ورقة بحثية بعنوان النص بين التشريع و الاخبار

ورقة كتبها المستشار طارق البشرى يطوف بنا القاضي و رجل القانون الفيلسوف حول علاقة النص التشريعي و النص الإخباري و علاقة كليهما بالتاريخ. هذا النظر هو واحد من مباحث فلسفة القانون و منهجيته التي تدرس بكليات الحقوق.
غير أن الورقة تضيف و تزاوج بين النص التشريعي الديني و الوضعي على السواء في مسار عرض الفكرة

يتعامل رجل القانون دائما مع نصوص، سواء بالنسبة لعمله النظري والتفسيري، وبالنسبة لممارسته التطبيقية في القضاء والإفتاء؛ لأنه دائما يتعامل مع مبادئ وقواعد مصوغة في عبارات عامة، كما أنه يتعامل مع وقائع وأحداث جرت وتمت ويتلقاها هو في صياغات خبرية، فهو في الأغلب الأعم لا يتعامل مع الحدث إبان حدوثه ولا مع الواقعة في حال جريانها، ولكنه يتعامل معها عند الإخبار عنها بعد تمامها، ويكون التحقق من صواب الإخبار عنها جزءا من عمله، وذلك في مجال عمله التطبيقي وتكون غاية عمله التطبيقي هي إنزال أحكام النصوص المصوغة في مبادئ وقواعد عامة على ما أخبر به الواقع من أحداث ونوازل معينة، وذلك لتقرير المركز القانوني الشرعي لمن تلحقهم آثار الحدث بعد تمامه.

فثمة قاعدة عامة ومبدأ عام مصوغ في نصوص وهو ما نسميه التشريع أو القاعدة القانونية، وثمة إخبار بواقع حادث صيغ في نصوص أيضا، وهو ما نسميه الدليل الذي تحكمه قواعد الإثبات، ولكن شتان ما بين النوعين من النصوص من حيث الطبيعة ومن حيث طرائق التعامل مع كل منهما، وإن منهج التعامل مع النص يختلف حسب طبيعته وما أعد من أجله، تشريعيا كان هذا النص أو إخباريا يتعلق بوزن الدليل على ثبوت الوقائع.

والنص عامة هو عبارات محددة بألفاظها يراد بها معنى من المعاني، وهو عبارات مكتوبة أو مروية تثبت برسمها ويتناقلها الناس بحرفها، وإن المتلقي لها يستخلص منها دلالات فكرية حول معنى من المعاني ويرتب عليها النتائج، بمعنى أنها تشكل صيغة من العبارات المحددة بكلمات وألفاظ تفيد معاني وتنتقل إلى الناس بالقراءة أو بالسماع، وهم يتعاملون معها ويتفاعلون معها، وهنا يرد
الفارق الأساسي في النصوص، بين ما يمكن أن نسميه “النص التشريعي” الذي يتعلق بمبادئ وقواعد عامة، وبين ما نسميه هنا “النص الإخباري” أو النص التاريخي الذي يتعلق بذكر واقعة أو حادث، ويقوم به دليل على ثبوتها أو نفيها.

النص التشريعي يتشكل في صورة نموذج قابل للتكرار بموجب طبيعته وبمقتضى أصل وظيفته المؤداة أو المقصود تأديتها، وهو آمر بشيء أو ناه عن شيء أو مرتب لأثر ونتيجة على فعل أو مقدمة. والنص الإخباري أو التاريخي يتشكل في صورة إخبار عن واقعة أو حادثة نزلت من وقائع الزمان الماضي أو الحاضر أو يمثل قولا عنها أو تعليقا عليها فهو مثبت لوجوه ممارسة، وهو ذكر نازلة أو بيان موقف عيني أو فعل لبشر أو قول لبشر. ولكل من هذين النوعين أساليب مختلفة ومناهج متباينة في التعامل.

وجوه تفهم النص التشريعي

النص التشريعي نص معد لكي يحكم تصرفات الناس بعد صدوره، سواء أكانت معاملات كبيع وزواج أو سلوكيات كصلاة وصوم أو عقوبات، وهو بأصل وجوده نص “متعد” وليس مجرد نص “لازم” بالمعنى اللغوي لهذين المفهومين، أي أنه نص لا ينفذ على مصدره فقط ولا تقتصر دلالته في شأن من أصدره ولا تنحصر دلالته في محتوى عيني له، إنما هو دائما يتعدى إلى الغير، بل إن المقصود من إصداره هو أن يتعدى إلى الغير ويحكم أنشطتهم.

والنص التشريعي يصدر في الحاضر، أي في الزمان الذي يصدر فيه، فلا ترد دلالته ولا أثره على الماضي الذي تم وجرى قبله، وذلك سواء أكان نصا تشريعيا إلهيا ورد بالقرآن الكريم “وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا”، وكذلك: “… إلا ما قد سلف”، بمعنى أن النص المحرم لزواج معين لا يسري على ما سلف من زيجات مخالفة له، سواء أكان كذلك أو كان نصا تشريعيا وضعيا ورد في قوانين الدولة “مبدأ عدم رجعية القوانين”. فهو دائما نص “قبلي”، أي يصدر قبل ما يتعامل معه من أحداث، من حيث استخلاص مفاده مما هو تال لصدروه وخاضع لمجاله، ومن حيث تطبيق دلالته على ما يعقبه.

