تحقيق العدالة بين المحامين والقضاة

خلال عملي مصفياً قضائياً لبعض الشركات، لاحظت عدم وضوح في النصوص القانونية المتعلقة بتصفية الشركات التجارية، وعدم وجود قواعد وآليات واضحة لعلاقة المصفي القضائي بالمحكمة التي عينته ودوائر التنفيذ، واختلاف الرأي وصيغة التعامل بين قاضٍ وآخر، واجتهاد بعض القضاة ورؤساء التنفيذ بتفسيرات غير سليمة لنصوصٍ قانونية واضحة ليس فيها غموض ولا تحتمل التأويل، ما دفعني إلى البحث في هذا الموضوع وكتابة ثلاثة مقالات بعنوان “العدالة بين سلطة القاضي وممارسة المحامي” نشرت في صحيفة الوطن. ولأهمية المواضيع التي تعرضت لها بهذه المقالات في إطار تقديم الأفكار المفيدة لحسن سير العدالة وسرعة التقاضي وتنفيذ الأحكام القضائية وتفسير النصوص القانونية، وجدت ضرورة نشرها ضمن فصول هذا الكتاب.

إن القضاء هو الطريق إلى تحقيق العدالة والإنصاف ومنع الظلم والاستغلال، وهو في الوقت ذاته الميزان الذي يوازن بين جميع أطراف المجتمع ومكوناته السياسية وفقاً للدستور، وهو الذي يضمن تطبيق القوانين وتنفيذها بالشكل الصحيح ويمنع تجاوزها والتعدي عليها.

ومن هذا المنطلق فإن القضاء سلطة مستقلة عن السلطتين التشريعية والتنفيذية، فالسلطة التنفيذية هي التي تقوم بإعداد مشروعات القوانين وفقاً لحاجات الدولة والمجتمع وترسلها إلى السلطة التشريعية لتقوم بدراستها ومناقشتها وإقرارها أو تعديلها وفقاً لما نص عليه دستور البلاد، ولأعضاء مجلس الشعب حق اقتراح القوانين وتوجيه الأسئلة والاستجوابات للوزارة أو أحد الوزراء.

ويأتي إلى جانب السلطة القضائية المحكمة الدستورية التي تُعنى بشكل أساسي بكل ما يتعلق بدستورية القوانين وانسجامها مع روح الدستور وجوهره.

والقضاء ملاذنا جميعاً حكاماً ومحكومين، وهذا ما يدعونا إلى المطالبة بتحصين هذه المؤسسة ورفعها إلى مستوى ينأى بها عن كل الشبهات ويجعلها موضع ثقة الجميع، ويجعل القضاة بمنزلة رفيعة بعلمهم وسلوكهم ونزاهتهم، وهذا يستوجب وضع ضوابط وآليات صارمة لمراقبة عملهم وسلوكهم من مجلس القضاء الأعلى، ورفع الحصانة عن القاضي الذي تثبت إدانته ومحاكمته وفقاً للقانون.

لقد نص الدستور على أن القضاء مستلقون لا سلطان عليهم في قضائهم لغير القانون، وهذا يعني بوضوح أن سلطة القاضي تنحصر بالحكم بالدعاوى والقضايا المنظورة أمامه وفقاً للقوانين والتشريعات النافذة التي يجب أن تكون نصوصها واضحة لا تحتمل التأويل، وفي حال وجود نص قانوني بحاجة إلى تفسير فإن ذلك يجب أن يتم من السلطة التشريعية التي أقرت القانون بعد مناقشته ودراسته (مجلس الشعب) أو الهيئة العامة لمحكمة النقض أو إدارة التشريع لدى وزارة العدل
– حسب الحال – ولا يجوز أن يقوم القاضي بتفسير نص قانوني بحكم يصدره، وإن سلطة القاضي تنحصر بالحكم بما نص عليه القانون حول موضوع الدعوى، فالأحكام القضائية تصدر باسم الشعب العربي في سورية، وهذا يعني بوضوح أن سلطة القاضي وسلطانه في الحكم مستمدة من الشعب الذي يمثله المجلس المنتخب من قبله ويعبر عن إرادته من خلال القوانين والتشريعات التي يصدرها، وإن تفسير النص القانوني يجب أن ينطلق من غاية المشرع وما جاء في الفقه القانوني.

إن سلطة القاضي وحصانته يجب أن تكون دافعاً للتعامل مع المواطنين الذين يقفون أمامه بالأسلوب الذي يحفظ كرامتهم وإنسانيتهم بعيداً عن التعالي والفوقية، وأن يفرق القاضي في أسلوب تعامله بين المتهم المجرم والمدعي الذي يطالب بحق له والمدعى عليه الذي له الحق أن ينفي وجود هذا الحق.

