القانون الأصلح للمتهم

أستاذة / بسنت الحلو
تمهيد
اولاً: القاعدة العامة (الأصل عدم رجعية التشريعات)
ثانياً-الاستثناء على القاعدة العامة القانون الأصلح للمتهم (المادة 5 من قانون العقوبات)
أولاً: قاعدة عدم رجعية النصوص الأشد
ثانيا: قاعدة رجعية النصوص الأخف
ماهية القاعدة ودعائمها
شروط تطبيق القاعدة:
أولاً: اعتبار النص الجديد أصلح للمتهم
معاير تقدير ما إذا كان النص أصلح أم أسوأ في مواجهة المتهم
التمييز بين نصين أحدهما أشد و الآخر أخف
شمول النص الجديد أحكاما أشد و أخرى أخف
ثانيا: صدور النص الجديد قبل الحكم نهائيا على المتهم
القيد التشريعي على رجعية النصوص الأصلح
المراجع

تمهيد
من القواعد الدستورية التي تحرص غالبية الدول على تسجيلها هي ان نصوص القوانين لا تسري الا على الافعال التي تقع من تاريخ العمل بها، ولا يترتب عليها أثر فيما وقع قبلها، تأكيداً لمبدأ شرعية الجرائم والعقوبات في القانون الجنائي.
وتعتبر القوانين نافذة أي يجرى العمل بها بعد نشرها في الجريدة الرسمية، ولا تسري أحكام القوانين إلا على ما يقع من تاريخ العمل بها، ولا يترتب عليها أثر فيما وقع قبلها وهذا ما نصت عليه المادة 223 من الدستور المصري الصادر سنة 2012، ونفس المعنى أكده الدستور السابق في المادتين 187 و 188 .
ويظل القانون ساريا حتى يلغى، والإلغاء نوعان صريح وضمني، أما الصريح فيفترض صدور قانون جديد يلغى صراحة القانون السابق عليه، واما الضمني فهو ان يتضمن التشريع الجديد إعادة تنظيم ذات الموضوع الذي سبق للتشريع السابق تنظيمه (المادة 2 من القانون المدني)، ويتبين الالغاء من تعارض احكام التشريع اللاحق مع احكام التشريع السابق في تنظيم الموضوع ووجوب تطبيق القانون اللاحق دون السابق
وإذا كانت اسباب انقضاء النص لا تكون إلا بالإلغاء الصريح أو الضمني من السلطة المختصة بالتشريع، فمن ثم لا يزول إثر النص باستقرار عرف على اتجاه مخالف للنص، فالعرف لا يلغى نصاً تشريعياً، فالنص التشريعي لا يلغى إلا من السلطات التي اصدرته، كما ان عدم تطبيق السلطات العامة للنص لا يفقد النص قوته الالزامية، ولا ينقضي بسلطانه الزمنى، وقاعدة الاثر المباشر للقانون هي الاصل العام في النصوص الجنائية. اذ انها غير ذات أثر رجعى، وان كان يرد على هذا الاصل استثناء خاص بالنصوص الاصلح للمتهم.
وسوف نتناول في هذا المقام:
أولاً: القاعدة العامة وهي الاصل عدم رجعية التشريعات
ثانياً: الاستثناء على القاعدة العامة القانون الاصلح للمتهم (المادة 5 من قانون العقوبات )
-قاعدة عدم رجعية النصوص الاشد
-قاعدة رجعية النصوص الاخف
-القيد التشريعي على رجعية النصوص الاصلح (حكم القوانين محددة الفترة )

أولاً: القاعدة العامة (الأصل عدم رجعية التشريعات)