بينما النص الإخباري هو نص تاريخي، أي أنه ابن زمن حدوثه، فهو نص لازم يتعلق بما أورد من وقائع وأحداث، لا يتعدى إلى وقائع وأحداث غير ما ورد به، ولا يحكم أحداثا أو أشخاصا غير من اشتملهم ببيانه، وهو من جهة أخرى يصدر في الحاضر الذي صيغ فيه، وتنصرف آثاره ودلالته إلى الماضي الذي سجله، والذي يكون تم من قبل، فهو نص عيني تنحصر دلالته ومفاداته على ما شمله من واقعه ومن شملهم من أشخاص، وهو نص “بعدي”، أي أنه نتج وصدر بعد الحدث الذي يدل عليه، وليس شأنه في ذلك شأن النص التشريعي الذي يصدر قبل الحدث الذي يدل عليه.

وهذه الفروق في طبيعة كل من النصين أنتجت فروقا كبيرة فيما يتعلق بمنهج تناول أي منهما وطريقة التعامل معه، ونحن في عملنا القانوني التطبيقي ننزل حكما واردا بنص تشريعي على واقعة أو تصرف وارد بنص إخباري.

النص التشريعي هو نص نموذج، ودلالته معدة لكي تكون قابلة للتكرار، وآثاره معدة لتكون عابرة للزمن، لذلك يتضمن القدر اللازم من التعميم والتجريد، وأن يصدق على الأفعال المشار إليها فيه بأوصافها لا بأعيانها، وأن يصدق على الأفراد الذين يلحقهم حكمه بأوصافهم لا بذواتهم، ومن هنا كان أول درس يتلقاه طالب الحقوق عن نظرية القانون هو أن القاعدة القانونية لا بد أن تكون عامة ومجردة، بمعنى أنه يتعين أن تعالج بطريقة تجعلها تسري على الأحداث والأشخاص بموجب ما يتوافر في أي من ذلك من وصف موضوعي، والنص هنا هو حكم يتعلق بأمر أو نهي أو بوضع مثل “كلما جرى كذا وجب أن يحدث كذا”، فهو يضع شرطا لتصرف أو يرتب نتيجة على تصرف، بغض النظر عن ذوات الأفراد وعينيات الأفعال.

والنص التشريعي بذلك يصوغ نموذجا قابلا للتكرار، وإن لم تكن فيه هذه القابلية فهو لن يكون نصا تشريعيا، وهو لن يكون كذلك إلا باشتماله على عنصر يتوافر مع توالي الزمن وتكراره، وأن يكون عنصرا حاضرا في الأزمان التالية، يؤثر في غيره ويتأثر به، مثل “إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه”، “إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير”، ومثل ما يرد بالقانون الوضعي “كل من اختلس منقولا مملوكا لغيره فهو سارق”، “يعاقب بالحبس مع الشغل على السرقات التي تحصل في مكان مسكون”، “لا يجوز أن تزيد ملكية الشخص من الأراضي الزراعية على خمسين فدانا”، “كل عقد يترتب عليه مخالفة هذا الحكم يعتبر باطلا”، “كل خطأ سبب ضررا للغير يلزم من ارتكبه بالتعويض، عن الضرر الذي لحق بالمضرور”.

النص هنا صيغ صياغة تجعله نموذجا لحالة وليس حالة بعينها، وهو بحسبانه نموذجا يكون قابلا للتكرار على كل ما يحدث من وقائع وتكون اتصفت بالأوصاف والأوضاع الواردة بالنص، ونحن عندما نتعامل مع مثل هذه النصوص يقابلنا نوعان من الأسئلة، نوع ينظر إلى عبارات النص وألفاظه أي إلى هيكل النموذج المعد وسمته ورسمه، ونوع آخر ينظر إلى الوقائع أو التصرفات أو الحالات التي تعرض على النص، أي إلى المادة التي سيتعامل معها النموذج.

ففي النوع الأول من الأسئلة، عن تحريم القرآن الكريم للخمر، يقابلنا السؤال عما هو الخمر وما هو الميسر وما هو الرجس وما هو الاجتناب، وفي قانون العقوبات يقابلنا السؤال عما هو الاختلاس، ما هو المنقول وما هو المملوك ومن هو الغير، وفي قانون الإصلاح
الزراعي يقابلنا السؤال عمن هو الشخص وما هي الملكية وما هي الأرض الزراعية، وكلها من أسئلة النوع الأول التي تتعلق بدلالات ألفاظ النص وعباراته، وباستنباط ذلك من المعاني اللغوية ومن المعاني الاصطلاحية التي يعبر بها أهل كل علم أو حرفة، وكذلك مما جرت به أعراف التعامل والتفاهم بين الناس في كل صقع أو زمان، ونحن في إدراك هذه المعاني نكون ما زلنا نقف عند
حدود نص جامد نتفهم دلالته في ذاته فقط، سواء باستنباط المعاني من مقتضياتها أو باستقراء دلالتها من سوابق ما اشتملت عليه من حالات.