لقد عصرنا مجموعة من القضاة الكبار الذين كانوا مثلاً يحتذى به في علمهم وأخلاقهم وسلوكهم واحترامهم للناس وابتعادهم عن أماكن الشبهات، وأذكر ما قاله لي أحد القضاة الكبار عن فصل قاضٍ بسبب جلوسه مع محامٍ في مقهى..

انتقل إلى جناح العدالة الآخر وهم المحامون، فهذه تأتي ضمن إطار تحقيق العدالة في ظل سيادة القانون وهي مهنة سامية يجب أن يتحلى ممارسها بأعلى درجات الالتزام بقيم وأخلاق وأدبيات المهنة، وسماها البعض (مهنة الفرسان).

ومؤخراً سمعنا عن معاناة كثيرة من المواطنين في التعامل مع وكلائهم المحامين – وطبعاً لا أقصد جميع المحامين بل بعضهم – الذين يتقاضون أتعاباً بمبالغ كبيرة تفوق بكثير ما يجب أن يأخذوه وتزداد هذه الأتعاب بنسبة كبيرة مقابل قيام المحامي باتباع أسلوب المماطلة والمراوغة في الدعوى مستفيداً من بعض النصوص القانونية التي تساعد على ذلك، ما يؤدي إلى ضياع الحقوق وإهدارها بمرور الزمن، والإخلال بحسن سير العدالة وإعاقة البت بالدعوى وتنفيذ الأحكام الصادرة.

ويبدو أن ثقافة حق المحامي بالدفاع عن موكله بأي طريقة أو أسلوب متاح له، أصبحت ثقافة منتشرة، رغم أن أساس هذا الفهم هو للدفاع عن أصحاب الحقوق وليس للدفاع عن الذين يعتدون على حقوق الآخرين ويغتصبونها.

وهنا يأتي دور نقابة المحامين التي وجدت بالأساس لتنظيم عمل هذه المهنة بكل أبعاده التي تتعلق بالوطن والمواطن وممارسة المهنة، ولا يجوز أن ينحصر عمل النقابة بالدفاع عن مصالح منتسبيها دون الاهتمام بمراقبة أدائهم ومعالجة الشكاوى التي يقدمها المواطنون بحق بعض المحامين.

إننا بحاجة ماسة إلى العمل الجدي والمسؤول من جميع الجهات الوصائية المعنية لتقوية جناحي العدالة وتحصينهما، فمؤسسة القضاء هي الأهم في بناء الدولة ومؤسساتها، ويجب أن تكون دائماً وأبداً في أول سلم الأولويات.

استكمالاً لما طرحته في المقال السابق، سأسعى في هذا المقال إلى توضيح ما يتعلق بتفسير النص القانوني والجهات المخولة بذلك، حرصاً على سيادة القانون وحسن تطبيقه. ولا بد لي قبل الدخول في الموضوع أن أذكر أن بعض السادة القضاة والمحامين قالوا لي:

إن سلطة القاضي في تفسير النص القانوني مطلقة في معرض الدعوى المنظورة أمامه والحكم وفقاً لتفسيره الذي خلص إليه.

إن هذا القول الذي على ما يبدو سائد في الأوساط القضائية، يحتاج إلى مناقشة وتوضيح للوصول إلى رؤية محددة تحقق العدالة من خلال تطبيق النصوص القانونية تطبيقاً صحيحاً وفقاً لغاية المشرع التي تهدف في أساسها إلى تنظيم كل العلاقات في المجتمع والدولة بما يحقق مصلحة الوطن والمواطن.

ويبقى ميزان العدالة هو المقياس الأهم للحكم الرشيد، ويبقى القضاء هو الجهة المعنية بصورة أساسية بتحقيق العدالة بين الناس، فهو ملاذ الجميع لإنصافهم ومنع الظلم والاستغلال وإقامة التوازن بين جميع أطراف المجتمع.

إن المعيار الأساسي لتحقيق العدالة هو تطيق القوانين وتنفيذها بالشكل الصحيح ومنع تجاوزها والتعدي عليها.

من هذا المنطلق تأتي أهمية وضع ضوابط وآليات لتفسير النصوص القانونية وفقاً لقصد المشرع وغايته بعيداً عن الارتجال والتسرع، ويؤكد ذلك ما جاء في الاجتهاد القضائي بأنه إذا لم تراع المحكمة المبادئ الأساسية في تفسير النص القانوني تكون قد وقعت في الخطأ المهني الجسيم ويكون قرارها واجب الإبطال.

