تشعبت الآراء الفقهية التي حاولت تحديد الإرادة التي ينعقد بها التصرف القانوني الذي يبرمه النائب مع نفسه الى اتجاهات ثلاث . ذهب أولها الى أن هذا التصرف ينعقد بإرادة الأصيل ، واتجه ثانيهـا الى أن هذه الإرادة هي للنائب ، ورأى الثالث ان هذا التصرف وليد اجتماع إرادتي النائب والأصيل معاً .

الاول – نظرية إرادة الأصيل

أول من قال بهذه النظرية العلامة سافيني (1). وهو يرى ان دور النائب ما هو إلا نقل إرادة الأصيل ، ولا يعدو النائب ان يكون رسولاً ينقل تلك الإرادة ، وعلى ذلك فالنائب عندما يبرم التصرف مع نفسه إنما ينقل إرادة الأصيل مرة ويعبر عن إرادته أخرى ، وينقل إرادة كلا من الأصيلين الى الآخر في حالة ما إذا كان نائباً عن الطرفين . فيكون الأصيلين هما المتعاقدين الفعليين – وفقاً لمنطوق هذه النظرية – وما النائب إلا أداة لنقل إرادتيهما (2). فالنائب بتعاقده مع نفسه مجرد رسول عن العاقد الآخر او رسول عن كلا العاقدين . ومتى كان الأصيل هو الذي يقوم بالتصرف القانوني على هذا الوجه فطبيعي ان تنصرف له آثار ذلك التصرف (3). وهذه النظرية متأثرة بالقانون الروماني وبالخلط الذي كان سـائداً فيه بين النائب والرسول . وان سلطة الشخص في إبرام التصـرف لا تغير من وصفه القانـوني ولا تخرجه عن كونه مجرد رسول ومجرد أداة للتعبير عن إرادة الأصيل (4). وغني عن البيان ان التفرقة بين النائب والرسول قد لا تكون من هينات الأمور في كل الحالات ، إلا أنه لا يمكن إغفال هذه التفرقة والقول باطراحها ، فهي قائمة ولا شك وقد أصبحت من مسلمات الفكر القانوني الحديث (5). وهذه النظرية تخلط بين الرسول الذي يحمل رسالة يجهل فحواها وهو مجرد أداة لنقل الإرادة والنائب الذي يفوض اليه أمر إبرام التصرف القانوني وتحديد مداه ومضمونه . ولا شك ان هذا من المآخذ الكبيرة على هذه النظرية فالفرق بين النائب والرسول كبير ، ولو كان النائب رسولاً فعلاً لانعقد التصرف بالاصالة ولما كان هناك تعاقد بالنيابة وبالتالي لما عُدَّ الشخص – النائب – متعاقداً مع نفسه (6) .ولو كان النائب معبراً عن إرادة الأصيل ، لما كان هناك داعٍ لإثارة الإشكالات حول تعاقد الشخص مع نفسه . ثم ان هذه النظرية لا يكون لها محل للتطبيق عندما تكون نيابة النائب قانونية ، ذلك ان الأصيل في هذا النوع من النيابة قد يكون عديم الإرادة ، كما هو الحال بالنسبة للولي على ولده غير المميز ، او ناقص الإرادة كما هو الحال بالنسبة للولي او الوصي على صبي مميز ، او سفيه . (7). وقد تكون إرادة الأصيل بعيدة تماماً عن التصرف ولا علم للأصيل به ، كما هو الحال بالنسبة للفضولي (8). او كما هو الحال بالنسبة لمن وكل آخر وكالة عامة خوله بموجبها إجراء شتى التصرفات القانونية فالأصيل هنا قد لا يعلم بتصرفات الوكيل ، فالوكيل العام يقوم في أدائه مهمته بتصرفات قانونية لعلها لم تخطر لموكله على بال ، وقد لا يتوقعها فضلاً عن أن تتجه اليها إرادته (9). وكذلك الحال بالنسبة للحارس القضائي ، فهو يتصرف في المال الموضوع تحت الحراسة بمحض إرادته بعيداً عن إرادة ذوي الشأن أصحاب الحق المتنازع فيه (10). وبالتالي فأن التسليم بهذه النظرية يقودنا في حالة ما إذا كان مصدر نيابة النائب نيابة قانونية ، على الأقل ، الى التسليم بافتراض ان الإرادة هي إرادة الأصيل وهذا الفرض لا يمكن التسليم به من الناحية القانونية (11). ثم ان القول بأن الإرادة التي ينعقد بها التصرف القانوني في حالة تعاقد الشخص مع نفسه هي إرادة الأصيل ، وان المتعاقد الحقيقي هو الأصيل يوجب علينا الاعتداد في عيوب الرضا وفي سائر ما يتصل بسلامة الإرادة وكفايتها بشخص الأصيل وهذا خلاف ما تقضي به القوانين الحديثة التي تعتد بشخص النائب المتعاقد مع نفسه من حيث سلامة الإرادة وأسباب فسادها (12). وان نظرية تتناقض نتائجها مع أحكام القانون الذي وجدت لتفسيره لا يمكن ان تكون قد بينت على اساس سليم (13). إلا أن ما وجه لهذه النظرية من نقد لا يلغي دور إرادة الأصيل تماماً في إبرام التصرف القانوني الذي يقوم به النائب حيث يكون لإرادة الأصيل دور في توجيه إرادة النائب من خلال ما يصدره من تعليمات لنائبه في أطار العلاقة الداخلية بين النائب والأصيل وهذا في حالة النيابة الإرادية . وبعد هذه الانتقادات المنطقيـة التي وجهت لهذه النظرية ، يمكن ان نقول ان هذه النظرية لا تصلح ان تكون أساساً لتحديد الإرادة التي يبرم بها التصرف القانوني الذي يبرمه النائب مع نفسه .