أما
النوع الثاني فهو ينظر إلى الواقع الحادث، أي الواقع الذي جد وحدث بعد صدور النص التشريعي وينظر إلى ما يعتمل في هذا الواقع وليس إلى العبارات في ذاتها، لذلك تكون أسئلته أسئلة عينية تتعلق بالحالات التي يراد إنزال حكم النص عليها، وهي حالات مفردة أو ظواهر مخصوصة طرأت من بعد، وأسئلته هي من نوع: هل المادة السائلة التي أمامنا هي خمر، وهل الذبيحة التي نشاهدها كانت ميتة قبل حز السكين أم أثناء ذلك أم بعده، وهل الأرض المشار إليها مملوكة وهل هي زراعية وما مساحتها ومن مالكها، إلى آخر هذه الأوصاف التي نستخلصها من الواقع المحسوس المحدد في كل حالة على حدة، أو من خلال ظواهر مخصوصة جدت ونريد أن نعرف في أي مركز شرعي أو قانوني يتعين أن نضعها.

وجه الثبات في النص

هذان النوعان من الأسئلة ومن وجوه النظر هما طرفا عملية تفهم النص التشريعي، وهذان الموضوعان ليسا منفصلين أحدهما عن الآخر، إنما هما متفاعلان يشكلان منهجا واحدا في فهم النص واستدعاء معناه مطبقا على حالة معينة أو حالات مخصوصة، وإن ما نسميه تفسيرا للنص التشريعي أو اجتهادا في فهم دلالته أو فقه أحكامه، إنما يتعلق بهذه العملية مطبقة على حالة أو حالات معينة، أو أنه استخراج لمعاني النص التشريعي منظورا في فهمه إلى سوابق أعماله على الحالات التي طبق بشأنها، وفي كلمة: فإن التفسير هو تحريك النص الثابت على الواقع المتنوع والمتعدد الحالات، وهو ما يصل بين ما تتناهى ألفاظه وعباراته في ذاتها، بما لا تتناهى حالاته في تنوعها وتعددها وإحداثها وتغيرها.

والنص التشريعي بذاته، أو بألفاظه وعباراته، هو دائما نص محافظ، وسواء أكان نصا قديما أو جديدا، وسواء أكان نصا ورد في كتاب سماوي لا يلحقه التغيير والتبديل لوروده من خارج الزمان والمكان، أو كان وضعيا يضعه الناس في كل حين ليحكم ما يتراءى لهم من شئون دنياهم في كل زمان ومكان، هو نص محافظ لأن وظيفته التشريعية أن يحكم واقعا يطرأ بعده، وأن يلزم حركة الواقع من بعد صدوره لكي تكون محكومة به غير خارجة عن ضوابطه ولو لم يرد به حاكموه الواقع التالي عليه ما كان يصدر أصلا، وحتى النص الوضعي الذي يصدره الناس لتغيير أوضاع في نظم حياتهم ومعاملاتهم حتى هذا النص الذي قصد به تغيير البيئة الاجتماعية القائمة عند صدوره، فهو أيضا له وجهة محافظة ترد إليه مما يحمل من أحكام ثابتة وما يفرضه من ذلك على واقع تال، بأشخاصه وعلاقاته.

وإذا كان ذوو الفكر الوضعي الفلسفي يستكثرون أن يحكموا بمبادئ الشريعة الإسلامية، لأنها تشمل نصوصا وردت في مصادر تشريعية أبلغت للناس من ألف وخمسمائة سنة، أو من قبل ذلك كما في أديان سابقة أخرى، فإن من النصوص الوضعية في البلاد الغربية والتي تبنت الفلسفة الوضعية في التشريع، إن منها ما يعود إلى مائتي سنة مثل القانون المدني الفرنسي الذي صدر أيام حكم نابليون فرنسا، ومنها سوابق تشريعية قضائية عرفتها بريطانيا مثلا من مئات السنين، ومجموعات القوانين التي صدرت في مصر سنة 1883 بعضها ظل يعمل لسبعين سنة تقريبا، مثل القانون المدني القديم الآخذ من القانون المختلط الصادر في 1875، وهو الآخذ من القانون الفرنسي وبعضها بهذه المصادر ذاتها ظل يعمل من بعد عشرات السنين في مصر مثل القانون التجاري والقانون البحري. وعاصر كل ذلك – سواء في فرنسا وإيطاليا أو في مصر – نظما سياسية ودستورية واقتصادية ومستويات تطور في الأساليب التقنية ومذاهب فكرية وثقافية وعادات عيش ونظم عمل، عاصر في كل ذلك من التغييرات ما لا يقل حجمه ولا وزنه وأثره ما حدث في العالم على مدى القرون السابقة، وعرف في بلادنا نظم احتلال أجنبي ونظم استبداد وديمقراطية ونظما رأسمالية واشتراكية، عاصر كل ما يعرفه القارئ من تطور وتغير في عشرات من السنين كثيفة الأحداث مزدحمة الوقائع متغيرة العلاقات متنوعة الثقافات.

