بحثا حول طرق و وسائل الإثبات في القضاء المدني الجزء الثالث

هيكـــــــل المصادقــــــــــــة :
نظّمه قانون المبادلات والتجارة الألكترونية الصّادر في 9 أوت 2000 تحت عدد 83 ضمن بابه الرّابع. ويتمثّل في كلّ شخص طبيعي أو معنوي يتحصّل على ترخيص مسبّق من الوكالة الوطنيّة للمصادقة الألكترونيّة لتعاطي نشاط مزوّد خدمات المصادقة الالكترونيّة.

ويعتبر احداث الوكالة الوطنيّة للمصادقة الالكترونيّة أهم مظاهر الحماية القانونيّة وهي مؤسسة عموميّة لا تكتسي صبغة إداريّة، ذات شخصيّة معنويّة واستقلال مادّي وخاضعة في تعاملها الى القانون التّجاري وهي مميّزات يطمئنّ اليها المتعاقد تاجرا كان أو مستهلكا بما أنّها لا ترمي إلى حماية مصالح خاصّة أو إلى تحقيق الارباح بل إنّها سلطة إشراف مراقبة لمزوّدي خدمات المصادقة فهي التي تمنحهم الرّخص وتراقب مدى احترامهم للمواصفات الفنيّة وتسدي بدورها خدمات المصادقة الالكترونيّة ولكن دائرة المنتفعين بخدماتها مقتصرة على الأعوان العموميين المؤهلين للقيام بالمبادلات الألكترونيّة دون غيرهم[231].

وتدعيما لسلطة المراقبة، بغية توفير أكثر ما يمكن من الضّمانات تخضع الوكالة الوطنيّة للمصادقة الألكترونية الى سلطة إشراف الوزارة المكلّفة بالقطاع.

وقد وقع تركيز مقرّ لهذه الوكالة الوطنيّة بوزارة المواصلات هي لا تزال بصدد الاستعداد لمباشرة مهامها في انتظار صدور الأمر المنصوص عليه بالفصل 12 من ق-م-ت-أ والذي ستتمّ بمقتضاه المصادقة على كرّاس الشّروط الضابط لشروط إصدار وتسليم وحفظ شهادات المصادقة وللوسائل اللاّزمة لحمايتها من التّقليد والتّدليس والتي يلتزم مزوّد خدمات المصادقة بتوفيرها[232].

كما أوجب القانون على مزوّد خدمات المصادقة تعليق العمل بشهادة المصادقة حالما يتفطّن إلى أنّ المعلومات المضمّنة بها قد تغيّرت أو كانت مغلوطة أو تمّ انتهاك منظومة إحداث الإمضاء أو أن الشهادة استعملت بغرض التّدليس ويتولّى نشر قرار التعليق هذا بالسّجل الألكتروني حتى يطّلع عليه جميع المتعاملين وكذلك الشّأن بالنّسبة لحالات إلغاء الشهادة[233] فيتّخذ قرارا في إلغائها يقع نشره بذات السجل الالكتروني وينتج كلا القرارين آثاره القانونيّة في معارضة الغير وصاحب الشهادة وإذا ما خالف مزوّد خدمات المصادقة واجباته والتزاماته تسحب منه الوكالة الوطنية للمصادقة الالكترونية الرّخصة وتوقف نشاطه ويبقى مسؤولا عن كلّ ضرر حصل لكلّ شخص :

– وثق عن حسن نيّة في الضّمانات التي من المفروض أن يقدّمها كضمان صحّة المعلومة المضمّنة بالشّهادة والصّلة بين صاحب الشهادة ومنظومة التدقيق في الإمضاء الخاصة به.

– نتيجة عدم تعليق أو إلغاء شهادة المصادقة[234]
وتجدر الإشارة أن القانون مكّن صاحب الشهادة من الولوج إلى معطياته الشخصيّة وتحيينها كما مكّنه من الإنتفاع بتقنيّات موثوق بها يضعها مزوّد خدمات المصادقة على ذمّته لتقديم مطلبه لتعديل المعلومات الخاصّة به أو فسخها مع الاحتفاظ بحق طلب تعليق أو إلغاء شهادة المصادقة فإذا كانت تلك حقوقه فما هي إذن واجباته والتزاماته ؟

2 – المستعــمــل : L’internaute

وهو بصفة عامّة كلّ شخص طبيعي أو معنوي يرتبط بشبكة الأنترنات بغرض الحصول على المعلومات أو إيذاعها فكما يمكن أن تكون مستهلكا سلبيّا يمكن أن يكون مزوّد محتوى معلوماتيّ. وقد مكّنه الفصل 2 من قرار وزير المواصلات المؤرّخ في 9 سبتمبر 1997 والمتعلّق بضبط شروط استعمال في استغلال الخدمات ذات القيمة المضافة من استغلال الشفرة وذلك بعد الحصول على رخصة في الغرض من قبل الوزير المكلّف بالمواصلات الذي يبقى له حقّ سحبها إذا اقتضت ذلك حاجيات الدّفاع أو الأمن الوطني.

كما يظلّ المستعمل المنتفع بشهادة مصادقة المسؤول الوحيد عن سريّة وسلامة منظومة إحداث الإمضاء الخاصة به وقد أقر المشرع قرينة قانونية صلب الفصل 21 من ق-م-ت-أ مفادها أنّ كلّ استعمال لمنظومة الإمضاء يعتبر صادرا عن صاحب الشهادة فيعفى الطّرف المقابل في حال نشوب نزاع من إثبات صدور الإمضاء عن شخص صاحبه، فضلا عن أنّ صاحب الشّهادة التي تمّ تعليقها أو إلغاؤها لا يمكنه استعمال عناصر التشفير الشّخصيّة للإمضاء موضوع الشهادة المعنية مجدّدا ولا يمكن مساءلة مزوّد خدمات المصادقة عن الضّرر النّاتج عن عدم احترام صاحب الشهادة لشروط استعمالها أو شروط إحداث إمضائه الألكتروني.

وإذا كانت الدّعاوى المدنيّة اختياريّة وملك للمتضرّر يمكنه طرحها وإيقاف إجراءاتها متى شاء، فإنّ الدّعاوى العموميّة يملكها المجتمع بأسره ولا يمكن التّنازل فيها عن الحق العام ممّا يعزّز رصيد الحماية القانونيّة بارساء جانب زجريّ ردعيّ.

ب – جزائيّا :

وسنعتمد نفس التقسيم الثّنائي السالف الذّكر لنتعرّض إلى زجر الغير عن المعاملة (1) قبل التطرّق إلى ردع طرفيها (2).

1 – الغــيـر :

ونميّز بين الغير القانوني المعترف به قانونا وبتدخّله قانونا في مسار المعاملة (1–1) والغير المتطفّل(1–2).

1 – 1- الغير القانونــــي :

ويتمثّل أساسا في هيكل المصادقة الذي يجد نفسه في صورة إخلاله بواجباته معرّضا لعقوبات جزائيّة تتراوح بين السّجن والخطيّة أو الإثنين معا فمخالفة مقتضيات كرّاس الشّروط المتعلّق بشروط إصدار، تسليم وحفظ شهادة المصادقة تترتّب عنها خطيّة بين ألف وعشرة آلاف دينارا ويضاف إليها عقاب سالب للحريّة لمدّة تتراوح بين شهرين وثلاث سنوات إذا وقعت ممارسة نشاط مزوّد خدمات المصادقة دون التحصيل على رخصة في الغرض وللمحكمة السّلطة التقديريّة في توقيع إحدى العقوبتين[235].

وقد أحال الفصل 52 من ق-م-ت-أ على الفصل 254 من المجلّة الجنائية في خصوص زجر مزوّد خدمات المصادقة الإلكترونية وأعوانه الّذين يفشون أو يحثّون أو يشاركون في إفشاء المعلومات التي عهدت إليهم في إطار تعاطي نشاطاتهم ما لم يكن ذلك بموافقة صاحب الشهادة الكتابيّة.

وبالرّجوع إلى الفصل 254 م-ج، تصل العقوبة البدنية إلى 6 أشهر سجنا بينما تقدر العقوبة المالية بـ 500 فرنك .

وسعيا منه الى ضمان حدّ أدنى من الإستقرار والإستمراريّة في المعاملات الالكترونيّة، أقرّ المشرّع بالفصل 53 من ق.م.ت.أ. إمكانية لإجراء الصّلح بالنّسبة للعقوبات الماليّة المستوجبة في مخالفة كرّاس شروط شهادة المصادقة إذ بدفع المبلغ المعيّن يعقد الصّلح فتنقرض الدّعوى العموميّة إلاّ أنّه تحفظ حقوق المتضرّرين المدنيّة وهو حلّ! لم يعمّمه المشرّع على بقيّة المخالفات كتعاطي النّشاط بدون رخصة لأنّ ما بني على باطل فهو باطل ولا مجال لاستبقائه.

1-2- الغـــير المتطفّـــــــل :
ونقصد به كل طرف غريب عن المعاملة ولم يعهد له المشرّع بمهمّة فيها بصفة مباشرة أو غير مباشرة وهم بدون شك القراصنة، قراصنة الإعلاميّة وقد تصدّى لهم المشرّع سواء في بعض النّصوص المتفرّقة أو في المجلّة الجنائيّة ففي إطار ق-م-ت-أ أنصّ الفصل 48 منه أنّ كلّ من يستعمل بصفة غير مشروعة[236] عناصر تشفير شخصيّة متعلّقة بإمضاء غيره بالسّجن لمدّة تترواح بين 6 أشهر وعامين وبخطيّة تترواح بين 1.000 و 10.000 دينارا أو بإحدى هاتين العقوبتين.

وفي نفس الإطار حرّم الفصل 87 من مجلّة الإتصالات الجديدة أعمال الإستعمال أو الصّنع أو الاستيراد أو التّصدير أو البيع أو الحيازة لأجل البيع لوسائل أو خدمات تشفير بدون مراعاة أحكام الامر الذي نظّمها فضلا عن التغيير فيها أو إتلافها وجميعها تجعل مرتكبها مستحقا للسّجن لمدّة تتراوح بين 6 أشهر و5 سنوات ولخطيّة من 1.000 إلى 5.000 دينارا أو بإحدى هاتين العقوبتين وتندرج جميع هذه الأعمال المجرّمة في إطار ما يعرف بالجنوح المعلوماتيّ المتنزّل بدوره في إطار الجرائم المعلوماتيّة،

صنف جديد من الجرائم نظمه المشرّع بمقتضى القانون عدد 89 لسنة 1999 المؤرّخ في 02 أوت 1999 والمتعلّق بتنقيح وإتمام بعض الأحكام من المجلّة الجنائيّة وبموجبه أقرّ جملة من العقوبات تخلق بحسب خطورة الجرم المقترف وذلك للتوقّي من جهة ولردع كل تلاعب بالمعطيات والأنظمة المعلوماتيّة أو الإلكترونية فالنّفاذ إلى النّظام المعلوماتي أو البقاء فيه بدون وجه شرعي يجعل مرتكبه مستهدفا إلى عقاب بالسّجن من شهرين إلى عام وبخطيّة قدرها ألف دينارا أو بإحدى العقوبتين ويرتفع العقاب البدني إلى عامين والمالي إلى ألفي دينار إذا نتج عن الفصل الأول إفساد أو تدمير البيانات المعلوماتيّة ويتواصل التشديد في العقوبتين بحسب توفّر ركن القصد والعمد في الإتلاف لتبلغا ثلاث سنوات سجنا وثلاثة آلاف دينارا.

أما من يتعمّد إدخال بيانات بنظام معالجة معلوماتيّة بصفة غير شرعيّة من شأنها إفساد محتوى هذا النّظام فيعاقب بالسّجن مدّة خمسة أعوام وبخطيّة قدرها خمسة آلاف دينارا ويعتبر إرتكاب هذه الجريمة أثناء مباشرة النّشاط المهني ظرف تشديد يجعل العقوبة تتضاعف[237].

وفي هذا الإطار أصدرت المحكمة الابتدائية بليون حكما في 20 فيفري 2001 قاضيا بتسليط عقوبة بدنية لمدة 8 أشهر سجنا وعقوبة مالية بـ 20.000 فرنك على عامل سابق لشركة تدعى E. Claranet ، قام بعد مغادرته لعمله لدى هذه الأخيرة وانطلاقا من جهاز الحاسوب المتوفر لديه بمقر عمله الجديد ، بارسال كمّ هائل من البريد الالكتروني الشّاغر في اتجاه النظام المعلوماتي الخاص بمؤجرته السابقة Sté claranet مما أدى إلى افساده [238]

كما نظّم المشرّع جريمة التدليس المعلوماتي وأخذ فيها بعين الإعتبار طبيعة الأفعال المرتكبة وصفة مقترفها فإذا كانت من قبيل التغيير في محتوى وثيقة الكترونيّة اصلها صحيح، تغييرا حصل بمقتضاه ضرر للغير، فإنّ العقوبة المستوجبة تكون عامان سجنا وخطيّة قدرها ألفا دينارا ويتضاعف العقاب إذا كان مرتكبها موظّف عمومي أو شبهه[239]

وهي صفة تجعل حاملها عرضة إلى السجن بقيّة العمر وإلى خطيّة قدرها ألف دينارا إذا ارتكب أثناء مباشرة وظيفه زورا من شأنه إحداث ضرر عام أو خاص وذلك بصنع وثيقة مكذوبة أو تغيير متعمّد للحقيقة بأيّ وسيلة كانت في كلّ سند سواء كان ماديّا أو غير مادّي من وثيقة معلوماتيّة أو ألكترونيّة وميكروفيلم وميكروفيش ويكون موضوعه إثبات حقّ أو واقعة منتجة لأثار قانونيّة[240].

ولا حاجة إلى انتظار تحقّق النتيجة الإجراميّة وحصول التّلف والتّدمير في البرامج المعلوماتيّة لإثارة الدّعوى العموميّة ذلك أنّ مجرّد المحاولة موجبة للعقاب[241].

2 – المتعاقـــد :

إنّ المتعاقد الإفتراضي، صاحب إمضاء إلكتروني، مدعوّ إلى التحلّي بالثّقة والنّزاهة لأنّهما عماد وأساس تطوّر المعاملات التجارية وتزداد أهميّتهما في العالم اللاّماديّ حيث يعوّل المتعاملون على ثقتهم في بعضهم البعض.
وفي صورة تعمّد الإخلال بهذا الواجب الأدبي والقانوني في ذات الوقت يعرّض المتعاقد نفسه للمساءلة الجزائيّة فإذا ما صرّح عمدا بمعطيات خاطئة لمزوّد خدمات المصادقة الإلكترونية وهي المعطيات التي سيصدر على أساسها هذا الأخير شهادة المصادقة بكلّ ما تمثّله من ثقة في إمضائه وفي هويّته المعرّف بها لديه فإنّه يستهدف لعقاب بدني يتراوح بين 6 أشهر وعامين وآخر ماليّ يتراوح بين 1000 و10.000 دينارا وللمحكمة مطلق الاجتهاد في تطبيق إحدى هاتين العقوبتين[242].

ولئن تظلّ الجرائم المنصوص عليها بالمجلّة الجنائيّة خاضعة إلى النّظام العام للتتبّع فإنّ المخالفات الدّاخلة في إطار قانون المبادلات والتّجارة الالكترونيّة يختصّ بمعاينتهما، فضلا عن أعوان الضابطة العدليّة، الأعوان المحلّفين للوزارة المكلّفة بالاتصالات والوكالة الوطنيّة للمصادقة الالكترونيّة وأعوان المراقبة الاقتصادية وهو اختصاص شامل يتابع الوثيقة الإلكترونية منذ نشأتها وإمضاءها مرورا باستخدامها في المعاملات التّجاريّة وتضمينها التزامات تعاقديّة وانتهاء بتنفيذها.

hلفرع الثاني : إثبات تنفيذ الالتزامات :

لا يخرج إثبات تنفيذ الالتزامات الإلكترونية عن إطار إثبات وجود الالتزامات ذاتها ذلك أنّ وسيلة الإثبات الأولى هي الوثيقة الإلكترونية باعتبارها وسيلة الإثبات الوحيدة المنسجمة وطبيعة العالم اللاّماديّ، ويمكن للوثيقة الإلكترونية أن تتخذ عدّة أشكال قانونيّة بحسب استعمالاتها فتكون إيصال تسليم إلكتروني أو فاتورة إلكترونية أو أمرا بالدّفع أو اعترافا بخلاص الذمّة أو حتى ورقة تجاريّة كالكمبيالة… إلخ، وجميعها يمكن أن يقوم دليلا على حصول الوفاء بالتزام بالقيام بعمل (المبحث الأوّل) أو بأداء مال (المبحث الثاني).