ثانياً – نظرية إرادة النائب

نتيجة للانتقادات التي وجهت الى نظرية إرادة الأصيل ، وما ظهر عليها من قصور عن تفسير الوقائع فضلاً عن عيوبها الذاتية كونها غير شاملة لجميع صور النيابة فقد اتجه أنصار الفقه الحديث في تحديد الإرادة التي يبرم بها التصرف القانوني الذي يبرمه النائب مع نفسه صوب إرادة النائب لما لها من دور فاعل في هذا التصرف القانوني (14). وأساس وجهتهم تلك ان النائب يعبر عن إرادته هو في حدود نيابته لا عن إرادة الأصيل ولذا فأن التصرف القانوني الذي يبرمه النائب مع نفسه ينعقد بإرادته وليس بإرادة الأصيل . فهو على الدوام متصرف فعلي ، وان انصراف آثار تصرفه الى الأصيل ليس إلا نتيجة طبيعية لمبدأ سلطان الإرادة ، بمعنى ان آثار التصرف تضاف الى ذمة الأصيل بفعل ما للإرادة من قدرة منشئة ولا غرابة في انصراف الآثار الى الأصيل إذا ما أراده النائب ، ورغب فيه الأصيل او قضى به القانون (15). وقد حاول أهرنج ان يبين كيفية انصراف أثر تصرف النائب الى الأصيل بأن النيابة تقضي الى انفصام بين السبب ( وهو مباشرة التصرف القانوني ) والمسبب ( وهو الأثر القانوني الذي يرتبه ) ، فالسبب يكون من عمل النائب والأثر الذي يرتبه ينصرف مباشرة الى ذمة الأصيل ، إذاً فأن النيابة تخرج عن المبدأ القائل بأن آثار العقود لا تنصرف إلا الى من أشترك في إبرامها (16). ان ما ذهب اليه هذا الرأي من نسبة التصرف القانوني الى إرادة النائب ( المتعاقد مع نفسه ) تتفق مع واقع الأمور وان الاعتداد بإرادة النائب يتفق مع ما تقضي به التشريعات التي أوجبت الاعتداد بإرادة النائب فيما يتعلق بسلامة الرضا وحسن النية في التصرفات القانونية (17). إلا أنها لم تبين كيف أنفصل السبب عن المسبب وهنا بقي هذا السؤال لم تجب عليه هذه النظرية ؟ وكيف ان السبب الذي هو من فعل النائب ينتج أثره في ذمة الأصيل (18). لذا فقد حاول أنصار هذه النظرية تلافي ما وجه اليها من نقد بوجهات مختلفة . فذهب الأستاذ بيلون (19). الى ان الإرادة التي يبرم بها النائب التصرف القانوني مع نفسه هي إرادة النائب وفسر انصراف أثر التصرف الى الأصيل على أساس النظرة المادية للالتزام ورأى ان صعوبة تصور حلول إرادة شخص محل أرادة شخص آخر وارتباط هذه الأخيرة من حيث النتيجة ، بإرادة غيره ، ولكنها تبدو ميسورة لو قامت على تصور انصراف أثر إرادة شخص الى ذمة شخص آخر ، فالإرادة يمكن ان يوظفها صاحبها في خدمة سواه من غير إلزام لذمته هو – صاحب الإرادة – وهذا أبرز ما في حقيقة الالتزام فهو رابطة تربط اولاً وقبل كل شيء ذمتين ماليتين ، وليس شخصين ، كما كان يقول القانون الروماني وعلى هذا الأساس لم يعد من غير المتصور أن تضاف الى ذمة الشخص التزامات لها أو عليها بفعل إرادة شخص غيره (20). لا شك ان نظرية الأستاذ بيلون قد حددت بشكل دقيق الإرادة التي يتم بها التصرف القانوني الذي يبرمه النائب مع نفسه ، إلا أنها لم تبين كيف يمكن ان يلتزم شخص بإرادة غيره ، وبالتالي يبقى السؤال مطروحاً كيف يمكن ان يلتزم الأصيل بإرادة النائب (21). وانتقدت هذه النظرية من ناحية أخرى لاعتمادها على فكرة الذمة المالية وفصلها بين الشخص وذمته المالية ، ذلك ان الفقهاء المعاصرين أخذوا يشنون هجمات النقد على فكرة الذمة المالية ذاتها (22). وهذه النظرية تتلائم أكثر في حالات النيابة العامة كنيابة الولي عن القاصر حيث يكون معهوداً للنائب مجموع مال الأصيل او كل ما يتصل بذمته المالية ، إلا أنها أقل انطباقا على حالات النيابة الخاصة التي تنصب على تصرف معين لا على إدارة مجموع مال الأصيل ، فيقتصر أثر إرادته على شيء معين بالذات لا على كل ما يتصل بذمة الأصيل . فكيف نفهم أن إرادة النائب تنتج آثارها في تلك الذمة (23). وذهب الأستاذ ان ليفي أبلمان وبو بسكو رامنسيانوا (24). انه يمكن تفادي الانتقادات التي وجهت الى نظرية الأستاذ بيلون ذلك ان النيابة ما هي إلا وصف من أوصاف التصرف القانوني شأنها شأن الشرط والأجل فهي تلحق التصرف الذي باشره النائب لحساب الأصيل فتجعل أثاره منصرفة الى ذمة الأصيل ، لذلك فأن مبدأ اقتصار أثار التصرف القانوني على من باشره لا يجد تطبيقه إلا حيثما يكون التصرف بسيطاً لم يلحقه وصف النيابة ، اما إذا لحقه هذا الوصف فأن آثار إرادة النائب تتحقق في شخص الأصيل لا في شخص النائب الذي باشر التصرف ، ذلك ان من شأن الوصف ان يعدل في آثار التصرف القانوني استناداً الى إرادة أطرافه فالأجل يؤخر وقوع الآثار والشرط يعلق وقوعها او انقضائها على واقعة مستقبلية والنيابة باعتبارها وصفاً ثالثاً على رأي الأستاذ ليفي ابلمان ترجعها الى الأصيل أما بإرادة أطراف التصرف واما بمقتضى القانون الذي أفترض هذه الإرادة فأستند اليها في تقدير هذا التعديل في الآثار (25). إلا انه يؤخذ على هذه النظرية ، أنه لا يمكن اعتبار النيابة وصفاً إذ الوصف لا يستعمل إلا للدلالة على تعديل آثار التصرف القانوني فإذا اعتبرنا النيابة وصفاً في التصرف يتحدد به الأشخاص الذين يعتبرون أطرافاً في ذلك التصرف كان هذا انحرافاً بالنيابة عن معناها (26). ذلك ان أثر الوصف يقتصر على تعديل آثار التصرف القانوني بين عاقديه بينما مقتضى إبرام النائب التصرف مع نفسه ، ان يمتد أثر هذا التصرف الى الأصيل . او ينفذ أثر التصرف في ذمة الأصيلين ، مع بقاء النائب الذي تولى إبرام العقد مع نفسه أجنبياً عن هذا التصرف (27). كما ان الوصف أمر عارض يأتي بعد ان يستكمل التصرف كل مقوماته ، اما النيابة فهي ترتبط بصميم التصرف القانوني إذ تعين طرف العقد الذي ينصرف اليه أثره وهذا ركن من أركان العقد وليس بأمر عارض فيه (28). وبالتالي فأن هذه المحاولة لم تفلح في تبرير كيفية انصراف أثر تصرف النائب الى الأصيل .وذهب رأي في الفقه الى أن آثار العقد الذي يعقده النائب مع نفسه تنصرف الى الأصيل مباشرة ، إنما يقوم على اتجاه إرادة ذوي الشأن جميعاً الى ذلك ، فالأصيل قد ارتضى مقدماً بتخويله للنائب سلطة النيابة عنه ان تنصرف اليه آثار العقود التي يبرمها النائب . أما في النيابة القانونية فأن رضا الأصيل يحل محله نص القانون الذي ينشئ سلطة النيابة للنائب (29).

ثالثاً – نظرية اشتراك الإرادتين .

