التصرفات القانونية المرتبطة بعملية نقل الدم
الأستاذ حافظ بن زلاط

باحث في قسم الدكتوراه

جامعة سيدي بلعباس

الجزائر

 

مقدمة:

لقد صاحب عملية نقل الدم تصرفات فرضها الواقع العملي و التي منها العقود التي تبرم بين مراكز نقل الدم و بين المؤسسات العلاجية و المستشفيات و المراكز الطبية الخاصة،ويعتبر الدم هو محل هذه العقود،ومن هنا نتساؤل هل يصلح الدم ليكون محلا لهذه العقود أم لا؟وهل هذه العقود هي عقود تبرعية أم عقود معاوضة؟وسيتم الاجابة على هذا التساؤل من خلال فرعين على النحو التالي:

الفرع الأول:الطبيعة القانونية لدم.

الفرع الثاني:مشروعية العقود المتعلقة بنقل الدم.

الفرع الأول:

الطبيعة القانونية لدم

يعتبر من المعلوم قانونا أنه يلزم لمشروعية العقود أن يكون محلها من الأشياء؟،حيث أن الأشياء و الأعمال فقط هي التي تصلح أن تكون محلا للاتفاقات،ولكن ليس كل الأشياء تصلح لأن تكون محلا للعقود.

كما تتضمن القوانين الوضعية قواعد قانونية متعلقة بجسد الإنسان مفادها اعتبار جسم الإنسان كشيء،وبالتالي فهو يخرج من دائرة التعامل،مما يترتب عليه عدم إمكانية أن يكون جسم الإنسان محلا لأي معاملة أو اتفاق،وتم التعبير عن ذلك بمبدأ قانوني مضمونه عدم جواز التصرف في جسم الإنسان،وبناء على ذلك لا يكون جسم الإنسان مالا أو محلا لاتفاق سواء كان بمقابل أم بدون مقابل(1).

ونخلص مما سبق أن الجسم في مجموعه لا يجوز التصرف فيه بمعنى عدم جواز بيعه أو هبته،فالجسم لا يمكن ان يكون موضوعا لنقل الملكية،لأنه ليس شيئا مملوكا لشخص،ولكن هذا المبدأ لا يصدق في حق أجزاء الجسم أو منتجاته المنفصلة عنه والتي منها الدم البشري(2).

ومنذ بداية التسعينات من القرن العشرين أمكن القول بأن القانون بدأ يدخل منتجات الجسم الإنساني والتي من بينها الدم،مما جعله يدخل ضمن دائرة الأشياء التي يجوز التعامل فيها،وتصلح أن تكون محلا للالتزام،ومنذ هذا التاريخ بدأ جسم الإنسان يتأرجح بين الأشخاص و الأشياء(3).

فيكون الجسم شخص بحسب التخصيص،وتكون الأعضاء الجسمانية بحسب الطبيعة شيئا بمجرد انفصاله طالما أنها لا تحدث به أضرارا و لا يمثل انفصالها خطر على صحة الجسم،وقد أطلق عليه الأعضاء اللينة كالدم و الهرمونات،والشعر،ومني الرجل،ولبن الأم و غيرها من الأعضاء الأخرى،وبالتالي فهي تتمتع بنظام قانوني خاص(4).

وعلى ذلك يمكن القول بأن الدم صار شيئا،وأن الشيء لا يصلح محلا لتعاقد إلا إذا كان متقوما و هوما له قيمة في نظر القانون و الشرع و يضمن قيمته من أتلفه(5).

الفرع الثاني:

مشروعية العقود المتعلقة بنقل الدم

استقر الفقه و القضاء على اعتبار الدم المنفصل عن جسم المتبرع من الأشياء التي تدخل دائرة التعامل،المر الذي يجعله صالحا لن يكون محلا للعديد من العقود،ولكن بشرط عدم وجود مقابل مادي له،بمعنى مجانية التبرع و رفض التبرع بمقابل،وبالتالي تكون العقود التبرعية في مجال نقل الدم هي المشروعة و ليس العقود التعاوضية و التي تتمثل في عقد البيع،والمقايضة،والإيجار،والعارية،والمقاولة،والشركة،والقرض(6).

