بحث قانوني و دراسة حول كيفية رد القرض عند تغير قيمة العملة

وفاء القرض بين الأداء والإبراء
“نماذج في كيفية رد القرض عند تغير قيمة العملة”
مضر نزار العاني*

خلاصة البحث

***
تطرق البحث: “وفاء القرض بين الأداء والإبراء”، لقيمة الوفاء مبيناً أهميتها ودورها في إدراك السلَّم القيمي في سلوكيات الفرد في إطار مبدأ من التعاملات المالية التي يكثر فيها اللجاج والمخاصمة فأراد الباحث أن يعالج هذه القضية لأنها تمس كل فرد؛ وبالتحلي بها –أعني بقيم الوفاء-، ننشئ مجتمعاً وفياً وبالتالي مجتمعاً متماسكاً تسوده المحبة والوئام.
ومن ضمن مفاهيم الوفاء وجد الباحث في مسألة القرض المتناول والتغير الحاصل في قيمة العملة النقدية أن هناك في القرض وفاءً بوفاء، فوفاءٌ بأدائه ووفاءٌ بتمامه وإبراء ذمته، حيث إن الوفاء من معاني الكمال التي لا تقبل التجزئة.
وقد اخترت لمعالجة هذا الموضوع مسألتين في نموذجين، الأولى في وفاء النذور لأنها من الروابط التي تصل العبد بربه؛ والأخرى وفاء المهور إذ هي علاقة بين الأفراد.
وقد نظر البحث في سياق التوازن في رفع الضرر بين الدائن والمدين على حدٍ سواء في إطار منهجية متساوقة مع مراعاة الفوارق الوقتية والمكانية في ذلك. وبعد ذلك أعد الباحث خاتمةً ضمنها أهم النتائج التي توصل إليها.

المقدمة

بسم الله وكفى، والصلاة والسلام على المجتبى المصطفى، وآله ذوي الفضل والوفا، وصحابته المستكملين الشرفا، وبعد؛
لقد صقل الإسلام سلوكيات وأخلاقيات الفرد من خلال إرساء قواعد ثابتة ودعامات رصينة بُني عليها فقه الأخلاق للتعامل بين جميع أشكال الالتزامات الأخلاقية التي تتعلق ابتداءً بالفرد وانتهاءً بكل نواميس الحياة.. فهناك فقه التعامل بين العبد وربه، وآخر بينه وبين نفسه، وثالث بينه وأسرته وعائلته ثم مجتمعه والناس أجمعين.
بل نجد كثيراً من أبواب الفقه ترسم سُبل التعامل مع كافة المخلوقات حيوانية كانت أو نباتية، وبذلك فقد سبق الإسلام قبل مئات السنين آلافاً من المفكرين والمبدعين ممَن نادوا بكثيرٍ من هذه الأخلاقيات والقيم السامية.
ولعل من بين مجموعة القيم التي يتميز بها الدين الإسلامي قيمة الالتزام بخلق الوفاء وتعاليمه لما فيه من سلوكية سامية مكمنها مجاهدة النفس لإبراء الذمة عند الوفاء والإيفاء والاستيفاء..
وعند تمحيصنا للشخصية العربية نجد أن الوفاء من أبرز سمات سُلَّمها القيمي.. فالعربي يمتاز بالشجاعة والشهامة والكرم والتضحية والفداء واحترام الميثاق والغَيرة وغيرها، وكلها مقومات السُلَّم القِيَمي للشخصية العربية، فما كان الكرم إلا وفاءً للضيف، وما كانت الشجاعة إلا وفاءً لنصرة القبيلة والعشيرة، وما كانت التضحية والفداء إلا وفاءً للمضحى له، وما كان احترام الميثاق إلا وفاءً بالعهد والوعد، وما كانت الغيرة إلا وفاءً للعرض.. فهي كلها تنعكس في النهاية في إطار الوفاء الذي تتبلور منه شخصية الرجل العربي حتى يقول دريد بن الصمّة وهو يذوّب شخصيته في وفائه لقبيلته:
وما أنا إلاّ من غُزيّة إن غزت غزوتُ وإن ترشُد غزية أرشدِ

وجاء الإسلام ليعزز كل القيم الإيجابية والنبيلة التي ابتدأت بالكلمات التي علمها الله سبحانه وتعالى لنبيه آدم عليه السلام وعبر كل الديانات السماوية التي حملها الرسل من بعده.
إن القيم الحضارية قد نشأت في بلاد العرب وكان لهم شعر فيه تأمل وتخيل يدلاّن على قدرة عقلية، وبصيرة ثاقبة، وحس مرهف، ورصانة في القيم، وحصانة في المُثل، وكان لهم درايةٌ بعلم الإنسان، ليس العلم الإنساني الحيواني المادي حسب، وإنما علم الإنسان التام بكل ما ينطوي عليه من قيم روحية مدروسة من وجهة النظر الفردية والاجتماعية في آن واحد. وفرقها عن القيم الحضارية الغربية أن الأخيرة حضارة وسائل كما يعبر عنها المفكر رشدي فكّار حيث يقول: “إن الحضارة الغربية هي حضارة (وسائل)، مجملة في ثلاث: التقدم العلمي، والمعرفة التكنولوجية، والصناعة، وبالتالي فهي حضارة منهج وتنسيق وتنظيم ومحاولة استئناس للظواهر الطبيعية والتعامل معها.. فالحضارة الغربية يمكن أن تباع وتشترى، ويمكن أن تكون تطلعاتنا إليها تطلعات إلى وسائل الحضارة الغربية لا إلى جوهرها..” .
والبحث القائم يحاول الإحاطة بمفهوم وفاء القرض من خلال أبوابه في الفقه والحديث وكيفية التعامل بسلوكياته مع بعض التطبيقات العملية وخاصة في الناحية الاقتصادية التي تمس حياتنا المعاشية اليومية والتي يمكن أن تتجلى قيمة الوفاء فيها من خلال الإنسان بما عليه من دَين أو التزام أو مسؤولية في مجتمع تتغير فيه القيم وتتسارع بتسارع المستجدات الفاعلة فيه.
وقد قسم البحث إلى مباحث أربعة، بيّنا في أوله معنى الوفاء من حيث كونه قيمة متأصلة في أخلاقيات العرب، وكيف حث الإسلام على الالتزام به. ثم يأتي المبحث الثاني ليسلط الضوء على مفهوم القرض وتغير القيمة والاضطرابات الحاصلة في العملة النقدية. يليه المبحث الثالث لبيان قيمة الوفاء بين العبد وربّه في مسألة أخلاقية تعبدية هي الوفاء بالنذور. ويوضح المبحث الأخير بيان الوفاء بين العبد ومثله في مسألة يشتد النقاش فيها في ساحات القضاء ودور الإفتاء للمنازعة فيه وهو حق المهر وكيفية وفائه وتمامه.
أسأل الله سبحانه وتعالى العون ومنه التوفيق والسداد..