وأمام صعوبة تبرير انصراف أثر تصرف النائب الى الأصيل على أساس إرادة الأصيل وحده ، او على أساس إرادة النائب وحده ، مما دفع جانب من الفقه (30). الى القول ان لا إرادة النائب وحدها ولا إرادة الأصيل وحدها هي التي تتولى إبرام التصرف القانوني الذي يبرمه النائب مع نفسه ، بل تشترك كلاهما في إبرام التصرف ، فكلا الإرادتين هي السبب القانوني الدافع الى التعبير عن الإرادة ، وهي التي تظهر بهذا التعبير . ولهذا يكون التصرف القانوني نتيجة اجتماع إرادة النائب وإرادة الأصيل ، ويجب التعويل على كل منهما للحكم على فاعلية التصرف وصحته . فيعتد بإرادة الأصيل في حدود التعليمات الصادرة منه لنائبه . ويعتد بإرادة النائب في حدود ما باشره بنفسه (31). وبالتالي ينصرف أثر تصرف النائب الى الأصيل نتيجة اشتراك إرادته مع إرادة النائب في إبرام التصرف الذي يجريه النائب مع نفسه ، هذا إذا كانت نيابة النائب نيابة إرادية . اما في النيابة القانونية ، فالنص القانوني الذي قرر النيابة هو الذي يقضي بإضافة اثر تصرف النائب الى الأصيل (32). وان العلاقة بين النائب والأصيل لا تخرج عن حالات ثلاث ، حالة يضع الأصيل فيها للنائب تعليمات آمرة في كل ما يخص العقد المراد إبرامه ، ولذا يعتبر النائب بمثابة رسول ، ولا يعتد بإرادته في هذه الحالة ، بل بإرادة الأصيل وحدها (33). وحالة يقتصر فيها دور الأصيل على بيان التصرف موضوع النيابة ويترك للنائب حرية تقدير مضمونه بلا تقييد ولا تحديد ، وفي هذه الحالة يعتد بإرادة النائب فقط (34). وحالة يلزم فيها الأصيل النائب بإتباع تعليماته في بعض أمور التصرف ويترك له حرية التقدير فيما عداها ، وفي هذه الحالة يعتد بإرادتي النائب والأصيل في حدود ما اشتركت فيه كل منهما ، مع ملاحظة ان أحدى الإرادتين ستكون هي الغالبة (35). وذهب كلاريز أن إرادة النائب وحدها أو مشتركة مع إرادة الأصيل هي التي تحدد نطاق الالتزام ، اما الذي يخلق الرابطة القانونية ما بين نطاق الالتزام وذمة الأصيل فهي إرادة الأصيل في النيابة الاتفاقية والقانون ذاته في النيابة القانونية (36). وبناء على ما تقدم فأن أنصار هذه النظرية يقولون بوجوب البحث في شخص الأصيل عن شروط صحة التصرف مثل الأهلية المطلوبة للتملك ومشروعية التصرف وذلك لأن الغاية من التصرف تنصرف الى شخصه ، ووجوب البحث في شخص النائب عن عيوب الرضا وحسن النية ونحوهما لأنه هو الذي باشر التصرف (37). ورغم التأييـد الذي لاقته هذه النظرية إلا أنها قاصرة عن شمول كافة أنواع النيابة حيث أنها أن كانت تنطبق جدلاً ، على النيابة الاتفاقية فأنها لا تنطبق إذا كان مصدر نيابة النائب المتعاقد مع نفسه نيابة قانونية ، حيث لا يكون لإرادة الأصيل في هذا النوع من النيابة أي دور في إبرام التصرف القانوني . وفي النيابة الاتفاقية لا تنطبق هذه النظرية في الحالات التي لا يصدر فيها الأصيل لنائبه تعليمات يتوجب عليه إتباعها (38). ثم ان هذه النظرية تجعل النائب رسولاً في الحدود التي أصدر بها الأصيل لنائبه تعليمات محددة ، ونائباً فيما عدا ذلك . ويترتب على ذلك ان جزءاً من التصرف القانوني يكون قد تم بين غائبين وهو الجزء الذي نفذ فيه النائب تعليمات الأصيل وجزءاً آخر من ذات التصرف يكون قد تم بين حاضرين وهو الجزء الذي ترك فيه للنائب حرية التقدير وبناء على ذلك فما هو المكان والزمان الذين يعتبر مثل هذا التصرف قد تم فيهما (39). وإذا كانت إرادة الأصيل قد اشتركت مع إرادة النائب في التصرف القانوني الذي أبرمه النائب مع نفسه فكيف أعتبر تصرف النائب مع نفسه خروجاً عن حدود النيابة ؟ ولماذا أعتبر هذا التصرف غير نافذ في حق الأصيل ؟ وما هو تكييف هذا التصرف ؟ . ا أن هذه النظرية قد انتقدت من الناحية النظرية البحتة ، ذلك ان الإرادة المنشئة للتصرف القانوني هنا هي إرادة مركبة من جزئين مختلفين ، أجتزئ أحدهما من إرادة النائب والآخر من إرادة الأصيل ، فقيل أن مثل هذه الإرادة الملفقة التركيب لا يمكن ان يرتب عليها القانون آثاراً قانونية فالآثار القانونية تترتب على الإرادة التي هي عبارة عن نشاط نفسي صادر عن الشـخص بقصد إحداث أثر قانونـي معين ، ولذلك فهي كل ملتئم لا يقبل التجزئة (40). وهذه الانتقادات التي وجهت لهذه النظرية كفيلة بعدم الأخذ بها . نخلص الى أن التصرف القانوني الذي يبرمه النائب مع نفسه إنما يتم بإرادة النائب المستقلة القائمة بذاتها دونما اشتراك من إرادة الأصيل حتى في الأحوال التي يصدر فيها الأصيل لنائبه تعليمات محددة . وينبني على ذلك ان عنصر الأهلية اللازمة للتعاقد يشترط ان يتوفر في النائب ، واما سلامة الإرادة من العيوب فينظر الى إرادة النائب دون الأصيل وكذلك الحال بالنسبة للظروف المرتبطة بالإرادة والمؤثرة في التصرف فينظر فيه الى النائب دون الأصيل وهذه العناصر الثلاث هي التي تقوم عليها الإرادة التعاقدية (41). اما في حالة ما إذا أناب الأصيل غيره وأصدر اليه تعليمات محددة فأن إرادته هنا تلعب دوراً ليس بالقليل ، ولكن هذا الدور لا يعني أن إرادة الأصيل قد اشتركت مع إرادة النائب في إبرام التصرف القانوني . بل أن أثر هذه التعليمات او دور إرادة الأصيل ينحصر في العلاقة – الداخلية بين الأصيل والنائب – ولا يتعدى هذه العلاقة الى التصرف القانوني الذي يبرمه النائب مع نفسه نيابة عن كلا الأصيلين او نيابة عن الأصيل وبالأصالة عن نفسه . فأثر هذه التعليمات يتمثل في توجيه إرادة النائب الوجهة التي تحددها (42). فالإرادة هي إرادة النائب ولا يهم بعد ذلك ان تتكون إرادة النائب وفقاً لأوامر وتوجيهات الأصيل ، وان انعدام التوافق بين إرادة الأصيل وإرادة النائب قد يؤدي الى سقوط الإنابة وبالتالي التصرف القانوني الذي أجراه النائب (43). اما عن كيفية انصراف اثر تصرف النائب الى الأصيل فهناك من يبررها على أساس الغاية والوظيفة الاجتماعية التي يهدف اليها التصرف القانوني ، وان التصرف هو وسيلة لبلوغ غاية معينة ، تتمثل في الهدف الاقتصادي او الاجتماعي الذي يهدف اليه الشخص من وراء التصرف ، وان كل تصرف قانوني يهدف لتحقيق غاية معينة ، وان السلوك البشري – الذي تسن لتنظيمه قواعد القانون – يتميز حتماً بأمرين هما استهداف غاية واصطناع وسيلة (44). ان هذه الغاية يمكن ان تنفصل عن الوسيلة ومن الممكن ان تكون الوسيلة لشخص والغاية لشخص آخر وعلى ضوء هذه التفرقة بين آثار التصرف القانوني ، وهي الغاية الاقتصادية او الاجتماعية المقصودة منه وبين الإرادة المنشئة للتصرف وهي الوسيلة لبلوغ تلك الغاية . يمكن تفهم عمل النيابة ففي كل حالة من حالات النيابة تكون هناك غاية مقصودة لشخص معين يتوسل اليها بإرادة شخص آخر غير الذي تتحقق في ذمته الغاية المقصودة من التصرف القانوني فتكون الغاية للأصيل والوسيلة اليها للنائب (45). ويؤخذ على هذا التعليل أنه في حالة النيابة القانونية والتي غالباً ما يكون الأصيل فيها صبياً غير مميز أو مميز ، كيف تكون له غاية يتوسل بإرادة غيره ( النائب ) للوصول اليها ؟! وفي حالة النيابة العامة يتولى النائب ابرام تصرفات قانونية قد لا يعلم الأصيل بطبيعتها . وفي حالة الفضالة لا يكون الأصيل على علم بتصرف الفضولي فكيف نفترض له غاية ؟! . عليه نعتقد ان هذا التعليل محل نظر . ويبدو لي ان الإرادة التي ينعقد بها التصرف القانوني الذي يبرمه النائب مع نفسه هي إرادة النائب المستقلة وليست إرادة الأصيل ولا نتيجة اشتراك إرادتي النائب والأصيل معاً وذلك للأسباب التالية :