ويؤكد الواقع العملي وجود نوعين من عقود المعاوضة في مجال نقل الدم تتمثل في:عقد بيع الدم،عقد مقايضة الدم.وسيتم تناول هاذين العقدين بالإضافة إلى عقد الهبة لبيان مدى مشروعيتهم في مجال نقل الدم فيما يلي:

أولا:عقد بيع الدم

يعتبر عقد البيع من العقود المسماة في القانون المدني المصري و أكثرها انتشار في الحياة العملية،ويعرفه المشرع في المادة418من القانون المدني المصري بأنه”عقد يلتزم فيه البائع بأن ينقل للمشتري ملكية شيء أو حقا ماليا آخر في مقابل ثمن نقدي”(7).

ويلزم لبان مشروعية عقد بيع الدم التعرف على موقف القوانين الوضعية و الفقه الإسلامي من بيع الدم أو منتجاته أو مشتقاته،وسيتم عرض لموقف القانون الفرنسي و القانون المصري و الفقه القانوني من بيع الدم فيما يلي:

1_ موقف القانون الفرنسي من بيع الدم:

يرفض القانون الفرنسي بيع الدم و لذلك نص في المادة 666مكرر1على أن”نقل الدم ينفذ لمصلحة المستقبل و يتعلق بالمبادئ الأخلاقية من المجانية و السرية و الهبة و في ظل غياب أي ربح في إطار الشروط المحددة في القانون….”(8).

أما الفقرة الثالثة من ذات المادة 666مكرر3تنص على أن المتبرع يستحق تعويضا عن الخسائر التي قد تلحق به و عن النفقات التي تستلزمها عملية النقل(9).

ويتضح من هذه النصوص أن المشرع الفرنسي يؤكد على مجانية التبرع بالدم،ورفض أي مقابل أو أي نوع من أنواع الربح،ولكنه أجاز لمتبرع الحصول على تعويض عن الخسائر التي تلحق به آو نفقات النقل-وتتمثل النفقات التي تستلزمها عملية نقل الدم في كيس جمع الدم،ومقابل الفحص الفيروسي لوحدات الدم أو مشتقاته،وكذلك فصل الدم إلى مكوناته الأساسية.

2_ موقف المشرع المصري من بيع الدم:

أصدر المشرع المصري قانون رقم178لسنة1960لينظم عمليات جمع و تخزين و توزيع الدم و مركباته و مشتقاته،وقد أشار إلى المجانية و إن لم ينص عليها صراحة،حيث استخدم عبارة التطوع فيما يتعلق بالدم،ولكنه لم ينص على رفض المقابل أو الربح.

أما قرار وزير الصحة المصري رقم 150لسنة 1961 فقد تضمن أسعار الدم و مشتقاته ،التي تمنح للمتبرعين بمقابل و التي تختلف بحسب الكمية و نوعية المتطوع بها.

ويتضح من نصوص القوانين و القرارات الوزارية التي صدرت بعمليات نقل الدم و مشتقاته،أن المشرع المصري قد أخذ بالنظامين التبرع المجاني و بمقابل(بيع الدم)(10).

3_ موقف الفقه القانوني من بيع الدم:

اختلف فقهاء القانون بشأن مدى جواز بيع الدم إلى اتجاهين كما يلي:

أ_ الاتجاه الأول:

يذهب جانب من الفقه الفرنسي للقول بمشروعية و حرية بيع الدم لأن ذلك مفيد اجتماعيا،وأن بيع الدم لن يوقف كرم المتبرعين بلا مقابل،وأن تنظيم بيعه لا يضعف إحسان المتبرعين.

أما الفقه المصري فيذهب للقول بجواز إعطاء الدم بالمجان، وكذلك بيع الدم حيث نص على ذلك في قانون رقم178لسنة1960.وبالتالي يجوز للمتبرع الحصول على مقابل من مركز نقل الدم حتى و إن كان المقابل ضئيلا،ولاسيما إن كان مركز نقل الدم يبيع للمرضى الدم بثمن أقل من التكلفة الفعلية له،حتى و إن كانت الدولة حريصة على مجانية التصرف في الدم،وأن الواقع يقرر بأن الدم يباع و يشترى على مرأى مسمع من القانون،مما يؤكد عدم فعالية التبرع المجاني(11).

