الفرق بين المحامي المدني والمحامي الجزائي

إن دور المحامي في الدعوى المدنية غير دوره في الدعوى الجزائية ، ولا يوجد في قانون تنظيم المهنة أو الأنظمة الناظمة لها ما يفيد بتخصص المحامي لأحد هذين النوعين الأساسيين من المهنة ، إلا أن التعامل لدى بعض المحامين ( وخاصة الأساتذة القدامى منهم ) جرى على التخصص بأحد هذين النوعين وفروعهم .
فأصول القضاء المدني مختلفة عن أصول القضاء الجزائي ، ولا أدل على هذا الاختلاف من وجود قانونين لأصول المحاكمات يحكمان كل نوع منهما هما قانون أصول المحاكمات المدنية وقانون أصول المحاكمات الجزائية مما يجعل من دور المحامي مختلف في كل نوع .

المحامي أمام القضاء المدني

أولاً- تمثيل الخصوم في الدعوى المدنية :حصر المشرع حق تمثيل المتقاضيين والدفاع عنهم أمام القضاء بالمحامين ، ورغم أنه يجوز توكيل غير المحامين بالخصومة لكن لا يجوز لغير المحامين من الوكلاء الحضور أمام القضاء أو مباشرة الإجراءات القضائية بدون محام ، وهذا ما نصت عليه المادة /104/ من قانون أصول المحاكمات المدنية في الفقرة الأولى منها ، إلا أن الفقرة الثانية من هذه المادة استثنت من هذا المبدأ بعض الحالات التالية هي :
1- من تجيز له المحكمة المرافعة بنفسه في دعوى له أو لزوجه أو لأقاربه لغاية الدرجة الثالثة .
2- القضايا التي تنظر فيها محاكم الصلح .
3- القضايا الشرعية عدا دعاوي النسب والإرث والوقف .
4- إذا لم يبلغ عدد المحامين ثلاثة أساتذة في دائرة المحكمة .
وفي غير هذه الحالات لا يجوز للمتقاضين مباشرة إجراءات الدعوى بدون محام، وترى الدعوى بغيابهم ويعتبر الحكم بحقهم وجاهياً ، وهذا ما نصت عليه الفقرة الثالثة من نفس المادة .
والاستعانة بمحام ليست مجرد ميزة منحها القانون للمتقاضي أو إجراء ينصحه المشرع بإتباعه ، بل هي حق أصيل يتمتع به وواجب عليه لضمان حقه ، وبغير الاستعانة بمحام قد يواجه خسارة حقه لجهله بالأساليب القانونية التي تعينه على المحافظة على حقه ، وتزداد جسامة هذا الخطر عندما يكون المتقاضي محدود الثقافة والتعليم . والواقع فإنه حتى ولو كان المتقاضي ملماً بالأصول القانونية والإجرائية وبتفاصيلها الدقيقة فإن حضوره بالدعوى منفرداً بدون محام يسلب قدرته على الدفاع عن حقوقه على الوجه الأكمل ، بسبب رهبة المحكمة التي تمنعه من استجماع قدراته ومواهبه ورباطة جأشه، أو أنه قد يسيء الدفاع عن حقوقه تحت تأثير الانفعال أو الغضب .
و بسبب عقم الإجراءات القضائية أو بطئها أو علانيتها ، فهناك بعض المتقاضين من يلجئون إلى طريقة مختلفة لاسترجاع حقوقهم وهي التحكيم الذي يؤمن لهم السرعة والسرية والثقة .