1-ان الشخص عندما يتعاقد مع نفسه إنما يعبر عن إرادته هو وبالتالي تتحقق حالة تعاقد الشخص مع نفسه ، فإذا كانت الإرادة التي يعبر عنها هي إرادة الأصيل فأننا لا نكون امام حالة تعاقد الشخص مع نفسه وكذلك الأمر في حالة اشتراك إرادتي النائب والأصيل معاً – لأنه وفقاً لمنطوق هذه النظرية – سيكون الشخص متعاقداً مع نفسه في جزء ، وغير متعاقد مع نفسه في الجزء الآخر( الذي اشتركت فيه إرادة الأصيل مع إرادة النائب ) وهذا يترتب عليه اختـلاف حكم أجزاء التصرف القانوني الواحد . فجزء سيكون موقوف وآخر سيكون نافذ ، وجزء سيكون التعاقد فيه بين حاضرين ، وآخر يكون التعاقد فيه بين غائبين ، على ما يترتب على هذا التبعيض من تضاد وتفارق في الأحكام لا يقبله المنطق القانوني السليم . ومن ناحية ثانية سيكون التعاقد قد تم بين شخصين ، سواء الأصيل والنائب ، او الأصيلين . وبالتالي لا تتحقق حالة تعاقد الشخص مع نفسه .