وإذا عدنا إلى الدراسات والأبحاث التي قام بها فقهاء القانون حول تفسير نصوص القانون، نجد أنواعاً ومذاهب متعددة في ذلك، فهناك التفسير التشريعي والتفسير القضائي والتفسير الفقهي والتفسير الإداري، وهناك المذهب التقليدي والمذهب التاريخي ومذهب البحث العلمي الحر، وأهم ما جاء في هذه الأنواع والمذاهب يمكن تحديده بما يلي:

-إن القواعد القانونية الواضحة المعنى لا تحتاج إلى تفسير ولا يجوز تأويلها إلى مدلول غير مدلولها الواضح.

– التفسير هو بيان الحكم القانوني الأمثل الذي يفهم من النص لتطبيقه على الفرد لتحديد حكم القضاء.

– القاعدة في تفسير نصوص القانون توجب أن تقرأ مجموع هذه النصوص لتتوصل المحكمة إلى حكمة المشرع (قصد المشرع وغايته) من وضع هذه النصوص ولا يجوز اجتزاء نص لاستخلاص حكم منه إذا كان في القانون نص آخر يقيده صراحة أو ضمناً.

– حسب المذهب التقليدي يلتزم المفسر في تفسير القانون بالتقيد وفقاً لإرادة المشرع.

– التفسير القضائي هو التفسير الذي تقوم به المحاكم في معرض فصلها في القضايا المطروحة عليها بغية التوصل إلى قصد المشرع من أجل تطبيق النص أو عدم تطبيقه.

– فقه الأصول يرى بأن التفسير هو تبيين المراد من النص تبييناً صادراً من المشرع نفسه، بحيث يكون قاطعاً للاحتمال والتأويل، وهذا ما جعلني أدعو إلى حصر تفسير النصوص القانونية بالسلطة التشريعية أو الهيئة العامة لمحكمة النقض أو إدارة التشريع لدى وزارة العدل – حسب الحال – وعدم جواز أن يقوم القاضي منفرداً بتفسير نص قانوني بحكم يصدره باسم الشعب العربي في سورية.. وأسأل: هل هناك ما يمنع من أن يقوم القاضي بسؤال إدارة التشريع في وزارة العدل عن تفسير نص قانوني معين؟ أليس من الأفضل أن يصدر التفسير عن مجموع قضاة يتمتعون بالمؤهلات الكافية للقيام بذلك، ليكون التطبيق القضائي للنصوص القانونية موحداً؟

وأما النصوص القانونية التي لا يتبين لمحكمة النقض وإدارة التشريع غاية وقصد المشرع فيها، فلا بد من عرضها على السلطة التشريعية (مجلس الشعب) لتفسيرها.

إن حسن سير العدالة هو الهم الأكبر للناس ويأتي على رأس همومهم المعيشية الأخرى، وهذا ما يوجب التعاون مع السلطة القضائية ممثلة بمجلس القضاء الأعلى ووزارة العدل لمعالجة الأمور التي تعوق تحقيق العدالة ووضع الآليات الناجعة لحسن سيرها.

خلصت في المقالين السابقين إلى أن القضاء هو الطريق إلى تحقيق العدالة والإنصاف ومنع الظلم والاستغلال، وهو الميزان الذي يوازن بين جميع أطراف المجتمع ومكوناته السياسية وفقاً للدستور، ويضمن تطبيق القوانين وتنفيذها بالشكل الصحيح ومنع تجاوزها والتعدي عليها، وأنه ملاذنا جميعاً حكاماً ومحكومين.

ودعوت إلى العمل الجدي والمسؤول من جميع الجهات الوصائية المعنية لتقوية جناحي العدالة (القضاة والمحامين) وتحصينهما، فمؤسسة القضاء هي الأهم في بناء الدولة ومؤسساتها، ويجب أن تكون دائماً وأبداً في أول سلم الأولويات والتعاون معها ممثلة بمجلس القضاء الأعلى ووزارة العدل لمعالجة الأمور التي تعوق تحقيق العدالة ووضع الآليات الناجعة لحسن سيرها.

إن أهم مبادئ الحكم الرشيد سيادة القانون وتوازن السلطات وتطبيق المساءلة والمحاسبية، وإن المعيار الأساسي لتحقيق العدالة هو تطبيق القوانين وإن ميزان العدالة هي المقياس الأهم للحكم الرشيد.