ثانياً- أهمية عمل محاميي الخصمين :هناك من يقول : في كل منازعة قضائية محاميان يسمى أحدهما الشيء أبيض ويسميه الآخر أسود ، وبما أن عبارتيهما متناقضتان فلا يمكن أن يكونا معاً على حق . وأصحاب هذا المنطق لا يلقون بالاً إلى أن للحقيقة أبعاداً ثلاثة وأنها تبدو مختلفة باختلاف الزوايا التي ينظر إليها . ففي كل دعوى يقف المحاميان وجهاً لوجه يمثلان بحسن نية وإخلاص وجه الحق كما يتبيناه من زاوية موكل كل منهما، فكل من المحاميين يمثل جانباً من الحقيقة لكن القاضي وحده فقط يمثل الجانب الأرجح والأصوب .
وكلما ازدادت حدة الخلاف في الدعوى كلما اشتدت الحاجة إلى دقة وحساسية القضاء حتى تظهر الحقيقة ، وكلما تحرى كل فريق الدقة في الحجج كلما كان التعاون مثمراً في توفير هذا التوازن الذي يعري جوانب القضية كافة .
اطلب مثلاً من رسامين عظيمين رسم منظر طبيعي واحد وبنفس الوقت ، ستعود بعد فترة لتجد لوحتين مختلفتين كلياً وبشكل لا يكاد يصدق ، لكن لن تستطيع أن تزعم بأن أحدهما قد خان الحقيقة .
فعندما نتصدى للحكم على دور المحامي في الدعوى لا ينبغي أن نبني أحكامنا على أساس ما يعلمه أحد محاميي الخصمين منفرداً ، وإلا سوف يؤدي بنا الظن إلى أن نشاط هذا المحامي خليق بأن يضلل المحكمة ، والطريقة الصحيحة هي دراسة وظيفة محاميي الخصمين مجتمعين بحيث يكمل نشاط أحدهما الآخر ويسوغ تعصب كل منهما لموكله .
والحقيقة لا يمكن أن تظهر ناصعة إلا إذا استكشف جانباها المتقابلان أو المتعارضان ، فالمحامون يضعون تحت تصرف القاضي المواد الخام التي لا غنى له عنها لصياغة الحل العادل للنزاع ، ووجود محاميين متقابلين في الدعوى المدنية ضرورة حتمية لتوليد الحركة وبعث الحياة بالدعوى وبالتالي تأمين حسن سير المحاكمة وتنقية جوها وتوفير الهدوء والسكينة للقاضي لضمان سلامة الحكم .

ثالثاً- أسلوب عمل المحامي في الدعوى المدنية :ينحصر دور المحامي في الدعوى المدنية بتقديم مذكراته ودفوعه التي يدرسها ويحضرها في مكتبه ، وبالتالي فحضوره شخصياً جلسات المحاكمة لا ضرورة له ويمكن أن يرسل مذكراته ولوائحه إلى المحكمة عن طريق مدربه بالمكتب أو أي محام زميل موجود اسمه بنفس الوكالة ( باستثناء جلسات الخبرة وسماع الشهود فيجب عليه حضورهما شخصياً لمتابعتهما ) فعمل المحامي في الدعوى المدنية هو عمل مكتب أولاً وأخيراً .
ويبدأ عمل المحامي عندما يستشيره موكله في جدوى التجائه للقضاء في إحدى القضايا ، هنا يتعين عليه أن يواجه الحقائق لا بعين المحامي ذي المصلحة وإنما بعين القاضي المحايد . فأول واجباته هي أن يفحص القضية فحصاً دقيقاً محايداً يزن فيه أحقية دعوى موكله من منظار الحق والعدالة ، فينصب نفسه فيما يسمى بـ ( قاضي تحضير ) .
في المرحلة التالية يحتاج المحامي في الدعوى المدنية أن يفرد لها ملفا يختزن فيه كل ورقة أو معلومة تعود لهذه الدعوى . كما أنه من الضروري أن يحتفظ بورقة يسجل فيها تفاصيل النزاع وتطوره عن طريق سؤال الموكل واستيضاحه، فالموكل في المجال المدني هو حصراً مصدر معلومات المحامي عن مجمل النزاع لذلك عليه أن يحتفظ بتفاصيل هذا النزاع وبدقة متناهية ( فالذاكرة تخون وطول أمد الدعوى يُنسي ) .
وبعد ذلك يقوم المحامي بدراسة الملف بصورة موسعة تمهيداً لوضع استدعاء الدعوى أو الرد عليها ، وأن لا يبحث فيها إلا ما تدعو إليه مقتضيات الدفاع ، وأن لا يثقل على القضاة في الإسهاب والإطناب والإسراف والتكرار وكتابة المذكرات في غير مقتضى .