2-إذا كانت الإرادة التي عبر عنها الشخص عندما تعاقد مع نفسه هي إرادة الأصيل – او نتيجة اشتراك إرادتي الأصيل والنائب معاً – سوف لا يكون هناك مبرر لاعتبار تصرف النائب في هذه الحالة غير نافذ في حق الأصيل ، او أن يثير هذا التصرف أي اشكال طالما أن إرادة الأصيل قد اشتركت في إبرامه او أنها هي التي أبرمته .

3-ان كون الإرادة التي أنعقد بها تصرف النائب مع نفسه هي إرادة النائب ، انما يتفق مع المفهوم الحديث للنيابة ، ويتفق مع ما قضت به التشريعات الوضعية (46). والفقه الإسلامي (47).

4-أننا ننظر في الأهلية وعيوب الإرادة والظروف الخاصة التي من شأنها أن تؤثر في صحة التصرف الى شخص المتعاقد نفسه .

ونعتقد أن أثر تصرف النائب مع نفسه يمتد الى الأصيل بناء على إرادة الأصيل والغاية التي من أجلها وجدت النيابة ، وذلك إذا كانت نيابة النائب إرادية ( اتفاقية ) . ويعزز ذلك ان هذا التصرف – تعاقد النائب مع نفسه – لا ينفذ في حق الأصيل إلا إذا أجازه الأصيل قبل إبرام التصرف او بعده (48). وبناء على نص القانون الذي قرر النيابة والغاية منها في حالة ما إذا كانت نيابة النائب قانونية ، ويعزز ما ذهبنا اليه انه لا يسوغ للنائب القانوني ان يتعاقد مع نفسه إلا إذا أجاز القانون ذلك (49). اما الفقهاء المسلمين فقد قرروا منذ البدء ان التصرف الشرعي الذي يبرمه النائب مع نفسه إنما يتم بإرادة النائب في كل الأحوال وانصراف حكم التصرف وتوابعه معاً الى الأصيل في حالة إضافة التصرف اليه وهي الصورة التي تعنينا لأن النائب عندما يتصرف لنفسه فأنه لا يضيف التصرف الى نفسه بل أنه في الغالب في هذه الحالة يضيف التصرف الى الأصيل. فالنائب أصل في العقد وهو يعبر عن إرادته ويقوم العقد بكلامه ، فقد ذكر الزيلعي وهو من فقهاء الحنفية (( الوكيل أصل في العقد ، لأن العقد يقوم بالكلام ، وصحة كلامه باعتبار كونه آدمياً عاقلاً ..). والدليل على أنه أصل في العقد استغناؤه عن أضافته الى الموكل . ولو كان سفيراً ، أي رسول ، لما أستغنى عن إضافته الى المرسل . لذلك وجب أن يكون النائب مميزاً ، حتى يصح ان يكون له كلام ينتج أثراً ، وان كان لا يشترط فيه البلوغ لأنه لا يتصرف في ماله وانما يتصرف في مال غيره بتفويض منه . ويعتد بإرادته لا بإرادة الأصيل في عيوب الرضا ، فإكراهه يفسد العقد ، وله خيار فوات الوصف المرغوب فيه إذا وقع غلط (50). ويذهب الأمامية. والشافعية والمالكية والحنابلة ان الوكيل أنما يتولى إبرام العقد بإرادته هو نيابة عن الأصيل ، فهو يكشف عن إرادته ، ولذلك يعتبر قصد الإنشاء منه ، ولكن عمله ينسب الى الأصيل نخلص الى أن الفقهاء المسلمين متفقين على ان النائب عندما يبرم تصرفاً شرعياً مع نفسه أنما يبرمه بإرادته هو ، وينفذ تصرفه في حق الأًصيل ، لان ترتيب الآثار في الفقه الإسلامي من عمل الشارع .