المبحث الأوّل : الوفاء بالتزام القيام بعمل

لا يختلف موضوع الالتزام بالقيام بعمل عبر شبكة الأنترنات عن ذاك المتّفق عليه في العالم المادي إذ يمكن أن يتمثّل في تسليم بضائع أو معدّات أو في القيام بخدمة[243] وعليه ينفّذ الالتزام إمّا خارج شبكة الأنترنات
«بالنّسبة للنّوع الأول أو عبر شبكة الأنترنات
«  بالنسبة لبعض الخدمات كحجز غرفة في نزل أو عمليّة تحيين أو إعداد موقع واب على الشّبكة أو إعداد ومضة إشهاريّة أو دراسة للسوق أو مخطّط أو تقديم استشارات قانونيّة وعموما يمكن القول أن جميع الخدمات التي يكون موضوعها قابلا للتنفيذ عبر شبكة الانترنات (نصّ، صورة،…إلخ) يتمّ تنفيذها اللاّمادي عن طريق إرسال وثيقة الى المرسل اليه الحريف وذلك بمجرّد الضّغط على زرّ يترتّب عنه التسليم الآلي لموضوع البيع كما في صورة اقتناء برنامج معلوماتي عن طريق الأنترنات ففي هذه الحالة يوجّه للمعاقد، الذي قبل الإيجاب الصادر عن صاحب موقع الواب المتضمّن لعرض البيع، مفتاح سرّي يتمثّل في مجموعة من الرّموز والأرقام والأحرف يقوم بإدخالها في موضع معيّن من صفحة الواب المعروفة على شاشة حاسوبه ثمّ يضغط على زرّ الموافقة وهو ما يترتّب عنه حينا توجيه البرنامج المعلوماتي اليه عن طريق إرسال إشارات الكترونيّة عبر خطوط الهاتف إلى حاسوبه تتجمّع بصفة آليّة عند نهاية الإرسال ثم تركّز بالقرص الثابت وينطلق تشغيلها بمجرّد الضغط على زرّ معيّن.

وأمّا تنفيذ الالتزام خارج شبكة الأنترنات كتسليم المعدّات مثلا لا يطرح إشكالا جوهريّا باعتباره يخضع للقواعد العامّة العاديّة وخاصّة فيما يتعلّق بتحمّل التّبعات ومخاطر نقل الاشياء سواء عبر شبكة الأنترنات أو خارجها.
وقد نظّم المشرّع، صلب الباب الخامس من ق-م-ت-أ تحت عنوان “في المعاملات التجاريّة الألكترونيّة”، الإطار العام “لإبرام العقود التّجارية الألكترونية وتنفيذها[246] وأحاط المستهلك بجملة من الضّمانات لعلّ أهمّها يتمثّل في حقّ العدول عن الشّراء في أجل عشرة أيّام حدّد الفصل 30 ق-م-ت-أ بداية احتسابها بحسب موضوع الالتزام[247]

ورتب على هذا الحقّ جملة من الآثار كإرجاع البضاعة وردّ الثمن، كل ذلك في آجال مضبوطة ومن ثمّ تبرز أهميّة التاريخ في التّعامل اللاماديّ. فتحديد التّاريخ في العمل القانوني يمثّل تنصيصا جوهريّا[248] فضلا عن أن تاريخ إبرام العقد يحدّد نقطة بداية آثاره علاوة عن كون العنصر الزّمني يؤثّر على الحقّ عندما يتعلق الأمر بتحديد أجل ما[249] العدول عن شراء المومأ إليه أعلاه.

فالمبدأ في الحجة غير الرسميّة أنّ تاريخ الكتب ومحتواه يقومان حجّة بين طرفيه إلى أن يثبت خلاف ذلك[250]. إلاّ أنّه في المادة الإعلاميّة لا يحمل التاريخ المحدد على الوثيقة أي ضمان فمن السّهل على المستعمل أن يغيّر تاريخ ساعة حاسوبه الدّاخليّة ويزداد الإشكال تعقيدا على شبكة الأنترنات لأنّ مختلف أجهزة الحاسوب المشاركة في عمليّة اتّصال أو في معاملة ما يمكن أن تحمل تواريخ مختلفة وجدّ متباعدة وبالتالي تتدعّم الحاجة إلى اللّجوء إلى تاريخ مصادق عليه « Une date certifiée » يقع ضبطه بطريقة محايدة يطمئنّ إليها المتعاقدون ويعارض بها الغير وللفرض وجدت عدّة بروتكولات تسمح بمراجعة دائمة وحينيّة للمواقيت (Synchronisation permanente) وذلك بربط الخادم (Serveur) بساعات مرجعيّة (Horloges de référence)[251] ومن ثم يكون المتعاملون عبر شبكة الانترنات في أمسّ الحاجة الى غير موقت أو مؤرّخ Un tiers d’horodatage يضمن تاريخا صحيحا وثابتا للوثيقة الألكترونيّة سواء كانت عقدا أو فاتورة أو وصلا يحتج به بين الطرفين ويكون نقطة لاحتساب بقية الآجال ويمكن لهذا الغير أن يكون طرفا رابعا في المعاملة بعد المتعاقدين وهيكل المصادقة كما يمكن لهذا الأخير أن يقوم بوظيفة التوقيت وهو الحلّ الأنجع حتى لا يتزايد عدد المتدخّلين وبالتالي تتشتّت المعاملة وتنقص ضماناتها[252]

ومن المعلوم أنّ العقد يقوم على نظريّة تبادل الإلتزامات فالتزام بالقيام بعمل يقابله عادة التزام بدفع المقابل الذي يكون في الغالب مالا.

المبحث الثاني : الوفاء بالتزام ماليّ :

يعتبر الدّفع الألكتروني (Le télépaiement) أهمّ التزام ينفّذ بواسطته العقد الالكتروني ويعدّ نقص الثّقة في المعاملات الالكترونيّة السبب الرئيسي للصّعوبات التي تعترض الشركات المستثمرة في البيع عن بعد إذ أصبح الدّفع عن طريق رقم سلسلة بطاقة الإعتماد (Carte de crédit) يقلق المستهلكين لأسباب ثلاثة :

 خطر القرصنة.
 استحالة التأكّد من هويّة الأطراف.
 إمكانية التشكيك في أمر تحويل مبلغ مالي.
ولذلك كان لزاما مواكبة لتطوّر المعاملات توفير أكبر حد ممكن من الضّمانات التي تأخذ بعين الإعتبار :

عالميّة المبادلات L’internationalisation des échanges[]
– خاصيّة المحيط الإعلامي :L’environnement informatique وتمثل في إمكانية التعرض إلى حادث تقني أو حصول عطب في الأجهزة .
– حماية مصالح العملاء :La protection des intérêts des acteurs

وتتمثّل أساسا في الأمان Sécurité، الخفاء L’anonymat ورفاهية الاستعمال Le confort d’utilisation

وذلك عن طريق خلق طرق جديدة للخلاص عبر شبكة الأنترنات سواء من خلال ملاءمة وسائل الدفع التقليدية للواقع اللامادي (الفقرة الأولى) أو عن طريق استحداث وسائل دفع جديدة لم تكن موجودة من قبل (الفقرة الثانية).

الفقرة الأولى : ملاءمة وسائل الدّفع التقليدية :

وتتمّ هذه الملاءمة من خلال تدخّل طرف وسيط يؤمّن إجراءات الخلاص بين المتعاملين إلكترونيا سواء باستخدام البطاقة الزّرقاء أو بطاقة الإعتماد البنكي (أ) أو باستعمال الشيكات الإلكترونية (ب).

أ – الدّفع باستعمال بطاقة الإعتماد :

ويجد له العديد من الأنظمة
1- السّيولة الإفتراضيّة : 

تسلك عمليّة الدّفع المسار التّالي : على الحريف أن يسجّل رقم بطاقة اعتماده ويضع إمضاءه الالكتروني على فاتورة التّاجر، كلّ ذلك باستخدام برمجيّة إعلاميّة خاصة Logiciel توفّرها Cyber Cash ثم يقع إرجاع الفاتورة الى التّاجر الذي يضيف بيانات تتعلّق بعمليّة البيع ويحلّيها بإمضائه ويرسلها الى خادم Cyber Cash.

وبعد أن يتأكّد هذا الأخير من أن الطرفين قد إتّفقا فعلا على نفس المحتوى (Authentification des parties et du contenu)، يرسل جيمع المعلومات إلى أحد البنوك الذي يقوم بإتمام عمليّة تحويل المال ثم يبعث بكشف في العمليّة الى Cyber Cash التي تعلم بدورها الطرفين

2 – نظام Kleline :

وهي شركة فرنسيّة تؤدّي نفس الدّور الذي تقوم به Cyber Cash الأمريكيّة لكن باستخدام برمجيّة تدعى Kleboxe.

3 – نظـــــام First virtual :

يقتضي هذا النّظام أيضا أن يكون كلاّ من التّاجر والحريف مسجّلين لدى First virtual.

يدخل الحريف في اتّصال هاتفي مع الخادم السّمعي لـFirst virtual ويعلن عن رقم بطاقته البنكيّة ليحصل بدله على رقم للتعريف الشّخصي (معرّف وحيد) يرسل به إلى معاقده فيتولّى هذا الأخير إرجاعه مصحوبا بأمر الدّفع إلى شركة First virtual التي بعد أن تطلب من الحريف تاكيد عمليّة الشّراء، تبعث بجميع المعطيات الى الشّبكة البنكيّة حيث يتم تحويل المبلغ من حساب الحريف الى حساب First virtual الذي يتولّى خلاص التّاجر.

وتكمن ميزة هذا النّظام في أنّه لا يستدعي استعمال أيّة برمجيّة معلوماتيّة خاصّة أو تقنيّة التشفير فالشركة الوسيطة هي التي تضمن السريّة والخلاص.

4 – بروتكول Set :Secure Electronic Transaction

يجمع هذا البروتكول بين خصائص كلّ من بروتكول (Secure Transaction Technology STT) وبروتكول (Secure Electronic Payment Protocole SEPP) المنجزين من قبل عدّة شركات نذكر منها، Visa, Nets cape, Microsoft, Mastercard وهو بروتكول مرتبط باستعمال بطاقة الاعتماد ويعتمد على تقنيّة التشفير بنوعيه التماثلي واللاّتماثلي ويضمن السريّة والامان في الدّفع عبر شبكة الأنترنات وهو على عكس بروتكول (Secure Socket layer) SSL يمكن من التعرّف واستثبات هويّة الحريف ممّا يضمن عدم إنكاره للمعاملة بحضور طرف ثالث لتصبح العلاقة بين الحريف والتاجر وسلطة المصادقة الوسيطة وقد تم إعتماد هذا البروتوكول من قبل شركة Cyber Cash مع الإشارة إلى أن هذا البروتكول كان المنطلق لإحداث نظام جديد للدفع الالكتروني « C-SET » تبنّاه مجمّع فرنسا للبطاقات البنكيّة.
وتتمّ عمليّات التعريف والاستثبات والسّلامة والخزن على مستوى La puce électronique التي تحتويها البطاقات البنكيّة الفرنسيّة فلا مجال لخروج أيّة معلومة سريّة من الشبكة لكنّ هذا النّظام يتطلّب شراء قارئ للبطاقة « Lecteur de carte » موجّه لتنفيذ جميع هذه العمليّات.

ب- الشيكات الالكترونيّة :
ونجد لها تطبيقين :
1- شيك FSTC (Financial Services Technology Consortium) وهو يشبه إلى حدّ بعيد نظيره الورقي فالحريف يمكنه الحصول على دفتر شيكات ألكترونيّة FSTC التي تسلّم عبر موقع واب أو عن طريق البريد الالكتروني ويستعاض فيها عن الإمضاء اليدوي بالإمضاء الالكترويني وهو وسيلة دفع تجمع بين الامان وسهولة الإستعمال.

2- Netchex :
وهو نظام يستدعي تدخّل شركة وسيطة على التّاجر والحريف الإنخراط فيها يسمح Netchex للحريف بالتصرّف في شيكاته من وراء حاسوبه الخاص فقبل كلّ عمليّة تجاريّة على الأنترنات يقوم النّظام الأمنيّ لـ Netchex باستبدال المعطيات السريّة لحساب الحريف بحساب مصطنع (un compte factice : shadow

account) يسمح بالتّعريف بالمستهلك وبعد استكمال بياناته يرسل الشيك الالكتروني إلى نظام Netchex حيث يتمّ استثباته بالرّجوع إلى المعطيات الخاصّة بطرفيه فيقع تعويض الحساب المصطنع بالمعطيات الحقيقيّة المتعلّقة بحسابي المستهلك والتّاجر.

وفي مرحلة لاحقة، يقع إرسال المعاملة عبر شبكة خاصة إلى النّظام البنكي لتطبّق نفس القواعد البنكيّة التقليديّة في تحويل مبلغ ماليّ كما لو كنّا بصدد شيك ورقي وفي النّهاية يتلقّى المستهلك عن طريق البريد الإلكتروني إفادة عن العمليّة تتضمّن رقم الشيك ومبلغ المعاملة[254].

وتجدر الإشارة أنّ هذه التطبيقات لم توجد بعد في المحيط التجاري التونسي فالتجارة الإلكترونية لا تزال في بداياتها كما أنّ القانون التونسي لم يشرّع لهذا الصّنف من الشيكات بل حافظ على الشيك الورقي بكلّ بياناته وشكليّاته وإكتفى بتطوير آليّات خلاصه عن طريق إرساء المقاصة الألكترونيّة وهو نظام يسمح “باختصار فترة تنفيذ عمليّات المقاصّة التي لا تتجاوز يومي عمل بعد تاريخ العمليّة وضمان منافسة القطاع البنكي[255]”.

وأحدث للغرض مركز التّقاصّ الألكتروني ليتولّى إدارة النّظام المركزي للتّقاص الألكتروني بين المصارف[256] وإدارة ومراقبة الرّسائل الألكترونيّة فيما بينها وإدارة الارشفة الالكترونية لوسائل الدّفع التي تمّت مقاصّتها وأرشفة الرّسائل وعمل نظام التّقاص الألكتروني وجعلها آمنة.

ويعني التقاصّ الألكتروني بكلّ وسائل الدّفع التي تقبل التقاصّ وهي الحوالات، السّحوبات، الشيكات والدّفع لأجل[257].

وقد قنّن المشرّع التونسي هذا التوجّه بمقتضى القانون عدد 61 لسنة 2000 المؤرخ في 20 جوان 2000 والمتعلق بتنقيح وإتمام بعض الفصول من المجلة التجارية بأن نصّ بالفقرة الأخيرة من الفصل 294 م ت أنّه “إذا عرضت الكمبيالة على حجرة مقاصّة أو بواسطة نظام إلكتروني للتّبادل المعلوماتي تقع بموجبه الاستعاضة عن العرض المادي للكمبيالة فإنّ ذلك يعدّ بمثابة عرضها للدّفع” كما نصّ الفصل 373 من ذات المجلّة أنّه : “إذا عرض الشّيك على حجرة مقاصّة أو بواسطة نظام إلكتروني للتّبادل المعلوماتي تقع بموجبه الاستعاضة عن العرض المادّي للشيك فإنّ ذلك يعدّ بمثابة عرضه للأداء.”[258]

الفقرة الثانية : استحداث وسائل دفع جديدة
تتمثّل هذه الوسائل أساسا في حافظة النّقود الإلكترونية وحافظة النّقود الافتراضية وفي النّقود الإلكترونية.

أ‌- حافظة النّقود الإلكترونية : Porte monnaie électronique
وتتمثّل في بطاقة دفع خالصة بصفة مسبقة Carte de paiement prépayée بحيث يتمّ خزن مؤونة ماليّة على microprocesseurخاصّ بتلك البطاقة وتعد بطاقة Mondex المثال المجسّم لها ويضمن هذا النّظام بالتبادل المباشر للنّقود الألكترونية بين البطاقات فكلّ استعمال ينتج عنه إمضاء إلكتروني يمكّن من استثبات بطاقات Mondex[259].

ب- حافظة النّقود الافتراضيّة : Porte monnaie virtuel
وتعتمد هذه الوسيلة على قرص الحاسوب الثابت (le disque dur de l’ordinateur) ولفهم هذه التقنيّة نتخذ مثال شركة Digicash الإيرلنديّة والواقع تاسيسها سنة 1990[260].

يجب على التّاجر والحريف أن يكونا مسجلين بها ومن ثم يمكن للمستهلك أن يسحب وحدات نقديّة (Ecash) من مؤسّسة الماليّة ويخزّنها على قرص حاسوبه الثابت في برمجيّة معلوماتيّة خاصّة (cyber wallet) ويتمّ السّحب بالاستعانة برقم المعرّف الوحيد وتحتوي البرمجيّة على دالّة جبريّة تسمح بإنتاج مئات من الارقام تمثّل المادّة الأوّليّة للوحدات النقديّة ويقوم الحريف بإرسالها إلى بنكه الذي يصادق عليها عن طريق إضافة سلسلة من الأرقام ومجموع هذه الأرقام يمثّل مبلغا ماليّا معيّنا يسحبه البنك من حساب المستهلك قبل أن يرجع اليه وحدات الدّفع وتعرف هذه التقنيّة بميزة الإمضاء الكفيف La signature aveugle ذلك أنّ البنك يتحقّق من صحّة الوحدات دون أن يتعرّف على مصدّرها وبالتالي يستخدم المستهلك E-Cash وكأنّه يستعمل النّقود الورقيّة أي بطريقة خفيّة من منظور المؤسّسة البنكيّة وللتّاجر أن يطلب تحويل E-Cash إلى نقود أو إيداعها في حسابه الخاص.