المبدأ الذي يحكم هذا الفرض والذي تواتر عليه الفقه والقضاء هو كقاعدة عامة خضوع التصرفات واثارها للتشريع الذي تمت في ظله ولا يكون للتشريع الجديد إثر رجعى على هذه التصرفات، فالأخير لا يطبق الا على الوقائع والتصرفات التي تمت في ظله وبعد صدوره اما ما سبق من ذلك من وقائع فلا شان له بها.
لعل أهم ما يبرر مبدأ عدم رجعية التشريعات هو اعتبار العدل إذ يكيف الافراد عادة سلوكهم ويضبطوا تصرفاتهم طبقا للتشريع الساري ولذلك فمن العدل الا تتغير القواعد التي حكمت سلوك الافراد في الماضي وبأن يظلوا خاضعين لها
ويبرر هذا المبدأ أيضا بضرورة استقرار مركز الافراد وتوفير الطمأنينة والثقة لهم، فالفرد من حقه ان يطمئن الى ان تصرفاته ستحكم بالتشريع الذي علمه وان حقوقه وواجباته ستتحدد طبقاً لهذا التشريع، وكما يعد اهدار للثقة في نفوس الناس تجاه القانون ان يهدم التشريع الجديد تصرفات الافراد التي تمت في ظل تشريع كان قائما مما يورث لدى الافراد نوعا من القلق والاضطراب ويؤدى الى انتشار الفوضى وعدم الاستقرار
وقد اورد الدستور المصري نصوصاً تقضى باحترام مبدأ عدم رجعية التشريعات فقد جاء في المادة 223 من دستور 2012 ان ( تنشر القوانين في الجريدة الرسمية خلال خمسة عشر يوماً من تاريخ اصدارها و يعمل بها بعد ثلاثين يوما من اليوم التالي لتاريخ نشرها الا اذا حددت لذلك ميعاد اخر، ولا تسرى احكام القوانين الا على ما تقع من تاريخ العمل بها و لا يترتب عليها اتر فيما وقع قبله و مع ذلك يجوز في غير المواد الجنائية و الضريبة النص في القانون على خلاف ذلك بموافقة اغلبية ثلثي اعضاء مجلس النواب ) كما اكد هذا المبدأ دستور 1971 في المادة 187 .
وتبين من النص ان المشرع الدستوري قد اجاز الخروج عن هذا المبدأ للمشرع العادي في حالات الضرورة فقط وبذلك لا تنطبق على التشريع الفرعي (اللائحة)، واستلزم في النص موافقة اغلبية اعضاء وليس اغلبية الحضور مما يشير الى مقدار الاهمية التي اعطها المشرع لمبدأ عدم الرجعية

وايضا كما تبين من النص انه لا يجوز ذلك في غير المواد الجنائية و قد اشارت الى هذا نص المادة 76 من دستور 2012 حينما نصت على ان ( العقوبة شخصية ولا جريمة و لا عقوبة الا بنص دستوري او قانونيا و لا توقع عقوبة الا بحكم قضائي ولا عقاب الا على الافعال اللاحقة لتاريخ نفاذ القانون )، كما اكد هذا المبدأ دستور 1971 في المادة 66 منه وعلى الرغم من نصى دستور السابق ذكره لا يعد تطبيق قاعدة عدم رجعية النصوص الجنائية مطلقاً ولكن يستثنى من هذه القاعدة النصوص الجنائية الاصلح للمتهم و النصوص التفسيرية التي تستهدف بيان ما يشوب النص من غموض وهي التي تلحق بالنص ويكون لها ذات القوة فتسرى على كل ما يسرى علية النص.

ثانياً-الاستثناء على القاعدة العامة القانون الأصلح للمتهم (المادة 5 من قانون العقوبات)