المبحث الأول
مفهوم الوفاء
***
يندرج الوفاء تحت باب الأخلاق السامية، والمُثل التي نشأت عليها الأجيال العربية في أرض الرسالات لتحصين أنفسهم بمثل هذه القيم.. ولكي نعطي تصوراً واضحاً عن معنى الوفاء كان لزاماً تبيين المصطلح لغوياً واشتقاقياً ومدلولاته من الكتاب والسنة والأثر؛ وكيف كان للوفاء دورٌ وقيمةٌ بين الناس يجلها الحاكم متى توافأ المحكوم..
جاء في مختار الصحاح: الوَفَاءُ: ضد الغدر يقال وَفَى بعهده وَفَاءً وأَوْفَى. ووَفَى الشيء يَفِي بالكسر وُفِيَّا على فُعُول أي تمَّ وكثُر والوَفِيُّ الوافي وأَوْفَى على الشيء أشرف ووَافَاهُ حقَّهُ ووَفَّاهُ تَوْفِيَةً بمعنى أي أعطاه وافِيا واسْتَوْفَى حقَّه. وتَوَّفاه الله أي قبض روحه والوَفَاةُ الموت ووَافَى فلان أتى وتَوَافَى القوم تَتَامُّوا . وقد جمعهما طُفَيْل الغَنَوِيُّ في بيت واحد في قوله:
أَمَّا ابن طَوْقٍ فقد أَوْفَـى بِذِمَّتِهِ كما وَفَـى بقِلاصِ النَّـجْمِ حادِيها
من معاني الوفاء في اللغة: وأصل الوفاء في اللغة التمام وعن علي بن أبي طالب قال لما أخذ الله  الميثاق على الذرية كتب كتابا فألقمه الحجر فهو يشهد للمؤمن بالوفاء وعلى الكافر بالجحود .
كما يأتي الوفاء بعدة معانٍ منها:
1 – بمعنى الخُلُق الشريف العالي الرَّفِيعُ، ومن قولهم -أي العرب-: وفَى الشعَرُ فهو وافٍ إِذا زادَ . والوفاء من شيم النفوس الشريفة، والأخلاق الكريمة، والخلال الحميدة، يعظم صاحبه في العيون، وتصدق فيه خطرات الظنون .
2 – وبمعنى ملازمة طريق المواساة ومحافظة عهود الخلطاء .
3 – وبمعنى الوفاء بكل العهود ولزوم الصراط المستقيم برعاية حد الوسط في كل أمر من مطعم ومشرب وملبس وكل أمر ديني ودنيوي .
4 – ومن معاني الوفاء جاءت تسمية المدينة المنورة بـ(المُوَفِّية) لأنها استوفت حظها من الشرف. قاله الزبيدي في التاج.
5 – والسورة (الوافية) هي أم الكتاب الفاتحة لأنها لا تتنصف ولا تحتمل الاختزال ولو قرأ من سائر السور نصفها في ركعة ونصفها الآخر لأجزأ ولو نصفت الفاتحة في ركعتين لم يجز .
وَوَفَى غير وَفَّى؛ وَفَى خفيفة ومعناها صدق في قوله وعمله. ووَفَّى بالتشديد أي قام بجميع ما فرض عليه فلم يخرم منه شيئا ، فوفى أي المبالغة في الوفاء. وما ابتلي بهذا الدين أحد فأقامه إلا إبراهيم عليه السلام قال الله عز وجل وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى (النجم: 37) فكتب الله له براءة من النار .
ذكر الوفاء في القرآن: وردت لفظة “وَفَى” ومشتقاتها في القرآن الكريم بسبعٍ وثلاثين اسماً مشتقاً في ستٍ وستين أيةً كريمةً..
• فجاءت بصيغة الماضي: وفّى ووفّاه؛
• وبصيغة الحاضر: نُوَفِّ، يُوَفيهم، أُوَفِّ؛
• وبصيغة المضارع المؤكد: ليوفّيَّنهم؛
• وبصيغة الماضي المبني للمجهول: وُفّيَت؛
• وبصيغة المضارع المبني للمجهول: تُوفّى، تُوَفوْنَ، يُوَفَّ؛
• كذلك جاءت بصيغة أفعل التفضيل: أوفى؛
• وبصيغة اسم الفاعل: مُوَفوهم، والموفون؛
• أما أكثر صيغ الوفاء فجاءت بفعل الأمر: أوفوا. ولها متعلقات متعددة، كالوفاء بالحساب، والأعمال، والأجور، والدَّين، والكسب، والنصيب، والوفاء بعهد الله، والوفاء بالعقود والعهود، والوفاء بالنذر ونحوهما .
ولا شك فإن الذين حملوا الرسالة في صدر الإسلام كانوا من حملة معاني وسمات الوفاء.. وحتى قبل الإسلام كان لهم عرفهم وقيمهم الأخلاقية التي جعلت لهم نظاماً ترتكز في تقريرها ووسائل إعمالها وإنفاذها على فكرٍ ، حتى قال شاعر الحوليات عند الوفاء:
وإما أن يقولوا: قد وَفَيْنا بذمّتنا فعادَتُنا الوَفاءُ
وما تحدَّثنا عن الوفاء إلا وكان السموأل بن عاديا مطلعاً ومضرباً للأمثال، فقد ذبح قيصر الروم ابنه نُصب عينيه لمّا لـم يحنث بعهده ويكشف سره ويسلِّم الأسلحة التي كانت بعهدته إليه، حتى قال لملك الروم: ما كنت لأخفر ذمامي وأبطل وفائي، فاصنع ما شئت .
فهذا هو حال العرب من قبل البعثة حيث كانوا يعتبرون الوفاء بالعهد ديناً يتمسكون به، ويستهينون في سبيله قتل أولادهم وتخريب ديارهم . وليس الوفاء وحده فحسب، وإنما استمد الإنسان العربي، ابن الفطرة، أفكاره وفضائله الأخلاقية ومعاييره وقيمه ومثله العليا من الحياة وواقعها وقوانينها والواجبات التي تفرضها عليه، بحسب ما تمليه طبيعة الشعور الإنساني. إن قيم الإنسان العربي الأصيل التي تتمثل بالشجاعة والشهامة والكرم والتضحية والعفة والصبر والحق والخير والجمال، هي في حقيقتها قيم إنسانية ذاتية خالصة، لم يستمد شيئاً منها من مصدرٍ سوى الإنسان نفسه . وحين جاء الإسلام ما زادهم إلا تمسكاً وموجهاً لهذه القيم وتثبيتاً، وما جاء الإسلام إلا لينتقل بالبشر خطوات فسيحات إلى حياة مشرقةٍ بالفضائل والآداب، وأنه اعتبر المراحل المؤدية إلى هذا الهدف النبيل من صميم رسالته، كما أنه عدَّ الإخلال بهذه الوسائل خروجاً عليه وابتعاداً عنه .
وسنعرج إن شاء الله في المباحث القادمة على مدلولات الوفاء وكيفية التعامل به، وكيف حث الله عز وجل على الالتزام به في كتابه الكريم وجاءت السنة المطهرة مؤكدةً من خلال أفعال رسول الله  في تعاملاته بين الناس لتبين للعالمين سمو ورفعة هذا الدين وأهله في إثراء القيم على أنفسهم ومن حولهم.