إن الدولة المدنية الحديثة هي دولة مؤسسات تقوم على الفصل الحاسم والمتوازن بين السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية، والابتعاد عن الموروث الديني بكل خلافاته الفقهية والتأويلية، وتقبل القواعد والمبادئ المجردة للدولة المدنية الحديثة وهذا لا يعني الابتعاد عن المبادئ الكلية للأديان.

ومن المفروض أن تكون مؤسسات الدولة المدنية الحديثة (الديمقراطية) مؤسسات وسلطات تخدم الشعب وتحمي أمواله وممتلكاته، وتحقق الأمن الداخلي للمجتمع وملاحقة الجريمة بكل أشكالها، وحماية أمن البلاد من أي عدوان خارجي، والقيام بكل ما يؤدي إلى تحقيق مصلحة الوطن والمواطن.

أعود إلى الأفكار التي طرحتها في المقالين السابقين حول عمل القضاة، وأؤكد حرصي الشديد لأن يرتقي القاضي بعلمه وعمله وسلوكه المهني والشخصي إلى مستوىً عالٍ يجعله بمنزلة رفيعة، ويجعله محل احترام وثقة وتقدير المواطن.

وانطلاقاً من ذلك فإنه يجب علينا أن نقول الحق ونبتعد عن النفاق والمجاملة، وخاصة أننا نتحدث عن أهم شريحة في بناء الدولة والمجتمع، لكونهم المعنيين بتطبيق القانون والمحاسبة والمساءلة وحسن سير العدالة.

ونحن نؤكد ما نص عليه الدستور بأن القضاة مستقلون لا سلطان عليهم في قضائهم لغير القانون، فإننا نؤكد الأمور التالية:

لا بد من وضع الضوابط والآليات الواضحة والصارمة لمراقبة أداء القضاة من مجلس القضاء الأعلى، ولتحقيق ذلك أقترح الاستعانة بكبار القضاة المتقاعدين الذين ما زالوا قادرين على العطاء للقيام بمراجعة الأحكام الصادرة من القضاة وتقييمها بعد اكتسابها الدرجة القطعية، وذلك في إطار خطة يضعها مجلس القضاء الأعلى.
لا بد من محاسبة القاضي الذي يرتكب (خطأً مهنياً جسيماً) أكثر من مرة، وأرى أن القاضي الذي يتكرر ارتكابه (خطأً مهنياً جسيماً) عدة مرات لا يصلح أن يكون قاضياً…

إن ما طرحته بأنه لا يجوز أن يقوم القاضي منفرداً بتفسير نص قانون بحكم يصدره باسم الشعب العربي في سورية، وهل هناك ما يمنع من أن يقوم القاضي بسؤال إدارة التشريع في وزارة العدل عن تفسير نص قانوني معين؟ كان انطلاقاً من أن قاضي البداية والصلح والتنفيذ يصدر حكماً بمفرده، بينما الأفضل بل الصحيح أن يصدر التفسير عن مجموعة قضاة (مستشارين) يتمتعون بالمؤهلات الكافية واللازمة للقيام بذلك، ليكون التطبيق القضائي للنصوص القانونية موحداً وفقاً لغاية المشرع وبعيداً عن الارتجال والتسرع مع تأكيد عرض النصوص القانونية التي لا يتبين لمحكمة النقض وإدارة التشريع غاية وقصد المشرع فيها على السلطة التشريعية (مجلس الشعب) لتفسيرها.
يجب إيجاد صيغة للتعاون بين السلطة التشريعية وإدارة التشريع لدى وزارة العدل لمراجعة مشروعات القوانين لتكون نصوصها واضحة (موضوعاً ومضموناً ولغةً) لا تحتمل التأويل ولا تحتاج إلى تفسير.
تأكيد رفع الحصانة عن القاضي الذي تثبت إدانته ومحاكمته وفقاً للقانون، وعدم الاكتفاء بصرفه من الخدمة.
لا بد أن تقوم نقابة المحامين بالتعاون مع وزارة العدل لوضع الضوابط والآليات لمراقبة أداء المحامين، ومحاسبة المحامين الذين يثبت أنهم يخلون بحسن سير العدالة ويعوقون تنفيذ الأحكام القضائية المكتسبة الدرجة القطيعة بطرق وأساليب غير سليمة.
أختم وأقول: إن العدالة تعني الجميع ومن حق الجميع وعلى الجميع أن يجعلها في أول سلم أولوياته بصدق وأمانة، فالعدل هو أساس الملك، وأنا أقول إن العدل هو جوهر الحياة وأساسها.

إعادة نشر بواسطة محاماة نت