مبررات التزام الفرد بأحكام القانون

المؤلف : كوثر عبد الهادي محمود الجاف
الكتاب أو المصدر : التنظيم الدستوري لعلاقة الدولة بالفرد
إعادة نشر بواسطة محاماة نت

في سبيل البحث مسوغات خضوع والتزام الأفراد بأحكام القانون ينبغي أولا أن نتعرف على فكرة المصلحة العامة، ثم نعرض ثانيا لموقف المشرع من تقرير مبدأ سيادة أحكام القانون.

الفرع الأول: مراعاة المصلحة العامة.
الفرع الثاني: موقف المشرع الدستوري من تقرير سيادة أحكام القانون.

الفرع الأول. مراعاة المصلحة العامة.
تعد المصلحة العامة شرطا لمشروعية التصرف التشريعي، حيث إنها تعبر عن الغاية من العمل التشريعي، وعلى ذلك فإنها تمس المشروعية في أي تشريع. ويتوجب على المشرع أن يسعى دائما لتحقيق المصلحة العامة. حيث أن السعي لتحقيق المصلحة العامة ينظر إليه كنتيجة منطقية بالنسبة للتشريع. فهو التعبير عن الإرادة العامة، والتعبير عن سيادة الشعب، فالمشرع لا يستطيع إذن أن يتعرف إلا لتحقيق المصلحة العامة. والتشريع باعتباره صادرا من اقدر السلطات على استجلاء جوانب الصالح العام، والتعبير عن مقتضياته- لارتباط هذه السلطة بإرادة الشعب- هو الذي يمكن أن يضمن التوازن بين المصالح الفردية وبين المصلحة العامة. وهو إذ يفعل ذلك لا يجوز أن ينال من حقوق الأفراد بما يقلص من محتواها، أو يجردها من خصائصها أو يقيد من آثارها، وإلا كان هذا التنظيم مخالفا للدستور(1).

وفي هذا المعنى قالت المحكمة الدستورية العليا في مصر: أن الأصل في سلطة المشرع في مجال تنظيم الحقوق، إنها سلطة تقديرية ما لم يقيد الدستور ممارساتها بضوابط تحد من إطلاقها، وتكون تخوفا لها لا يجوز اقتحامها أو تخطيها ، وكان الدستور إذ يعهد إلى السلطة التشريعية بتنظيم موضوع معين ، فان ما تقره من القواعد القانونية في شأن هذا الموضوع ، لا يجوز أن ينال من الحقوق التي كفل الدستور أصلها ، سواء بنقضها أو بانتقاصها من أطرافها ، ذلك أن إهدار هذه الحقوق أو تهميشها عدوان على مجالاتها الحيوية التي لا تتنفس إلا من خلالها ، و لا يجوز بالتالي أن يكون تنظيم هذه الحقوق اقتحامها لفحواها، بل يتعين أن يكون منصفا ومبرراً(2).

و تأسيسا على ما تقدم، فان المادة الخامسة من إعلان حقوق الإنسان والمواطن الفرنسي لعام 1789، تحظ على المشرع أن يتصرف خوفا للمصلحة العامة. اذ نص على انه :” لا يحق أن يمنع سوى الأعمال الضارة بالمجتمع كل ما لا يحرمه القانون لا يمكن منعه، و لا يمكن أن يجبر احد على فعل ما ، لا يأمر به القانون”.

ولاحظ الفقيه Rivero أن القلق الذي كان سائدا – آنذاك – قد وضح إلى النص على هذا الحظر، الذي يمنع السلطة التشريعية أن تسن أي تشريع يتضمن اعتداءاَ ، أو منعا من ممارسة الحقوق الطبيعية والمدنية التي كفلها الدستور. وهذا الحظر- من وجهة نظره- يفترض احتمال وقوع مثل هذا الاعتداء(3). وبناء على ذلك ، كان التشريع هو تعبير عن الإرادة العامة للأمة، كما جاء في المادة السادسة من إعلان حقوق الإنسان والمواطن الفرنسي لعام 1789، وفي هذه الحالة ما هي هذه الإرادة إذا لم تكن تلك التي تسعى إلى تحقيق المصلحة العامة، وعلى ذلك فان المشرع يجب عليه السعي لتحقيق هذه المصلحة العامة.

والتساؤل الذي يثار في هذا المجال، عن ماهية المصلحة العامة ؟
إن فكرة المصلحة العامة من الأفكار التي تتميز بالمرونة، والاتساع في تحديد مفهومها. فأساس وجود الدولة هو تحقيق الخير العام أو الصالح العام المشترك. وبالتالي يجب أن يكون هذا الهدف هو الذي يحكم جميع تصرفات السلطات العامة في الدولة(4)، غير إن فكرة الصالح العام فكرة غير ثابتة بمعنى أن لكل مجتمع صالحه العام الذي يريد تحقيقه ، بل إن المجتمع الواحد تتغير نظراته إلى هذا الصالح العام في كل مرحلة من مراحل تقدمه وتطوره . فتارة يرى في النظام الرأسمالي محققا لمصالحه، وتارة يجعل من النظام الاشتراكي سبيلا إلى هذا الصالح العام ، وتارة أخرى يجعل من النظام الإسلامي أساسا لتحقيق الصالح العام(5).