ب_ الإتجاه الثاني:

يذهب جانب من الفقه الفرنسي للقول بعدم مشروعية بيع الدم،حيث أن القانون الفرنسي أخذ صراحة بمبدأ المجانية رافضا بيع الدم،سواء القانون الصادر في 21يوليو1952م أو القانون الصادر في 4يناير1993م.

أما الفقه المصري فيذهب للقول بعدم مشروعية بيع الدم،واستندوا في ذلك على أن المشرع قد ألغى القرارات الوزارية التي حددت أثمان الدم،والمكافئات التي تصرف للمتبرعين،وكان الدافع للمشرع هو تعميم صرف الدم مجانا في جميع مراكز نقل الدم و ذلك لجميع المرضى،لكون الدم عنصر حيوي في إنقاذ المرضى(12).

ثانيا:عقد مقايضة الدم

تعتبر المقايضة نوع من أنواع البيوع،وقد عرف القانون المدني المصري عقد المقايضة في المادة482بأنه”عقد يلتزم به كل من المتعاقدين أن ينقل إلى الآخر على سبيل التبادل ملكية مال ليس من النقود”(13).

وجاء في المادة483″إذا كان للأشياء المتقايض فيها قيم مختلفة في تقدير المتعاقدين جاز تعويض الفرق بمبلغ من النقود يكون معادلا”.وبذلك تختلف المقايضة عن البيع،حيث أن البيع يعد فيه الثمن النقدي هو الوصف الجوهري فيه و يميزه عن المقايضة.ونتساءل هل يعتبر عقد نقل الدم عقد مقايضة أم لا؟

لم يأتي في القانون الفرنسي نص قانوني يعالج فيه هذا النوع من المقايضات، وإن كان لم يبحه فلم يحرمه.

أما القانون المصري فلم يرد فيه نص يحسم فيه مشروعية المقايضة في نطاق الدم و منتجاته،ولكن الواقع العملي في مصر يؤكد وجوده حيث يوجد عقد تبادلي،ولا يكون المقابل فيه نقدي-وإنما يتم تبادل أكياس الدم بين محتاجين،أو بين أهل المريض المحتاج و مركز نقل الدم،حيث لا يتم صرف كيس الدم للمريض إلا بعد تبرع عدد من أهل المريض بدمائهم لمركز نقل الدم،ويحدث ذلك بالرغم من عدم وجود نص قانوني ينظم هذه الأعمال الخطيرة(14).

وعلى ذلك فإن المقايضة تعتبر مشروعة في مجال نقل الدم بشرط أن تتم مبادلة دم يشرى بمثيله أو بأحد عناصره و مشتقاته،بمعنى أن تتم مبادلة الدم بجنسه،كمبادلة كيس دم بشري بآخر من نفس الفصيلة أو بفصيلة أخرى مغايرة(15).

ثالثا:عقد هبة الدم

يعتبر عقد الهبة من عقود التبرع،والتي أهم خصائصها أن احد المتعاقدين لا يأخذ مقابل لما أعطاه،ولا يقدم المتعاقد الآخر مقابلا لما يناله منه و بالتالي يكون هذا العقد ملزما لجانب واحد (16).

1_ عقد هبة الدم في القانون الفرنسي:

اشترط القانون الفرنسي ان يكون التبرع بالدم مجانا،ولا يجوز للمتنازل عن الدم ان يتقاضى أي مبالغ مالية.

2_ عقد هبة الدم في القانون المصري:

ذهب القانون المصري إلى إباحة هبة الدم البشري،حيث تعتمد التصرفات التبرعية كسبيل لتصرف في الأعضاء البشرية ومنها الدم البشري.أما الفقه المصري فقد أجاز هبة الدم المجانية و اعتبرها تصرف قانوني مشروع الذي يمكنه من خلاله التصرف في الدم البشري(17).