ج- النّقود الالكترونيّة : Les jetons électroniques ou E-monnaie
وبفضلها يتمّ الدّفع بدون اللّجوء إلى وسيط ماليّ فالوحدات النقديّة يقع تداولها مباشرة بين الخواص في شكل إلكتروني وبصورة خفيّة (أي دون الكشف عن مصدرها) كما هو الشأن بالنسبة للنّقود الورقيّة العاديّة وهي الوسيلة الوحيدة التي يصحّ عليها تسمية النّقود الإلكترونية[261].

وقد دخلت البلاد التونسيّة تجربة النّقود الإلكترونية عن طريق بطاقة الدينار الإلكتروني S-Dinar وهي عبارة عن حساب افتراضي (Compte virtuel)[262] يتمّ تزويده عند الحاجة أو في صورة استهلاك الرصيد بواسطة اقتناء بطاقات تزويد (carte de rechange) ذات قيم نقديّة مختلفة (20 دينارا – 30 دينارا و50 دينار) تحتوي على رقم سرّي يكتشفه المستعمل بإزالة المادّة الحاجية التي تغطيه وتمكّن هذه العملة الإفتراضية المتميّزة بسهولة الإستعمال وبدرجة عالية من التأمين من إنجاز عمليّات خلاص المشتريات وتسديد المعاليم بالعملة الوطنيّة على مستوى مختلف الأروقة التّجاريّة الإفتراضيّة ومواقع تقديم الخدمات الإداريّة عن بعد.

ويستعمل الدّينار الألكتروني بطريقة سهلة للغاية إذ يكفي القيام بما يلي :
– إدخال رقم البطاقة
– إدخال الرقم السرّي

– الإجابة عن سؤال “الأمارة” المطروح من قبل المستعمل قبل تنشيط البطاقة والذي يمكن تغييره متى رغب هذا الأخير في ذلك[263] كانت هذه أبرز وسائل الدّفع الألكتروني وبقي أن نشير إلى بعض المسائل في إثبات حصول هذا الدّفع ونفرّق هنا بين صنفين من العلاقات :

البنك والحريف، الحريف والتّاجر ففي علاقته مع المزوّد (التاجر) يتحمّل الحريف عبء إثبات الخلاص كأن يستعنين بالكشوفات الشّهريّة التي يعدّها ويحيلها إليه الوسيط في المعاملة حسب أنظمة الدّفع كما سلف تقديمها (يكون الوسيط إمّا مؤسّسة ماليّة أو مؤسّسة بنكيّة) فحسب M. Jérôme

« A chaque télépaiement, il faudrait attribuer un numéro d’accusé de réception et inviter le client à le noter et à le conserver. Ce numéro d’accusé de réception du télépaiement aurait pour avantage, aussi, de permettre au client de prouver la date de paiement ».

أمّا في علاقته مع البنك فإنّ هذا الأخير يتحمّل عبء الإثبات إذ تجب عليه أن يثبت أنّه تلقّى أمرا بدفع مبلغ محدّد من حساب معيّن[264] فهو الذي يقوم بتهيئة الإثبات في أنظمته الإعلامية عن طريق الحفظ الألكتروني لجملة المعطيات المتعلّقة بعمليّات حرفائه[265] ومن المفترض أن تجب الثقة في البنك وفي منظومته الإعلاميّة بما يجعله متحمّلا لعبء إثبات مصداقيّة أنظمته.

وعموما يخضع إثبات الدّفع الإلكتروني لنفس قواعد إثبات المعاملة التي يضمن خلاصها وهو ما أكّده J. Huetبقوله
« La preuve du télépaiement relève des mêmes règles que la preuve de la transaction dont il assure le règlement »[266]
ويمكن في كلّ الأحوال مطالبة الغير الذي أمّن عمليّة الدّفع الفعليّة بإثبات الخلاص إعتبارا لتوفّر صفة الحياد فيه ولإستخدامه لأجهزة إعلاميّة تسمح له بتخزين وحفظ المعطيات غير أن مسألة إثبات علاقة الخلاص بالدّين تبقى رهينة الوثائق المحاسبيّة الإلكترونية التي احتفظ بها كل من الطرفين في محيط تقنيّ آمن يضمن حجيّتها وفقا للشروط التي تقدّم ذكرها.
ولئن اتجهت إرادة المشرّع التونسي إلى مواكبة التطوّرات التقنيّة في مجال التّجارة الإلكترونيّة وذلك بإقرار العمل بالوثيقة الإلكترونية والإمضاء الإلكتروني كوسيلتي إثبات أحاطهما بجملة من الضّمانات أملا في تشجيع الإقبال على ولوج العالم التّجاري اللاّماديّ، فإنّ البون بين المنشود والموجود يقف حائلا دون تحقيق المعادلة بين هاجسي التطوّر والضّمانات، معادلة تظلّ مشروطة بتجاوز عدد من الصّعوبات.

الجزء الثاني : وسائل الإثبات التجاري : تطوّر وضمانات : معادلة تظل مشروطة :

إنّ ملاءمة خصائص الوثيقة الإلكترونية مع متطلّبات التّجارة من مرونة وسرعة وثقة يظلّ مشروطا بتجاوز صعوبات قانونيّة (الفرع الأوّل) وأخرى تقنيّة (الفرع الأوّل).

الفرع الأوّل : معادلة مشروطة بتجاوز صعوبات قانونيّة :
هذه الصعوبات أفرزتها المقاربة بين النظام القانوني للوثيقة الالكترونيّة كما أرساه المشرّع التونسي حديثا وبين بقيّة النصوص القانونيّة التي نظمت ولا تزال تنظم المادة التجارية في العديد من مجالاتها.

وتتمثل هذه الصعوبات أساسا في بعض مظاهر الطرفيّة القانونيّة (Extrémisme juridique) التي تؤدّي الى ترجيح كفّة أحد عنصري المعادلة (المبحث الأوّل) وفضلا عن الصّعوبات المصطلحيّة (المبحث الثالث) فإنّ تعايش صنفين من الوثائق، مختلفين طبيعة ومتساويين حجيّة، سيؤدّي حتما إلى إثارة إشكاليّات على مستوى اجراءات الإثبات (المبحث الثاني).

المبحث الأوّل : ترجيح كفّة أحد عنصري المعادلة :
تقوم المعادلة على تحقيق التّوازن بين مواكبة تطوّر المعاملات وتوفير الضّمانات فهل بإمكان الوثيقة الالكترونيّة أداة تعامل ووسيلة إثبات، أن تضمن هذا التّوازن؟

الإجابة تكون نسبيّة نظرا لمحدوديّة حجيّة الوثيقة الالكترونية مما من شأنه أن ينقص من الضّمانات القانونيّة (الفقرة الأولى) التي حرص المشرّع على تدعيمها في مواضع أخرى بصورة تصبح معها عقبة أمام تطوّر المعاملات ( الفقرة الثانية)

الفقرة الأولى : محدوديّة حجيّة الوثيقة الالكترونيّة :
حدّد الفصل 453 مكرّر م-ا-ع حجيّة الوثيقة الألكترونية بأن نزّلها منزلة الحجة الغير رسميّة ومن المعلوم أن الإعتراف بالوثيقة الألكترونيّة يخضع، كما قدّمنا، إلى درجة الوثوق بالأجهزة والانظمة الإعلاميّة التي استخدمت في حفظها وفي إحداث الإمضاء الألكتروني المدعّمة به. فإذا لم ترتق هذه الآليّات إلى درجة الوثوق بها وأظهرت عدم مصداقيّتها أو لم تضمن صلة الإمضاء بالوثيقة الألكترونيّة المرتبطة به، فما عساها تكون آنذاك القيمة القانونية للوثيقة الإلكترونية؟

لم يقدّم القانون حلاّ بديلا، وبالتالي نعود إلى نقطة البداية، إلى الحلول التي قدّمها فقه القانون قبل تنقيح مجلّة الالتزامات والعقود في محاولة منه لإقحام الوثيقة الإلكترونية ضمن وسائل الإثبات التقليديّة فيمكن أن تكون بداية حجّة بالكتابة أو صورة من صور استحالة الحصول على كتب فالإمكانية الأولى ينظّمها الفصل 477 م-ا-ع[267].

وهنا يجدر التمييز بين أنواع ومستويات الخلل الذي قد يصيب الحجّة غير الرسميّة الإلكترونية فإذا تبيّن أن العيب يكمن في الإمضاء الإلكتروني فحسب فإنّ الوثيقة الإلكترونية تعتمد كبداية حجّة بالكتابة بدون أي احتراز[268] طالما أن المشرّع اعترف صراحة صلب الفقرة الأولى من الفصل 453 مكرّر م-ا-ع بأنّها كتب في كلّ أشكالها سواء تجسّمت في مخرجات الحاسوب التي يتم الحصول عليها عن طريق الآلة الطّابعة أو في التسجيلات الإلكترونية كالأقراص المضغوطة والمغناطيسيّة ذلك أن مصطلح الوثيقة الإلكترونية يقصد به المعلومات التي يتم إنشاؤها أو إرسالها أو استلامها أو تخزينها بوسائل الكترونية أو ضوئيّة فضلا عن أن المشرّع التونسي قد اعترف بحجيّة الحوامل والأوعية الالكترونيّة وجعل منها نسخا دائمة وثابتة لأصولها[269].

وأمّا إذا كانت الوثيقة الألكترونيّة معيبة على مستوى آليّات حفظها أو برامج قراءتها فإنّها لا يمكن أن ترتقي الى درجة الكتب على معنى الفقرة الأولى من الفصل 453 مكرّر م-ا-ع وبالتالي لا يمكن أن تعتمد كوسيلة إثبات في شكل كتب حتّى يمكن اعتبارها بداية حجّة كتابيّة وهو ما يفسح المجال أمام اعتماد الإمكانيّة الثانية واعتبارها صورة من صور استحالة الحصول على كتب على معنى الفص 478 م-ا-ع[270] وهي صور تبقى خاضعة لمحض اجتهاد المحكمة المطلق.

وعلى عكس المشرّع التّونسي، أغلق المشرّع الفرنسي الباب أمام العودة من جديد إلى النّظريات البديلة والتأويلات القانونيّة بأن حسم مسألة حجيّة الوثيقة الألكترونيّة وأقرّ المساواة الكاملة في الحجيّة بين الكتب الورقي والكتب الإلكتروني إذ نصّ الفصل 1316 – 1 من المجلّة المدنية الفرنسية على أنّ :

« L’écrit sous forme électronique est admis en preuve au même titre que l’écrit sur support papier… »

فهل معنى ذلك أن الوثيقة الإلكترونية يمكن أن تكون حجّة رسميّة؟
يجب التّمييز هنا بين الكتب كشرط إثبات Ad probationem والكتب كشرط شكلي Ad solemnitatem[271] فالوثيقة الألكترونيّة نظّمها المشرّع كشرط إثبات وجعلها ترتقي إلى مرتبة الحجّة الرّسميّة لكن في مستوى الحجيّة فحسب ولا يمكن لها أن تقوم مقام هذه الأخيرة شكليّا فقد نصّ الفصل 449 م-ا-ع.

“الكتب غير الرّسمي إذا اعترف به الخصم أو ثبتت صحته قانونا ولو بغير الاعتراف اعتمد ككتب رسمي بالنّسبة للطّرفين وغيرهما في جميع ما تضمّنه من شرط وحكاية حسبما هو مقرّر بالفصل 444 و الفصل 445 … ”
وعليه فإنّ الوثيقة الإلكترونية إذا كانت تامّة الشّروط يكتسب محتواها حجيّة الحجّة الرسميّة بين طرفيها وتجاه الغير بمعنى أنّه لا يمكن معارضة محتواها إلاّ عن طريق القيام بدعوى في الزّور إذ على حدّ تعبير Aubert[272] :

« La forme contient la preuve, mais la preuve ne contient pas la forme ».
وقد يتبادر إلى الذّهن عند قراءة الفصل 1317 من المجلّة المدنيّة الفرنسيّة أنّ المشرّع الفرنسي قد أجاز إقامة الحجّة الرّسميّة في شكل وثيقة إلكترونية مستغنيا عن بقيّة إجراءاتها إذ نصّ الفصل المذكور أعلاه :
“الحجّة الرّسميّة هي التي يتلقّاها المأمورون المنتصبون لذلك قانونا في محلّ تحريرها على الصور التي يقتضيها القانون ومحفوظة طبق شروط محدّدة يقع ضبطها بأمر من مجلس الدّولة.”

وفعلا أكّد هذا التوجّه شقّ من فقه القانون الفرنسي يمثّله L. Grynhaum الذي أكّد أنّ :
« Un acte authentique dressé sur support électronique perdra toute sa force dès lors qu’il sera établi en dehors de la présence physique du notaire et des parties à l’acte. Le nouvel article 1317 en retirant le rôle de témoin privilégié à l’officier public prive l’acte authentique de son essence et signe ainsi sa déchéance. »[273]
غير أنّه في الحقيقة لا يتعلّق الأمر بتغيير في شكل الكتب الرّسمي ذلك أنّه يجب التمييز بين الوعاء المستعمل وشكل العمل القانونيّ فالحجّة الرّسميّة سيتواصل تحريرها على الصّور والشكليّات التي يقتضيها القانون بحضور المأمور العمومي والشّخص المعنيّ بالأمر ثم يمكن أن يقع :

– إرسالها إلى الطّرف الآخر سواء بحضور نفس المأمور العمومي أو غيره.
[FONT=&quot]- حفظها في شكل الكتروني.

فالعلاقة البشريّة « Intuitus personne » ضرّورية للتّأكد من أهميّة ورضاء الشّخص وقبول الحجّة الرّسميّة الالكترونيّة كوسيلة إثبات والإعتراف لها بالقوّة الثبوتيّة لا يغيّر من تلك العلاقة في شيء[274].

ولما لا فتطوّر تقنيّات الإتّصال الحديثة وسعيها إلى توفير حدّ أقصى من الضّمانات يشجّع على اقتحام هذه المغامرة فيكون المأمور العمومي والمتعاقدون كل وراء جهازه الطّرفي ويقوم كلّ واحد بالدّور المطلوب منه لينشأ العقد الرّسمي الإفتراضي Le contrat authentique virtuel.

فلئن كان الكتب الرّسمي يستوجب حضور المأمور العمومي والمتعاقدين في مكان واحد، وهو ما يمكّن المأمور العمومي من ممارسة دوره في النّصح والإرشاد ثم الكتابة (التحرير) والاشهاد، فإنّه يمكن الإستعاضة عن حضور الاطراف الفعلي بحضورهم الفكري والذّهني. فنصّ العقد ومختلف التّعاليق يقع تبادلها بينهم عن طريق الإعلاميّة ويكون الإمضاء الرّقمي دليلا على إرادة الإلتزام والموافقة على مضمونه وأمّا التأكّد من خلوّ الإرادة من العيوب فيتمّ من خلال حضور شهود على العقد (Témoins instrumentaires) بجانب كلّ متعاقد أو حضور مأمور عمومي ليشهدوا على الظّروف التي تعاقد فيها الطّرفان وإلتزاما[275].

والمهام المعهودة للمأمور العمومي، والمتمثّلة أساسا في إشهاده على وجود العقد وأهليّة المتعاقدين فيه وعلى التاريخ وتوافق إرادة الطّرفين مع
الاتّفاقات المضمّنة بالعقد، يمكن له القيام بها بطريقة الكترونيّة وذلك بوضع إمضائه الرّقمي على الكتب فيستثبت به العقد (l’authentification ) ثم يسجله في سجله ( répertoire) ويحتفظ به إلى حين مطالبته به.

وتظل مسألة الحفظ هي أكبر عائق ذلك أن الحجة الرسمية مدعوة إلى أن يحتفظ بها لمدة غير محددة ( durée illimitée) والحال أن وسائل الحفظ الحالية لا تسمح بحفظ المعلومات إلا لمدة معينة نظرا لقابليتها السريعة للتلف.

وبعيدا عن هذا الخيال القانوني الذي نأمل أن يجسد واقعيا في المستقبل فإن تنقيح مجلة الإلتزامات والعقود التونسية ولئن يمثل خطوة هامة وجريئة ، إلا أنه لا يعني أن الكتب الإلكتروني أصبح منذ الآن قادرا على تعويض كل سند ورقي بل إن الأمر يقتصر على إقرار المساواة بين مختلف وسائل الإثبات فحسب ومن ثم فإن جميع القواعد الشكلية المفروضة ad valitatem لا تزال وجوبية ورقية .

وعموما أصبح الإثبات التجاري مقيدا وليس حرا وهي نتيجة حتّمتها الطبيعة التقنية للمعاملات الإلكترونية فأيّ وسيلة اثبات أخرى غير الوثيقة الإلكترونية يمكنها اثبات العقد الإلكتروني الذي أضحى والحالة تلك عقدا شكليا لا رضائيا على خلاف القاعدة العامة في المادة التجارية وهو ما أكّده الفصل 28 ق.م.ت.أ الذي جاء فيه :

” ينشأ العقد الإلكتروني بعنوان البائع وفي تاريخ موافقة هذا الأخير على الطلبية بواسطة وثيقة إلكترونية ممضاة وموجهة للمستهلك ، ما لم يتّفق الطّرفان على خلاف ذلك.”