النص والواقع المتغير

هذا عن وجه الثبات في النص التشريعي، وأما ما يتعلق بتعامله مع الواقع المتغير فإن هذا الوجه من وجوه منهج التفسير هو ما يكسب النص الثابت حركيته وفاعليته، وذلك بالخاصية الأولى التي ذكرتها، وهي أن النص معد في صياغته لأن يتجاوز زمن صدوره بما يلاحق ما يستجد من حالات، وهو معد لأن يتجاوز حدود ألفاظه لكي ينسحب على حالات ذات تنوع، وكل ذلك يجري بمناهج عقلية اجتهد رجال المنطق وعلماء أصول الفقه وفقهاء التفسير لأن يضعوا لها الضوابط والحدود.

لقد وضعت مناهج لتفسير النص التشريعي بما يمكن من تطبيقه على الواقع المتغير وعلى الحالات المتنوعة، ولهذا الأمر مناهجه في الفقه الغربي، مما ينقسم إلى مدارس ومذاهب، فيقال مدرسة الشرح على المتون والمدرسة التاريخية والمدرسة الاجتماعية وغير ذلك، وأساس الخلاف بينها في ضبط المنهج يتعلق بثبات النص ومحدودية معانيه الواردة بألفاظه وعباراته وبتغير وقائع الزمان والمكان وتنوع الحالات.. وفي فقه الشريعة الإسلامية وضعت مصادر لاستخراج الأحكام مثل القياس وضوابطه الذي يضيف إلى الحالات المنصوص عليها حالات أخرى وكذلك المصالح المرسلة التي تشغل من المجالات ما يقع بين المأمور به والمنهي عنه وما يقارب كلا منهما، وكذلك الاستصحاب والاستحسان لمن يقول به وغير ذلك، كما وضعوا مذاهب في تخريج الأحكام من خلال عباراتها ولاستقراء القواعد الشرعية العامة من الأحكام التفصيلية إدراكا للمقاصد العامة الهادية في التفسير وغير ذلك، ولا أريد أن أزيد في أمر يدخل بنا إلى ما يخرجنا عن السياق العام الذي نحاول رسم خطوطه العامة.

والذي أريد أن أشير إليه في هذا الحديث أن النص التشريعي له اتصال مباشر بزمان التطبيق، وليس بزمان الإصدار فقط، بل إن اتصاله بزمان التطبيق أكثر وثوقا من اتصاله بزمان الإصدار، ونحن كلما أعملنا حكمه في حالة عرضت في لحظة زمانية ما.. كان هذا النص ليس ابن الزمن الذي صدر فيه بقدر ما يكون ابن الزمن الذي أعمل فيه؛ لأنه ليس ماضيا ولى، ولكنه حاضر في هذا الزمن الذي نزلت فيه النازلة التي استدعت تطبيقه عليها، وإن أي واقعة تحدث في تاريخ معين يمكن أن تتجمع في حكمها مجموعة من النصوص وليس نصا واحدا فقط، فواقعة قتل شخص مثلا في سنة 2007 يحكمها قانون العقوبات الصادر في 1937 بالنسبة للجريمة وقانون الميراث الصادر في 1943 بالنسبة لواقعة الإرث واقتسام المال الموروث، وقوانين المعاشات والتأمينات الصادرة في 1975 مثلا أو ما بعدها بالنسبة لما يصرف لأولاده القصر وزوجته من معاش.

وهكذا، وكل من هذه القوانين صدر في وقت مختلف عن وقت صدور الآخر، ولكنها تجتمع في حكم الواقعة بصرف النظر عن تاريخ صدور كل منها، وهي تجتمع على ذات المستوى من الفاعلية بحسبانها كلها قوانين الحاضر بالنسبة للواقعة التي حدثت في 2007 مثلا، وأن أحكامها بحسبانها من “حاضر الواقعة” تتداخل في التفسير وتبين الدلالات.

وهذا النص التشريعي يتجدد تطبيقه وتتجدد دلالاته، وهو بتنوع الحالات التي تعرض له في التطبيق تغتني معانيه وما يستفاد منه من أحكام، وإنه مثل الكائن الحي الذي تكسبه الحركة والتعامل خصوبة وخبرة وثراء في الأثر والدلالات، وفي العمل القانوني التطبيقي نلحظ نصوصا تصير ثرية جدا وخصبة جدا في معانيها، ويمكن أن يوضع في تفسيرها ما لا يكاد يحصى من الشروح، نلحظ ذلك مع طول المعايشة في العمل التطبيقي حتى في داخل القانون الواحد، وذلك بسبب كثرة تعامل الناس بما يخضع لها من أحكام، نتيجة أوضاع اجتماعية أو ثقافية أو اقتصادية، والكثرة تفيد التنوع وكثرة التداخل بين الأنشطة وتستثير الالتباس والعمل على إعادة الضبط والتحديد، وتستثير الأذهان لتبيين الضوابط والفروق وتحديد الآثار المترتبة على الوقائع والتصرفات.