رابعاً- دور المحامي في الدعوى المدنية :لا يقتصر دور المحامي في الدعوى المدنية على عرض الوثائق والأدلة والإشارة إلى نصوص القانون والاجتهادات ، أو حتى رصد مسار الدعوى وسلامته بل يتعداه ليأخذ دور المجتهد الذي يستنطق النصوص ويفسرها ويغوص وراءها ليستظهر مقاصد الشارع .
فالمحامي يضطلع بدور يمكن أن يسمى فقهياً حين يتصدى للبحث في نص قانوني ويمضي في شرحه وتأويله ، ويرجع إلى أصوله والمذكرات الإيضاحية ويقلب الآراء في فهمه وتفسير موجباته ، ليبحث في مقاصد الشارع ويبلغ به محكمة النقض حاملاً حجته فتأخذ به ويكون لها اجتهاد جديد ، ويكون الفضل فيه لإبداع المحامي الذي يتخطى بذلك دور الفقيه ليبلغ مبلغ الأصولي .
وينبغي على المحامي أن يحتفظ بالمرونة اللازمة في الرأي في المسائل المتصلة بتفسير القانون وتأويله ، بما يوفر لـه الاستناد إلى مراجع الفقه بشكل يؤيد مصلحة موكله دون أن يتقيد برأيه الشخصي في رجاحة الحجة من عدمها .
لذلك إننا سوف نجد أن بعض الأحكام البليغة التي تضمنت إبداعاً فنياً في تحريرها يعود الفضل في أغلبها إلى محاميي الطرفين ، فكثيراً ما تكون عباراتها البليغة التي تنساب في ثناياها مأخوذة من مذكراتهما .

أخيرا : في سياق دراستنا لسلوك ودور المحامي أمام القضاء المدني لن يغيب عن بالنا أن نقول بأنه مبدئياً لا يمكن لأي محامي في أي قضية مهما تكن واضحة المعالم وظاهر الحق فيها بيناً أن يضمن نجاحها إن جاءت النتيجة بعدها مخالفة أو مخيبة في القليل أو الكثير ، فالحكم في النتيجة ليس بيد المحامي ( خاصة مع اختلاف اجتهادات المحاكم في تفسير القوانين وأحياناً تراكمها بدون ضبط وسوء وفساد اللغة التشريعية ) .

المحامي أمام القضاء الجزائي

كثيراً ما يتوهم الناس أن المحامين يقبلون الدفاع في القضايا الجنائية على أساس من شعورهم بنبل الدوافع التي أدت إلى الجريمة . والأصح أن يقال أن لهؤلاء المحامين حساسية ينفردون بها من شأنها أن تستشف عناصر الخير الإنساني الكامنة حتى في نفوس المجرمين وإن خفيت على الناس ، وأن المحامين بما فيهم من عطف على الضعف الإنساني وفهم لخفايا النفس البشرية يستطيعون إظهار هذه النواحي وتمكين العدالـة من أخـذها بالاعتبار .

الفرق بين الدعوى المدنية والدعوى الجزائية :في الدعاوى المدنية شخص ضد شخص وادعاء بحق بمواجهة ادعاء بحق مخالف . وسواء ربح الدعوى هذا أم ذاك فإن الضرر أو الخطأ يقتصر على المال أو على قيم مادية صرفة . أما في الدعاوى الجزائية فإن الأمر مختلف فهناك شخص تحت رحمة الحكم والنتيجة هناك مساس بالشرف والسمعة والأهم الحرية ، وقد يطال الحكم حياة الشخص . بالمقابل هناك إنسان قتل أو مال سُرق أو شرف اغتصب ، فعندما تقع الجريمة في المجتمع يختل ويضطرب لها توازن هذا المجتمع كما يتأثر هذا المجتمع ويضطرب لكل حكم ظالم .
وعندما نتكلم عن العدالة فالعدالة موضعها ومكانها أساساً أمام المحاكم الجزائية ، وتأتي قبل العدالة أمام المحاكم المدنية أو قل بأنها الأصل وهناك الفرع .
إن كلمة محامي تعني نوع الوظيفة التي يمارسها ، فالمحامي يعني المدافع ، وفي المحاكم الجزائية دور المحامي الأساسي هو في جهة الدفاع لا الادعاء، هذه هي القاعدة وغير ذلك استثناء فالمحامي في جهة الادعاء وظيفته المطالبة بالتعويضات ليس إلا ، أما المحاماة في جهة الدفاع فهي المحاماة بمفهومها الأسمى والأرقى ، فهي وجدت لتدفع عن المتهم سهام المجتمع . ولا أدل على ذلك من ضرورة حماية المتهم من الأساليب المتبعة من المحققين ورجال الضابطة العدلية التي يستبيحون فيها أي وسيلة لانتزاع الاعتراف من المتهم سواء أكانت وسيلة عن طريق العنف المادي أو المعنوي أو كانت عن طريق الخداع ( ولا تنم هذه الوسائل إلا عن قلة ذكاء أو سوء تقدير الشخص المحقق ) .