ورغم اعطاء الحرية للطرفين للإتفاق على صياغة أخرى لإنشاء العقد إلاّ أنّها حريّة تكاد تكون صوريّة ذلك أنّ الخيار الوحيد ، تحقيقا للسرعة يظلّ مجسّما في الوثيقة الإلكترونية.

الفقرة الثانية : تفاقم الشكليات :
إنّ إحاطة الأعمال القانونيّة بالشكليات يعتبر مظهرا من مظاهر الحماية القانونية التي تعكس أهمية تلك الأعمال لكنها في ذات الوقت تعرقل مواكبة تلك الأعمال لمتطلبات العصر والتطورات الحاصلة فيه فالوثيقة الإلكترونية مثلا تجد مثل هذه الشكليات عائقا أمامها لولوج جميع المجالات التجارية.

وعموما يمكن تصنيف هذه العوائق الشكلية إلى شكليات خارجة عن إطار الوثيقة الإلكترونية ( أ ) وأخرى خاصة بها ومرتبطة بتكوينها ( ب ) .

أ – شكليات خارجة عن إطار الوثيقة الإلكترونية :
وهي شكليات فرضها المشرع كشروط صحة في بعض المعاملات التجارية . وتتمثل أساسا في العقود الشكلية : les contrats solonnels [276] ;هي عقود لا يكفي لصحتها تطابق إرادة المتعاقدين بل ينبغي لتمامها احترام شكل مخصوص يضبطه المشرع بكل دقة
فالشكل أصبح بمثابة ركن خامس يضاف إلى أركان تكوين العقد الأربعة الواردة بالفصل 2 م.ا.ع فعلى حد تعبير العميد Carbonnier :
« la forme est une cinquième condition essentielle pour la validité des contrats ».
TRAITE DE DROIT CIVIL

وهو ما يمثل استثناء للمبدأ العام في المادة التجارية وعليه أكدت محكمة استئناف تونس سنة 1996 في أحد أحكامها أنّ :

” العقود التجارية هي عقود رضائية بالأساس خاضعة لمبدأ حرية
الإثبات ( الفصل 598 من المجلة التجارية ) وهذا ما يتماشى مع طبيعة
عمل التجار باستثناء بعض العقود التي أوجب فيها المشرع الكتابة. ” [277]

وكأمثلة لها نذكر عقود الأصل التجاري المبرمة في نطاق المعاملات الخاصة به من كراء ورهن وبيع فقد نص الفصل 190 م.ت على أن :

” كل تصرف في أصل تجاري بالبيع الاختياري أو الوعد ببيعه أو بإحالته مطلقا ولو كان هذا التصرف معلقا على شرط أو صادرا بموجب عقد من نوع آخر أو كان يقتضي انتقال الأصل التجاري بالقسمة أو التصفيق أو بطريق المساهمة به في رأس مال شركة ، يجب إثباته بكتب وإلا كان باطلا.”[278]

وهو موقف تشريعي استقر على تكريسه فقه القضاء [279] وأبرز أبعاده حيث أكدت محكمة الاستئناف أنّ :

” البطلان الناشىء عن عدم تحرير كتب في إحالة الأصل التجاري بطلان مطلق تتمسك به المحكمة من تلقاء نفسها تطبيقا لأحكام الفقرة الأولى من الفصل 190 من المجلة التجارية بخلاف البطلان الناشئ عن اهمال التنصيص بكتب عقد الإحالة على ثمن العناصر المعنوية والسلع والمعدات كل على حدة إلى غير ذلك من البيانات الواردة بالفقرة الثانية من نفس الفصل.”[280]

وإلى هنا لا صعوبة تطرح طالما اعترف المشرع بأن الوثيقة الإلكترونية كتب وبالتالي أمكن استخدامها كسند للقيام بجميع التصرفات بشأن الأصل التجاري لكن تتعقد المسألة بمراجعة الفصل 238 م ت الذي جاء فيه أنه :
” يثبت الرهن بعقد رسمي أو بعقد بخط اليد مسجل طبق القانون.” .

وكذلك الفصل 205 من ذات المجلة الذي ينص على أنه :
” لا يثبت امتياز بائع الأصل التجاري إلا إذا كان محررا بحجة رسمية أو بكتب بخط اليد مسجل طبق القانون …. “[281].

ذلك أنه لا جدال في أنّ الوثيقة الإلكترونية ولئن لم ترتق إلى مرتبة الحجة الرسمية فإنها تكتسب حجية الكتب غير الرسمي ، غير أنه لا يجب السهو عن كون هذه الحجية مرتبطة بدرجة الوثوق بالأنظمة والأجهزة المعلوماتية التي ساهمت في تكوينها . فهل من المعقول أن نخاطر بالأصل التجاري ، هذه الوحدة الإقتصادية الهامة ، ونجعل نظامه القانوني يتأرجح بين الصحّة والبطلان بحسب نتيجة الرهان على درجة التعويل على تقنيات الوثيقة الالكترو نية ونسبة الوثوق بها ؟

وأبعد من ذلك ، ونظرا لأهمية الأصل التجاري في النسيج التجاري والاقتصادي ، أخضع المشرع جميع العمليات القانونية المتعلقة به إلى جملة من الإجراءات لا يتصور أن تنجز باستخدام الوثيقة الإلكترونية وتوظيف وسائل الإتصال الحديثة ذلك أنها في ارتباط وثيق بمؤسسات قانونية أخرى يظل طابعها الورقي المادي مصدر ضماناتها وأمانها كالسجل التجاري [282] والرائد الرسمي [283] والدفتر العمومي الممسوك من طرف كتابة المحكمة المختصة ترابيا [284] فضلا عن ارتباط هذه التصرفات القانونية بعدد من الهياكل المختصة كالمحكمة ، مصلحة الملكية التجارية ، المأمور العمومي ، وعدل التنفيذ .

كما أنه لا يمكن تجاوز مسألة الآجال وهي مسألة جوهرية في مؤسسة الأصل التجاري ذلك أن جميع التصرفات القانونية والحقوق المترتبة على الأصل التجاري مرتبطة في وجودها وصحتها باحتساب الآجال وهي جد متفرعة ومختلفة فلكل أجل منها نقطة بداية مختلفة ، فكيف سيقع ضبطها في عالم افتراضي ؟ وحتى إذا التجأنا إلى غير مؤرّخ ( tiers d’horodatage ) فإنّ ذلك لن يحل المسألة نظرا لتشعب الآجال وتعدد الهياكل والجهات المدعوة إلى احترامها علاوة على خطورة الجزاء الذي رتّبه القانون على عدم احترامها إذ يتراوح بين بطلان الإجراء ( الفصل 206 م.ت ) وسقوط الحق ( الفصول 224 ، 233 والفقرة الأخيرة من الفصل 245 م . ت ) وعليه فإنه لا يمكن المخاطرة بها بالولوج إلى عالم لا مادي افتراضي يكون التوقيت فيه متفاوتا بحسب الموقع الجغرافي للمستعمل l’internaute وخاضعا في ضبطه إلى تقنيات تتمتع اليوم بنجاعة ما تلبث أن تفقدها بطلوع فجر يوم جديد.

ولا تقل شكليات الاوراق التجارية كالكمبيالة والسند لأمر صرامة فهي تظل خاضعة لأحكام الفصل 269 وما بعده من المجلة التجارية مستوجبة في ذلك سندا ماديا تنشأ بمقتضاه الورقة التجارية وتسجل عليه التظهيرات ومختلف عمليات الضمان إلى أن يتم عرضها للخلاص وذلك فضلا عن اجراءات الإحتجاج والإنذار وهي شكليات اقترح جانب من فقه القانون القيام بها بطريقة إلكترونية بضمان طرف ثالث ، هو من دون شك ،

الغير المؤرّخ الذي سيضمن تحديد تاريخ التبليغ والاستلام وهي فرضية تبقى رهين تطور الضمانات التقنية [285] وفي انتظار تجسيمها واقعيا ظهرت في القانون المقارن أشكال جديدة للأوراق التجارية كالكمبيالة المرقّمة (L.C.R) التي تعتمد على معادلة السجلات المعلوماتية بين المصارف من غير مبادلة الكمبيالات المادية وتدعيمها بالكمبيالة ذات الرقم الموحد المغناطيسي :

LETTRE DE CHANGE –RELEVE-MAGNETIQUE التي كما تدل عليها تسميتها تقوم على اندثار السند المادي إذ يقتصر دور الساحب على تسجيل جميع البيانات المفروض تضمينها بالسند المادي على شريط مغناطيسي Bande magnétique يقع ارساله إلى البنك ثم تتم معالجته مباشرة بواسطة حاسوب المقاصّة ، لكن تظل هذه التقنية الجديدة في اصدار الأوراق التجارية من صنف الكمبيالات مقتصرة على الكمبيالة المرقمة فحسب (L.C.R) فهي تحسين لها باعتبار أن هذه الأخيرة تستوجب حضور السند الورقي [286] .

وعموما لم يعد اشتراط الكتابة في بعض المجالات التجارية يمثل عائقا أمام تطور المعاملات وسرعتها ، وان لا يزال يعتبر من الناحية القانونية استثناء لمبدأ حرية الإثبات في المادة التجارية ، ذلك أن صياغة الكتب الإلكتروني لا تتطلب أكثر من بضع دقائق إن لم نقل ثواني علاوة عن الضّمانات التي يوفرها تقنيا وقانونيا وتأسيسا على ذلك يمكن أن تجد الوثيقة الإلكترونية صدى لها في جميع المعاملات وأصناف العقود التجارية التي اشترط فيها المشرع الكتابة من ذلك عقد التأمين ومختلف العقود البنكية.

غير أنه يجب التمييز كما أسلفنا الذكر ، بين الكتب كشرط صحّة والكتب كشرط اثبات فضلا عن التمييز بحسب موضوع العمل القانوني ولنا في ذلك مثالان : عقد الشركة وعقد البيع العقاري.

فبخصوص عقد الشركة جاء بالفصل 3 من مجلة الشركات الجديدة الصادرة بمقتضى القانون عــ 93 ـدد لسنة 2000 ، والمؤرخ في 3 نوفمبر 2000 أن عقد الشركة ، عدا شركة المحاصة ، يكون ” بكتب خطي أو بحجة رسمية . وإن كانت من بين المساهمات حصص عينية تتعلق بعقار مسجل يجب أن يحرر طبقا للتشريع الجاري به العمل وإلا عدّ باطلا.”

ومن ثمّ فإنّ الوثيقة الإلكترونية يمكن أن تكون سندا لعقد شركة محاصّة أو أي نوع آخر من الشركات التجارية بشرط ألا يكون من بين مساهماتها عقار مسجل .

إذ في هذه الحالة الأخيرة يجب أن يفع تحرير العقد في شكل حجة رسمية خاضعة في تحريرها لأحكام الفصل 377 مكرر من م.ح.ع بمعنى يختص بتحريره إمّا حافظ الملكية العقارية أو أحد المحررين المكلفين بمهمة التحرير …

الخ وقد ورد ذلك بصفة صريحة في المذكرة التي أصدرتها إدارة الملكية العقارية بوزارة أملاك الدولة والشؤون العقارية تحت عـ 8 ـدد لسنة 1996 مؤرخة في 15 جانفي 1996 وتخص العقود التي يمكن تلقي مطالب التحرير بشأنها طبقا لأحكام الفصل 377 مكرر جديد مشيرة لإحكام الفصل 373من م.ح.ع[287]

ومبيّنة أنّه يدخل في هذا الباب البيع والمعاوضة والمقاسمة ووعد البيع والمساهمة في رأس مال الشركةوغيرها من العقود بما في ذلك العقود التكميلية .

وتعتبر هذه الشكلية الإجرائية جدّ خطيرة إذ رتّب الفصل 3 من مجلّة الشركات المذكورة أعلاه، على عدم احترامها بطلان العقد.

كذلك الشأن بالنّسبة لعقد الوعد بالبيع والبيع النّهائي في مادّة البعث العقّاري[288] فقد عرّف الفصل الأوّل من قانون البعث العقّاري لسنة 1990 الباعث العقاري بأنّه كلّ شخص مادّي أو معنوي ينجز قصد البيع أو الإيجار بصفة إعتياديّة أو من قبيل المهنة طبقا للتّشريع الجاري به العمل عمليّات :
– تقسيم وتهيئة أراضي مخصّصة أساسا للسّكنى.
– بناء وتجديد عقّارات فرديّة أو نصف جماعيّة أو جماعيّة معدّة للسّكنى والتّجارة أو المهنة أو الإدارة.

ولقد اشترط المشرّع تحرير كتب في الوعد بالبيع كما أوجب أن يتضمّن ذلك الكتب بيانات حدّد أقلّها تحديدا قانونيّا فمن النّاحية الشكليّة فرض المشرّع بالفصل 9 من قانون البعث العقّاري أن يبرم وعد بالبيع وهذا لا يتحقّق إلاّ بتحرير كتب في الغرض .

وهنا تجدر الإشارة أنّه إذا كان موضوع الإلتزام عقّارا غير مسجّل فالاختيار يبقى لأطرافه في تحريره في شكل حجّة رسميّة أو حجّة غير رسميّة وبالتّالي أمكن للوثيقة الإلكترونية أن تكون سندا لهذا الإلتزام.غير أنّ الإشكال يطرح كلّما كان موضوع الوعد بالبيع عقّارا مسجّلا فتتفاقم بالتّالي الشكليّات ليصبح الوعد بالبيع أو العقد النّهائي خاضعا لأحكام الفصل 377 مكرّر م-ح-ع إعتمادا على نفس التّحليل السّالف ذكره بخصوص عقد الشّركة.

ب – الشّكليّات المرتبطة بتكوين الوثيقة الألكترونيّة :
ترتبط نشأة الوثيقة الإلكترونية محتوى وإمضاء بخدمات التشفير فتقنيّة التّشفير تمثّل الاساس الذي يقوم عليه الكتب الإلكتروني وبدونها يفقد جدواه على المستويين التّقني والقانوني.

وهي تخضع في تنظيمها، كما أسلفنا، إلى قرار وزير المواصلات المؤرّخ في
9 سبتمبر 1997، المتعلّق بضبط شروط استعمال الشّفرة في استغلال الخدمات ذات القيمة المضافة للإتّصالات.

الذي أخضع الإنتفاع بخدمات التّشفير إلى شرط الحصول على رخصة مسبّقة في الغرض من الوزير المكلّف بالمواصلات إذ جاء بالفصل الثاني من الامر المذكور اعلاه أنّه :

“على كلّ مزوّد أو مستعمل لخدمة ذات قيمة مضافة للإتّصالات يرغب في استقبال أو إرسال معلومات مشفّرة على الخدمة، الحصول مسبّقا على رخصة تؤهّله لوضع واستغلال الشّفرة طبقا لمقتضيات الفصل 11 من الأمر المشار إليه أعلاه
عـ501ـدد لسنة 1997 والمؤرخ في 14 مارس 1997.”

وهو أمر مفهوم ومنطقي لحماية جميع الأطراف وإرساء مناخ آمن إلى جانب الغاية التّنظيميّة.

غير أنّ التضييقات تتزايد بالإطّلاع على محتوى الفصلين الرّابع والخامس من ذات الامر بما تكون معه عائقا أمام ضمان السّرعة في المعاملات فقد اقتضى الفصل الرابع في فقرته الأخيرة أنه لا يمكن لمزودي أو لمستعملي الخدمة ذات القيمة المضافة لإتصالات ( والخدمة التي تعنينا هي الأنترنات ) استعمال الشفرة إلا للأغراض والحدود المذكورة في الرخصة .

وعليه فإن التاجر سيجد نفسه مقيدا في نشاطه التجاري الإلكتروني بالشروط المضمنة برخصة استغلال الشفرة من حيث نوعية المعاملات ومداها من حيث قوّة الكربتولوجيا بحساب البيت (bits). ففي فرنسا مثلا رفّع المشرّع من الحدّ الأقصى للاستعمال الحرّ لتقنية التشفير من 40 بيت إلى 128 بيت [289].

وأكثر من ذلك يمكن في أي وقت للوزير المكلف بالمواصلات أن يسحب الرخصة كلاّ أو جزئيّا بعد أخذ رأي لجنة الخدمات ذات القيمة المضافة للإتصالات ويمكن تبرير هذا الحق في السحب بنيّة توفير أكبر حد ممكن من الضمانات للمتعاملين عبر شبكة الأنترنات في مواجهة صاحب الرخصة إلاّ أن الأسباب المعتمد عليها لسحب الرخصة تتجاوز هذه الغاية الحمائية فقد خوّل الفصل الخامس سحب الرخصة إذا اقتضت ذلك حاجيات الدفاع الوطني أو الأمن العام وهي مفاهيم جدّ فضفاضة غير مضبوطة حصريّا مما يسمح باعمال السلطة التقديرية للساحب في تكييف الظروف والأعمال التي يمكن أن تدخل في إطار ضروريات الدفاع الوطني أو الأمن العام.

كما أن الرخصة تمنح لأجل محدد قد يطول وقد يقصر بحسب اجتهاد سلطة منح الترخيص مع اعتبار طبيعة نشاط طالبها الذي يجد نفسه مضطرا إلى تحديد فاعلية الرخصة كلما انتهت فترة صلوحيتها وإلاّ فإنّها ستسحب منه بصفة آليّة[290] .