وعلى سبيل المثال، فإن الدستور المصري الذي صدر في سنة 1923 فيه مواد استغرقت جهودا هائلة في تفسيرها، وكان ذلك يعود إلى الصراع السياسي المحتدم إبان سريان الدستور بين أنصار التوسعة في الحركة الشعبية وبين أنصار التوسعة في سلطات الدولة والملك مثل المادة 15 الخاصة بحرية الصحافة، والمادة الخاصة بتنظيم الاجتماعات، وثمة نصوص ترد في كتب الشرح والمجموعات القانونية تسرد سردا مجردا، فلا يكاد يلتفت إليها، مثل المادتين 16 و17 الخاصتين بالتعليم في الدستور ذاته، وعلى سبيل المثال أيضا، أذكر منذ سنوات بداية عملي في مجلس الدولة في شبابي في النصف الثاني من القرن العشرين، كانت ترد إلينا في إدارة الفتوى بالمجلس المشاكل القانونية الخاصة بتطبيق قانون الإصلاح الزراعي وتحديد ما يستولى عليه لدى كبار الملاك، فكانت هناك نصوص تخضع لضغط كثيف في التطبيق من كثرة المشاكل وتنوع الحالات التي تعرض وهي النصوص الخاصة بما تستولي عليه الحكومة من الأرض وما تسمح للمالك باستبقائه وما يعتبر مملوكا للمالك وما لا يعتبر مملوكا، مثل المادتين 3 و4 من القانون 178 لسنة 1952 وما يليه، وكان ثمة مادتان لا يكاد يفطن إليهما قارئ القانون وهما المادتان 22 و23 منه الخاصتان بالحد الأدنى للملكية الزراعية وعدم جواز تفتيتها لأقل من فدانين وعدم جواز التجزئة لأن المتعاملين جميعا ابتعدوا عنها ولم يلتفتوا إليها ويكاد ألا يكون أحد طلب تطبيقها.

أردت بذلك كله أن أشير إلى أن النص التشريعي لا يتصل بزمان صدوره فقط، ولكنه يكاد يولد يوميا مع كل حادث أو تصرف يقتضي استدعاء حكم هذا النص، ويعتبر عنصرا من عناصر الحاضر، حاضر الواقعة الحادثة أو التصرف الصادر مما يخضع لمجال انطباق النص التشريعي.

النص الإخباري وحقيقته

أما النص
الإخباري فهو يثبت حدثا أو ينبئ به، سواء أكان الحدث واقعة مادية أو كلاما قيل أو كتبا أو علاقة ظهرت أو أمرا تنظيميا جرى، أو كان شيئا من ذلك تغير وتعدل، هو واقعة أو فعل لبشر أو قول لبشر، على أن يتعين أن نلحظ أن النص الإخباري المعني هذا ليس هو فقط الواقعة التي نزلت وليس فقط العمل الذي مورس، ولكنه أيضا “الإخبار” بأي من ذلك بالكتابة أو بالرواية أو بأي صورة من صور التناقل أو التداول لما حدث.

فنحن هنا إزاء واقعة حدثت وحفظها بعد حدوثها ذكرها أو الإخبار عنها، ويتعين أن نتأمل في هذا الشأن، فإن الواقعة في بذاتها كان من شأن حدوثها أن تستوعب وتمتص فيما حولها من وقائع وأحداث وأن يذهب بها ويطمسها من بعد ما يتلوها من وقائع وأحداث
تتلوها وتزيلها أو تغيرها أو تتراكم عليها بما يطمس تفردها وتبينها بحسبانها حدثا متميزا منظورا إليه في ذاته. ولكن ذكر الواقعة أو الإخبار عنها ثبتها أولا، فصار هذا الذكر لها أو الإخبار بها مما يبقي النبأ عنها حتى بعد زوالها أو استيعابها في غيرها مما يجري حولها أو يتلوها. ثم إن هذا الذكر لها أو الإخبار بها يحملها بالتناقل خارج محيط حدوثها، سواء في داخل الزمان الذي وقعت فيه إلى غير من تعاملوا مع وقوعها تأثيرا فيها وتأثرا  بها، أو إلى خارج زمان حدوثها كله.

ونحن يتعين أن نتنبه هنا إلى أن ما تنوقل، أي ما تجاوز محيط حدوثه مكانيا أو زمانيا، ليس الحدث ذاته واقعة أو تصرفا، ولكن الإخبار عنه هو ما تنوقل وتجاوز محيطه الزماني أو المكاني، وهذا الفارق فارق جوهري، وهذا الفارق وضعنا مباشرة في صميم “نظرية المعرفة” التي تعتبر بابا من أبواب الفلسفة وعلومها، وهي ببساطة تتعرض للمسألة الفلسفية الخاصة بطبيعة المعرفة البشرية للموجودات الكائنة خارج الإدراك البشري وحدود هذه المعرفة ومدى مصداقيتها، ولكننا لا نتكلم في هذا المجال الفلسفي، وإنما نعرض لفكرة التمييز بين الواقعة أو الفعل كما حدث في ذاته وفي سياق ما أحاط به من أحداث سابقة ولاحقة ومواكبة، وبين إدراك الواقعة أو الفعل لدى من أثبتها ونقلها، أي لدى المخبر عنها حسبما صيغت لديه في نص كلام مكتوب أو مروي، وهنا ندخل في مجال نظرية الإثبات في القانون فيما يتعلق بالشهادة والإقرار وتبيين القرائن وغير ذلك، ولكنني هنا لا أتكلم في هذا المجال المتسع الأرجاء المتعدد الوجوه، إنما أتكلم فقط فيما يخص الفرق الأساسي بين ما يشكل نصا إخباريا وبين النص التشريعي، أتكلم عما يخص هذا الفرق من زاوية واحدة تتعلق بمناحي استخراج الدلالات وما يفيد في ذلك.