الخاتمة:

من خلال ما سبق ذكره لموضوع بحثنا”التصرفات القانونية لعملية نقل الدم”،أن هذه التصرفات قد فرضها الواقع العملي،وما تتطلبه حاجيات المريض المحتاج،فنجد الكثير في الواقع العملي أن هذه التصرفات تخالف القوانين و اللوائح التنظيمية التي فرضها المشرع،إلا أنه يجب ضبط هذه العملية بقواعد تحكمها خاصة حماية القصر الذي قد يكون ضحية عملية سحب الدم حتى يكون كامل الأهلية التي حددها القانون و يخالف بما يسمى مبدأ عدم المساس بالجسد البشري إلا برضاء الأشخاص،بالإضافة إلى الرقابة من طرف الهيئات العامة المستمرة على مراكز و بنوك نقل الدم اللذين قد ينتهكون القواعد الفنية و الإدارية و القانونية التي تحددها هذه الهيئة،مع إعطائها سلطة غلق البنوك و المركز في حالة حدوت المخالفة.

قائمة المراجع:

أنس محمد عبد الغفار،المسؤولية المدنية لمراكز و بنوك الدم-دراسة مقارنة بين القانون الوضعي و الفقه الإسلامي-،دار الكتب القانونية،مصر،2014،ص.159.
سلطان الجمال،معصومية الجسد في ضوء المفرزات الطبية الحديثة،رسالة ماجستير،ص.259،و أحمد شرف الدين،الأحكام الشرعية للأعمال الطبية،دون دار النشر،دون مكان النشر،طبعة 1987،ص.94-95.
حسام الدين الأهواني،نحو نظام قانوني لجسم الإنسان،مجلة العلوم القانونية و الإقتصادية،العدد الأول،4يناير 1998م،ص.33.
لابيه،الوضع القانوني لجسم الإنسان قبل الميلاد و بعد الوفاة،ص.253مشار إليه في حسام الأهواني،المرجع السابق،ص.37وما بعدها.
وهبة الزحيلى،العقود المسماة في قانون المعاملات المدنية الإماراتي و القانون الأردني،ص.13،ومحمد عبد المقصود،مدى مشروعية الاستفتاء بالدم البشري و التصرف فيه في الفقه الإسلامي و القانون المدني،طبعة1999،دار الجامعة الجديدة،ص.282.
محمد شكري سرور،أحكام عقد البيع،دار النهضة العربية،دون مكان النشر،طبعة1997،ص.5،والدكتور فتحي عبد الرحيم،الوجيز في العقود المدنية المسماة،عقد البيع،مكتبة الجلاء،دون مكان النشر،طبعة1994،دون سنة النشر،ص.5.
عبد الرزاق السنهوري،الوسيط في شرح القانون المدني،البيع،جزء44،دون دار النشر،دون مكان النشر،دون سنة النشر،ص.19.
وائل العزيزي،المسؤولية المدنية عن عملية نقل الدم،رسالة دكتوراه،دون دار النشر،دون مكان النشر،دون سنة النشر،ص.423ومابعدها.
نفس المرجع و الصفحة.
أنس محمد عبد الغفار،المرجع السابق،ص.164.
أحمد محمود سعد،مسؤولية المستشفى الخاص عن أخطاء الطبيب و مساعديه،دون دار النشر،دون مكان النشر،دون سنة النشر،ص.457والدكتور سعيد عبد السلام،مشروعية التصرف في جسم الآدمي في القانون الوضعي و الفقهي،مجلة المحاماة،العددان التاسع و العاشرنوفمبر ديسمبرعام 1990،ص.98.

النشرة التشريعية،ديسمبر 1970،ص.4857،الوقائع المصرية في 24نوفمبر 1970.
عبد الرزاق السنهوري،الوسيط في شرح القانون المدني،الجزء الرابع،البيع و المقايضة،دار إحياء التراث، بدون صفحة.
أنس محمد عبد الغفار،المرجع السابق،ص.167.
منذر الفضل،التصرف القانوني في الأعضاء البشرية،دون دار النشر،دون مكان النشر،دون سنة النشر،ص.66.
حمدي عبد الرحمان،معصومية الجسد،مجلة العلوم القانونية و الإقتصادية،طبعة1980 يناير و يوليو،العدد22،دون مكان النشر،ص.135.
نفس المرجع و الصفحة.

إعادة نشر بواسطة محاماة نت