وعموما، وقع سنّ هذه الشكليات وخاصة منها حق السحب والتجديد لإجراء مراقبة مستمرة ودورية للمعطيات الخاصة بطالب الرخصة ولكنها من شأنها أن تعرقل سير المعاملات التجارية فأيّهما من الهدفين تراه مدعوّ إلى التضحية في سبيل تحقيق الآخر : السرعة أم الضمانات ؟

المبحث الثاني : صعوبات اجرائية

كان BENTHAM يقول :
« L’art de la procédure n’est autre chose que l’administration de la preuve. »[291]
ومعنى ذلك أن الإجراءات هي المدار الطبيعي لوسيلة الإثبات ففي إطارها يتبادل الأطراف دفوعاتهم ويناقشون أدلة بعضهم البعض مما يؤدي في أغلب الأحيان إلى التنازع بين الأدلة المقدمة .

فأين مكان الوثيقة الإلكترونية ، وسيلة الإثبات الحديثة ، من كل ذلك ؟ أتراها تقبل المعارضة بالدليل المعاكس ( الفقرة الأولى ) وإذا كان هذا الأخير كتبا ورقيا فما عساه يكون مآلها
( الفقرة الثانية ) .

الفقرة الأولى: مبدأ المعارضة بالدليل المعاكس: Le principe du contradictoire
من القواعد التي تعتبر أساسية لحسن سير العدالة والتي أجمع الفقه والإجتهاد على ضرورة مراعاتها أمام جميع المحاكم حتى ولو لم يرد نص صريح أنه لا يجوز أن تعرض على القاضي وثيقة قبل أن يكون الأطراف في الدعوى قد إطّلعوا عليها وناقشوا مضمونها وهو ما يعرف بمبدأ المواجهة.
وعلى هذا الأساس جاء بالفصل 114 م . م . م . ت :
” يفتح الرئيس المرافعة ويديرها ويختمها عندما تتضح النازلة للمحكمة بوجه كاف.

ويفتح الرئيس المرافعة بعرض ملحوظات الخصوم. ”
وعليه فإنّ نجاعة وسيلة الإثبات تكمن في قابليتها للمعارضة بالدليل المعاكس.[292]

والوثيقة الإلكترونية باعتبارها كتب غير رسمي فهي تخضع لأحكام الفصل 460 م.إ.ع الذي جاء فيه أن :
” اعتراف الخصم بخطه أو بإمضائه لا يسقط حقه في معارضة الكتب بجميع الأوجه الباقية لديه من حيث الأصل أو من حيث الصورة.”

وقد يتبادر إلى الذهن أن هذا افصل يحتاج إلى إعادة صياغة على مستوى عبارة ” بخطّه ” التي لم تعد تتماشى مع تنقيح مجلة الإلتزامات والعقود الأخير والذي أقر شكلا جديدا من أشكال الكتابة لا يترك ميزة خاصة بالشخص الذي تولى صياغة الكتب نظرا وأنّ جميع الوثائق الإلكترونية تكتب بنفس الطريقة اعتمادا على جهاز الحاسوب ولوحة المفاتيح فجميعها متماثلة شكلا على خلاف الكتابة اليدوية التي تفترض استعمال قلم أو أي وسيلة أخرى تترك أثرا مرئيا يخط بواسطتها الشخص شيئا ما على سند مادي سواء كان ورقة أو حجرا أو لوحا … إلخ فتتخذ الكتابة اليدوية شكلا خاصا يختلف من شخص إلى آخر لتكون مميّزة له ، إلا أنه لا يجب أن ننسى أنه مع إقحام الوثيقة الإلكترونية ، لا يزال الكتب اليدوي يحتل مكانه المعهود وبالتالي فإن عبارة “اعتراف الخصم بخطّه” لا يمكن حذفها كما لا يمكن صياغتها بطريقة أخرى وعليه فهي تظل حكرا على الحجة غير الرسمية المكتوبة بخط اليد لا الحجة الإلكترونية كما هو الشأن بالنسبة للتنصيصات المماثلة في الفصلين 458 و 459 من مجلة الإلتزامات والعقود والتي يبقى المخاطب بها هو صاحب الحجة غير الرسمية اليدوية دون غيره .

غير أن عبارة ” بجميع الأوجه الباقية لديه ” الواردة بذات الفصل ، تتخذ مدلولا خاصا بحسب صبغة النزاع وصفة المعارض فيه. فإذا كان نزاعا تجاريا على معنى الفقرة الخامسة من الفصل 40 م . م . م . ت [293]. فإنه يمكن معارضة محتوى الحجة غير الرسمية الإلكترونية بجميع وسائل الإثبات عملا بالمبدأ العام الحاكم للمادّة التجارية والقائم على حرية الإثبات في نطاق ما يسمح به القانون.[294] كل ذلك ما لم ينص القانون على خلافه كما فعل مثلا في إطار الفصل الثالث من مجلة الشركات الجديدة الذي جاء في فقرته الثالثة أنه :

” لا تقبل فيما بين الشركاء أية حجّة لمعارضة ما تضمّنه عقد الشركة .”
ممّا يكون معه عقد الشركة ذا حجيّة قاطعة لا تقبل الدحض بإثبات العكس ولا حتى مجرّد التشكيك وهو مظهر من مظاهر الطرفية القانونية ذلك أن هاجس المشرع إتجه في هذا الفصل نحو ضمان استقرار المعاملات حماية لمصالح الغير دون التفكير في مصالح الشركاء الّذين أضحوا سجناء لعقد الشركة عبيدا له ، فإذا لم يأخذوا احتياطا تهم عند تحريره للمرة الأولى فلا يمكنهم معارضة بنوده لاحقا بأي طريقة كانت. وهو ما يؤدي في صورة ابرام عقد شركة إلكتروني إلى الاعتراف لهذا الأخير بقرينة الجدوى التقنية :

Présomption de fiabilité وهي حسب منطوق الفقرة الثالثة المذكور أعلاه ، قرينة قاطعة لا يمكن للشركاء معها إثبات وجود خلل تقني مثلا أدّى إلى اتلاف محتوى العقد أو تغيير في بنوده مما يتنافى والطبيعة الفنية للوثيقة الإلكترونية وقابلية محتواها للتغيير سواء بتدخل بشري أو بفعل العوامل الطبيعية[295] وعلى العكس من ذلك أتاح المشرع في الفقرة الأخيرة من ذات الفصل للغير امكانية اثبات وجود الشركة أو محتوى عقدها بكل الوسائل دون تحديد إذ نص على أنه :

” يجوز لغير الشركاء عند الإقتضاء أن يثبتوا بكل الوسائل وجود الشركة أو شرطا أو أكثر من الشروط التي تضمنها عقد الشركة. “

وأمّا إذا كان نزاعا مدنيا يجمع بين تاجر وغير تاجر ( المستهلك مثلا ) فإن الإثبات بالدليل المعاكس يصبح خاضعا لمبدأ توازي الإجراءات والشكليات :
Le principe du parallélisme des procédures et des formes ، ذلك أنه لا يمكن إثبات عكس محتوى الوثيقة الإلكترونية مثلا بشهادة الشهود إذ نص الفصل 474 جديد م . إ. ع على أنه :

” لا تقبل بيّنة الشهود فيما بين المتعاقدين لمعارضة ما تضمنه الكتب أو لإثبات ما ليس به ولو كان ذلك في قدر من المال أقل من ألف دينار. “

كما نصّ الفصل 424 من ذات المجلة على أنه :
” إذ عين القانون صورة للإثبات كان بها ولا بدّ إثبات الإلتزام أو العقد عدا ما استثناه القانون في صورة مخصوصة.”

ومن ثمّ فإنّ دحض الكتب لا يتم إلاّ عن طريق كتب آخر يعادله في الحجيّة لكن ألا يؤدّي ذلك إلى تنازع بين الحجج المكتوبة؟ .

الفقرة الثانية . تنازع الحجج الكتابية :
لم يهتم المشرع التونسي بضبط حلول لهذه المسألة إلاّ في بعض الصور

الخاصة من ذلك صورة الفصل 490 م . إ . ع الذي جاء فيه :
” إذا لم يكن هناك حور وتساوت الحجّتان قضي بالحجة الأقدم تاريخا.
وإذا كان لأحد الخصمين حجّة غير ثابتة التاريخ رجحت الحجة التي لها تاريخ ثابت . “

لكن مع الإقرار بحجيّة الوثيقة الإلكترونية وتنزيلها منزلة الكتب غير الرسمي ، فإنه من المرجّح والمتوقع جدا أن يحصل تنازع بين الكتائب.
فتراكم عمليات تبادل الوثائق الورقية والإلكترونية من شأنها أن يخلق امكانيات هامة ، وخاصة إن قام أحد الأطراف بعد ابرام العقد الالكتروني بإرسال مراسلة بريدية يلغي فيها التعاقد أو يغير فيها أحد بنوده فيكون بالضرورة محتواها مختلفا عن رسالة البيانات المتمثلة في عرض (une offre ) أو في قبول له (acceptation d’une offre ) .

ومن المتوقّع أن تتفاقم هذه الظاهرة خاصة وأن المتعاملين لم يصلوا بعد ولن يصلوا بسهولة وبسرعة إلى درجة الثقة المطلقة في الوثيقة الإلكترونية فتراهم يحرصون ، فضلا عن الوثيقة ، على صياغة العقد خطيا ليقع تبادله عن طريق البريد العادي فيصبح لنفس العقد سندان : سند إلكتروني وآخر يدوي .

وأمّا التاريخ ، فالغير المؤرخ بمكنه ضبط تاريخ المعاملة الإلكترونية فيما تكون المراسلات المادية يومية .
وأبعد من ذلك يمكن أن نقع في إشكال حول تحديد النظام القانوني للعقد المبرم أتراه يخضع لأحكام مجلة الإلتزامات والعقود الخاصة بالتعاقد عبر المراسلة ( الفصل 28 وما بعده من م . أ. ع ) أم تراه يخضع إلى نظام العقود الالكترونية حسب ما جاء به قانون المبادلات والتجارة الإلكترونية ( الباب الخامس منه ) ؟

وعلى عكس القانون التونسي وضع المشرع الفرنسي ضوابط لحل مسألة التنازع هذه إذ يقع الرجوع أوّلا إلى مبادىء القانون كإشتراط مثلا الحجة الرسمية فيحسم الأمر وإلاّ يقع الإحتكام إلى اتفاق مسبق بين الأطراف [296] فإن لم يوجد يؤول الأمر إلى اجتهاد القاضي الذي له استعمال جميع سلطاته لتحديد الكتب الأقرب إلى الحقيقة .

وتجد هذه الحلول سندها في نص الفصل 1316 – 2 من المجلة المدنية الفرنسية الآتي ذكره :
« lorsque la loi n’a pas fixé d’autres principes, et à défaut de convention valable entre les parties , le juge règle les conflits de preuve littérale en déterminant pour tous moyens le titre le plus vraisemblable quel qu’en soit le support. »

وتكون بذلك القانون الفرنسي قد أقر بصفة نهائية بصحّة الإتفاقات حول الإثبات بعد مسيرة فقه قضائية طويلة [297] لكن من دون تحديد ما المقصود بالإتفاق الصحيح وهو ما يوسع من دائرة اجتهاد القاضي الذي أوكلت إليه مهمة تقدير الدليل الكتابي الأقرب إلى الحقيقة:Vraisemblable وذلك بحسب الحالات المعروضة عليه .

وتجدر الإشارة أنّ المعيار المعتمد على درجة القرب من الحقيقة هو ذو مصدر فقه قضائي وقد استرجعه الفقهاء حديثا عند ظهور وسائل الإثبات التكنولوجي [298] وهو المعيار الأنسب حسب رأي أغلب فقه القانون [299]وان اقترح شق آخر اعتماد المعيار الإحتمالي ( le critère probabiliste ) [300] إلاّ أنّ ذلك سيؤدي إلى التحديد من سلطة القاضي التقديرية لأنه في المادة الإعلامية لا يوجد مكان وسط فالإجابة تكون دائما ثنائية إمّا بنعم أولا وهي لا تأخذ بعين الإعتبار الظروف الواقعية بينما يكون معيار القرب من الحقيقة أكثر ملائمة مع المحيط القانوني حيث لا ندّعي الوصول إلى الحقيقة [301]

فدور القاضي يتمثل في البحث عمّا يبدو حقيقيا بمعنى السند الذي يعتبره الأكثر صدقا. ويدخل في تقدير القاضي أولا صحة الكتب خاصة بالنسبة للوثيقة الإلكترونية فالعمل القانوني المصاغ في شكل إلكتروني لا يمكن أن تكون له نفس القوة الثبوتية للكتب اليدوي ما لم يكن يضبط حقوقا وواجبات ومحلّى بإمضاء [302] .

فإذا لم يكن الإمضاء مستجيبا لمقتضيات التقنية والقانونية المطلوبة فإنّ على الطرف المحتج به أن يثبت عكس ذلك وإلا فإنّ العمل القانوني ذا الشكل الإلكتروني لن يعتمد ككتب غير رسمي . وستلعب تقنية التأريخ الإلكتروني من قبل غير محايد دورا هاما في تحديد الكتب الأسبق تاريخا سواء كان يدويا أو الكترونيا .

وعموما يجد القاضي نفسه مضطرا في كل الاحوال إلى الإستعانة بأهل الخبرة والإختصاص في الميدان وقد سبق القول في ذلك.

وعمل القضاء التونسي لم يخرج عن هذا الإطار فلئن لم يوجد نص قانوني يعهّد القاضي بمهمة البحث عن الكتب الأكثر صدقا عند تنازع الحجج الكتابية ، فإن الواقع التطبيقي يدفعه إلى القيام بهذا العمل من تلقاء نفسه لأنه مدعوّ في كل الحالات إلى حسم النزاع والحكم في القضية وطبعا لن يؤسس حكمه على أمور غامضة أو اعتباطية بل سيستخدم كل سلطاته القانونية في البحث والإستقصاء وقد أقر المشرع التونسي بابا كاملا في اختبار الكتائب تضمن الفصول من 229 إلى 233 م.م.م.ت وهي فصول ولئن كانت تتعلق بمسألة القدح في كتب ما بنكران الإمضاء أو المحتوى لا بمسألة تنازع الحجج ، فإنه يمكن الإستئناس بها في طرق البحث عن الكتب الأقرب إلى الصدق وهو معيار نصّت عليها القرة الثانية من الفصل 229 م. م.م.ت
” وإذا رأت قربه من الصدق ولم يمكنها الحكم فيه بدون بحث توقف النظر في أصل النازلة وتأذن بإجراء بحث.”

المبحث الثالث : صعوبات مصطلحية

أصبحت تطالعنا اليوم وكل يوم مصطلحات غريبة عنّا لم نعهد سماعها ولا توجد في قواميسنا اللغوية والقانونية الراهنة تعاريف وتفاسير لها ومثالها :
Cyber espace ; Cypermonde, cyber monnaie, **** ; Hyper****e ; E.D.I , Unix, …
وهي تمثل لغة حديثة أفرزها تطور الإتصالات فلكل عصر لغته، لكن بقدر ما تعكس التطور التكنولوجي الحاصل ، يقدر ما تعرقل مواكبة هذا التطور . فقد كنّا منذ سنين خلت لا نهتم بهذه التطورات ونطمئن النفس بأنها بعيدة عنّا ، لها أهلها من المختصين ، أمّا اليوم وقد اكتسحت هذه التقنيات جميع المجالات بدون استثناء : الإدارية ، التجارية ، القانونية وحتى القضائية ،

فإنه أصبح لزاما علينا فهم هذه الآليات والوقوف على الأقل على بديهياتها وعمومياتها حتى نتمكن من متابعتها فلم يعد التقني مجرد عابر في المادة القانونية يعترض القاضي صدفة في قضية ما، بل أصبح هو جوهر ولبّ القانون فبه تتحدّد الآثار القانونية ليصبح القانوني يخضع للتقني فهذا الأخير هو الذي يضبط شروط إنطباق الأول وعليه تتوقف فعاليته وهو مدعوّ إلى مزيد التّمركز حتّى نلفى جميع القضايا التجارية مبنية على اشكاليات تقنية تطرحها الوثيقة الإلكترونية امضاء ومحتوى.

وإذا كان التاجر والمواطن العادي لا يهتمان بماهية تلك التقنيات بقدر ما يهتمان بمردودها العملي إذ يكفي أن هذا البرنامج المعلوماتي أو ذاك مثلا يضمن السرية أو الحماية فيضغط على الزرّ لتشغيله دون البحث عن مفهومه ودوره في المنظومة ، فإنّ على رجل القانون أن يغذّي زاده التقني ويقف على كيفيّة سير المعاملة التجارية الإلكترونية تقنيّا خاصّة وقد تزايد عدد المتدخلين فيها وذلك حتى يتمكن من استخدام سلطته التقديرية المخوّلة له قانونا على الوجه المطلوب وحتى يتصدّى إلى كل محاولات التضليل .