المبحث الثاني
وفاء القرض وتغير القيمة
***
من أنْبَل المعاني في قيم القرض وفاؤه، لأنه يتعلق بالذمة ولا يُرفع عن عاتقه إلا بأدائه، أو تنازل المقرض عن حقه. ولو تأملنا حال الشهيد الذي هو أسمى مراتب التضحية وقوام الإسلام نجد أن رب العزة والجلال يغفر للشهيد كل شيء إلا الدَين. لذا فالقرض أصله الوفاء، واجبٌ على المدين أداؤه عالقٌ في ذمته لا يبرأ منه حتى يوَّفيه أو يعفو الدائن عن صاحبه. فأول القرض وجوب الوفاء بالقضاء وآخرته مجازاة صاحب القرض بالحسنى لقول رسول الله  (..إِنَّمَا جَزَاءُ السَّلَفِ الْوَفَاءُ وَالْحَمْدُ ) وذلك مجازاته.
وقيمة الشيء متغيرة من زمن إلى آخر في كثير من الأمور نتيجة التفاوت في الأذواق، وقِدم الشيء، أو ندرته وإلى ما هنالك من أمور يستوجب النظر فيها عند إيفائها، فكيف الحال إذا كان القرض في الأوراق النقدية (البنكنوت Banknote)* المتقلِّبة في كثير من بلدان العالم لأسباب سياسية واقتصادية فيصل الحال إلى فقدان ثمنيتها وإبطال قيميتها وضياع مثليتها؟ لقد أعطى الفقه الإسلامي أهمية لمثل هذه التقلبات عند بيان الحكم الشرعي للموازنة بين المصالح والمفاسد والرجوع إلى أصول الشريعة ومقاصدها في توزيع الضرر والخسارة بين طرفي العقد بالعدل في ظروف طارئة استثنائية قاهرة. وهذه التبدلات الظرفية والفوارق الوقتية معتبرة في روح الشريعة ومقاصدها.
ولنلقي بعض الضوء على معنى القرض وأركانه ثم نعرج على تغير القيمة.
فالقرض لغةً: وهو من باب ضَرَبَ ، أي القطع، وسميَّ قرضاً لأنه قطعه من مال المقرِض . واصطلاحاً: هو دفع مالٍ إرفاقاً لمن ينتفع به ويَرُدُّ بدله ، ويسمى نفس المال المدفوع على الوجه المذكور: قرضاً ، والدافع للمال: مقرضاً، والآخذ مقترِضاً ومستقرِضاً. وعقد القرض هو عقد إرفاق ، لأن القرض في أصله عقد تبرع فيكون بلا مقابل ، وهذا ما يطلق عليه ابن عابدين أنه إعارةٌ ابتداءً حيث صح بلفظها، معاوضةٌ انتهاءً . ومن حيث تقسيم القرض بوصفه عقداً فإنه يقع ضمن عقود التبرعات . وذهب سيد سابق إلى أنه عقد تمليك . فالقرض بهذا المعنى يتضمن معنيين اثنين :
– معنى الإعارة، لما فيه من التبرع ابتداءً .
– معنى المعاوضة والبيع انتهاءً، لما فيه من وجوب رد المثل بعد الاستهلاك، حيث لا يمكن الانتفاع به إلا باستهلاك عينه .
ولذلك لو استغنى المقترض عمّا اقترضه قبل استهلاكه، لا يكون ملزماً بإعادته عيناً – ولا يمنع إعادته عيناً أيضاً- ولو أنه قائم في يده، بل له أن يمسكه لديه ويرد مثله.
وهو عقدٌ غير لازمٍ قبل القبض، فللمقرض أن يأبى تسليم المال وألا يمضي به، وبالقبض يتم القرض وإذا أعسر المقترض فعجز عن الوفاء وجب إمهاله إلى الميسرة . استناداً إلى الآية الكريمة وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ(البقرة:280).
أركان عقد القرض: ذهب جمهور الفقهاء إلى أن أركان عقد القرض ثلاثة:
أوله الصيغة: وهي الإيجاب والقبول . وثانيهما العاقدان: وهما المقرِض والمقتَرض ، وكلٌّ له شروطه. ثم المحِل: وهو المال المقْرَض. ويشترط في المال المقرض شروطاً اختلف الفقهاء في بعضها واتفقوا على بعضها الآخر وهذه الشروط هي:
1. أن يكون من المثليات : قال الحنفية، إنما يصح قرض المثليات وحدها، أما القِيَّميَّات -التي تتفاوت آحادها تفاوتاً تختلف به قيمتها، كالحيوان والعقار ونحو ذلك- فلا يصح إقراضها، لأنه لا سبيل إلى إيجاب رد العَين، ولا إلى إيجاب رد القيمة لأنه يؤدي إلى المنازعة لِما يصعب من حدوث في اختلاف القيمة ومقدار تقويمها.
أما المالكية والشافعية في الأصح فقد ذهبوا إلى جواز قرض المثليات إلا أنهم قالوا بصحة إقراض كل ما يجوز السلم فيه (حيواناً كان أو غيره) وهو كل ما يُملَك بالبيع ويضبط بالوصف ولو كان من القيميات وذلك لصحة ثبوته في الذمة . أما ما لا يجوز السلم فيه وهو مالا يضبط بالوصف -كالجواهر مثلاً- فلا يصح إقراضه.
2. أن يكون عيناً: ذهب الحنفية والحنابلة إلى أنه لا يصح إقراض المنافع، لأن المنافع لا تعتبر أموالاً -عند الأحناف-، أما عند الحنابلة فلأنه غير معهود، أي في العرف وعادة الناس . والمال عند الأحناف : ما يميل إليه طبع الإنسان ويمكن ادخاره لوقت الحاجة والمنافع غير قابلة للإحراز والادخار فهي أعراض تحدث شيئاً فشيئاً وتنتهي بانتهاء وقتها، لذا لم يصح جعل المنافع محلا لعقد القرض.
أما الشافعية والمالكية فقد ذهبوا إلى صحة إقراض المنافع التي تنضبط بالوصف بمقتضى قواعد مذهبهم .
3. أن يكون معلوماً: لا خلاف بين الفقهاء في اشتراط معلومية محل القرض لصحة العقد وذلك ليتمكن المقترض من رد البدل المماثل للقرض . وهذا يأتي منه معرفة القدر ومعرفة الوصف.

تغيُّر قيمة العملة

تمر العملة النقدية في بعض بلدان العالم في فترات حرجة بسبب ما يؤثر عليها من هزّات اقتصادية قد تكون إيجابية بسبب النمو والازدهار الاقتصادي وقد تكون سلبية بسبب التدهور الاقتصادي وتدني الوضع المالي لذلك البلد.
والعملة النقدية تأخذ نوعين من التغير عادة في البلدان التي تشكو من ضعف في القوة الاقتصادية يتمثل في استمرار ارتفاع الأسعار بمعدلات منخفضة نسبياً تقدر بـ2% وهذا ما يسمّيه أهل الاقتصاد بالتضخم الزاحف Creeping Inflation. ومثل هذا النوع من التضخمات لا يؤثر على التعاملات المالية بصورة عامة سواءً بين الأفراد أو الهيئات أو حتى بين الدول، فهو تضخم ناتج عن الانحدار البسيط والتراجع في قيمة العملة النقدية بسبب الأوضاع غير المستقرة. وهناك تغير فاحش يتمثل في استمرار ارتفاع الأسعار بمعدلات مرتفعة نسبياً تتجاوز 50% وهذا ما يسمّيه أهل الاقتصاد بالتضخم الجامح Hyper Inflation، هذا النوع يولِّد انهياراً في قيمة العملة والتي تبدأ بالانخفاض في قيمتها الحقيقية وقد تنتهي إلى فقد ثمنيتها، ومثل هذا لا شك يؤثر كثيراً في الحياة الاقتصادية والاجتماعية، كما يؤثر على أنواع التبادلات التجارية والتعاملات المالية.
ففي دول جنوب شرقي آسيا مثلاً تراجعت أسعار صرف العملات مقابل الدولار في كل من إندونيسيا بنسبة 83.2%، وفي تايلاند 40.1%، وفي ماليزيا 39.8%، وفي الفليبين 36.2%، وفي كوريا الجنوبية 35%، وفي تايوان 19.2%، وفي سنغافورة 15.4%، وفي هونج كونج 0.1%، خلال الفترة من منتصف عام 1997م وحتى بداية تموز/ يوليو 1998م . ومثل جنوب شرق آسيا دول كثيرة كما هو الحال في بعض بلدان العالم كتركيا والعراق والسودان وغيرها.
وعند مقارنة قيمة العملة بالسلع في بعض دول العالم فإن العملة تتغير مقارنة بالسلع بشكل واضح في أبسط أمور الحياة، فقد يرتفع سعر طبق البيض مثلاً من دينارٍ واحد إلى 3000 دينار خلال فترة وجيزة جداً نتيجة انهيار العملة ليشير إلى ارتفاع السعر دون تغير القيمة، فالبيض قيمته بنفسه لم يتغير إلا أن سعره تجاوز كل أنواع التضخمات وكل فروق الحسابات.
ومن هنا فان تغير السعر بثبات القيمة يمكن أن يطلق عليه مصطلح التضخم الذي اقترن مفهومه بمعنى الارتفاع العام في مستوى الأسعار مهما كانت درجته ومهما كانت أسبابه ، إلا أن التضخم يأخذ عدة تعريفات بسبب تعدد أنواعه وتولد أسبابه. وبادئاً فهناك تعريفان أحدهما للماليين والآخر للاقتصاديين لنفس المصطلح:
فعلى حد تعريف التضخم عند الماليين: فهو زيادة الطلب الكلي الاستهلاكي على العرض الكلي نتيجة التوسع في الإصدار النقدي الجديد أو التوسع في الائتمان الصيرفي الذي يترتب عليه ارتفاع مستمر في الأسعار وانخفاض في قيمة النقود .
أما التعريف الاقتصادي للتضخم: فهو زيادة الطلب الكلي الاستهلاكي على العرض الكلي الذي يترتب عليه ارتفاع مستمر في الأسعار وانخفاض في قيمة النقد (وذلك نتيجة عوامل نقدية كما في حالة التضخم المالي) أو عوامل عينية (هيكلية) تعود لطبيعته البنيانية لتحقق مرحلة التوظف الكامل بالنسبة للاقتصاديات المتقدمة أو جمود البنيان الإنتاجي بالنسبة للاقتصاديات النامية .

