافلاس الواقعي ، نجد الفقه الفرنسي الحديث يهاجمها بعنف ويصر على ضرورة صدور حكم بالافلاس كشرط من شروط حالة الافلاس .

موقف التقنيات العربية من نظرية الافلاس الواقعي

أقرت بعض التقنيات العربية الافلاس الواقعي بنصوص صريحة في القانون التجاري ، وهي اولاً : الجمهورية العربية المتحدة ( الاقليم الجنوبي ، مصر ) ، وثانياً : لبنان . اما البلاد العربية التي لم تقرها في تشريعها فهي أولا : الاقليم الشمالي من الجمهورية العربية المتحدة ( سوريا ) ، وثانياً : العراق ، وثالثا :ليبيا ، ورابعاً : تونس . وذلك حسب التفصيل التالي :

نظرية الافلاس الواقعي في القانون التجاري في الجمهورية العربية المتحدة ، الاقليم الجنوبي ( مصر )

نصت المادة 215 من قانون التجارة المصري على ما يلي : ” يجوز للمحكمة الابتدائية حال نظرها في دعوى بجنحة او جناية ان تنظر ايضاَ بطريق فرعي في حالة الافلاس وفي وقت وقوف المدين عن دفع ديونه، اذا لم يسبق صدور حكم باشهار الافلاس او سبق صدوره ، ولم تعين المحكمة بحكم آخر وقت الوقوف عن الدفع ” . وبهذا النص القانوني قرر المشرع المصري نظرية الافلاس الواقعي واجاز للمحاكم الجنائية المصرية ان تعتبر التاجر في حالة افلاس وتحكم عليه بالعقوبة المقررة لتفالسه بالتقصير او بالتدليس ، ولو لم يسبق صدور حكم باشهار افلاسه من المحكمة الابتدائية المختصة .

وبذلك قضت محكمة النقض المصرية (محكمة التمييز ) إذ قالت : ” إن القواعد القانونية تبيح للمحكمة الجنائية اثناء النظر في جريمة الافلاس ، بالتدليس ، ان تبحث بنفسها وتقدر ما اذا كان المتهم يعتبر بالنسبة للدعوى المطروحة امامها ، في حالة افلاس وما اذا كان متوقفاً عن الدفع ، وهي تتولى هذا البحث بحكم انها مكلفة باستظهار اركان الجريمة المطروحة امامها ، وأهمها التحقق من حالة الافلاس والتوقف عن الدفع وتاريخ هذا التوقف .

فنص المادة 215 من قانون التجارة الاهلي صريح في تخويل هذا الحق للمحاكم الجنائية . فلا محل للقول بأن قضائها بالعقاب قبل صدور حكم باشهار الافلاس من القضاء التجاري يعد افتئاتاً على نصوص القانون ، ويترتب عليه العبث بحقوق المفلس ، وبضمانات الدائنين ” ( نقض جنائي 25 / 4 / 32 ، مجموعة القواعد القانونية ج 2 ص 259 ) . وقضت بذلك ايضاً محكمة النقض المختلطة بقرارها المؤرخ في 25 / 4 / 1918 ، إذ قالت : “حيث ان التوقف عن الدفع ركن جوهري في جريمة التفالس بالتدليس ، ومن حق محكمة الجنح ان تقرر توافره ، ولو لم تكن التجارية قد قضت بشهر افلاس المتهم ، وحيث انه لا يوجد ما يمنع قانوناً من السير في الدعوى العمومية عن جريمة التفالس بالتدليس قبل صدور الحكم المذكور ، فلا محل إذن لوقف الفصل في الجريمة حتى يصدر حكم بشهر الافلاس ” .

وقضت محكمة النقض المختلطة ايضاً بتاريخ 30/1/ 1929 بما يلي : ” حيث ان القضاء الجنائي غير مقيد بما يصدر من احكام مدنية او تجارية لا سيما في مادة الافلاس ، وحيث ان محكمة الجنح ليس لها فقط ان تثبت حالة التوقف عن الدفع ، وصفة التاجر ، بالنسبة للمتهم رغم صدور حكم مخالف من المحكمة التجارية ، انما ايضاً لها مطلق الحرية في ان تنفي عن المتهم صفة التاجر رغم صدور حكم تجاري يعتبره كذلك ويشهر افلاسه ” .