إلاّ أنّ الأمر ليس بهذه السهولة إذ تصادفنا مصطلحات متشابهة وغالبا ما يقع التّدليل على نفس التقنية بعدّة مصطلحات ممّا من شأنه أن يدخل اللّبس في ذهن المتعامل من ذلك عبارتا « chiffrement » و « crytologie » ويبقى المشكل الهام متمثلا في ترجمة المصطلحات ذلك أنّ الكتابات القانونية العربية الموجودة الآن لا تستقر على ترجمة واحدة لنفس المصطلح فكلّ كاتب يفهم التقنية ويحاول أن يجد لها مقابلا عربيا يؤدي به المعنى من ذلك مصطلح
« le support éléctronique » يترجمه البعض بالوعاء الإلكتروني وآخرون بالحامل الإلكتروني والبعض الآخر بالسّند الإلكتروني وقد يذهب في ظنّ القارىء أنّ لكلّ عبارة مدلول خاص والحال أنّ جميعها تعني نفس الشيء .
وفي الغالب لا يقع التوصل إلى ايجاد هذا المقابل العربي فيذكر المصطلح باللغة الأجنبية على حالته تلك مثل مصطلح Hachage .

فهل ترانا نفاجىء في المستقبل بأحكام قضائية تتخلّلها مقاطع فرنسيّة وأنقليزية ؟ وإن كان هذا مستقبل الأحكام . فما عساه يكون مستقبل تقارير المحامين والخبراء ؟

صحيح أن الثورة المعلوماتية والاتصالية أصلها غربي ، أجنبي عنّا ومن الطبيعي أن تقع صياغة قواعدها باللغة الأصلية وهي وحدها الكفيلة بتأدية المعنى المطلوب بكل دقة. ولكن لا يجب أن ننسى أنّ فئة المعنيين بهذه التقنيات متفاوتة المعارف فنجد المثقف المختص في الميدان ونجد المثقف البعيد عن الميدان كما نجد ذا الثقافة المتواضعة ونجد الأمي وإن أصبح معيار تقدير الأمّة يعتمد على درجة المعرفة بالإعلامية لا على درجة المعرفة بالقراءة والكتابة .

لذلك كلّه ولغاية ترسيخ الهوية العربية ، بات من الضروري تحيين القواميس القانونية بإدخال مادة قانونية جديدة تهتم بهذه المصطلحات التقنية التي لن تنفك عن التكاثر والتعقيد بفعل التطور المذهل والمطّرد الّذي تشهده المادّة مما من شأنه أن يوفر أداة عمل هامة لرجال القانون تمكنهم من تجاوز بعض الثغرات القانونية من ذلك مثلا أن المشرع ، وقد سبقت الملاحظة في ذلك، يخلط بين المصطلحات مما يدل على أنه لم يستوعب بعد مفهوم الوثيقة الإلكترونية ففي العديد من فصول قانون المبادلات والتجارة الإلكترونية يفرّق بين الوثيقة الكتابية والوثيقة الإلكترونية وكأنّ هذه الأخيرة ليست كتابية [303] وهو ما يستدعي المراجعة حتّى نتفادى التناقض بين أحكام هذه الفصول ومقتضيات الفصل 453 مكرر م أ. ع التي أقرّت بأنّ الوثيقة الإلكترونية كتب.

ولن يكون ذلك ذا جدوى ما لم تسعى إلى توحيد المصطلحات وطنيا وعربيا وهو ما يستدعي تكافل عدة جهود سواء من المختصين في القانون أو في التقنية وقد كان لقانون المبادلات والتجارة الإلكترونية بادرة طيبة في التعريف بالمصطلحات الرئيسية على غرار التشفير ، منظومة احداث الإمضاء والتدقيق فيه ونأمل أن تأتي النصوص التطبيقية المنتظرة بإيضاحات أخرى حول غيرها من المفاهيم مما من شأنه أن يساعد شيئا فشيئا على خلق ملائمة بين المنظومة القانونية والمنظومة التقنية تجعل التمرّس بتكنولوجيا المعلومات سهلا وربما لا يستوجب من المجهود الذهني أكثر مما يستوجبه تعلم قيادة سيارة على حدّ تعبير الأستاذ عز ّالدّين عمر [304] .

كما تجدر الإشارة إلى أنّ تطور التجارة الإلكترونية لا يقتصر على المستوى الداخلي بل إنّ تقنياتها مجعولة أساسا لتجاوز الحدود الوطنية وبالتالي لا بد للوثيقة الإلكترونية التونسية أن تجد القبول كوسيلة اثبات لدى المحاكم الأجنبية في تونس تطبيقا لمبدإ المعاملة بالمثل وعلى هذا الأساس جاء الفصل 23 ق.م.ت.أ ناصّا على أنّه : ” تعتبر الشهادات المسلمة من مزوّد خدمات المصادقة الإلكترونية الموجود ببلد أجنبي كشهادات مسلمة من مزوّد خدمات المصادقة الإلكترونية موجود بالبلاد التونسية إذ تمّ الإعتراف بهذا الهيكل في اطار اتفاقيّة اعتراف متبادل تبرمها الوكالة الوطنية للمصادقة الإلكترونية . “

وعموما نرجو أنّ تذلّل قريبا بعض الصعوبات القانونية وصعوبات تقنية أخرى فرضتها الثنائية التي تقوم عليها الوثيقة الإلكترونية ، ثنائية القانوني والتّقني.
…يتبع ​

آخر تعديل: ‏2013/7/26
halafleur, ‏2013/5/27 تبليـغ#4أعجبنيرد
halafleur
عضو متألق
halafleur
إنضم إلينا في:‏2013/3/18
المشاركات:730
الإعجابات المتلقاة:32
رد: أريد بحثا حول طرق و وسائل الإثبات في القضاء المدني الجزء الرابع

الفرع الثاني : معادلة مشروطة بتجاوز صعوبات تقنية :
لا يمكن الحديث عن هذا المولود القديم نسبيا في عالم الكتابة والجديد في عالم الإثبات ، عن الوثيقة الإلكترونية ، دون التعرض إلى محيطه التقني بالضرورة .

فالمعلومة تولد رقمية بتدخل عديد الآليات وتظلّ محافظة على رقميّتها تلك طيلة فترة حياتها التي يتحدد مداها طولا وقصرا بحسب القدرة على تجاوز نقائص حفظها وخزنها ( المبحث الأول ) وطالما كانت الرقمية ميزتها والشبكة المفتوحة مدارها ، فلا بد إذن لرسالة البيانات أن تخشى مخاطر قراصنة الميلتميديا ( المبحث الثاني ) الذين يبقى هاجس القضاء عليهم وعلى غيرهم من العراقيل رهين التقدم على سلّم التطور التقني ( المبحث الثالث ).

المبحث الأول : صعوبات في الحفظ والصيانة
إنّ خزن المعلومة على حامل غير قابل للرجوع فيه لا يعني بالضرورة صيانة المعلومة من التغيير ( الفقرة الاولى ) فضلا عن أن الوعاء الإلكتروني يتمتع بمعدل حياة منخفض مقارنة بالوعاء الورقي مما من شأنه أن يؤثر على ديمومة المعلومة ( الفقرة الثانية ) .

الفقرة الأولى : قابلية المعلومة للتغيير رغم حفظها :
الرّقمنة ، كما أسلفنا في الذكر ، تحصل بتحويل المعلومةالمقروءة على شاشة الحاسوب أو المرئية وعموما المفهومة إلى سلسلة من الثنائيات المتكونة من رقمي الصفر والواحد : ” 0 ” و ” 1 ” .

وبشكلها الرقمي الجديد تصبح المعلومة قابلة للمعالجة الإعلامية بشتى الطرق سواء كانت نصا أو صورة ومن أبرز مظاهر هذه المرونة أنّ :

1- الرقمنة تسمح لأجهزة الإعلامية بتطوير المعلومة في كلّ الإتجاهات : زيادة ونقصانا ، تبديلا ونقلا …الخ.
2- هذه الإمكانيات للتطوير غير محددة بزمان ما وإنما لها أن تتضاعف حسب الرغبة في ذلك.
3- التغييرات الممكن إدخالها على المعلومة لا تترك أدنى أثر
4- تنتقل المعطيات عن طريق المزوّد ، من حاسوب إلى آخر بدون تحديد.
5- عند الحاجة إلى نسخ المعلومة ، فالأمر جدّ عملي وسيط ذلك أن النتيجة الرقمية تتكاثر إلى ما لا نهاية حتى عبر أجيال متعاقبة بمعنى نسخة نسخة النسخة وذلك مع استحالة التمييز بين نتيجة رقمية من الجيل الاول وبين نسخها.

ولقد ساد الإتفاق ، كما أسلفنا على أنّ الحوامل الإلكترونية من نوع WORM هي الكفيلة بضمان السلامة والأمان للمعلومة باعتبارها تقطع الطريق أمام كل تغيير لاحق وهو ما أكدته بصفة قاطعة L’Afnor [305] ضمن توصيتها الشهيرة ISO [306] إلا أنه لا يمكن الاعتداد بخاصية الوعاء المتمثلة في عدم قابليته للرجوع على مستوى الإثبات إلاّ إذا مكنت من المحافظة على المعلومة التي يحتويها من كل إمكانية لتطويرها.

وهنا تبرز نقاط الضعف حتّى بالنّسبة للأوعية الأكثر ثقة فعندما نريد الإطلاع على ما وقع تسجيله على حامل معطيات ثنائية مهما كانت خاصياته فإنه من الضروري وانطلاقا من ذلك الحامل إرسال إشارات رقمية إلى ذاكرة الحاسوب الحيّة وهناك يقوم البرنامج المعلوماتي بتحويل تلك الإشارات إلى رموز مفهومة وقد سبق القول في ذلك .

وفي تلك اللحظة ، يؤكد الفنيون قاعدة مسلم بها تتمثل في أنه حالما تنتقل المعلومة إلى ذاكرة الحاسوب الحية في شكلها الثنائي تصبح قابلة للمعالجة والتطوير بأشكاله السالفة الذكر وبالتالي فأن تكون منبعثة من حامل من نوع WORM لا يغير من الأمر شيئا فقطعا هذا النوع من الحوامل غير قابل للرجوع فيه إلا أنّ معطياته هي دون ذلك بكثير.

ولنذهب أبعد من ذلك ونواصل مسار المعلومة فبعد نقلها إلى ذاكرة الحاسوب الحية وتطويرها مثلا بالزيادة أو النقصان فإنه سيقع تخزينها في وعاء رقمي آخر غير قابل للرجوع فيه لتعاد فيما بعد نفس العملية الأولى وذلك إلى مالا نهاية سيّما وأنّ المبدأ الذي يقوم عليه الرقمنة هو عدم التمييز بين الأصل والنسخة.

ويمكن بنفس السهولة إخراج المعلومة على الورق بعد حصول التغيير الذي يمكن تكييفه بالتدليس في صورة التفطن إلى التغييرات الحاصلة وإن كان أمرا صعب الحصول إن لم نقل مستحيلا بإعتبار أن لا وجود لأي أثر وبالتالي تكون الوثيقة المستخرجة مطابقة لمواصفات السلامة طالما أن التغييرات كما بيّنا لا تترك أثرا.

ومن ثمّ نستخلص أن المعالجة المعلوماتية لا تتم على الحامل الإلكتروني في نفسه وإنّما على مكوّنات الحاسوب الإلكترونية حيث يتم تحويل المعطيات كمرحلة أولية .

وقانونيا لا تفترض القوة الثبوتية وعاء غير قابل للرجوع فيه وإنما تحتاج إلى تسجيل تكون بفضله المعلومة غير قابلة للرجوع فيها. بمعنى أنه على الحامل الرقمي ضمان ديمومة المعلومة ( Sa durabilité et sa continuité ) وهذا لا يتحقق إلاّ إذا انتفت كلّ إمكانية لمعالجة الإشارات والرّموز التي يحويها وهو أمر بحصوله يختفي كلّ ماهو رقمي ضرورة أنّ المعالجة هي روح الرّقمنة وجوهرها وهو ما أكّده ، أحد الفنيين المختصين في المجال , Lucien PAULIAC ، بقوله :

Ôtez au numérique la possibilité d’être traité, et vous supprimez le numérique »
وقد سعى المختصون إلى محاولة تجاوز هذه النقائص بالرجوع إلى معادلة رياضية سرية ( Un algorithme secret ) تمكن من تحويل العبارات الرقمية إلى عملية حسابية يقع تسجيلها بصفة موازية على نفس الحامل الرقمي.

ولكن هل يمكن إجهاض كل عملية تدخل باستخدام تلك المعادلة ؟
قبل محاولة الإجابة على هذا التساؤل ، يجب أن نتذكر ونستحضر دائما أن وسيلة الأمان تلك مرتبطة شديد الإرتباط بالوعاء الالكتروني في وجوده المادي والحال أن معالجة المعطيات تتمّ كما أسلفنا الذكر ، بمعزل عن الوعاء .

وعلى فرض التسليم بنجاعة تلك التقنية ووثقنا في خاصياتها المنطقية الحسابية
( Ses aspects logiques ) فإنّ ذلك سيؤدي بنا إلى تأسيس قوة التسجيلات الثبوتية على مجرّد فرضية يرجى من ورائها ألاّ يتمكّن أي برنامج معلوماتي من فك وفتح ما أغلقه برنامج معلوماتي آخر وكأنّنا نريد من قوة الإعلامية أن تمنع الإعلامية من أن تكون قوية .

كذلك لا يجب أن ننسى أنّ نظرية الإثبات متصلة بآجال التقادم بمعنى أنه يجب أن نأخذ بعين الإعتبار المدى الطويل والطويل جدّا فأيّ صمود ستكون عليه آليات الآمان الموجودة اليوم أمام ما يمكن أن تفرزه الإعلامية خلال عشر سنوات ، خلال خمسة عشر سنة وثلاثين سنة ؟

وهو سؤال جدّ جوهري فقد أكّد الخبراء أنّ فرضيّة تكسير المفتاح الخاص المتعلق بالإمضاء المحفوظ صحبة الكتب الإلكتروني المختزل واردة جدّا . فبفضل التطور السريع للتقنيات فإنّ المفتاح الخاص والذي يعرف اليوم بـ 512 على أغلب برمجيات الإبحار التي توفرها ميكروسوفت ( Microsoft ) وناتسكيب (Nestscape ) أو 1024 بيت (Bits ) يمكن استخلاصه بمعنى إعادة حسابه انطلاقا من المفتاح العام المعروف من طرف الجميع ويؤكد الخبراء أن فرضية تكسير مفاتيح 512 بيت خلال مدة من 5 سنوات إلى 10 سنوات لا يمكن تجاهلها بل يجب العمل على تفاديها منذ الآن.[307]

ولعل الحل الأنسب كما أسلفنا يتمثل في خلق مهنة جديدة مفتوحة للعموم تؤمن خدمات الأرشفة بأحدث وسائل الحفظ الموجودة اليوم والتي يمكن أن تتواجد لاحقا ويجب على هذا الغير الحافظ أن يمضي من جديد الوثيقة الإلكترونية بمفتاح خاص غير قابل للخرق لمدة لا تقل عن العشرين عاما كما يجب عليه تثبيت تاريخ بها وإن كان من المستحسن أن يكون التاريخ من مشمولات غير مؤرّخ وقد سبق القول في ذلك.

الفقرة الثانية : معدل حياة منخفض وتكلفة مرتفعة
إن أقصى ما يبحث عنه المتعاقد هو الحصول على وسيلة إثبات أزلية ، دائمة في الزمان والمكان يمكن له أن يستظهر بها متى شاء ومتى اقتضت الضرورة ذلك دون الحاجة إلى بذل مجهود في العناية بها. وهو ما لا يمكن وعية الالكترونية توفيره الآن ذلك أنّ مردودها يمتد على عدد معين من السنوات يتفاوت بحسب نوع الوعاء.

فحسب دراسة تقنية [308] تبيّن أّن حياة الحامل الإلكتروني يمكن أن تستمر على امتداد عشرات السنين بالنسبة للأشرطة المغناطيسية والأقراص بشهادة شركة Bull فيما ترى شركة DDIGIDOC أنّ أقصى مدة يمكن أن تبلغها هذه الأوعية هي عشرون سنة إذا لم يقع احترام شروط الإستعمال الخاصة بتركيزها بينما تؤكد DORETECH أن هناك من الأوعية ما يصمد على امتداد ثلاثين سنة لكن مع جهود إضافية للصيانة والمراجعة المسترسلة.

وفي المقابل يمكن للوعاء الورقي أن يصمد مائة سنة كاملة مع بعض أعمال الصيانة[309] .

فكيف يمكن إذن لهذه الأوعية الالكترونية أمام عامل الزمن أن تحافظ على محتواها إلى حين انتفاء الحاجة إليه ؟ بل إنّه لا يمكن للحاجة أن تنتفي فلا يمكن الاستغناء عن وسيلة الإثبات بأي حال من الأحوال من بعد مرور أجل التقادم لأن المتعاقد سيظل في حاجة دائمة إلى دليل يثبت به في أقصى الحالات مرور ذلك الأجل المسقط. لذلك ينصح المختصون بمراقبة وإعادة تسجيل محتوى الوعاء الإلكتروني مرة كل 4 سنوات أي أنه يجب إعادة التسجيل بمعدل مرتين خلال العشر سنوات ، أجل الحفظ الوجوبي في المادة التجارية . وهنا تطرح إشكالية السلامة من جديد خلال هجرة المعطيات من وعاء إلى آخر.