______________________

1- د. أنور سلطان ، المصدر السابق ، بند 36،ص39 . د. عبد الحي حجازي ، المصدر السابق ، بند 553 ، ص745. 2-د. اسماعيل غانم، المصدر السابق ، بند82، ص152 .

3- د. محمد صبري السعدي ، المصدر السابق ، ص154 . د. حسن علي الذنون ، المصدر السابق ، ص44-45 ، بند 45 . د. محمود سعد الدين الشريف ، المصدر السابق ، ص132.

4- د. جاسم لفته سلمان ، المصدر السابق ، ص24 . د. مالك دوهان الحسن ، المصدر السابق ، ص213-214 .

5- أنظر في التفرقة بين النائب والرسول ص( 26 – 28 ) من هذه الرسالة.

6- د. السنهوري، مصادر الحق ، ج5 ، المصدر السابق ، ص203 . د. عبد المجيد الحكيم ، المصدر السابق ، ص89، بند 139 .

7- د. عبد الفتاح عبد الباقي ، المصدر السابق ، ص198 ، هامش رقم (1) . د. ماجد الحلواني ، المصدر السابق ، ص77 .

8- د. اسماعيل غانم ، المصدر السابق ، بند 81 ، ص151 . د. أنور سلطان ، المصدر السابق ، بند596 ، ص437-438 . انور العمروسي ، التعليق على نصوص القانون المدني ، ط1، دون ذكر مكان وزمان الطبع ، ص255.

9- محمد رضا عبد الجبار العاني ، المصدر السابق ، بند 272 ، ص212.

10- د. أحمد حشمت ابو ستيت ، المصدر السابق ، ص115 .

11- د. عبد الحي حجازي ، المصدر السابق ، بند553 ، ص745 . انظر نص م/96 ،97 من القانون المدني العراقي ، م/45 من القانون المدني المصري ، م/44 من القانون المدني الاردني ، م/ 47 من القانون المدني السوري ..

12- أنظر نص م/104 من القانون المدني المصري ، م/56 مدني كويتي ، م/111 مدني أردني ، م/105 مدني سوري ، م/104 مدني ليبي ، علماً ان لا مقابل لها في القانون المدني العراقي .

13- د. جمال مرسي بدر ، المصدر السابق ، ص82 .

14- د. جميل الشرقاوي ، المصدر السابق ، بند 19 ، ص87 . د.مالك دوهان الحسن ، المصدر السابق ، ص223.د.وحيد رضا سـوار ، المصدر السابق ، ص208 . د. عبد الفتاح عبد الباقي ، المصدر السابق ، ص219.

15- أنظر في تفصيل ذلك د. السنهوري، الوسيط ،ج1 ، المصدر السابق ، ص204 . د. أنور سلطان ، المصدر السابق ، بند36 ، ص39.

16 أنظر نص م/104 من القانون المدني المصري ، والنصوص الأخرى التي سبقت الإشارة اليها .

17- د. أحمد حشمت ابو ستيت ، المصدر السابق ، ص117.

18- بيلون ، نظرية النيابة في الالتزامات ، رسالة من كان ، ص43 ، نقلاً عن د. جمال مرسي بدر ، المصدر السابق ، ص84 .

19- أنظر في عرض هذه النظرية د. السنهوري، مصادر الحق ، ج5، المصدر السابق ، ص168-169 . د. عبد الحي حجازي ، المصدر السابق ، بند 553 ، ص746. أنظر في موضوع الذمة المالية د. محمد شكري سرور ، النظرية العامة للحق ،ط1، دار الفكر العربي ، القاهرة ، 1979،ص207-215 . د. منصور حاتم محسن الفتلاوي ، نظرية الذمة المالية ،ط1، دار الثقافة ، عمان ، 1999 ، ص28 ومابعدها .

20- د. محمد شكري سرور ، المصدر السابق ، ص209 . د. منصور حاتم محسن الفتلاوي ، المصدر السابق ، ص28 ، 57 .

21- د. السنهوري، الوسيط ، ج1 ، المصدر السابق ، ص204 .

22- ليفي ابلمان ، ص118 ، نقلاً عن د. عبد الحي حجازي ، المصدر السابق ، ص746.

23- د. السنهوري، مصادر الحق ، ج5 ، المصدر السابق ، ص169 . د. أنور سلطان ، المصدر السابق ، ص61 . د. جمال مرسي بدر ، المصدر السابق ، ص87-88.