كذلك يجوز للمحاكم المدنية ان تطبق الافلاس الواقعي فتحكم بابطال تصرف معين واقع بعد توقف المدين عن الدفع لوقوعه في فترة الريبة ، بالرغم من عدم صدور حكم بشهر الافلاس من المحكمة الابتدائية المختصة .

يترتب على ان التاجر المفلس إفلاساً واقعياً ، أن يحتفظ بادارة امواله ، ولا ترفع يده عن الادارة لعدم وجود وكيل التفليسة ، ولا يحرم الدائنون من حق التنفيذ على اموال المدين ولا يقف سريان الفوائد ، ولا يمكن التصالح مع الدائنين ، لأن الصلح يحصل بأغلبية تسري ارادتها على أقلية الدائنين .

أما ألاحكام الموضوعية بالافلاس ، كأحوال البطلان ، ومعاقبة الدائن الذي حصل على بعض المزايا من المفلس ، والقيود الواردة على حقوق زوجة المفلس ، وغيرها ، فانها تسري على الافلاس الواقعي .

ينتقد معظم الفقهاء المصريين نظرية الافلاس الواقعي ، ويحبذون الغاء المادة 215 من القانون التجاري المصري التي قررت الافلاس الواقعي ، حتى يستقيم النص الوارد في المادة 195 من القانون التجاري المصري التي تشترط صدور حكم لشهر الافلاس ، كي يصبح نظام الافلاس في القانون المصري متناسقاً ، ويحقق الغرض الذي شرع من أجله .

الافلاس الواقعي في القانون التجاري اللبناني

قرر المشرع اللبناني بنص صريح نظرية الافلاس الواقعي ، إذ نصت المادة 498 من قانون التجارة اللبناني: ” اذا ظهر للمحكمة عرضاً في اثناء محاكمة مدنية او تجارية او جزائية ان التاجر في حالة افلاس ظاهرة ، فيحق لها ، وان لم يكن الافلاس لم يعلن ، ان تطبق احكام الافلاس الاساسية كما هي محددة في هذا الكتاب “. وليس لهذه المادة ما يقابلها في القانون التجاري الفرنسي ، لكن المشرع اللبناني وضعها كما اقرها القضاء الفرنسي ، حسماً للخلاف النائي بين الفقه والقضاء في فرنسا حول تطبيق نظرية الافلاس الواقعي .

وبهذا النص الصريح يجوز للمحاكم الجنائية او المدنية او التجارية ان تطبق الافلاس الواقعي ، بطريق فرعي اثناء النظر في الدعاوى المرفوعة امامها ، بالرغم من عدم صدور حكم باشهار الافلاس من المحكمة الابتدائية المختصة . وان ما سبق ان ذكرناه حول الافلاس الواقعي في القانون التجاري المصري ينطبق على حالة الافلاس الواقعي في القانون التجاري اللبناني .

قوانين البلاد العربية التي لم تقر نظرية الافلاس الواقع

1– القانون التجاري للاقليم الشمالي ( سوريا ) في الجمهورية العربية المتحدة

ليس في القانون التجاري السوري نص متعلق بالافلاس الواقعي ، بالرغم من انه يقترب كثيراً من احكام القانون التجاري اللبناني . ويبدو انه أغفل عمداً اقتباس المادة 498 ( تجارة لبناني ) التي قررت الافلاس الواقعي . ففي القانون السوري ، يعتبر في حالة الافلاس ، كل تاجر يتوقف عن دفع ديونه التجارية ، وكل تاجر لا يدعم الثقة المالية به إلا بوسائل يظهر بجلاء انها غير مشروعة ( المادة 606 تجاري سوري ) .