والأصل في الإخبار عن الحدث أن يكون لصيقا به ولا يجاوزه، وإن كان الحاصل أيضا أنه يتضمن أثرا أسبغه عليه من تحول على يديه الحدث إلى الخبر بالإدراك له وبالنقل، وهو أثر يرد من إنشاء الخبر وذكره، وهو أثر يحتمل قدرا من التحوير والتغيير، بالإضافة إليه أو بالاجتزاء منه أو بالتبعيض له بذكر بعض مظاهره دون بعض، فما لا يعتبر لدى كثيرين مما يكمل الحدث، قد يعتبر لدى آخرين أجزاء متممة ومكلمة له وأن تكون من مقتضاه، كانتقال مال من يد شخص إلى يد شخص، يخبر بها معزولة عما يكملها من اتفاق أو أفعال غصب أو غير ذلك، والأمر أحيانا يدق فلا تكون الزيادة أو النقصان أو الاجتزاء مقصودة ممن أخبر بالحادث ولكنها تكون بسبب عدم تبين المخبر أو بسبب أن تكوينه العقلي المسبق وتجاربه السابقة لم تمكنه من استيعاب جملة ما يعتبر من أجزاء الحدث أو
متمماته، مصداق ذلك ما ورد بالقرآن الكريم “أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى” (البقرة الآية 282).

ثم هناك التشكل العقلي والثقافي وما يولده نوع الخبرات المتراكمة لدى من ينشئ الخبر أو ينقله بما يجعل المخبر يسبغ على الحدث من أحكامه أو تقاريره أو أوصافه التعبيرية ما يتحول به الحدث على يديه إلى الإخبار عنه وصياغته في نص. فمثلا واقعة أن جماعة من الناس تجمعت في الطرق وصارت تهتف هتافا ما، فهذا حدث، ولكن الإخبار عنه قد يورد له وصفا، فهو انتفاضة أو ثورة أو فتنة أو تمرد شعب أو غير ذلك، وهذا الوصف هو ما أضافه الخبر إلى الحدث عندما صار نصا، وهو يحمل أثرا واضحا لمن نقل الحدث وحوله إلى خبر.

النص الإخباري وخصائصه

إن النص في هذه الحالة يكون وسيلة للإخبار بحدث، هو إدخال للحدث في صيغة كلامية من صيغ التعبير بالكتابة أو المشافهة، وهو في ذلك يحمل وصفا للحدث، وصفا ممن تولى صياغة الإخبار به، حسبما ذكر في الفقرة السابقة، فثمة عدد من الخصائص للنص الإخباري (أو النص التاريخي) وهي خصائص لصيقة به لا تكاد تنفك عنه، ومنها:

أولا: أنه نص يتعلق بحدث سابق عليه، أي أنه نص يكون معبرا ومخبرا عن حدث سابق، ومن ثم يكون نصا تاريخيا لأن وجود الخبر يقيد دائما وقوع المخبر عنه وأنه قد مضى.

والأحداث نوعان من حيث الزمان: نوع فوري الحدوث، أي يحدث بدءا وتماما في ذات اللحظة بما يصعب معه في تعاملات الناس الفصل الزمني بين البدء والتمام، مثل الصور المعروفة عن تعبير الشخص الطبيعي عن إرادته القانونية أو أي قول يصدر من شخص معين أو قتل إنسان أو ضربه، ونوع ممتد يستغرق زمانا يدركه الناس في معاملاتهم العادية، مثل القرار الإداري المركب الذي يتشارك في إصداره عدد من الجهات أو المجالس أو المؤسسات، ومثل أحداث التاريخ عامة كحرب مثلا أو عملية انتخابات لمجلس
تشريعي تستغرق شهرا أو شهرين، فالغالب فيها أنها أحداث ممتدة زمانيا وليست من نوع ما يبدأ وينتهي في لحظته، إنما هي تبدأ وتستمر في التشابك وسط صراعات ومجادلات بين قوى عديدة، متعارضة أو متخالفة أو تتخلق في مراحل التشكل حتى يكون تمام اكتمالها هو تمام انتهائها وبداية ما ولدت من آثار، ويكفي أن نضرب مثالا على ذلك بحادث حرب أو حادث ثورة أو حادث بناء نظام سياسي.