أمّا إذا اتفق طرفا المعاملة أو رام التاجر حفظ الوثائق المثبتة للمعاملات لمدة تتجاوز 10 سنوات فإنّ فرضيات إعادة التسجيل تتضاعف وتتضاعف معها التكلفة وبسؤال بعض الأشخاص الطبيعيين الذين يقومون بحفظ الوثائق لفائدة حرفائهم ، أي الذين يعرفون بالغير الحافظ ، عن تكلفة أرشفة الوثائق الإلكترونية بطريقة سليمة وآمنة ، أجابت شركة DIGIDOC أن ذلك يكلف على الأقل 500KF[310] بالنسبة لأرشيف ذي مواصفاته[311] لكن هل أنّ جميع الوثائق الإلكترونية تحضى بالحفظ والأرشفة ؟

عن هذا السؤال أجابت IBM أنّه من المستحسن لكل حريف أن يعقد اتفاقا مع حافظه لاختيار المعطيات التي سيقع حفظها فيما أكّدت شركة ALLEGRO أنه ما عدا الفواتير فلا تستحق أي وثيقة أن تحفظ لأكثر من بضعة أشهر.

وعلى الضّفة الأخرى، يقف رجال القانون موقعا مغايرا إذ يؤكد
ERIC CAPRIOLI أنه بدون منازعة وفي محيط إلكتروني ، من السهل ومن المعقد في ذات الوقت إثبات الوقائع الإلكترونية بمعنى أنه ولئن كانت جميع المعاملات بين الأطراف أو الإتصالات بموقع ما تترك دائما آثارا معلوماتية ، فإنه ليس من الهيّن ، في المقابل ضمان الصحة نظرا لإمكانيات التدخل والتغيير وبالتالي يجب على الأقل ، حفظ جميع الإرساليات المتصل بها والتي لها قيمة أو أثر قانوني وذلك وفقا لترتيب زمني .[312]

وعموما أكدت التجربة أنّ الحامل الذي يخزن فيه العقد الإلكتروني يمكن أن يناله ما يعبر عنه بالفيروس المعلوماتي الذي يفسد أن يمسح كل ما يوجد به، كما أنّ أيّ عطب مادي كمجرد خدش بالحامل الإلكتروني يحول دون قراءته يواسطة الكمبيوتر.

ولئن أمكن الإحتياط لهذا الخطر بتركيب برامج مقاومة للفيروسات وبإعداد نسخ احتياطية من العقد الإلكتروني تخزن على حوامل الكترونية مختلفة ويصعب بأن تصاب كلها بالفريوس أو ينالها في نفس الوقت عطب مادي يفقدها صلوحيتها لما أعدت له، فإن ما يصعب الإحتياط له هو أن دوام صفة الإثبات التي يتعين بأن تتوفر في العقد الإلكتروني يصعب تحقيقها عند انقضاء أمد زمني طويل على نشأته بفعل أن الوثيقة الإلكترونية لا تقرأ مباشرة وإنما هي مجموعة من الرموز الرقمية المحفوظة على حامل الكتروني لا يفهمها إلا الكمبيوتر الذي يقوم بترجمتها إلى لغة بشرية مفهومة اعتمادا على نظام تشغيل خاص به مضمن بالقرص الثابت الذي يجب أن يزوّد علاوة على ذلك بالبرنامح المعلوماتي الذي تم بواسطته إنشاء الوثيقة الإلكترونية وهو الذي يسمح بانفراده بقراءتها .

إلاّ أن المختصين يؤكدون بأن الأنظمة التشغيلية لا يمكن أن يتجاوز عمرها الخمس سنوات كما أنّ البرامج التطبيقية ومنها تلك المعدة لمعالجة النصوص لا تعمر أكثر من ثلاث سنوات وذلك بفعل التطور المذهل والسريع الذي تعرفه المعلوماتية .

وبالتالي فإن العقد الإلكتروني الذي يحفظ على حامل الكتروني ويرجع إليه بعد مدة طويلة ، عشر سنوات مثلا ، سوف لن يجد بسهولة البرنامج التطبيقي الذي أنشأ بواسطته والذي يستحيل في غيابه قراءته وهو ما يمثل خطرا حقيقيا ضرورة أن الأنظمة التشغيلية والبرامج التطبيقية المتداولة إنما هي منتوجات تجارية في تطور مستمر بفعل المزاحمة التجارية ولا يهمها في شيء ما قد تتعرض له الوثائق الالكترونية المخزونة من صعوبة أو استحالة على مستوى قراءتها بعد مرور سنين طويلة على خزنها .

المبحث الثاني : ظاهرة القرصنة وصعوبة تطويقها :
إنّ ثورة المعلومات تمثل تهديدا للأمن القومي للمجتمعات ، فمثلما نستطيع أن نشنّ حروبا معلوماتية وحملات دعائيّة فإنّنا في نفس الوقت عرضة لمثل هذه النوعية من الحروب والإرهاب المعلوماتي ، بفعل السماوات المعرفية والمعلوماتية المفتوحة والعولمة التلفزيونية.
فقد أصبح العالم قرية صغيرة تكاد معلوماتها تكون على المشاع ما لم تتوفر إمكانيات فعّالة لصيانتها من الإختراق .

فلا أحد ينكر اليوم أن ثورة المعلومات هذه قد أتت بآثار سيئة على النظام والقانون فجرائم الكمبيوتر تلحق خسائر فادحة بأصحاب الأعمال كما زادت ظاهرة التجسّس التجاري والإقتصادي بين الشركات والدول ففي العامين الماضيين مثلا نشبت مشكلة بين الولايات المتحدة وكندا من جانب والصين من جانب آخر عندما قامت الأخيرة بنقل تكنولوجيا لصناعة الإلكترونيات وأشرطة التسجيل وضعتها لتبيعها في أسواق هاتين الدّولتين بثلث أسعار منتجاتها المماثلة[313] ومع زيادة المنافسة العالمية ستزداد دوافع التجسّس التجاري حدّة بعد تنفيذ الاتفاقية العامة للتعريفة والتجارة ” الجات “[314] واكتمال آليات تنفيذها بالنسبة للدول النامية بحلول عام 2004 .

فبعد انتهاء الحرب الباردة وتغير أساليب الصراع الدولي الدولي وغلبة الصراع التكنولوجي والتجاري والاقتصادي على الصراع العسكري تغيرت أولويات التجسّس بين الدول فتنازل التجسّس العسكري والسياسي عن عرش الأولوية وحل محله التجسّس التكنولوجي والتجاري وظهرت صور أخرى للتجسّس ، كما أصبح بمقدور هواة أو مبتدئين اختراق برامج وفك شفرات والإستحواذ على معلومات سرية .

كما أثبتت الأقمار الصناعية فاعليتها في التجسّس الفضائي لجمع المعلومات العسكرية والتكنولوجية والتجارية حتى أصبحت أقمار التجسّس منافسة لطائرات التجسّس العسكرية في دقة التصوير ووضوح الصور فأصبح تسويق هذه الأقمار تجاريا على مدى واسع أمرا واقعا ومرشحا للتّزايد خلال السنوات القليلة القادمة

وأصبحنا اليوم نتعايش مع جرائم عجيبة ، أسلحتها معلومات وبرغم أنّها بلا دماء ولا جرحى ، فإنها تشكل رعبا مستقبليا لاحت بداياته ،أصبحنا نتحدث عن مافيا الحاسوب ، هذا الخطر المرعب الذي يمكن أن يجعل الغد قاتما إذ يكفي أن تتكاثر جرائم الحاسوب ويقتنع الناس بوجودها حتى يصبح الحاسوب جهازا يثير الشك والريبة وتبرز أزمة عدم ثقة في التعامل مع الحاسوب وتطبيقاته وقد تؤدي إلى الإبتعاد عن الحاسوب والعودة إلى الوراء وبالتأكيد فالرّقي ينتكس والحياة تتدهور وعلى العكس من ذلك يرى البعض أنّ ما يقوم به أفراد مافيا الحاسوب يصنف على أنّه نشاط علمي بحت ولا شيء غيره ويكفي أن نزور عددا من المواقع على شبكة الأنترنات لنقف على هذا الموقف [315] حيث تقام المسابقات بين قراصنة الحاسوب لتتويج أقدر قرصان على اختراق الأجهزة والأنظمة الأمنية.

ومن أمثلة هذه الجرائم التي يتداولها الفقهاء أنّ موظّفا في ولاية دنفر كان يعمل على الحاسوب يمتلك 1800 سهم لشركة معينة ويسعر دولار ونصف الدولار للسهم الواحد استطاع الدخول بشكل غير مشروع إلى منظومة البورصة وجعل الأسهم باسم شركة أخرى قيمة السهم الواحد فيها خمسة عشر دولارا وحكاية أخرى عن موظّف يعمل على الحاسوب في متجر كبير بولاية أوكلاند استطاع أن يغيّر في عناوين بعض العملاء ليوجه بضاعة قيمتها آلاف الدّولارات على عناوين شركاء له في الجريمة [316] .

ويلاحظ في الآونة الأخيرة أنّ صفحات العديد من الجرائد بدأت تحمل الحكايات عن جرائم ارتكبت وكانت الأداة هي الحاسوب [317] ويعزى السبب في زيادة هذا النوع من الجرائم في الوقت الحاضر إلى ازدياد عدد المتعاملين مع الحاسوب وشيوع استخدامه في مختلف الأعمال ومع مرور كل يوم يزداد الشخص الذي يعمل على الحاسوب خبرة ويصبح قادرا، إن سوّلت له نفسه ، على تنفيذ خطط اجرامية بسهولة والطّريف أنّ الدّافع في العديد من هذه الجرائم لم يكن دائما المال أو الشّهرة أو الجريمة المخطّط لها بل تختلف أحيانا الدوافع وليس من الغرابة أحيانا أن يكون مرتكبها موظّفا ساخطا على مستخدميه [318] .

أو أنّه يعاني من مشاكل شخصية أو موظفا يداعب أصدقاء له. لذلك فإنه منذ سنة 1988 سعت أغلب التشاريع إلى صياغة قوانين تردع جرائم الخداع والتحيل وسوء استخدام الحاسوب سواء كانت قصدية أو غير قصدية وكان التشريع التونسي رائدا في هذا المجال بتنقيحه للمجلة الجنائية وإرسائه لنوع جديد من الجرائم : الجرائم المعلوماتية ، التي سبق التعرض إليها في مباحث سابقة.

غير أنّ طبيعة جرائم الحاسوب تجعلها تمرّ بسهولة دون اكتشافها وقد كانت المصادفة في أحيان كثيرة هي السبب في اكتشاف بعض هذه الجرائم وأكثر من ذلك فقد بيّن الواقع أنّ حوالي 80% من جرائم الحاسوب المكتشفة تمرّ دون قيام المتضرر بابلاغ السلطات المختصة عنها لخشيتهم ربّما على سمعة ومكانة مؤسساتهم في المجتمع والجدير بالذّكر أنّ القانون في بعض البلدان يوجب إبلاغ السلطات عند حدوث جرائم تتعلق باقتحام منظومة البنوك فقط [319]

ماهو الأمن المنشود الواجب توفيره للحاسوب ؟
الجواب هو توفير الوسائل التقليدية وغير التقليدية لحماية الحاسوب وموارده المادية والمعنوية من الضّرر المتعمّد أو غير المتعمد أو الإقتحام من شخص غير مخول والعديد من الجرائم البيضاء .

إنّ صناعة الحاسوب تبقى دائما عرضة للإقتحام والمباغتة ، لذا يكون القلق عند أرباب العمل وخشيتهم من حدوث ضرر متوقع مبررا وهم يتوجهون أولا إلى الحماية التقليدية المتمثلة بوضع الحاسوب خلف أبواب موصدة وحراسة مشدّدة وثانيا توفير أساليب من الحماية المتشابكة غايتها تعريف الحاسوب بالشخص الذي يحمل تحويلا لعمل عليه .

وبشكل بسيط يستطيع الشخص المخوّل التعريف بنفسه عند اجابته عن الأسئلة التالية : ماذا لديه ؟ ماذا يعرف ؟ ماذا يعمل ؟ من هو ؟
ماذا لديه ؟ يمتلك مفتاحا أو بطاقة بلاستيكية تمكنه من فتح أقفال الحاسوب الموصدة.

* ماذا يعرف ؟ كلمة مرور أو رقم سرّي تجعل الحاسوب يعمل.

* ماذا يعمل ؟ يكتب اسمه أويمهر بتوقيعه ليخضع للمقارنة مع أسماء وتواقيع يحتفظ بها الحاسوب تجعل هذا الأخير يعمل عند التطابق.

* من هو ؟ هوية الشخص تحددها مقاييس حياتية تعتمد على خصائص الجسم مثل بصمة الأصابع أو نبرات الصوت والأحدث في هذا المجال فحص الحاسوب لقزحية العين حيث لشبكية عين الإنسان مخطط منفرد لا يمكن ايجاد مماثل له عند الآخرين.

ويشكّل أمن البيانات قلقا مضافا كما تعانيه الشركات من مشاكل أمن الحاسوب وموارده المادية وحتى في هذا الجانب يوجد القليل الذي يمكن فعله ولكن القليل هذا يمكن أن يشكّل البداية الطيبّة ويشمل ذلك الإستثمار النّاجح لكلمة السرّ ، ويقصد بكلمة السرّ مجموعة الرّموز التي يتمّ إدخالها بواسطة لوحة مفاتيح الحاسوب لكي يعمل الحاسوب ، ذلك أنّ الإبقاء على كلمة سرّ معيّنة لفترة طويلة قد يؤدي إلى تسرّبها ممّا يتطلب تغيير كلمة السرّ من حين لآخر وكذلك ادخال كلمات سرّ إضافية داخل الفهارس الفرعية للبرمجيات مما يجعل أمن البيانات أكثر فعالية .

كما يمكن إضافة برمجية للسّيطرة الداخلية وهي برمجية تسجل كل الوقائع المتعلقة بالدخول إلى ملفات البيانات أو محاولات الدخول إليها.
لكن وعلى افتراض أنّه بالإمكان جزئيا مراقبة بعض المعلومات عن طريق تحديد مصادرها وسدّ سبل الولوج إلى هذه المصادر ، فإنّ تعقيدات الشبكة وتشعّباتها ووجود عشرات الألوف من الوسائل البديلة للإتصال بين كل نقطتين في الشبكة يجعل من المستحيل سدّ الثّغرات كليّا . لذلك ينادي البعض بإنشاء جهاز أمني متخصص لمكافحة مافيا الحاسوب أسوة بالأجهزة الأمنية المتخصّصة في حقول الجريمة مثل مكافحة المخدرات أو مكافحة الإجرام أو مكافحة التهريب وغيرها ،

كما يفترض في الإطار الأمني في مكافحة جرائم الحاسوب أن يكون من حملة مؤهلات رفيعة في علوم الحاسوب بالإضافة إلى المؤهلات والخبرة الأمنية وفعلا تمت الموافقة على الصعيد الأمريكي منذ بداية هذه السنة على بعث مركز قومي للمعلومات الإفتراضية :

Cyber national information ( centre CNIC ) يتمّ تمويل نشاطه من قبل وزارة العدل الأمريكية وجميع الشركات الكبرى للمعلوماتية والحواسيب في العالم وذلك بحساب 2 مليون دينار عن كل شركة ( 3 مليارات ) كما سيتمّ في هذه السنة 2001 تخصيص ميزانية سنوية بهذا المركز تساوي 2 مليار دولار ( حوالي 3 آلاف مليار ) وافق الكونغرس على اعتمادها كميزانية أولية وستكون المهمة الأولى لهذا المركز مقاومة لقرصنة الإلكترونية عبر الأنترنات وحماية الشبكات القومية للمعلومات وذلك بالتعاون بين تلك الشركات الكبرى ومكتب التحقيقات الفيدرالية . F.B.I .

ولتنفيذ برامجه الطموحة شرع هذا المركز الفريد في ابتكار تقنيات إعلامية جديدة وسريّة من أجل حماية المبادلات التجارية التي يتمّ تنفيذها عبر الأنترنات وذلك من خلال سلسلة من الإجراءات الحمائيّة الإلكترونية التي تهدف إلى تعطيل أي محاولة للتسلّل إلى حواسيب شارع المال والأعمال ( وول ستريت ) والتّلاعب بالحسابات الجارية وبطاقات الإئتمان.

كما سيوسّع هذا المركز نشاطه ليشمل أيضا مقاومة كلّ عمليات اطلاق الفيروسات عبر الأنترنات وذلك حتّى يمكن المحافظة على مبدأ حرية الإبحار دون خطر.

والفيروسات والدّيدان ءworms et viruses ، تسميات غير محبّبة تشكّل أداة جريمة غير مباشرة موجّهة نحو أمن البيانات .