أولاً – تمثيل الخصوم في الدعوى الجزائية :في الدعوى الجزائية هناك جهة الإدعاء وتضطلع بهذه الوظيفة النيابة العامة بصورة أساسية نيابة عن المجتمع ، وفي الطرف الآخر يقف المتهم ثم يأتي المدعي الشخصي (المضرور) ليقف إلى جانب الادعاء بمواجهة المتهم .
* المدعي الشخصي: ينحصر دوره في الدعوى الجزائية على المطالبة بالتعويضات الشخصية ، أو تنصيب نفسه مدعياً شخصياً ليستطيع الانضمام إلى جهة الادعاء ، هذا هو الأصل لكنه يستطيع أن يساعد جهة الادعاء بالكشف عن الحقائق الخافية بالدعوى كونه له مصلحة مباشرة فيها , لكن ليس له المطالبة بإيقاع العقوبة أو تكييف الدعوى عن طريق تحديد نوع الجرم ، فهذه الوظيفة هي أساساً وظيفة النيابة العامة لكن الواقع يخالف هذا الأصل فالمدعي الشخصي يكيف دعواه في شكواه ويطالب بإيقاع العقوبة وهذا مخالف لدوره في الأصل.
* المدعي في الدعوى الجزائية : المدعي في الدعوى الجزائية هو النيابة العامة ممثلة بقضاتها . والنيابة العامة نسيج قضائي خاص ومستقل أوجده المشرع لتمثيل المجتمع والدفاع عنه . ولا يوجد بين الوظائف القضائية وظيفة أدق من وظيفة قاضي النيابة العامة ، فهو باعتباره ممثلاً للاتهام متحيز لطرف من طرفي الدعوى كالمحامي لكنه كحارس من حراس القضاء ينبغي أن يكون محايداً كالقاضي تماماً . فهو محام بغير حماسة المحامين وهو قاض بغير حيدة القضاة ، وواجبه يتطلب منه أن يحافظ على توازنه بين هذين الحدين .
وممثل النيابة العامة حين يترافع فيشرح جميع ظروف الحادث وعناصر الدعوى من غير أن يفرق بين ما يصلح مستنداً للإدانة أو ما يمكن أن يكون مستنداً للبراءة لا يترافع لمجرد الاتهام ، بل من أجل الحقيقة لذلك عليه أن يعلنها حيث تكون ، وإذا خلا القانون من نص يسوغ له طلب البراءة لمتهم إذا ما انعدمت الأدلة فليس ما يمنعه من أن يترك الأمر للمحكمة لكن هناك ما يشير إلى خرق هذا المبدأ .
هذه هي وظيفة النيابة العامة ، لكن الواقع الملموس هو أن محامي الادعاء الشخصي هو الذي يتولى الدور الأساسي في الدعوى لجهة الادعاء ، لعلة أن النيابة العامة لا تقوم بدورها على الشكل الوافي في مواجهة محامي الدفاع ، كل ما تفعله هو طلب الحكم وفق قرار الاتهام ، ولعل ذلك يحصل بسبب كثرة عدد الدعاوى وقصر الوقت المتوفر أمامها ونحن لا نحاول أن نجد لها العذر بقدر ما نشير إلى سوء التنظيم القضائي وعدم ترتيبه .
*المدعى عليه في الدعوى الجزائية : المدعى عليه في الدعوى الجزائية هو شخص وجّه له اتهام أو ظن من قبل النيابة العامة ، ورفع الأمر أخيراً للمحكمة للبحث في الاتهام أو الظن الموجه إليه في ضوء الأدلة المتوفرة .
لقد أوجب القانون أن يكون للمدعى عليه محام اعتباراً من مثوله أمام قاضي التحقيق ، وإذا لم يكن المدعى عليه قد اختار محامٍٍ يدافع عنه يُسخر له أحد المحامين الأساتذة ، ويعود السبب لوجود محام دفاع في الدعاوى الجزائية إلى التفاوت الشاسع بين الخصمين المتجابهين ، أحدهما فرد بمواجهة مجتمع بكامل طاقاته وإمكاناته .
إن أول شرط لتحقيق العدالة هو التعادل والتكافؤ بين الخصمين ، ومن الصعب جداً أن يتحقق التعادل والتكافؤ في مواجهة بين فرد ومجتمع ، لذلك جاء دور المحامي ليحقق ولو نسبياً بعض هذا التعادل . وبمواجهة هذا الهجوم الجماعي . أو ليس غير المحاماة من عون ونصير يقف بوجه المجتمع وصد سهامه . ( وهذه صورة من صور كون المحاماة رسالة سامية ) .
وفي هذا السياق سأذكر كلمة : لقد .. (ألزم) القانون أن يُسخر محامي للوقوف والدفاع عن المدعى عليه أمام قاض التحقيق ولدى محكمة الجنايات. لكن للأسف فإن الذي يحصل اليوم هو إفراغ تام لمحتوى هذا الإلزام ، فنجد أن القاضي يطلب من أي محامي موجود بالمحكمة حضوره إلى جانب متهم معين ، فيذكر اسم المحامي في ضبط الجلسة دون أن يعطى الوقت الكافي قبل الجلسة لمراجعة القضية والإدلاء بأي دفع . وليس في الأمر إلا وجود اسم هذا المحامي في أوراق الدعوى فقط ، لا لشيء إلا لإخراج الحكم النهائي من رقابة محكمة النقض فيما يتصل بالناحية القانونية لتمثيل المتهم بمحامي دفاع . إن مثل هذا التصرف من قبل المحكمة لن يُسمى إلا بأنه إهدار لإحدى الضمانات المقررة في القانون للمتهم ، بل هو إهدار لأهم ضمانة تمس حرية الدفاع ، وممارسة سيئة في تطبيق القانون مما يجعله برأينا جديراً بالنقض .