أسباب حدوث التضخم

يورد الاقتصاديون أسباباً تفسيرية لحدوث التضخم تختلف باختلاف نوع التضخم الحادث، إلا أن من أكثر التضخمات حدوثاً هو التضخم النقدي والذي يُعد أحد أبرز أنواع التضخم.
لذا حاولنا الإحاطة بشكل موجز بالأسباب الرئيسة المنشأة لجميع حالات التضخم من خلال ما عرضه علماء الاقتصاد في مؤلفاتهم وهو كما يأتي : الاختلال بين العرض والطلب؛ ارتفاع الكلف؛ ارتفاع الأجور بسبب ارتفاع الأسعار؛ ارتفاع سعر الفائدة؛ ارتفاع أسعار السلع التي يتم إنتاجها في الاحتكار أو منافسة القلة؛ ارتفاع معدلات الأجور؛ ارتفاع أثمان المواد الخام، أو المواد الغذائية المستوردة مما يزيد من نفقات الإنتاج؛ التوسع في الاستهلاك؛ اختلال التوازن بين الاستهلاك والاستثمار؛ ثم النفقات العامة، والتي تتطلب رؤوس أموال كبيرة دون أن تؤدي في غالب الأحيان إلى أي إنتاج كالمصاريف العسكرية، والمصاريف المنفقة على الصحة والتعليم وغيرها. كل هذه تؤدي إلى التضخم.
فتقوم الدولة في هذا الوضع بإصدار عملة جديدة وعادة ما تكون بفئةٍ نقديةٍ أعلى كي توازن بين سعر السلعة وقيمتها، ولا شك فإن هذا التعامل يزيد من التضخم (فمن غير المعقول -في مثالنا السابق عن طبق البيض- أن يحمل المشتري كيساً كبيراً من العملة لشراء تلك السلعة) فتسقط العملة النقدية تدريجاً بسبب عدم تعامل الناس بها أو بسبب إبطال الدولة نفسها لتلك الفئة النقدية، وقد عالج علماء الفقه هذا النوع من التغيير في باب إبطال السلطان التعامل بالنقد.
وكعملية عكسية؛ فإن هناك منحنىً للتضخم يشير إلى التراجع في السعر بسبب اقتصادي أو سياسي عمّا كان عليه وهذا ما يسمى بالانكماش.
والانكماش هو سياسة تحديد الطلب للتخفيف من ارتفاع الأسعار. وذلك بإنقاص وسائل الدفع المتداولة، وهي أعتق سياسة لمقاومة التضخم، فهو وضع من شأنه أن تهبط الأسعار والدخول النقدية، ويكون هذا الهبوط مصحوباً بزيادة في قيمة الوحدة النقدية، أي قوتها الشرائية إزاء السلع والخدمات .
ويحدث الانكماش من جراء نقص الإنفاق عن الدخل، أو الاستثمار عن الادخار. ومن المعلوم أن التوازن الكلي للاقتصاد يتطلب تساوي الإنفاق الكلي مع الدخل، أو تساوي الاستثمار مع الادخار كشرط لحدوث هذا التوازن، وحدوث هذا التساوي عند مستوى العمالة الكاملة كفيلٌ بتحقيق التوازن العام للاقتصاد عن هذا المستوى، وعدم وجود طاقات عاطلة أو بَطالة. لذا فإن النقص في الإنفاق عن الدخل أو الاستثمار عن الادخار يؤدي إلى حدوث الانكماش .
مما تبيَّن نجد إن موجات الارتفاع والانخفاض في قيم الأوراق النقدية تؤدي حتماً إلى زعزعة الثقة بالأوراق المحمولة فتكون النتيجة الحتمية في ظهور النـزاعات والخصومات، في دور القضاء والإفتاء طلباً لحقهم خارج دائرة العقود المبرمة. وفي ضوء التضخم وأثره على القيمة النقدية لكل من الدائن والمدين ينتهي الأمر إلى ما يأتي:
الدائنون الذين أقرضوا قرضاً طويل الأجل يخسرون عند هبوط قيمة النقود وارتفاع الأثمان لأنهم يتقاضون من المدين المبالغ الاسمية المتفق عليها في عقد القرض التي لا ترتفع بارتفاع الأسعار.
أما المدينون الذين اقترضوا قبل ارتفاع الأسعار فإن سداد الدَين يكون في صالحهم لأنهم لا يسددون إلا المبالغ الثابتة بموجب عقود سابقة على ارتفاع الأثمان وهذه قد قلَّت قيمتها الحقيقة رغم ثبات قيمتها الاسمية.
في المقابل وفي حالة الانكماش على القيمة النقدية لكل من الدائن والمدين:
فإن الدائنين بمبالغ ثابتة يتحصلون على فائدة كبيرة لأنهم يستردون القيمة الاسمية لديونهم في حالة ارتفاع قيمة العملة الورقية وهبوط الأثمان.
لكن العبء يقع على عاتق المدينين الذين يجب أن يردوا الديون بقيمتها الاسمية رغم ارتفاع قيمتها الحقيقية .
ولنا في رسول الله  أسوة حسنة في قضاء دينه كمثلٍ أعلى في كيفية تعامله عند وفاء الناس حقهم، فقد ورد في الحديث الشريف عن أبي رافع أنه  اسْتَسْلَفَ مِنْ رَجُلٍ بَكْرًا، فَقَدِمَتْ عَلَيْهِ إِبِلٌ مِنْ إِبِلِ الصَّدَقَةِ فَأَمَرَ أَبَا رَافِعٍ أَنْ يَقْضِيَ الرَّجُلَ بَكْرَهُ فَرَجَعَ إليه أبو رَافِعٍ فَقَالَ لَمْ أَجِدْ فِيهَا إِلَّا خِيَارًا رَبَاعِيًا فَقَالَ أَعْطِهِ إِيَّاهُ إِنَّ خِيَارَ النَّاسِ أَحْسَنُهُمْ قَضَاءً .
ففي هذا الحديث وحده نجد منهجاً كاملاً للتعامل عند أداء القرض. فعليه الصلاة والسلام رد بأحسن من القرض وهذا يؤدي بنا إلى القول بشواهد منها:
جواز رد القرض بزيادة على ألاّ تكون مشروطة، وهذه الزيادة هي زيادة إحسانية وليست ربوية إذ لم ينص عليها العقد.
الجزاء برفعة مكانة المدين عند القضاء بأحسن مما استلف حيث جعله واعتبره عليه الصلاة والسلام من خيار الناس.
ولعل من أبرز معالم كيفية رد القرض في الحديث هو الحث على وفاء الدين وقضائه بالأحسن كي لا ينقطع سبيل المعروف، ولا يشترط أن تكون زيادة مادية كما يجب أن لا يخلو وفاء الدين من الحمد والثناء للدائن.
ترغيب الناس وخاصة الدائنين الذين يداينون للأجر فقط حيث أن الدَين أفضل من الصدقة بأضعاف كثيرة كما ورد في الحديث الشريف عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ  رَأَيْتُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي عَلَى بَابِ الْجَنَّةِ مَكْتُوبًا الصَّدَقَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا وَالْقَرْضُ بِثَمَانِيَةَ عَشَرَ فَقُلْتُ يَا جِبْرِيلُ مَا بَالُ الْقَرْضِ أَفْضَلُ مِنَ الصَّدَقَةِ قَالَ لأن السَّائِلَ يَسْأَلُ وَعِنْدَهُ وَالْمُسْتَقْرِضُ لَا يَسْتَقْرِضُ إِلَّا مِنْ حَاجَةٍ .
والمباحث القادمة ستشير إلى كيفية إبراء الذمة في إيفائها ما عليها -كنماذجٍ- في ظل هذه التغيرات الزمانية والفوارق القيمية للعملة النقدية.