ويشهر الافلاس بحكم من المحكمة الابتدائية المدنية التي يوجد في منطقتها المركز الرئيس للمؤسسة التجارية. ويجب ان تكون المحكمة التي شهرت الافلاس ذات اختصاص للنظر في كل الدعاوى المختصة بالافلاس (مادة 607 تجاري سوري ) ويكون شهر الافلاس إما بطلب من التاجر نفسه ( مادة 608 ) او من قبل دائن او أكثر ( مادة 609 تجاري سوري ) . وللمحكمة عند الاقتضاء ان تشهر الافلاس من تلقاء نفسها ( مادة 610 تجاري سوري ) . وبذلك يكون نظام الافلاس في التشريع السوري متناسقاً وليس في نصوصه تناقض .

2 – القانون التجاري العراقي

لم يأخذ القانون التجاري العراقي بنظرية الافلاس الواقعي ، بل لا بد من صدور حكم بشهر الافلاس من محكمة البداءة المختصة . ويجوز للمدين ان يطلب شهر افلاسه ، كما يجوز ذلك ايضاً للدائنين او لأحدهم ، ويجوز لمحكمة البداءة ان تحكم ، من تلقاء نفسها ، باشهار الافلاس ( مادة 150 تجاري عراقي ) .

إن الفقه والقضاء في العراق لم يقرر الاخذ بالافلاس الواقعي ، بالرغم من ان نصوص القانون التجاري العراقي متقاربة مع نصوص القانون الفرنسي . فمحكمة البداءة وحدها هي المختصة بشهر افلاس التاجر وتحديد العقوبة على التاجر المفلس بالتدليس او بالتقصير تقررها محكمة الجزاء ، الا اذا صدر حكم من محكمة البداءة بشهر افلاسه واكتسب الحكم درجة البينات ( قوة الشيء المحكوم به ) .

واذا قدمت شكوى على تاجر لاتهامه بجريمة الافلاس بالتقصير او بالتدليس لدى محكمة الجزاء او التحقيق ، فعلى تلك المحكمة ان تقرر وقف الفصل فيها الى حين صدور حكم من محكمة البداءة بشهر الافلاس . ويكون الحكم الصادر من محكمة البداءة ، بكون المدين تاجراً ومتوقفاً عن الدفع وان الدين تجاري او خلاف ذلك ، حجة امام محكمة الجزاء .

3 – القانون التجاري الليبي

لم يأخذ المشرع الليبي بنظرية الافلاس الواقعي في القانون التجاري الليبي ، بل ان شهر الافلاس يكون من اختصاص المحكمة البدائية ، إما بناء على طلب المدين او احد الدائنين او اكثر اوبناء على طلب النيابة العامة او المحكمة المختصة من تلقاء نفسها ( مادة 735 و 736 تجاري ليبي ). واذا تبين اثناء قضية مدنية عدم قدرة التاجر على دفع ديونه ، فلا يجوز لتلك المحكمة المدنية ان تشهر الافلاس ، بل على القاضي ان يطلب من المحكمة المختصة شهر افلاسه ( مادة 737 تجاري ليبي ) .

4 – القانون التجاري التونسي الجديد

لم يأخذ القانون التجاري التونسي الجديد رقم 129 لسنة 1959 بنظرية الافلاس الواقعي ، بل لا بد من صدور حكم شهر الافلاس من المحكمة التي بدائرتها المركزالرئيس بعد سماع النيابة العامة ( مادة 446 تجاري تونسي ) . ويجوز للمدين التاجر او احد الدائنين ان يطلب شهر الافلاس ، ويجوز للمحكمة من تلقاء نفسها ان تقرر شهر الافلاس ( مادة 448 و 449 تجاري تونسي ) .

نقد نظرية الافلاس الواقعي

هذه هي نظرية الافلاس الواقعي التي انشأها القضاء الفرنسي ونقلها عنه كل من المشرع المصري ( مادة 215 تجاري مصري ) والمشرع اللبناني ( مادة 498 تجاري لبناني ) ولم يأخذ بها باقي البلاد العربية . بل ان القضاء البلجيكي مستقر على عدم الاخذ بهذه النظرية ، بالرغم من ان نصوص القانون الفرنسي والبلجيكي متشابهة . كما ان مشروع تنقيح القانون التجاري الفرنسي الذي وضعته لجنة من كبار الاساتذة والقضاة والذي نشر في سنة 1949 رفض الاخذ بنظرية الافلاس الواقعي ، ونص على انه لا بد من صدور حكم بشهر الافلاس من المحكمة التجارية . ويمكن نقد نظرية الافلاس الواقعي من الوجوه التالية :