وأن النص أو النصوص التي تخبر عن أي من الأحداث سواء أكانت أحداثا فورية أو ممتدة إنما تكون مما يخبر عن ماض تنبئ به وتصفه، ووصف الحدث عند ذكره يبدو في الغالب الأعم من الحالات لا مندوحة عنه، لأن الوصف يلتبس بالتعبير عن الحدوث، فأخذ المال من شخص إلى شخص لا يعبر عنه بهذا اللفظ إلا في النزر اليسير من الحالات، إنما يقال أعطى أو استولى أو استرد أو تقاضى أو منح أو استلم، والغالب من هذه الألفاظ أنها تحمل ظلالا من معان تعبر عن رضاء أو كره فضلا عن لفظ اقتحم أو اغتصب أو غير ذلك، والمهم هنا أننا نتعرض لحدث مفرد، ومهما كان له أو صار له من متشابهات فإنه معين بذاته وليس نمطا متكررا، أو بمعنى أدق ليس المقصود عند الإخبار عنه ذكر جنس له أو نوع، إنما المقصود إفراده بذاته بما ينبئ عنه ويبينه، ولذلك فإن من يتكلم عنه أو يبحثه أو يتعامل معه بأي من وجوه التعامل إنما يتعين أن يدخل إليه في ماضيه وينظر إليه ويستبينه في بيئته وفي سياقه الذي حدث فيه وتفاعل معه.

وهذا ما يفترق به تماما النص التشريعي عن النص الإخباري أو التاريخي من حيث الطبيعة والخصائص ومناهج التعامل معه، النص التشريعي نتفهمه في سياق ما يتلوه من وقائع، والنص الإخباري نتفهمه في سياق ماضيه وما واكب نزوله.

ثانيا: النص الإخباري بوصفه صيغة لإثبات حدث مضى أو تبيينه، يرتكز في مصداقيته على وسائل التحقيق لأدلة الإثبات للوقائع والتصرفات، أو لمنهاج التحقيق التاريخي للأحداث، ووسائل التحقيق والإثبات في مجال الحقوق والقانون معروفة للوالجين في مجال هذا العلم بفروعه المدنية والإدارية والجنائية، كما أن مناهج تحقيق الأحداث العامة والتاريخية معروفة لذويها، وفيها نقد الرواة الذين تناقلوا ذكر الحدث ونقد الوثائق والمستندات التي دلت عليه واشتملت على ذكره في مدوناتها.

ودلائل الثبوت هنا تتراوح في القوة والضعف، كما تتراوح في نسبية الدليل ومدى حجيته، وفي مجال الحقوق فإن الفروق معروفة في الحجية وطبقا لمداها بين الإقرار على النفس أو الشهادة على الغير أو القرائن بدرجاتها المتباينة، وفي مجال علوم الاجتماع والتاريخ فإن ذكر الوقائع والأحداث يتوافر لها كذلك في الحجية ما يتراءى من مدى حياد المصدر أو انحيازه ومدى مصداقيته، فيما عرف عنه ومدى ضبطه في التثبت، وتتقوى دلالة الثبوت وتضعف وفق ما يتبين في هذا الصدد.

ومن ناحية أخرى أهم، فإنه متى ثبت حدوث الفعل، فيستحيل بعد ذلك إلغاؤه أو نفيه، لأنه فعل مضى وانتهى، ويستحيل إلغاء الماضي كما يستحيل تغيير وقائعه وأحداثه أو تعديل ما وقع.

والنص التشريعي يخالف النص الإخباري (أو النص التاريخي) في هذا المجال من طرفيه، فالنص التشريعي يحتاج للإقرار بقيامه ووجوده إلى درجة أو حد أدنى من اليقين في ثبوت لا يمكن النزول عنها، وإلا انتفى النص التشريعي، لأنه لا يمكن أن يتحاكم الناس في حاضرهم ومستقبلهم إلى ما لم يثبت لوجوده درجة عالية جدا من درجات اليقين المعتبر، سواء أكان قانونا أم عرفا، كما أن النص التشريعي بخلاف النص الإخباري له حجية مطلقة على ما ينتفع به أو يضار به، أما النص الإخباري فحجيته نسبية لأنه ابن واقع محدد ولد في سياقه واكتسب مضامينه من هذا السياق المحيط به، وتحدث دلالته العينية في إطاره دلالة غير قابلة
للتكرار، فهو ليس نموذجا يتوالد مع الزمن.

وكذلك فإن النص التشريعي يمكن أن ينسخ إذا ثبت صدور تشريع تال له ألغاه صراحة أو تضمن أحكاما مخالفة له، ويكون نسخه أو إلغاؤه من تاريخ صدور التشريع التالي المخالف حسبما هو معروف، وبسبب قيام هذا التصور فإن النص التشريعي كان إبان سريانه ممتد الأثر على ما يليه من أحداث وهو يحكم ما تلا صدوره من وقائع، أما النص الإخباري أو التاريخي فهو حدث مضى وانتهى وليس له حاكمية وليس له أثر مباشر يمتد في المستقبل، بما يجعله نموذجا قابلا للتكرار، يمكن أن تكون له آثار واقعية ترتبت عليه، ولكن هذه الآثار تلحق به التحاق نتيجة بسبب أو نتيجة عينية ملموسة مفردة بسبب هو عيني وملموس ومفرد كذلك، دون أن يكون النص في ذاته متجدد التطبيق على حالات لم تنجم عنه وإنما لاحقها بحسبانه تشريعيا متجدد الحضور معها ومع كل حالة ممتدة تولد.