المبحث الثالث
وفاء النذور
***
النَّذْرُ: النَّحْبُ، وهو ما يَنْذُره الإِنسان فيجعله على نفسه نَحْباً واجباً، وجمعه نُذُور، وقال أَبو سعيد الضرير: إِنما قيل له نَذْر لأَنه نُذِرَ فيه أَي أَوجب، من قولك نَذَرتُ على نفسي أَي أَوجبْت .
في النذر فائدتان فقهيتان كما يشير إليها الإمام أحمد: إحداهما أن لا نزاع في صحة النذر ولزوم الوفاء به في الجملة أي أن يلزم نفسه لله تعالى شيئا -إن كان مكلفا مختاراً-؛ والثانية كراهة النذر على الصحيح من المذهب لقوله  النذر لا يأتي بخير ؛ ولا يصح النذر في محال ولا واجب فلو قال لله علي صوم أمس أو صوم رمضان لم ينعقد .
وفي المفهوم العام فإن النذر يكون لله تعالى خالصاً له يقدمها العبد لله عز وجل تعبيراً عن شكرٍ بعد تحقيق حاجةٍ سألها العبد رّبه فأعطاه.. وفي النذر فلسفة أخلاقية تعبدية، إذ أن الإسلام لم يأتِ ليشق على العباد ولا ليحمِّلهم ما ليس لهم طاقة به. لكن العبد بطبيعته الإنسانية يضفي المكابرة على نفسه ظاناً منه تمام القدرة، ولا يشفق من حمل أي شيء قال تعالى إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (الأحزاب: 72).. وتأتي فلسفة النذر الأخلاقية من خلال أنه إذا كان في معصية فهو باطل في أصله وليس عليه وفاؤه؛ كما يأتي مربياً إذ ليس في كل شيء نذر، ففي الموطأ أن رسول الله  رَأَى رَجُلًا قَائِمًا فِي الشَّمْسِ فَقَالَ مَا بَالُ هَذَا فَقَالُوا نَذَرَ أَلا يَتَكَلَّمَ وَلا يَسْتَظِلَّ مِنَ الشَّمْسِ وَلا يَجْلِسَ وَيَصُومَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ  مُرُوهُ فَلْيَتَكَلَّمْ وَلْيَسْتَظِلَّ وَلْيَجْلِسْ وَلْيُتِمَّ صِيَامَهُ . أما فلسفته التعبدية فتأتي أنه  قَدْ أَمَرَهُ أَنْ يُتِمَّ مَا كَانَ لِلَّهِ طَاعَةً وَيَتْرُكَ مَا كَانَ لِلَّهِ مَعْصِيَةً . وفي الحديث عَنْ عَائِشَةَ  قَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ مَنْ نَذَرَ أَنْ يَطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَ اللَّهَ فَلَا يَعْصِهِ .
كما أن هناك بعض النذور يعجز الإنسان عن الإتيان بها أو إيفائها، وهناك نذر محمود مقبول، وهناك نذر باطل مرفوض، وهناك نذر مَدين… والله سبحانه وتعالى إنما يتقبل العمل الصالح فهو عز وجل لا يناله من النذر إلا التقوى.
وسلفاً فإن النذر لا يجوز إلا لله وحده، لا إلى نبي مرسل ولا إلى ملك مقرب، ولا وليِّ أو صالح مكرم، فإنّ فِعْلَ ذلك حرامٌ بإجماع أهل السنة. ومن ثم فإن النذر لا يكون إلا في طاعة واستطاعة وليس في المشقة والتعذيب فعَنْ أَنَسٍ  أَنَّ النَّبِيَّ  رَأَى شَيْخًا يُهَادَى بَيْنَ ابْنَيْهِ قَالَ مَا بَالُ هَذَا قَالُوا نَذَرَ أَنْ يَمْشِيَ، قَالَ إِنَّ اللَّهَ عَنْ تَعْذِيبِ هَذَا نَفْسَهُ لَغَنِيٌّ وَأَمَرَهُ أَنْ يَرْكَبَ .
من الأحاديث الشريفة السابقة نجد أن الله سبحانه وتعالى غنيٌّ عن تعذيب العباد أنفسهم ولا يقبل جل وعلا نذراً إلا في طاعة، وهذا هو المنهج الإسلامي العام وهو أن لا يشق على مسلم حتى وإن كانت المشقة عبادة وطاعة؛ فصوم الوصال طاعة وعبادة لكنه منهي عنه لِما فيه من مشقة على المرء.
وقد يتطرف بعض المسلمين فينذرون بالمعاصي، ليس للمعصية نفسها ولكن لعِظم شأن الطلب -في نظرهم- وكأنه لا يتحقق فُينذر بالمستحيل.. فمثلاً لو نذرت امرأةٌ: إن عاد ابنها من الحرب الضروس سليماً رقصت في الحيّ عاريةً، فهي تضع في ميزان حساباتها أن ابنها لا يمكن أن ينجو من تلكم الحرب كما أن شغفها على وليدها يدفعها لعمل ما لا يمكن أن تقوم به فهي لا يمكن أن ترقص في الحي عُريانة فتنذر به، فالإسلام يرى بأن هذا النذر لا يوفّى لأن فيه ما فيه من المعاصي استناداً إلى حديث سيدتنا عائشة الذي مر، وهناك من العلماء من يرى بأن الأصل الإيفاء لما جاء كثيراً في القرآن الكريم من لزوم الإيفاء بالنذر فيحاول إيجاد مخرج في تفعيل النذر. والله أعلم.
وفي مسألتنا -أي النذر وتغير قيمة العملة النقدية- فإن العبد إذا نذر بالمسميات فعليه ما سمّى، فالذي ينذر بدنة فعليه بدنة، ومن نذر شاةً فعليه شاة، ما دامت في الاستطاعة، فعن ابن عباس أن رسول الله  أتاه رجل يستفتيه كان جعل على نفسه بدنة في يمين حلفها فأفتاه ببدنة من الإبل وزجر الرجل أن يعود .
كما أن أصل الوفاء بالنذور يكون بالتراخي ما لم يحدد وقته، فمن ينذر أن يصلي الصلاة في أول وقتها فيجب عليه ذلك بقدر ما أقته ، فهي تبقى في ذمته لا يبرأ منها حتى يوَّفيها، إلا أن الإمام أحمد نص على لزوم فورية النذر المطلق وهو المذهب وفي ذلك جزاء وثواب من الله سبحانه وتعالى في قوله يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا (الإنسان: 7) فلقد وصفهم رب العزة بالأبرار في الآية التي سبقتها.
أما إذا نذر أن يخرج مالاً معلوماً وهو قادر عليه كأن يقول: “نذرت إن قضى اللهُ لي حاجتي أخرجت لوجهه الكريم ألف ألف” بالعملة التي نواها لزمه جميعه ما دُمنا في ثبات القيمة في العملة النقدية وعدم تغيّرها وتقلبها من جراء تضخمات أو انكماشات في قيميتها وكانت في استطاعته؛ أما إذا حصل ذلك التغيّر والتقلّب في العملة فعلى شكلين:
إن كانت الحالة تضخماً في قيمة العملة وما زال العبدُ قادراً على الإيفاء بالنذر فيكون هناك عدلٌ بالأداء وإحسانٌ بالإبراء والوفاء. أما العدل فعليه الذي سمّى ونوى، وأما الإحسان فأن يخرج قيمته، كما جاء عن ابن عباس أنه قال فدَين الله أحق أن يقضى وفي الحديث فَحَقُّ اللَّهِ أَحَقُّ كما أخبر عليه الصلاة والسلام.
إن كانت الحالة معكوسة أي انكماشاً في قيمة العملة فعلى وجهين، الوجه الأول يوَّفّي الذي عليه من نذر بالقدر الذي ذكر (ما دام في استطاعته) عدلاً كما مَر. أما الوجه الثاني أن كان ما عنده لا يجزأ نذره فهو يقع ضمن ما لا يملك فلا يوفي بنذره لقوله  “..وَلَيْسَ عَلَى ابْنِ آدَمَ نَذْرٌ فِيمَا لَا يَمْلِكُ” ، وفي رواية الإمام مسلم “وَلَيْسَ عَلَى رَجُلٍ نَذْرٌ فِي شَيْءٍ لَا يَمْلِكُهُ” . على أن إذا رجعت القيمة على ما كانت عليه قبل التغير ولم يتحرر من نذره فيكون ملزماً بالإيفاء. وإذا طال الحال والمقام وأراد المرء أن يتحرر من نذره فليهدِ هدياً، لأن النذر لا كفارة فيه إلا إذا كان في معصية فكفارته كفارة اليمين لقوله  النَّذْرُ نَذْرَانِ فَمَا كَانَ مِنْ نَذْرٍ فِي طَاعَةِ اللَّهِ فَذَلِكَ لِلَّهِ وَفِيهِ الْوَفَاءُ وَمَا كَانَ مِنْ نَذْرٍ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ فَذَلِكَ لِلشَّيْطَانِ وَلَا وَفَاءَ فِيهِ وَيُكَفِّرُهُ مَا يُكَفِّرُ الْيَمِينَ . أما مسألة الهدي فقد ورد في سنن الدارمي عَنْ ابن عباس أن أخت عُقبة نَذَرَتْ أَنْ تَمْشِيَ إِلَى الْبَيْتِ فَقَالَ رَسُولُ الله  إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنْ نَذْرِ أُخْتِكَ لِتَرْكَبْ وَلْتُهْدِ هَدْيًا “. والله أعلم.
ومن هنا فإن من حق المسلمين أن يتخذوا من أمر الله وإرادته وسيلة الهداية الأخلاقية الكاملة وأن تتغذى نفوسهم بأمره بما يعينهم على أداء الواجب الأخلاقي وتقدير قيمته، فتقدير القيمة يكمن في النصوص المنـزلة، وهو الذي يصقل الملكة الباطنية للتقييم الخلقي المفطورة في الإنسان، التي تعينه على التمييز بين الخير والشر، وتقدير النافع من الضار في الأشياء وتقويم القيم المختلفة . ومن هذا التفصيل نجد قول الله حقاً وكله حق ..وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمْ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (الحج: 78).