ثانياً – أهمية عمل المحامي الجزائي :إن الإدعاء أشبه ما يكون بسهم يحاول أن يستهدف صدر المتهم دون تبصر. أما الدفاع فهو حزمة ضوء يمسك بها المحامي ويسلطه على القضية وهذا الضوء لا يلامس سطح الحقيقة وحسب ، بل يهتك السر عنها وينفذ إلى أعماقها الخفية و يكشف عن باطنها وأسرارها .
والمحامي يختار أنفذ عناصر الحقيقة أثراً ليظهره للقاضي فهو كالفنان مرهف الحس يملك العين اليقظى ويملك فوقها أداة للتعبير عن النواحي الخفية من الحقيقة.
وقد قيل أن أصعب محنة يمر بها القاضي الحر الضمير هي تلك التي تواجهه عندما ينبئه قلبه وضميره بوجه الحق والعدالة في قضية ، لكنه يعجز في الوقت نفسه عن الوصول إلى المسوغات المقنعة التي تؤيد رأيه بين الأدلة المقدمة بالدعوى . هنا يحتاج القاضي إلى موهبة المحامي في تقديم هذه المسوغات .
ولعل حياد القاضي يمنعه من الاندفاع والتحري عن أية حقيقة كبيرة أو صغيرة في الدعوى يمكن أن يتبدل معها وجه الدعوى . بعكس انحياز المحامي الذي يضاهي في مشروعيته حياد القاضي .
فمثلاً هناك من يقول إن الشهادة الشفوية هي الدليل النموذجي على عقم ما تقوم عليه الإجراءات القضائية من الاعتماد على أقوال الشهود . فهم يضللونها تارة بزور شهادتهم وتارة بضعف ذاكرتهم أو عدم دقة أقوالهم . لكن مسؤولية الشهود في ذلك ليست أعظم من مسؤولية من تلقى إليهم الشهادة والتي تعوزهم أحياناً القدرة على تمحيصها وتوجيهها وكشف وجه الحقيقة فيها . لهذا السبب ولأسباب أخرى عديدة تتجلى أهمية المحاماة في الدعوى الجزائية في حماية المدعى عليه والحفاظ على حقوقه أثناء سير المحاكمة ، ولهذا أوجب المشرع أن يكون للمدعى عليه محامٍ في الدعوى الجزائية .