وربّما يكون من المفيد التعرّف على الدّودة التي تمثّل برنامجا تخريبيا تنقل نفسها تلقائيا من حاسوب إلى آخر عبر شبكة الحواسيب ومن أمثلتها الدودة التي ابتكرها طالب في جامعة كورنيل (cornouaille ) ودخلت في الفضاء شبكة حاسوب مسبّبة شلل المئات من الحواسيب نتيجة تكرار النسخ غير المسيطر عليه لبرنامج الدّودة الذي يملأ في النهاية ذاكرة الحاسوب ويصيبها بالشّلل .

والفيروس هو ناقل للعدوى الذي يمثل مجموعة أوامر خاملة تمرّر نفسها إلى برمجيات نظيفة
والتّصور العام لأجواء الفيروس يمكن ايجازه في أنّ مجموعة أوامر دخيلة يقوم أحد المبرمجين بإضافتها إلى برمجيات تشغيل الحاسوب وتبقى هذه الاوامر خاملة على القرص الحامل لها لحين استخدام بعض من أوامره مثل النّسخ أو استعراض محتوياته عندئذ ينتقل الفيروس إلى قرص نظيف يصبح هذا بدوره حاملا للفيروس .

ويسبب الفيروس بعد عدد محدد من استخدام القرص الملوث تدميرا لملفات البيانات . ومؤخّرا وقع اطلاق فيروس جديد يعرف باسم MATCHER [320]

يبقى السؤال المطروح ، كيف السبيل للتعامل مع الفيروس ؟
يكون ذلك من خلال استخدام برمجيّات الكشف والتنظيف والحماية من الفيروس، تنشيط فتحة الوقاية من الكتابة على الأقراص، تغيير في خصائص الملفّات عن طريق جعل التّعامل مع الملفّات مقصورا على القراءة فقط ويمكن مواكبة آخر تقنيّات الحماية من الفيروسات على عدّة مواقع توفّرها شركات مختصّة[321] ويجد فيها المستعمل (L’internaute) نظام الحماية الذي يناسبه ودليل استخدامه. كما يمكنه الإطلاع على آخر الفيروسات التي تمّ إطلاقها وعلى كيفيّة الوقاية منها.

وقد يحمل المستقبل حلاّ لمشكلة أمن الحاسوب وموارده فالخطى العجلى في تطوّر صناعة الحاسوب قد تتمخّض يوما ما عن ولادة الحاسوب الأمين الذي يحافظ على نفسه ذاتيّا عندئذ سينام الجميع قريري الأعين ولكن متى؟ وكيف؟ المستقبل وحده سيجيب عن ذلك.

المبحث الثالث : إرتباط مستوى الضّمانات بدرجة تطوّر التقنيّات
« La sécurité n’est jamais parfaite, c’est un éternel recommencement ».
هكذا عبّر التقنيّون ورجال الميدان عن واقع الإتّصالات الحديثة والتّعامل عبرها.

نتحدّث عن معادلة بين ضمانات وتطوّر والحال أنّ كلاهما مرتبط بالآخر فالضّمانات تقاس بدرجة تطوّر التقنيّات وتطوّر المعاملات لن يستمرّ ما لم تتوفّر الضّمانات الكافية.

إذن كلا الأمرين يظّل رهين الجانب التقني الذي يجب أن يتطوّر في إتّجاهين : نوعيّا (الفقرة الاولى) وكميّا (الفقرة الثانية).
الفقرة الأولى : تطوّر تقني نوعي :
يقول بشلار :”إنّ تاريخ العلم هو تاريخ أخطائه”
وأن : “العلم يتقدّم وهو ينظر إلى الوارء.”[322]

بمعنى أن لا وجود لحقيقة علميّة ثابتة فالعلم يتطوّر كلّ يوم عن طريق الوقوف على أخطائه وثغراته ومحاولة تجاوزها بإرساء تقنيّات جديدة تكون قد حلّت مشكلة التقنيّات السّالفة ولكنّها تطرح هي ذاتها نقائص يطالب العلم بتجازوها من جديد، وهكذا دواليك، تدور العجلة إلى ما لا نهاية، تنطلق من نقطة معيّنة ولكن لا نعلم أين سترسي ولا متى تنتهي حركة دورانها وهو ما يمثّل خصوصيّة المادّة التقنيّة فحقائقها ظرفيّة وكذلك تكون ضماناتها فالتّاجر عموما يجد نفسه مضطرّا إلى الإعتماد على التقنيّات الحديثة في سبيل مواكبة تطوّر المعاملات لغاية إزدهار تجارته وهو يعلم مسبّقا أنّ الضّمانات التي توفّرها اليوم مثلها مثل نور المصباح الكهربائي في عتمة اللّيل يكون وهّاجا مضيئا لكن حالما تشرق الشّمس يفتر هذا النّور إلى أن يفقد توهّجه ويصبح من الصّعب تمييزه أمام ضوء الشّمس لذلك يجب على التّاجر الحرص على تحيين وسائل إتّصاله وتعامله المجسّمة أساسا في الحاسوب فيتابع تطوّر شرائحه ومميّزاته على مستوى الماديّات Hard ware

وهو الجانب المتعلّق بالمكوّنات الماديّة للحاسوب وملحقاته كوسائل التّحاور معه مثل لوحات المفاتيح والشاشات والطّابعات ووسائط تخزين البيانات وكذلك على مستوى البرمجيّات Soft ware وهي كلّ البرامج المكتوبة بهدف إدارة وتنظيم وتنسيق عمل مكوّنات الحاسوب الماديّة وهي تشمل أيضا البرامج المكتوبة لتنفيذ أعمال بعينها مثل معالجة وتنسيق الكلمات، إنشاء وإدارة قواعد البيانات، الحسابات الماليّة أو العلميّة أو الإحصائيّة، إعداد الرّسوم والأشكال[323]

فالنّوعيّة هي التي ستحدّد درجة الضّمانات وهو ما يفسّر إتّجاه جميع التّشاريع التي نظّمت الوثيقة والإمضاء الألكترونيّين إلى عدم تحديد وضبط تقنيّات وفنيّات بعينها على المتعامل استخدامها مثلا في إنشاء الوثيقة الألكترونيّة وخزنها حتّى تحضى هذه الاخيرة بمكانة قانونيّة بل تركت الامر مفتوحا بإرسائها لمعايير موضوعيّة صالحة لكلّ زمان ومكان لا تأخذ بعين الإعتبار سوى المردود العملي للتّقنيّة فقد جاء بالفصل 453 مكرر م.إ.ع أنّه لإعتماد الوثيقة الألكترونيّة كحجّة غير رسميّة يجب أن تكون محفوظة بطريقة موثوق بها. وكذلك جاء بالفصل 5 من ق-م-ت-أ أنّ إحداث الإمضاء الألكتروني يكون بواسطة منظومة موثوق بها.

لكن هل أنّ معيار الوثوق هذا وطنيّ، إقليميّ، أم علميّ؟ بمعنى هل سيحدّد الخبراء العدليّون درجة الوثوق على ضوء المتوفّر على السّاحة العالميّة أم في حدود الإمكانيّات التقنيّة الموجودة على السّاحة التونسيّة؟
لا نظنّ أن الفرضيّة الأخيرة مناسبة ونحن على أبواب الإنصهار مع العالم وبالتّالي فإنّ الحلّ الوحيد يتمثّل في السّعي إلى توفير البنى التحيّة التقنيّة الملائمة من حيث المميّزات والنوعيّة وهو ما يستوجب توفير ميزانيّات كبيرة فمثلا مشروع المقاصّة الألكترونيّة أصبح جنينا تجاوز عمره العامين ولم نستمع بعد لصراخ الإستهلال رغم أن نسيجه القانوني مكتمل فما السّبب في ذلك؟

السّبب ماديّ صرف ذلك أن اقتناء التقنيّات اللاّزمة وخاصّة أجهزة السّكانر يتطلّب تمويلات ضخمة لذلك وقع تأجيل بداية العمل بهذا النّظام 3 مرّات إلى حدّ الآن، لكن من المرجّح أن ينطلق العمل به في أواخر جوان 2001. ونأمل أن يكون آخر أجل.

ونعود لنتساءل عمّا إذا كان لمعيار الوثوق والتّعويل المتحدّث عنه أثر رجعيّ فالوثائق التي بنيت اليوم على تقنيّات إرتقت إلى درجة الوثوق بها تجد نفسها غدا مع التطوّر التقني غير مستجيبة لشروط الوثوق بها فهل تراها تخضع للمراجعة ؟

إنّ نظريّة الحقوق المكتسبة، مدعّمة بهدف الحرص على استقرار المعاملات يقفان حائلا دون ذلك فإذا ذهبنا في إتّجاه المراجعة فستصبح جميع المجالات والمؤسسات القانونيّة المتعاملة مع الإعلاميّة مبنيّة على أرضيّة رخوة ومرنة وبدلا من تحقيق الأمان والضّمانات سننتهي إلى النّتيجة العكسيّة حتما.

وعموما يؤكّد أهل الإختصاص أنّ :
« La sécurité, la fiabilité, la qualité dans le temps des supports, ne peut qu’augmenter, en rajoutant de nouveaux outils au fur et à mesure qu’ils apparaissent. »[324]
الفقرة الثانية : تطوّر تقنيّ كميّ :

إنّ من بين المبادئ الأساسيّة التي تحكم العقد تجاريّا كان أو ماديّا هو مبدأ التّوازن التّعاقدي الذي يعتبر ضمانا قانونيّا لكلا الطّرفين يمكّن كلّ واحد منهما من ممارسة حقوقه التعاقديّة في الرّضاء، في مناقشة بنود العقد، في مراجعته أو العدول عنه.

ومع تطوّر التّقنيّات وظهور العقد الإلكتروني أصبح لهذا المبدإ وجه آخر يعنى بالجانب التّقني إذ لتحقيقه يجب أن يكون لدى الطرفين نفس التقنيات وعلى نفس الدّرجة من النّجاعة حتى يكون النّزاع شريفا بينهما ولا يمكن التكهّن بنتيجته مسبقا فيتسنّى مثلا تكريس مبدأ المعارضة بالدّليل المعاكس :

Le contradictoire فوسيلة الإثبات كما اسلفنا تكون قابلة للدّحض أو لا تكون، إلاّ أنّ إرساء أنظمة من قبل أحد المتعاقدين لا تتوفّر لدى الآخر يتعارض مع هذا المبدإ في إتّجاهين :

– إمّا أن تكون هذه الوسائل الحمائيّة إختياريّة لم يوجب القانون اعتمادها مما من شأنه أن يحدث تباعدا وعدم توازن بين الطّرفين على مستوى وسائل الإثبات المقدّمة.
– وإمّا أن نفترض لهذه الوسائل أثرا لا يمكن تجاوزه (incontournable) ممّا يؤسس للطّابع القطعي لكلّ ما ينتج عنها

– لذلك فإنّ توفير التقنيّات للحرفي وغير الحرفي، للتّاجر والمستهلك بشكل متكافئ ومتوازن مع توسيع دائرة المنتفعين بهذه التقنيّات من شأنه أن يشجّع على الإقبال على المعاملات الألكترونيّة بأكثر ضمانات وطمأنينة، بلا خوف من أنّ الشّخص الجالس أمام الجهاز الطّرفي المقابل يملك تقنيّات أكثر تطوّرا أو تقنيّات يفتقر إليها هو ستمكّنه من مغالطته والإيقاع به فيما لا يحمد عقباه فعنصر الثّقة بحاجة إلى التّدعيم بالعنصر المادّي التقني ذلك أنّ “الخطر لا يكمن في المجهول وإنّما في الخوف من المجهول.”

ومرّة أخرى نعود إلى النّقطة الأساسيّة : التّمويلات لينضاف معطى جديد إلى خصائص التّجارة ومتطلّباتها المعروفة : السّرعة، التطوّر، الثّقة ودوليّة المعاملات التّجاريّة، تضاف إليها التكلفة والتّكلفة الباهضة فهل سيساعد ذلك على إزدهار الحركة الإقتصاديّة الدّاخليّة خاصة باعتبار أنّ كلّ زيادة في سعر التّكلفة تؤدّي ضرورة إلى زيادة في ثمن المنتوج النّهائي ؟

ثم إنّ إحاطة التّجارة الألكترونيّة بهذا الكمّ الهائل من الإحتياطات الأمنيّة القانونيّة والتقنيّة، ألا يعتبر شكلا من أشكال الإقرار بنقائص ونقاط ضعف هذه المؤسّسة ؟

يقول Lucien PAULIAC :
« Quand le saucier se donne trop de mal, il vaut mieux se méfier de la fraîcheur du poisson. »[326]
وعموما فإن تأقلم قواعد الإثبات مع التقنيات الحديثة هو أحد مظاهر تأقلم القانون عموما مع التطور العلمي ، لكنّ التطور في مجال الإثبات لا يمثل في الحقيقة حسب المفكرين قطيعة مع الماضي أو انفصالا تاما مع النظرية التقليدية للإثبات ، بل هو تواصل للمضمون مع تجديد في شكله وآليّاته أي في طريقة إقامة الحجة . فالحجة الإلكترونية وإن ستكون في المستقبل ، مع أجيال الإعلامية والحاسوب ، هي الغالبة فهي لم تأت تماما على الحجة المكتوبة أي الوثيقة المجسمة على الورق بحروف الهجاء والأرقام والأشكال ومثلها في ذلك مثل إكتشاف التيّار الكهربائي الذي وإن شاع وغلب وعمّ وحسّن الإنارة فإنه لم يقض تماما على الشموع والقناديل .

والعبرة في كل ذلك أن النور يبقى نورا لكن تطور الإنسانية يغير وسائله دون المساس بكنهه.[327]

الخاتمــة
يقول الفيسوف كلود برنار :
” إن الملاحظة تظهر والتجربة تخبر ”
وهذا ما ننتظره الآن من المعاملات التجارية الإلكترونية ، ذلك أن القانون المنظّم للتجارة الإلكترونية قد سبق الواقع فكان بمثابة الإطار الذي ينتظر اكتمال الصورة لتوضع فيه إلاّ أنه إطار مرن قابل للمراجعة والتعديل بحسب ما يقتضيه حجم الصورة.

ولهذا الإطار بعدان :
بعد قانوني جسّمته عدة قوانين جاءت لتنظّم الوثيقة الإلكترونية كوسيلة تعامل ( قانون المبادلات والتجارة الإلكترونية ) ثم كوسيلة إثبات (القانون عدد 57 المنقح لمجلّة الالتزامات والعقود ) وكأداة جريمة ومحور لها في ذات الوقت ( قانون 1999 المنقّح للمجلة الجنائية ) فأصبح الإثبات الإلكتروني مؤسسة قانونية قائمة بذاتها لا ينقصها سوى بعض الأوامر التطبيقية نأمل أن تحسم من خلالها عدّة مسائل لا تزال عالقة منها ما يتعلّق خاصّة بمسألتي الحفظ والتأريخ الإلكتروني الذين يلعبان دورا هامّا في تحديد حجيّة الوثيقة الإلكترونية.

وبعد آخر تقني بدأ يتجسّم شيئا فشيئا في الواقع نظرا لحداثة المادّة وخصوصيّتها وذلك تحت إشراف عدّة هياكل بعثت للغرض كالوكالة الوطنية للأنترنات واللجنة الوطنية للتجارة الإلكترونية والوكالة الوطنية للمصادقة الإلكترونية وكل منها مدعوّ إلى مراقبة الواقع الإلكتروني ومحاولة إيجاد حلول للصّعوبات والنقائص التي يمكن أن يطرحها.

وهكذا أمكن القول بأن المناخ العامّ بات مناسبا حتى تجسّم الوثيقة الإلكترونية وسيلة الإثبات الحديثة ، التطور الآمن تقنيا وقانونيا .
غير أنّ تحقيق المعادلة بين التطور والضمانات لا يقتضي توفر البعدين التقني والقانوني فحسب وإنما يستدعي توفر بعد آخر لا يقلّ أهميّة عنهما ألا وهو البعد الاجتماعي فكلّ جديد مهما كانت مواصفاته التقنية والقانونية بحاجة إلى اقتناع المجتمع به والثقة بمميزاته حتّى يلقى الإقبال.

وقد لخّص P. leclercq هذا البعد الاجتماعي بقوله :
« la preuve sur papier n’a pas été reconnue juridiquement par sa seule sécurité technique d’ailleurs non optimale ( … ). La primauté juridique de l’écrit est surtout justifiée pour un ensemble de considérations sociales ; tenant à la solennisation de son établissement, à l’égalité de tous les alphabétisées à sa production ; à la faculté de l’établissement en autant d’exemplaires que des parties, à l’aisance de son archivage. C’est pourquoi le succès de la preuve électronique sera subordonnée à sa reconnaissance par la société, elle même dépendante de la prennité des techniques mises en œuvre et de la possibilité pour tous d’y accéder à un coût raisonnable ».[328]

ومن ثمّ أضحت الوثيقة الإلكترونية ثلاثية الأبعاد وهو أمر قد يعطّل مسيرتها ما لم يتسلّح المتعامل تاجرا كان أو غير تاجر بروح المبادرة والمخاطرة سنده في ذلك ثقته في الضمانات التي يوفرها العلم وخاصة القانون .
وكما قال الفيلسوف :
« ce n’est pas parce que les choses sont difficiles que nous n’osons pas ; c’est parce que nous n’osons pas qu’elles sont difficiles ».