المبحث الرابع
وفاء المهور
***
المَهْرُ: الصَّدّاق وقد مَهَرَ المرأة من باب قطع و أَمْهَرَها أيضا ، وقد عرف المهر في العناية بأنه اسم للمال الذي يجب في عقد النكاح على الزوج في مقابلة البضع إما بالنسبة أو بالعقد واعترض بعد شموله للواجب بالوطء بشبهة ومن ثم عرفه بعضهم بأنه اسم لما تستحقه المرأة بعقد النكاح أو الوطء. ومن أسمائه الأجر والعلائق والحباء وقد جمعها بعضهم بقوله
صداق ومهر نحلة وفريضة حباء وأجر ثم عقر علائق
لكنه لم يذكر العطية والصدقة، لأن الإسلام أراد الارتقاء بشان المرأة في المهر فيجعله أي المهر- حقها وحدها، لأن المسلمة حرة لا تباع ولا تشترى، كما أن للمهر مكانةً اعتباريةً أكبر من كونه مكانة مادية على الزوجين وذلك من وجهتين:
فهو -أي المهر- من جهة الرجل مُعرِّفةً له مكانة المرأة في وجوب إكرامها من أوّل يوم يشرع فيها للارتباط بها، فجعل الشرع لها المهر من حقها وحدها، وفي الانفصال عنها جعل لها مؤخر الصداق (إن لم يتم) والنفقة التي تضمن لها معيشة كريمة تتنـزه بها عن فعل منكر أو بغيض وفي ذلك تفصيل.
ومن جهة المرأة، إكراماً لها لما حافظت عليه طِوال سنيّها ملتزمة بالوفاء لدينها وأهلها متمسكة بالعفة والنـزاهة وحسن الخلق. ويجب الإشارة هنا إلى إن هذه القيم التي التزمت بها المرأة في سنيّها هي لا تبيعه بالمهر كما أن الرجل لا يشتري تلك النـزاهة بالمهر، وإنما هي عملية إكرام مقابل إكرام وكلٌّ يكرم بالذي عنده.
ومن المعروف أن المهر ليس له حدود دنيا ولا عظمى في العطاء، فهي تستطيع أن تتنازل عن المهر بالكامل وكما يجوز أن تأخذ قنطاراً من المال، وحادثة سيدنا عمر بن الخطاب  ليست ببعيدة عنا عندما أراد أن يحدد المهور فقال: ألا لا تغالوا في صدقات النساء فإنها لو كانت مكرمة في الدنيا أو تقوى عند الله لكان أولاكم بها رسول الله  ما أصدق قط امرأة من نسائه ولا بناته فوق إثنتي عشرة أوقية فقامت إليه امرأة فقالت: يا عمر يعطينا الله وتحرمنا أليس الله سبحانه وتعالى يقول وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا فقال عمر: أصابت امرأة وأخطأ عمر . كما ورد في القرآن الكريم بإنكار الفعل لمن أراد أن يأخذ المهر من زوجته فقال عز وجل وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (النساء: 21).
فالمهر -إذن- حق للمرأة، فمن حقها أن تطلب فيه ما تشاء كما أن من حقها أن تتنازل عنه، ولا شك فإن وليها يمكن أن يكون طالب المهر أو مستلمه إن وكّلته بذلك.
على أن كثيراً من الناس يقعون في مطبّات اجتماعية تستهويهم بعض زخارف الحياة في المغالاة في المهور ظانين بأنها مجرد حبر على ورق فيسمي مهراً لا يستطيع أن يوّفيه معللاً فعلته مثلاً بقوله: ومن قال أني سأطلقها؟!
فهو ينظر إلى مؤخر الصداق على أنه للطلاق فقط وينسى حظه من الموت، ففي فقه الأحناف فإن مؤخر الصداق يعقد بأقرب الأجلين إما الطلاق وإما الموت، أما عند الشافعية فليس للرجل أن يدخل بها حتى يستوفي مهرها بالكامل.
وما شُرِّعَ مؤخر الصداق إلا لتسهيل عملية الزواج كي لا يقع أحدٌ في المحظور أو تشيع فاحشةٌ في المجتمع.
وللأسف فقد شاع بين الناس أن مؤخر الصداق كأنه وضع للطلاق فقط وتغيب عنهم أن الرجل إن مات استوفيَّ منه حق المهر من تركته أولاً لأنه دَين مؤجل بالذمة، كما يغيب عنه أنه قد وافق على ذلك بادئاً -وهو المسمى- في صيغة عقد النكاح الذي ينص على “أن مؤخر الصداق وقدره كذا دينار يدفع عند أقرب الأجلين” وما كان التعامل بها في الآونة الأخيرة إلا كمراسيم لعقد القران ولا ينتبه العاقد غافلاً بأن هذا دَين في ذمته.
وما جاءت محاربة الغلاء في المهور إلا في هذا، فلماذا تُعرض على القضاء مشاكل مؤخر الصداق لو لم يكن فيها حَيف على أحد الزوجين لا يمكن دفعه ولا رفعه عن كاهلهم، فإن كان قد دفعه مع المقدم أصبح الطلاق برمي اليمين من غير متعلقات على عقد المهر الأولي -ولا ندعو هنا إلى الطلاق- ولكن الطلاق الذي يحدث لمّا يستوفي شرطه الأول بعد، ومن هنا تنشأ الخصومات، ويبحث المرء عن التنازلات في حقوق مؤخر الصداق وتأخذ ساحات القضاء وافراً من الشكاوى وتطول المسألة.
ففي دراسة ميدانية قدمها الأستاذ المالكي عن أسباب الطلاق في دولة من دول الخليج ومنها المهور قال في نتائج الدراسة: “علينا بزيادة الوعي الثقافي لدى الأهل لتسهيل زواج المواطنين وذلك بحثِّهم على أن يقوموا بالحد من المهور المرتفعة، والبعد عن عادات الترف والبذخ التي تثقل كاهل الزوج بالأعباء المادية الثقيلة، وتنعكس سلبياً على الأوضاع الاقتصادية المستقبلية للزوج وتزيد من تفكير الشباب في الزواج من أجنبيات مختلفات العادات والتقاليد واللغة” .
والعلماء الأجلاء ما حاربوا المغالاة في المهور إلا لسببين رئيسين:
الأول في المهر نفسه، كي لا يُقدم أكثر مما عنده مباهاةً فتكون سنةً سيئةً يسنُّها المجتمع من بعده.
والثاني كي لا يبقى في ذمته ما لا يستطيع إبراءها فتنشأ بذلك الخصومات.
وفي مسألتنا -أي المهر أو مؤخر الصداق وتغير قيمة العملة النقدية- فهي بلا شك محط نظر؛ فلنقل مثلاً: تزوج رجلٌ من امرأةٍ على مؤخر صداق قدره عشرة آلاف دينار (كانت تعادل مائة مثقال من ذهب ذلك اليوم) وأُبرم عقد النكاح بالموافقة وتزوجا؛ وبعد عشرين سنة مثلاً توفيَّ الزوج أو نزغ الشيطان بينهما وأرادا الانفصال، وأرادت الزوجة حقها المتأخر من المهر.
وفي غضون تلك السنوات العشرين حدث ما حدث في قيمة العملة فأصبحت العشرة آلاف دينار المتفق عليها لا تعادل مثقالاً واحداً من الذهب، فتأبى الزوجة أن تأخذ مؤخرها على هذه الحالة فهي مغبونٌ حقُّها كما يقول الواقع، لكن الزوج يرى بأن أبواب الرزق تفتحت له ولا يأبه لمثل هذا المبلغ بعدما كان بإمكانها شراء منزلٍ لها على سبيل المثال بالمبلغ الذي عقده عليها.
فلعل القاضي يحكم -وكل حكمه خير- بالعشرة آلاف للزوجة كما نص عليه العقد فالمؤمنون عند شروطهم كما قال عليه الصلاة والسلام؛ وهنا نقف وقفتين:
* الوقفة الأولى: أين قيمة الوفاء فيما وافقت عليه المرأة في أول العقد من قيمة مادية واعتبارية كانت تفرح به في مهرها يوم العقد؟
* الوقفة الثانية: لو جاء نفس الزوج وقد بانت الزوجة منه بينونة صغرى وأراد أن يستنكحها بمهر جديد ودفع لها نفس المسمى قبل عشرين سنة فهل توافق الزوجة؟ (بغض النظر عن شيئين، الأول الخلافات العائلية وما لازمها، والثاني أنها ليست عملية مقايضة ولا بيع أو شراء ولكنه حق مشروع في الكتاب والسنة). أو جاء خاطب إلى ابنته وأمهر عليها بنفس مهر أمها –بالمبلغ لا بالقيمة- أكان يوافق أبوها (وهنا لا بد من الإشارة بأن أبرك النساء أيسرهن مهوراً )؟ ولكن لو قلنا أن الأب من المغالين في المهر أكان يقبل بهذا المهر لابنته وهو نفس المبلغ الذي أمهر بها أمها؟!
هذه ليست أمثلةً فقط، لكنها شواهد حقيقية ضجت بها محاكم القضاء ودور الإفتاء ومن مثلها كثير. فنقول وبالله التوفيق:
إن الدين الإسلامي والشريعة السمحاء قد دافعت عن حقوق العالمين أكثر ممن نادوا بحقوق الإنسان وقننوا لها الدساتير، فدستور الشريعة وحيُّ منـزلٌ من لدن حكيم خبير، وأول قانون في حقوق العباد هو التراضي والصلح بين المسلمين والصلح كله خير.
وفي مسألتنا فإن تصـالحا الزوج والزوجة فالأمر لهما لأن الزوجة من حقها أن تتنازل عن مهرها بالكامل، ومن حق الزوج أن يكرم زوجته بالذي يقدر عليه “وخيركم خيركم لأهله” كما قال عليه الصلاة والسلام.
أما إذا كانت في جانب الخصومات فيمكن القول أن لكل مسألةٍ قضاؤها، وأول ما ينظر إليه: ميسرة الرجل من إعساره وما هو في قدر استطاعته من غير أن يظلم حق الزوجة.
فإذا كان الزوج قد أمهرها بعشرة آلاف دينار وبما قيمته مائة مثقال من الذهب كما في مثالنا السابق وكان الرجل ممن فضّل الله عليه فعليه قيمة المائة مثقال من ذهب ذلك اليوم ولا ننظر إلى الرقم الذي كتب به عقد النكاح إلا بالحسبان استناداً على ما مَر.
أما إن كان الرجل معسراً وليس بذمته ما أبرم فعلى شكلين:
إن كان الرجل موسراً يوم العقد ثم أفقره الله فللمرأة مهر المثل بكل أبعاده وظروفه الحادثة الزمانية والمكانية لِما جاء في كتب الفقه؛ بمعنى: إن كانت الزوجة قد تزوجت وعندها أربعون سنة فلها مهر مثلها من اللواتي يتزوجن وعندهن أربعون سنةً ولا تحسب على اللواتي هن من بنات العشرين أو أقل.
أما إن كان الرجل بالأصل معسراً وليس بذمته ما أبرم فعليه مهر المثل وزيادة يحددها القاضي وهذه الزيادة تعزيرية. كي يمتثل المجتمع إلى عدم المغالاة في المهور وخاصة أصحاب الفاقة ممن لا يستطيعون الوفاء به.
أما إن كانت العملية عكسية أي حالة انكماش، أي أصبحت العشرة آلاف دينار تعادل ألف مثقال من الذهب فالأمر سيان إما بالقيمة وإما بمهر المثل. والله  أعلم.
إن نظام الإسلام نظام كوني والله سبحانه وتعالى ما تركنا في دنياه تائهين، ولم يخلقنا عبثاً ولا سدىً قال عز وجل أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (المؤمنون: 115) أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى (القيامة: 36). إن نظام الدين لا يصلح إلا بنظام الدنيا كما عبر عنه حجة الإسلام الإمام الغزالي رحمه الله، ولا شك فإن متانة الدين الإسلامي في قيمه إنما جاءت لأن مصادره من التعاليم المنـزلة في القرآن الكريم والسنة المطهرة، خلافاً لما ذهب إليه الكثير من الباحثين، حيث أرجع علماء الاجتماع القيم وعلى رأسهم أوجيست كومت (1857م) إلى المجتمع الذي ينتمي إليه الفرد، وأرجعها الماركسيون وعلى رأسهم فردريك أنجلز (1895م) وكارل ماركس (1883م) إلى الأحوال الاقتصادية وأرجعها دعاة النـزعة الإنسانية (السوفسطائية قديماً ونيتشه حديثاً) إلى الإنسان صانع التقييم، وأرجعها دعاة النظام الدكتاتوري (توماس هوبز 1679م) إلى الطاغية المستبد .
بهذه القيم السامية حكم الإسلام العالم من أقصاه إلى أقصاه وليس بالسيف وحده، لكن أعداء الدين بدعواهم تلك يريدون أن يطمروا هوية الإسلام القيمية الأخلاقية والتي لا تنفصل عن الدين، ولا يظهروا من حقيقة الدين إلا ما يشوشوا به على غير المسلمين في أحكام الحدود والقصاص ليصوروا لهم أن الدين الإسلامي هو دين مذابح وحروب ودماء وتعدد أزواج فقط.
إن القيم والأخلاق توأمان للدين لا يصلح أحدهما دون الآخر. بل نجد حتى من المستشرقين أمثال غولد زيهر يعترف بذلك بقوله “إذا أردنا الإنصاف فينبغي أن نؤمن بأن في مذهب الإسلام قوة صالحة توجه الإنسان نحو الخير وأن الحياة المتفقة مع التعاليم الإسلامية حياة أخلاقية لا غبار عليها، ذلك أنها تتطلب الرحمة نحو جميع مخلوقات الله والوفاء بالعهود والمحبة والإخلاص وكف غرائز الأنانية إلى هذه الفضائل التي أخذها الإسلام من الديانات التي اعترف لأصحابها بالرسالة، إن المسلم الصالح هو الذي يحيا حياة يحقق فيها مطالب خلقية قاسية” .