24- د. عبد الحي حجازي ، المصدر السابق ، ص747.

25- د. جمال مرسي بدر ، المصدر السابق ، ص89.

26- د. السنهوري، الوسيط ، ج1 ، المصدر السابق ، ص204 .

27- د. اسماعيل غانم ، المصدر السابق ، بند 82 ، ص153 . د. ماجد الحلواني ، المصدر السابق ، ص77.

28- د. جمال مرسي بدر ، المصدر السابق ، بند49، ص94 . د. أنور سلطان ، المصدر السابق ، ص62-63.

29- د. جاسم لفته سلمان ، المصدر السابق ،ص29 .

30- د. رمضان ابو السعود ، المصدر السابق ، ص65 . د. عبد الفتتـاح عبد الباقي ، المصدر السابق ، ص200 . د. مالك الدوهان الحسن ، المصدر السابق ، ص212 .

31- أنور العمروسي ، المصدر السابق ، ص252 .د. عبد المنعم فرج الصدة ، مصادر الالتزام ، المصدر السابق ، ص144 . د. عبد المنعم البدراوي ، المصدر السابق ، ص150 .

32- د. جلال علي العدوي ، المصدر السابق ، ص214 . د. محمد صبري السعدي ، المصدر السابق ، بند 124 ، ص153 . د. عبد المجيد الحكيم ، نظرية العقد ، المصدر السابق ، بند213، ص177 . د. حسن علي الذنون ، المصدر السابق ، بند45، ص45.

33- د. جاسم لفته سلمان ، المصدر السابق ، ص29 .

34- د. عبد الحي حجازي ، المصدر السابق ، ص747. د. شمس الدين الوكيل ، المصدر السابق ، ص79.

35- د. اسماعيل غانم ، المصدر السابق ، بند83، ص155، هامش رقم (1) .

36- د. جمال مرسي بدر ، المصدر السابق ، بند 54، ص100-101 .د. سليمان مرقس ، المصدر السابق ، بند107 ،ص94 . د. عبد المنعـم البــدراوي ، المصدر السابق ، بند101 ، ص148 .

37- د. السنهوري، المصدر السابق ، الوســيط ،ج1، ص205 ، هامش رقم (1) . د. رمضان ابو الســعود ، المصـدر السابق ، ص63 . د. برهام محمد عطا الله ، اساسيات نظرية الالتزام ، مؤسسة الثقافة الجامعية ، القاهرة ، 1982 ، ص61 .

38- د. اسماعيل غانم ، المصدر السابق ، ص154 . د. حسن علي ذنون ، المصدر السابق ، ص49 . د. مالك دوهان الحسن ، المصدر السابق ، ص212.

39- انظر نص م/104 من القانون المدني المصري ، م/105 من القانون المدني السوري ، م/104 مدني ليبي ، م/111 مدني اردني .

40- آية الله العظمى الشيخ بشير النجفي في الاستفتاء الذي وجهته لسماحته في 6 شوال 1424هـ .

41- في حالة إقرار الأصيل تصرف النائب مع نفسه بعد إبرامه .

42- أنظر نص م/108 من القانون المدني المصري ، م/109 مدني سوري ، م/108 مدني ليبي ، م/ 62 مدني كويتي ، م/75 مدني جزائري .

43- آية الله العظمى الشيخ محمد اسحق الفياض ، الاستفتاء الذي وجهته لسماحته في 6شوال 1424هـ .

44- فخر الدين عثمان بن علي الزيلعي ، تبين الحقائق شرح كنز الدقائق ، مع حاشية شهاب الدين احمد الشلبي ، ج4 ، ط1، مطبعة بولاق، 743هـ ، ص256 .

45- علاء الدين ابو بكر بن مسعود الملقب بملك العلماء ، بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع ، ج6، المصدر السابق ، ص34.

46- زين الدين بن علي العاملي ، مسالك الافهام ، ج5، المصدر السابق ، ص267. الشيخ يوسف البحراني ، الحدائق الناضرة ، ج18 ، المصدر السابق ، ص322.

47- شمس الدين محمد بن شهاب الرملي ، نهاية المحتاج ،ج5، المصدر السابق ، ص48.

48- العلامة شمس الدين محمد عرفه الدسوقي ، حاشية الدسوقي على الشرح الكبير للدردير ، ج3، مطبعة عيسى البابي الحلبي ، 1230هـ، ص382-383.

49- ابو عبد الله بن أحمد ابن قدامة ، المغني ، ج5 ، مطبعة الامام ، تصحيح د. محمد خليل هراس ، ص99.

50- اية الله العظمى الشيخ بشير النجفي ، في الاستفتاء الذي وجهته لسماحته ، السوأل رقم (7) .

اعادة نشر بواسطة محاماة نت .