وإذا نظرنا إلى الصالح العام من حيث مضمونه فإننا سنجد ثمة عناصر ثابتة لا يخلو منها كل تصور اجتماعي له. وتلك العناصر الثابتة يقتضيها مفهوم الصالح العام ذاته باعتباره صالحا مشتركا. فان اختلفت المجتمعات بحسب ظروفها في تصور مضمون الصالح العام، فإنها تجمع على أن تلك العناصر هي المقومات الأصولية لفكرة الصالح العام المشترك ، التي بدونها لا يعتبر صالحا عاما مشتركا.

ويرى جانب من الفقه العربي ، انه يمكن حصر العناصر الثابتة التي تتكون منها فكرة الصالح العام المشترك في ثلاثة عناصر هي: العدالة الاجتماعية ، والسكينة الاجتماعية ، والتقدم الاجتماعي(6).

وعرف الفقه الأمريكي فكرة المصلحة العامة، كغاية للتشريع، وانتهى جانب منه إلى أن المصالح هي الموضوع الأساسي للتشريع وهي في حالة تنازع وتداخل ومن ثم، كانت وظيفة التشريع هي التوفيق بين المصالح المتنازعة وتحقيق نوع من الهندسة الاجتماعية.

والفقه يعبر عن المصلحة بأنها المطلب أو الحاجة أو الرغبة الخاصة بالكائنات البرية الذي تسعى إلى تحقيقه فرادي أو جماعات. و من ثم يكون على الهندسة الاجتماعية في المجتمع المتمدن أن تأخذ في اعتبارها، وهذه المطالب والرغبات والحاجات، قد تقتضيها مباشرة الحياة الفردية، ومن ثم تكون مصالح فردية، وقد يقتضيها التنظيم السياسي للمجتمع، فتكون مصالح عامة. و هذه المصالح العامة تشتمل على نوعين من المصالح؛ الأول: مصالح المجتمع السياسي المنظم ( الدولة) باعتباره شخصا قانونيا في المحافظة على شخصيته وأمواله. و الثاني؛ مصالح الدولة التي تقوم على كونها حارسة على المصالح الاجتماعية(7). وفي ضوء ما تقدم، فان مصدر المشروعية في التشريع هو اتجاهه لتحقيق الصالح العام(8).

بحيث أن المشرع – في ظل تمتعه بسلطة تقديرية – إذا لم يراع تحقيق المصلحة العامة ، فانه يكون قد انحرف في استعمال السلطة التشريعية ، وذلك لأنه قد انحرف عن الغاية أو الهدف النهائي الذي ينبغي السعي وراءه ، وهو تحقيق المصلحة العامة(9). ولما كان التشريع هو الذي يحدد المصلحة، حيث يعمل بحرية، ويستطيع سن التشريعات مهما تكن الغايات التي يسعى لتحقيقها. أي انه يتصرف بسلطة تقديرية واسعة في تحديد الغايات التي يسعى لتحقيقها ، بشرط أن تكون هذه الغايات هي المصلحة العامة،التي يجب ان تكون في جميع الحالات الهدف من التشريع.وهكذا فان المشرع له الحق في تحديد الصالح العام من بين المصالح العديدة المتصارعة والمتناقضة، وهو لذلك يملك تحديد الصالح العام المفروض على الجماعة في وقت معين. ولكن المشكلة في كيفية وجود الضمان في ألا يفسر الحكام ( المشرعون) المصلحة العامة على النحو الذي يحقق مصالحهم الخاصة ، وقد يجري الانحراف عن المصلحة العامة عن طريق السلطة التشريعية نفسها، وليس يخفى أن من يملك وضع التشريع يملك تحديد المصلحة المرعية التي تحظى وحدها بحماية التشريع. و بذلك تظهر الحاجة إلى وجود رقابة قضائية تتحقق من مدى مراعاة التشريع للصالح العام(10).

الفرع الثاني
موقف المشرع الدستوري من تقرير سيادة أحكام القانون
يعني مبدأ سيادة القانون ، وجوب أن يخضع الأفراد، حكاما كانوا أو محكومين ، لحكم القانون، وإغفال هذا المبدأ يؤدي – دون شك – إلى اعتبار الأحكام التي يتضمنها الدستور بخصوص كفالة حقوق الأفراد وتنظيم واجباتهم ، في حكم العدم. ونتيجة لذلك كان لابد ان تحرص التشريعات الدستورية على تقرير وتوكيد مبدأ سيادة القانون.

وجاء دستور العراق الصادر عام 2005 مقررا لمبدأ سيادة القانون، حيث نص في المادة (5) منه على أن ( السيادة للقانون، والشعب مصدر السلطات وشرعيتها ، يمارسها بالاقتراع السري العام المباشر وعبر مؤسساته الدستورية) .