النتائج
***
وفي آخر البحث يمكن أن نخلص إلى:
1. أن الوفاء من أبرز سمات السلَّم القيمي للشخصية العربية المسلمة. وهو من معاني الكمال ومن القيم التي لا يمكن أن تتجزأ، بمعنى إما يكون المرء وفياً أو غير وفيٍّ.
2. دأب الإسلام الحثّ على الالتزام بالوفاء في كل الميادين التي تخضع للتعامل سواء بين الأفراد أو بين رب العباد وحتى الوفاء مع نفسه.
3. شرع الإسلام مبدأ القرض الحسن وضاعف في أجر الدائن، لأن المدين لا يسأل إلا عن حاجة. وهو من عقود الإرفاق ومقصده الأسمى إمهال ذي العسرة، سعياً إلى خلق مجتمعٍ متكافل تسوده السماحة والإخاء.
4. عملية التضخم والانكماش تسبب بطبيعة الحال ضرراً على حساب أحد المتداينَين، فالدائن متضرر في ظل التضخم ومنتفع في حالة الانكماش على عكس المدين المنتفع في ظل التضخم والمتضرر في حالة الانكماش.. لذا فالحال يوجب النظر إلى كل من الدائن والمدين على حدٍ سواء في أي من الأحكام المتخذة.
5. التغير في قيمة العملة الورقية حالة السداد يتحول فيها السداد من المثل إلى القيمة، ولا نقول صيرورة العملة الورقية قيمية.
6. النذور من الأيمان التي يجب الوفاء بها إن كانت في طاعة إذ ليس فيه كفارة يمين، أما إن كان النذر في معصية فكفارته كفارة يمين.
7. من أحق الشروط التي توفّى هي ما استحلَّت بها الفروج، والمهر هو من موجبات عقد النكاح.
8. الالتزام بمبدأ عدم المغالاة في المهور كي لا يسبب اضطرابات اجتماعية من أول المهر وحتى وفاءه. وإن من أبرك النساء أيسرهن مهوراً.
9. إكرام المرأة في إيفائها حق مهرها من السمات التي تعكس وجهة النظر الإسلامية الصحيحة في الحفاظ على حقوق المرأة.