اولاً : تناقض الاحكام . فاذا أخذنا بنظرية الافلاس الواقعي فان من حق المحكمة الجنائية ان تفصل في مسائل الافلاس ، وفي حالة التوقف عن الدفع وتعيين صفة المتهم فيما اذا كان تاجراً ام لا ، بغية توقيع العقوبة المقررة عليه . وقد تقرر المحكمة الجنائية براءته لكون المتهم غير تاجر ، بينما قد يصدر حكم من المحكمة الابتدائية المختصة بشهر افلاسه لكونه تاجراً ، فيصبح عندها الحكم التجاري مناقضاً للحكم الجنائي او بالعكس . واذا ما فرضت المحكمة الجنائية على المتهم بالعقوبة المقررة ، ثم يصدر حكم من المحكمة الابتدائية بطلب شهر الافلاس لكونه غير تاجر ، فيصبح الحكمان متناقضين . وفي ذلك ما يجعل مركز المدين قلقاً ويحط من هيبة القضاء ، إذ ان المحكمة الجنائية والمحكمة البدائية لا تتقيد بما تصدره الاخرى من احكام ، بينما لو لم نأخذ بنظرية الافلاس الواقعي لكان على المحكمة الجنائية ان توقف الفصل في الدعوى الجنائية الى حين صدور حكم من المحكمة الابتدائية المختصة بشهر افلاس التاجر او رفضه ، حتى تكون المحكمة الجنائية على بينة من أمرها ، ولكي لا يحصل تناقض بين الاحكام .

ثانياً : تعارض الافلاس الواقعي مع المقومات الاساسية للافلاس التجاري . فمن المعلوم ان مقومات افلاس التجاري الاساسية هي تحقيق المساواة بين الدائنين ، فلا ينفرد احدهم دون الآخر بالاستئثار بأموال المدين المفلس ، إلا اذا كان له على تلك الاموال حق خاص ، كالرهن او الامتياز او غيرها ، وان تغل يد المدين عن التصرف في أمواله ، وان تصفى اموال التاجر المفلس تصفية جماعية لصالح كل الدائنين ، بينما في الافلاس الواقعي لا يترتب عليه حرمان الدائنين من اتخاذ اجراءات فردية ضد المدين و ترفع يده عن ادارة امواله ، بل له ان يتصرف في امواله .

ثالثاً : إن الافلاس الواقعي يؤدي الى تصفية فردية ، يتسابق بها الدائنون للحصول على حقوقهم ، مما يؤدي الى تجزئة الافلاس ، بينما الاصل في الافلاس التجاري هو وحدة الافلاس .

رابعاً : لا توجد مصلحة من تقرير الافلاس الواقعي في البلاد العربية التي تأخذ بنظرية الافلاس الواقعي لانه في مصر يجوز للنيابة العامة طلب شهر الافلاس ( مادة 196 تجاري مصري ) ، بينما في فرنسا ، ليس للنيابة العامة مثل هذا الحق . اما في لبنان ، فان للنيابة العامة ان تطلب من المحكمة اتخاذ التدابير الاحتياطية لصيانة حقوق كافة الدائنين ( مادة 493 تجاري لبناني ) .

خامساً : ليس من المنطق القانوني ان تقوم المحاكم الجنائية بتعيين تاريخ التوقف عن الدفع وغيرها من المشاكل المتعلقة بالافلاس التي تحتاج عادة الى خبرة خاصة ، بل من الافضل ترك هذا الامر للمحاكم الابتدائية المختصة بشهر الافلاس .

لهذه الاسباب نرى رفض الافلاس الواقعي . ولما كان الافلاس الواقعي مقرراً في الاقليم الجنوبي من الجمهورية العربية المتحدة ( مصر ) ولبنان فقط ، بنصوص صريحة ، ولم يأخذ بها باقي البلاد العربية ، فيا حبذا لو ألغيت المادة 215 من القانون التجاري المصري والمدة 498 من القانون التجاري اللبناني . وبذلك يصبح نظام الافلاس في البلاد العربية نظاماً متناسقاً .