وأكد الدستور المصري لعام 1971 مبدأ سيطرة أحكام القانون. فنص في المادة (64) منه على أن:” سيادة القانون أساس الحكم في الدولة” وقررت المادة (65) من الدستور ذات المبدأ بقولها ” تخضع الدولة للقانون” وبعد أن أكد الدستور مبدأ سيادة القانون على النحو السابق أورد عدة ضمانات أساسية لكفالة احترامه.
وقضى الدستور الايطالي لعام 1947 في المادة (54) منه واجب الالتزام بأحكام القانون . حيث نصت انه:“على جميع المواطنين واجب الوفاء للجمهورية واحترام دستورها وقوانينها”.
وخصص الدستور السويسري لعام 1999 المادة (5) منه ضمن الباب الأول للقواعد العامة . وحملت هذه المادة عنوان مبادئ تصرفات دولة القانون. وتضمنت هذه المادة ما يأتي:
1– القانون هو أساس وحدة تصرفات الدولة.
2- تكون تصرفات الدولة من أجل المصلحة العامة و تتناسب مع الهدف المنشود.
3- يجب على أجهزة الدولة والأشخاص التصرف وفقا لمبادئ حسن النية.
4- يحترم الاتحاد والمقاطعات الدولي.
واختصت المادة (9) من دستور سويسرا بالحماية من التعسف وحماية حسن النية ، اذ نصت على انه:”لكل إنسان الحق في أن تعامله أجهزة الدولة دون تعسف وطبقا لمبادئ حسن النية”.
ولم يقتصر تقرير واجب الفرد في الالتزام بأحكام القانون على الدساتير الوطنية، إنما جاءت الاتفاقيات الدولية مؤكدة لهذا الالتزام. وحرصت تلك الاتفاقيات التأكيد على ان مسألة الخضوع للقانون تعد من واجبات الفرد الأساسية ، وتم الإشارة إليها في الفقرة (1) من المادة (29) من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان عام 1948 وجاء فيها: على كل فرد واجبات نحو المجتمع الذي يتاح فيه لشخصيته ان تنمو نموا حرا كاملا”
أما العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية لعام 1966 فقد أشار في الديباجة إلى انه: وإذ تدرك أن على الفرد ، الذي تترتب عليه واجبات إزاء الأفرادالآخرين وإزاء الجماعة التي ينتمي إليها ، مسؤولية السعي إلى التعزيز ومراعاة الحقوق المعترف بها في هذا العهد.

وخصصت الاتفاقية الأمريكية لحقوق الإنسان لعام 1969 المادة (32) منه لمعالجة العلاقة بين الحقوق والواجبات ، ونصت على انه:” على كل شخص مسؤوليات تجاه أسرته ومجتمعه والبشرية جمعاء. إن حقوق كل شخص في مجتمع ديمقراطي هي مقيدة بحقوق الآخرين وبالأمن الجماعي، وبالمتطلبات العادلة للخير العام”.
_______________
1- د. احمد فتحي سرور ، الحماية الدستورية للحقوق والحريات ، ط2، دار الشروق ، القاهرة ، 2000 ، ص402.
2- دستورية عليا في 6ابريل سنة 1996 في القضية رقم 30 لسنة 16 قضائية “دستورية” مجموعة احكام المحكمة الدستورية العليا ، الجزء 7،قاعدة رقم 33،ص551.
3- Jean Rivero : La Fin d un absolutisme،pouvoirs،Ni3، 1980، p.6
اشار اليه، د. عبد المنعم الصاوي، الخصوصية هي ضرورة الانسان وحمايتها ضرورة لنموه، المجلة الدولية للعلوم الاجتماعية ، ص153-154.
4- د. سعد عصفور ، قيود الحريات العامة لوقاية النظام الاجتماعي في المعسكرين الشرقي والغربي ، الكتاب الثاني ، بلا دار نشر ، بلا تاريخ ، ص132.
5- د. عبدالمنعم عبدالحميد شرف، المصدر السابق ، ص155.
6- د. نعيم عطية ، الفلسفة الدستورية للحريات الفردية ، دار النهضة العربية، القاهرة ، 1989ص35.
– د. نعيم عطية ، الفلسفة الدستورية للحريات الفردية ، دار النهظة العربية ، القاهرة ، 1989، ص 192.
7- يعتبر ( روسكو بأوند) هو صاحب اراء وافكار هذه المدرسة المكونة للفقه الاجتماعي . ينظر مؤلفه ، مدخل إلى فلسفة القانون ، ترجمة ، صلاح دباغ، ص39.
– د. محمد ماهر ابو العينين ، تلانحراف التريعي والرقابة على دستوريته – دراسة تطبيقية في مصر، دار النهظة العربية ، القاهرة ، 1987، ص305.
8- د. محمد ماهر ابو العينين ،، تلانحراف التريعي والرقابة على دستوريته، المصدر السابق ، ص302.
9- د. بكر قباني ، دراسة في القانون الدستوري، دار النهضة العربية ، القاهرة ، بلا تاريخ ، ص 213.
10- ينظر في فكرة المصلحة العامة د. محمد عصفور ، البوليس والدولة، دار الفكر العربي ، القاهرة ، 1972، ص38.