المصادر والمراجع
***
* القرآن الكريم
* كتب الحديث التسعة: البخاري، مسلم، الترمذي، النسائي، أبو داود، ابن ماجه، أحمد، مالك، الدارمي.
1. أمين، محمد: حاشية ابن عابدين (بيروت: دار الفكر، ط2، 1386هـ).
2. ابن قدامة: المغني.
3. ابن منظور: لسان العرب (بيروت: دار صادر ، طبعة 1، 1410هـ-1990م).
4. الأبشيهي، شهاب الدين محمد بن أحمد: المستطرف في كل فن مستظرف (بيروت: دار المعرفة، ط2، 1420هـ-1999م).
5. البعلي، د. عبد الحميد محمود: ضوابط العقود في الفقه الإسلامي (الدوحة: مؤسسة الشرق للعلاقات العامة والنشر والترجمة، طبعة 1، 1985م).
6. البعلي، محمد بن أبي الفتح البعلي الحنبلي: المطلع، تحقيق: محمد بشير الأدلبي (بيروت: المكتب الإسلامي، ب.ط، 1401هـ-1981م)، ص189-190.
7. البهوتي، منصور بن يونس بن إدريس: كشاف القناع عن متن الإقناع (بيروت: دار الفكر، بدون طبعة، 1402هـ-1982م).
8. التسولي: البهجة شرح التحفة، (بيروت: دار الفكر، بدون طبعة، بدون تاريخ).
9. الجرجاني، علي بن محمد بن علي: التعريفات، تحقيق: إبراهيم الأبياري (بيروت: دار الكتاب العربي، ط1، 1405هـ).
10. الحبش، د.محمد: سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
11. الحطاب، أبو عبد الله محمد بن عبد الرحمن: مواهب الجليل لشرح مختصر خليل (بيروت: دار الفكر، طبعة 2، 1398هـ).
12. الخفيف، د. علي: أحكام المعاملات الشرعية (القاهرة: دار الفكر العربي، طبعة 1، 1417هـ – 1996م) .
13. الرملي، نهاية المحتاج
14. الزرقا، د. مصطفى أحمد: المدخل الفقهي العام (دمشق : مطبعة ألف باء ، ب.ط، ب.ت).
15. الشوا، أيمن عبدالرزاق: الوفاء في رحاب القرآن والحديث والأدب (دمشق: دار الكلم الطيب، ط1، 1417هـ-1997م).
16. الشيرازي، أبو إسحاق إبراهيم بن علي بن يوسف: المهذب في فقه الإمام الشافعي (بيروت: دار الفكر، ب. ط، ب.ت).
17. الطبراني: الهيثمي، علي بن أبي بكر: مجمع الزوائد (بيروت: دار الكتاب العربي، ب.ط، 1407هـ).
18. الطبري، أبو جعفر محمد بن جرير بن يزيد بن خالد: تفسير الطبري (بيروت: دار الفكر، ب.ط، 1405هـ).
19. العاني، مضر نزار: أحكام تغير قيمة العملة النقدية وأثرها في تسديد القرض (عمّان: دار النفائس للطباعة والنشر، ط1، 2000م).
20. الغزالي، أبو حامد: الاقتصاد في الاعتقاد (القاهرة: مطبعة صبيع، ب.ط، ب.ت).
21. الغزالي، محمد: خلق المسلم (دمشق: دار القلم، ط2، 1400هـ-1980م).
22. الفيومي، أحمد بن محمد بن علي المقرئ: المصباح المنير (بيروت: مكتبة لبنان، ب.ط، 1987م).
23. القرطبي، أبو عبدالله محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرح: تفسير القرطبي، تحقيق: أحمد عبدالعليم البردوني (القاهرة: دار الشعب، ط2، 1372هـ).
24. الكاساني، علاء الدين: بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع (بيروت: دار الكتاب العربي، طبعة 2، 1982م).
25. المالكي، عبدالرزاق فريد: ظاهرة الطلاق في دولة الإمارات العربية المتحدة: أسبابه واتجاهاته مخاطره وحلوله. سلسلة دراسات استراتيجية: (أبو ظبي: مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية، ط2، 2001م، العدد50).
26. المرداوي، أبو الحسن علي بن سليمان: الإنصاف (بيروت: دار إحياء التراث العربي).
27. المزني، زهير بن أبي سُلمى ربيعة بن رباح: ديوان زهير بن أبي سُلمى (بيروت: دار صادر، ب.ط، ب.ت).
28. المناوي، محمد عبدالرؤوف: التعاريف، تحقيق: محمد رضوان الداية (بيروت: دار الفكر، ط1، 1410هـ).
29. الميداني، أبو الفضل: مجمع الأمثال.
30. النووي، الإمام محي الدين أبي زكريا يحيى بن شرف: تحرير التنبيه، تحقيق: د.محمد رضوان الدايه، ود.فايز الدايه (بيروت: دار الفكر المعاصر، طبعة 1، 1410هـ-1990م).
31. حمّاد، د. نزيه: معجم المصطلحات الاقتصادية في لغة الفقهاء (فيرجينيا: المعهد العالمي للفكر الإسلامي، طبعة 2، بدون تاريخ).
32. خروفة، د. علاء الدين: عقد القرض في الشريعة الإسلامية (بيروت: مؤسسة نوفل، طبعة 1، 1982م).
33. خطيب، شذا جمال: الأزمة المالية والنقدية في دول جنوب شرقي آسيا. سلسلة دراسات استراتيجية: (أبو ظبي: مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية، ط1، 2001م، العدد 51).
34. رسلان، صلاح الدين بسيوني: القيم في الإسلام: بين الذاتية والموضوعية (القاهرة: دار الثقافة للنشر والتوزيع، ب.ط، 1410هـ-1990م).
35. سابق، سيد: فقه السنة، (القاهرة: دار الكتب الإسلامية، بدون طبعة، 1972م)183.
36. عثمان، محمد فتحي: القيم الحضارية في رسالة الإسلام (الرياض: الدار السعودية للنشر والتوزيع، ط1، 1982م).
37. عفر، د.عبدالمنعم محمد: الاقتصاد الإسلامي: النظام والسكان والرفاه والزكاة (جدة: دار البيان العربي، طبعة 1، 1405هـ-1985م).
38. عفر، د. عبدالمنعم محمد: نحو النظرية الاقتصادية في الإسلام: الدخل والاستقرار (العباسية: المطبعة العربية الحديثة، ب.ط.، 1401هـ-1981م).
39. علية، د.محمد بشير: القاموس الاقتصادي (بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ط1، 1985م).
40. عمر، حسين: الموسوعة الاقتصادية (القاهرة: دار الفكر العربي، ط4، 1412هـ-1991م).
41. عناية، د.غازي حسين: التضخم المالي (الإسكندرية: مؤسسة شباب الجامعة، ب.ط، 1405هـ-1985م).
42. عناية، غازي: تمويل التنمية الاقتصادية بالتضخم المالي (بيروت: دار الجيل، طبعة 1، 1411هـ-1991م).
43. عويس، د.محمد فتحي: محاضرات في النقود والبنوك (د.م، ب.ط، 1979م).
44. فيض الله، أ. د. محمد فوزي: نظرية الضمان في الفقه الإسلامي العام (الكويت: مكتبة دار التراث، طبعة 2، 1406 هـ – 1986م).
45. مجلة الأحكام العدلية.
46. محمد، د. يوسف كمال: فقه الاقتصاد النقدي (القاهرة: دار الهداية، ط1، 1414هـ-1992م).
47. يوسف، د.عبد النبي حسن: اقتصاديات النقود والبنوك (القاهرة: مكتبة عين شمس، ب.ط، 1986م).

الفهرس

الصفحة
المقدمة
المبحث الأول : مفهوم الوفاء
من معاني الوفاء
ذكر الوفاء في القرآن الكريم
المبحث الثاني : وفاء القرض وتغير القيمة
معنى القرض
أركان عقد القرض
شروط المحل
تغير قيمة العملة
أسباب حدوث التضخم
اثر التضخم والانكماش على الدائن والمدين
قضاء ووفاء رسول الله  دينه
المبحث الثالث : وفاء النذور
معنى النذر
النذر والعملة النقدية
معالجة النذر في تفير القيمة
المبحث الرابع : وفاء المهور
معنى المهر ومكانته عند الرجل والمرأة
عواقب الغلاء في المهور
وقفات في تغير العملة في إيقاف المهر
النتائج
المصادر
الفهرس