ثالثاً – أسلوب عمل المحامي الجزائي :يختلف أسلوب عمل المحامي المدني عن عمل المحامي الجزائي . فقد بينا أن عمله في المجال المدني ينحصر بالمكتب وبين الكتب القانونية والفقهية ، بينما عمله في المجال الجزائي هو أمام القضاء ومع الموكل بالدرجة الأولى .
في البداية على المحامي الجزائي أن يستظهر تفاصيل الدعوى من موكله بصورة دقيقة وقد قيل : إن ألد أعداء المحامي موكله إذ يضع أمامه نصف الحقيقة ويخفي نصفها الآخر . والحق أنه إذا انطوى هذا القول على شيء من الصواب أو لامس الواقع في جانب فلا يمكن تعميمه ، فإذا ما اضطر المتهم أن يكذب أمام المحكمة خوف العقاب فمن المرجح أن يكون صادقاً مع محاميه فيبوح أمامه بكل ما لديه ، لثقته به وحرصه على أن يضع الحقائق كاملة بين يديه ، ليعرف كيف يدافع عنه لذلك قيل : كما أن الحياء الجسدي لا يطرق قط عيادة الطبيب كذلك الحياء الأدبي ليس له محل في مكتب المحامي .
كما أنه من واجب المحامي لكي يحسن الدفاع عن المدعى عليه أن يتعرف عليه وأن يستعيد معه تاريخ حياته ومجمل ظروفه وأوضاعه الشخصية والعائلية ، وعليه أن يزوره في السجن إن كان موقوفاً وأن يكرر الزيارة وأن يتحاور معه ويستمع إليه ويستوضحه ويسأله وأن يكون هادئاً صبوراً لا يمل .
فإعداد الدفاع يستلزم الإحاطة الشاملة في خلفية الحادثة موضوع الدعوى والكشف عن العوامل الخفية التي كانت ورائها ، وعن الأسباب البعيدة والمباشرة، لفهم شخصية المتهم وطبيعته والمراحل التي مرّ بها فكان لها أثر في تكوينه وانفعاله في ظروف الحادثة ، كل ذلك له أثر في فهم الواقعة والكشف عن أسرارها وفي تكييف الجرم وفي تحديد مسؤولية المتهم . ثم يأتي بعد ذلك دراسة الملف بما انطوى عليه من أدلة ووقائع وأقوال شهود ونتائج خبرة .
والمحامي الجزائي ملزم بالمشاركة والحضور في جميع مراحل الدعوى ابتداءً من مراحل التحقيق ووصولاً إلى المحاكمة . وإذا كان حضور المحامي في التحقيق مهماً للمراقبة فإن حضوره في المحكمة أهم لأنه فاعل أساسي في سير المحاكمة ، إضافة إلى أن وجوده بجانب موكله يبعث الطمأنينة في نفسه .

رابعاً – دور المحامي الجزائي :إن الدفاع في أية دعوى يجب أن يكون حصيلة جهد دؤوب يبذله المحامي بدءً من مرحلة التحقيق في الدعوى وانتهاءً بمرحلة المحاكمة . فالقضية موضوع الدعوى هي سلسلة متصلة من الحلقات لا تقل أهمية حلقة منها عن أهمية الحلقة الأخرى ، ولربما كانت حلقاتها الأولى هي الأخطر شأناً لما لها من دور في تحديد مسار الدعوى ونتيجتها ، مما يوجب على المحامي أن يرافق مراحل الدعوى التي يريد أن يترافع فيها وأن يستوعب دقائق الأمور فيها ، ولن يفلح في مهمته إلا إذا كان مستوعباً لقانون الأصول الجزائية وقواعد الإثبات ، مسلحاً بوعي حقوقي عميق ومنطق نافذ وحدس قوي .
والمحامي لا يمارس دور المصور العادي الذي يفتح آلته ليلتقط صورة ساكنة لواقعة الدعوى ، بل هو يمارس دور الرسام المبدع الذي يعرف كيف يحدد زاوية النظر التي يلتقط منها الصورة على نحو يظهر عناصر الحقيقة كاملة ، وقد قيل : في كل صواب زاوية ضعف إذا أحسنت استغلالها وكشفتها و أبرزتها فإنك واصل إلى قلبها وتحطيمها .
وأخيرا : وحده المحامي الذي استوعب الواقعة موضوع الدعوى ، ورافق القضية وكان ساهراً على ما تم فيها هو الحري به أن يعد دفاعه فيحدد الحقائق التي ينوي الكشف عنها لإزالة الغموض والزيف الذي لا مؤيد له ، ويستعرضها بتسلسل منطقي مترابط ويورد ما لديه من حجج ينتهي بعدها إلى مطالبه

( وبذلك تكون المحاماة ذلك “الملمس الذي تتحسس به العدالة طريقها في الاتجاه الصحيح )