سبل تفهم النص الإخباري وقد سبقت الإشارة إلى أن النص الإخباري هو بوصفه صيغة ذكر لحدث ماض، إنما يحمل غالبا وصفا لهذا الحدث، وفقا للدلالة أو الفحوى التي وقرت لدى من صاغ الحدث في خبر مكتوب أو مروي، وأن الوصف أو التعبير الذي صيغ به الخبر، الغالب أن تختلف أو تتنوع عليه وجوه النظر من كتاب أو رواة أو باحثين، ناهيك عن أن يكونوا أطرافا في خصومة أو أن يكونوا من ذوي المصالح المتعارضة، وهنا يتفاوت ما تفضي إليه الدلالات التي يمكن استفادتها أو استخلاصها من الحدث؛ لأن النص هنا إنما يكون صنعه من أعد الحدث أو شارك في صنعه أو عاصره، أو يكون هو من أثبته من بعد أو علق عليه، فهو من ثم يحمل أثرا لوجهة النظر الحكمية لمن قام بصياغته.

ولكن مع ذلك كله سيبقى الحدث دائما منسوبا إلى زمان وقوعه، وسيبقى محل تقديره وفهمه واستخلاص دلالته هو موقف الحدث مما واكبه وأحاطه من ظروف في السياق الزماني والمكاني له، وسيبقى صحيحا القول بأننا إذا نزعناه من سياقه هذا فسيفقد دلالته ومعناه، ونحن لكي نفهم دلالة حدث ما (تصرفا كان أو واقعة) يتعين أن نحيط بأوضاع نشأته وظروف تكونه وما تجمع على تشكيله من أوضاع وما ترتب على قيامه من آثار، ونحن نكون أقرب لفهم هذا النص وأصوب في استخلاص دلالته كلما اقتربنا من طريق نشأته وتكونه، وكلما وصلناه بالأوضاع والأحداث التي صدر فيها، وهذا الوصل بأوضاع النشأة يكون هو ما يجلي الحقيقة بقدر الإمكان بما يكون علق به من شوائب الأوصاف غير الدقيقة، أو المنحازة لطرف ضد طرف.

ومن هنا يتعين ملاحظة عدد من الأمور لاستكمال فهم دلالة النص الإخباري، من ذلك سياق الحدث المنصوص عليه في المجال الثقافي، أي مجال إدراك المتعاملين له معناه لغة ومصطلحا وتعارفا، وكذلك سياقه في المجال الاجتماعي والسياسي إن كان حدثا ينتمي إلى هذه المجالات، وسياق النص المصاغ به الخبر في إطار ما كان يجري به الخطاب بين من يوجه الخطاب ومن يتوجه له الخطاب، لأن وجوه التركيز في الكلام ووجوه التفصيل والإجمال فيه تكشف عن طبيعة الجدل والحوار العام الدائر عند وضع النص الإخباري وصوغ الخبر عن الحدث.

والخلاصة

أننا نقترب من النص التشريعي أكثر من فهم دلالته وإدراك معانيه كلما استطعنا أن ننقله أكثر إلى حاضرنا، وكلما أعملناه في سياق هذا الحاضر، ولا شك أن أوضاع إصدار النص التشريعي في زمانه وتتبع تعامل الأجيال السابقة معه في أزمانهم المتوالية هي مما يساعدنا في إيضاح دلالات هذا النص وقدراته في توليد الأحكام منه، مما يسمى “اختلاف الفتوى باختلاف الزمان والمكان”، إلا أنه يبقى أمر مهم وهو أن ثمة علاقة مباشرة بين النص التشريعي وبين الواقع المستقبل في تطبيقه على الوقائع الحاصلة.

وبالمغايرة لهذا الوضع بالنسبة للنص الإخباري فنحن نقترب منه أكثر في فهم دلالته وإدراك معانيه كلما استطعنا أن ننتقل نحن إليه في زمان حدوثه وصياغاته، واستحضرنا بهذا الانتقال أكثر ما يمكن استحضاره من وقائع ماضيه وأحداثه المحيطة به على المستويات الإدراكية الثقافية والاجتماعية، والحادث أنه في النص التاريخي الذي يتعلق بأوضاع عامة سياسية واجتماعية، فكثيرا ما يجري فيه إسقاط ثقافي من أوضاع الحاضر المعاش على الماضي الذي ينتمي إليه الحدث وتشكل في ثناياه وصيغ الخبر فيه، وكذلك بالنسبة للنص الإخباري الذي يجري بين أفراد الناس في تعاملاتهم الحقوقية يمكن أن يطغي فكرنا الحاضر على تفهم صياغات جرت في الماضي عن أحداث جرت في هذا الماضي، وفقا لدلالات تعدلت، وهذه عيوب وشوائب يتعين الحذر منها، وسيبقى الأمر الجوهري هو أننا لن نقترب من فهم النص الإخباري اقترابا أكثر إدراكا للصواب إلا إذا انتقلنا إلى زمانه واستوضحنا معانيه في ذلك السياق، وبالعكس لن نقترب من النص التشريعي اقترابا أكثر إدراكا للصواب إلا إذا نقلناه إلى زماننا الذي يطبق فيه بحسبانه من عناصر هذا الزمان المتجدد