قد نصت المادة 5 من قانون العقوبات على ان “يعاقب على الجرائم بمقتضى القانون المعمول به وقت ارتكابها و مع هذا إذا صدر بعد وقوع الفعل و قبل الحكم فيه نهائياً قانون اصلح للمتهم فهو الذى يتبع دون غيره، و اذا صدر قانون بعد الحكم نهائي يجعل الفعل الذى حكم على المجرم من اجله غير معاقب عليه ,يوقف تنفيذ الحكم و تنتهى أثاره الجنائية، غير انه في حالة قيام اجراءات الدعوى او صدور حكم بالإدانة فيها و كان ذلك عن فعل وقع مخالفا لقانون ينهى عن ارتكابه في فترة محدودة , فان انتهاء هذه الفترة لا يحول دون السير في الدعوى أو تنفيذ العقوبات المحكوم بها)، باعتبارها الاستثناء الوحيد في القانون الجنائي على مبدأ عدم الرجعية، و الاصل انه يتم العمل بقواعد قانون العقوبات كغيرها من القواعد القانونية منذ لحظة نفاذها وفقا لما ينص علية الدستور .
ويظل لتلك القواعد وجودها القانوني الى ان يتم الغاؤها إما صراحة او ضمناً، وبالتالي تتمتع قواعد قانون العقوبات بثبات نسبى ولا تتعرض للإلغاء او التعديل الا إذا تغيرت فلسفة التجريم.
والعقاب في المجتمع فتصدر حينئذ قواعد جديدة تعكس الفلسفة الأحدث، فقد يتبين المشرع الخطورة الاجتماعية لفعل او امتناع كان يعتبره مباحاً، فيتدخل ليجعل منه جريمة جنائية، او يرتفع بجسامة الفعل فينقله من الجنحة الى جناية مثلاً او يغير في بنيان الجريمة او في نطاق العقاب او يبيح فعلا كان مجرما.
وتثور مشكلة تحديد نطاق سريان قانون العقوبات من حيث الزمان حينما تقع جريمة في ظل قاعدة جنائية وقبل ان يغلق باب الدعوى بحكم بات تصدر قاعدة جديدة مغايرة للقاعدة الاولى التي وقعت الجريمة في ظلها، فحينئذ يثور التساؤل عن القاعدة واجبة التطبيق على المتهم هل هي القاعدة الاولى ام القاعدة الجديدة؟ وبعبارة اخرى هل تسري القاعدة الجديدة بأثر رجعى على الجرائم التي وقعت قبل العمل بها ام تظل الجريمة محكومة بالقاعدة التي وقعت في ظلها ويقتصر نطاق القاعدة الجديدة على ما يقع في ظلها من جرائم؟
وللإجابة على هذا التساؤل لابد من التعرف على القواعد التي تحكم نطاق سريان قانون العقوبات من حيث الزمان، ويمكن اجمال تلك القواعد في قاعدتين، الاولى: عدم رجعية النصوص الاشد والثانية: رجعية النصوص الجديدة الاصلح للمتهم، وذلك على التفصيل الاتي:

أولاً: قاعدة عدم رجعية النصوص الأشد

-ماهية القاعدة و دعائمها
تعنى هذه القاعدة ان نصوص قانون العقوبات الاشد من النصوص السابقة عليها سواء تعلقت بالتجريم ام العقاب لا تسري على الماضي أي لا تطبق بأثر رجعى وانما تسري بالأثر مباشر وفقا للأصل العام أي تطبق فحسب على ما يقع من جرائم منذ بداية العمل بها، أما ما وقع من جرائم او افعال كانت مباحة او إذا جاء النص الجديد بعقوبة اشد جسامة في ظل قاعدة قديمة أخف فيظلوا محكومين وفقا للقاعدة القديمة.
وتكتسب هذه القاعدة قيمة دستورية حيث كرستها المادة 76 من الدستور الحالي كما أشرنا من قبل، فهذه القاعدة نتيجة حتمية وامتداد طبيعي لمبدأ شرعية الجرائم والعقوبات، وعدم تطبيق هذه القاعدة يؤدى لإهدار مبدأ الشرعية والمساس بحريات الافراد دون سند قانونيا وفتح الباب امام التحكم والاستبداد.
-نطاق تطبيق القاعدة
يتحدد نطاق تطبيق القاعدة محل البحث بشرطين أساسيين
أولهما-ان يكون النص الجديد اشد من النص القديم الذي وقعت الجريمة في ظله: أي ان يكون من شأن تطبيقه على المتهم وضعه في موضع اسوأ مما كان يضعه فيه النص القديم
وثانيهما-الا تكون الجريمة معتبرة من الناحية القانونية واقعة في ظل النص الجديد الاشد، لأنها إذا كانت قد وقعت من الناحية الزمانية بعد العمل بذلك النص سرى عليها هذا الاخير ولا يقال حينئذ ان في سريانة اثرا رجعيا محظورا، وبعبارة اخرى شرط تطبيق قاعدة عدم رجعية النص الاشد هو ان تكون الجريمة قد وقعت من الناحية القانونية في ظل القاعدة القديمة فحينئذ تظل محكومة بتلك القاعدة ولا تسري عليها القاعدة الجديدة الاشد بأثر رجعى
ويثير تطبيق هذا الشرط بعض الصعوبات حول تحديد اللحظة الزمنية التي تعتبر الجريمة قد واقعت فيها وبالتالي تطبيق أي من القاعدتين، ولا صعوبة إذا وقعت الجريمة بكافة عناصرها في ظل أي من القاعدتين كما لو وقعت السرقة واكتملت كافة عناصرها في ظل القاعدة القديمة
ولكن الصعوبة تثور إذا تناثرت مكونات المشروع الإجرامي فوقع بعض منه في ظل القاعدة القديمة والبعض الاخر في ظل القاعدة الجديدة الاشد، فسوف نطبق أي من القاعدتين القديمة ام الجديدة الاشد؟ ولا مفر في هذا الصدد من التميز تبعا لطبيعة الجريمة
فالجرائم التي تنفصل فيها لحظة تحقق الفعل عن لحظة تحقق النتيجة الاجرامية: كما لو حدث (الضرب بقصد القتل ظل القاعدة القديمة وتحققت الوفاة بعد ذلك بفترة حيث كانت قد صدرت قاعدة جديدة اشد تعاقب على القتل مثلاً بالإعدام بدلاً من السجن المؤبد)، يرجع وفقا للرأي الراجح الى لحظة تحقق الفعل الإجرامي أي لحظة وقوع الجريمة وليس لحظة تحقق النتيجة، أي انه هنا يسرى عليها القاعدة القديمة ولا تسري عليها القاعدة الجديدة بأثر رجعى.
الجرائم المستمرة: هي التي تستغرق في تنفيذها فترة زمنية بحيث يقع شطر منها في ظل القاعدة القديمة وشطر اخر في ظل القاعدة الجديدة الاشد (كحمل السلاح بغير ترخيص) بدأ في ظل الاولى واستمر في ظل الثانية فتعد الجريمة واقعة في ظل القاعدة الجديدة الاشد فتسرى عليها تلك القاعدة الجديدة الاشد
والجريمة المستمرة يقتضي استمرارها ان يتدخل الجاني بإرادته على نحو متجدد ومتعاقب ليبقى على السلوك الإجرامي المكون للجريمة او نتيجتها دون فصل
فقد يلحق الاستمرار النتيجة دون الفعل ومن امثلة ذلك (جريمة اخفاء الاشياء المسروقة فالفعل هو اكتساب الحيازة وهذا لا يتطلب زمنا طويلا ولكن النتيجة وهي الاحتفاظ بالشيء في حيازة الجاني تستغرق في الغالب وقتا طويلا)
وقد يلحق الاستمرار الفعل دون النتيجة ومن امثلة ذلك (ادارة صيدلي صيدليته دون ترخيص تفترض سلوكا اجراميا ممتدا خلال مدة طويلة)
وان كان في الحالتين السابقتين يقتضي توافر ارادة الجاني لقيام الجريمة المستمرة
جرائم الاعتياد: هي التي تقوم بعدة افعال من طبيعة واحدة يقع بعضها في ظل النص الاول والبعض الاخر في ظل النص الجديد (كالاعتياد على ممارسة الفسق والفجور) فتعد الجريمة واقعة في ظل القاعدة الجديدة الأشد فتسرى عليها تلك القاعدة الجديدة (الأشد)
اما إذا كانت الافعال التي ارتكابها في الاصل لا تعد جريمة في ظل القانون القديم وكانت مباحة فارتكابها في ظل القانون الجديد لا يعاقب عليها الا بتكرار هذه الافعال في ظل القانون الجديد خلافا لما ذهب اليه القضاء المصري قديما
اما بالنسبة لصدور قانون جديد يعتبر الجاني عائداً الى الاجرام بناء على جرائم قد ارتكبها قبل صدور هذا القانون ولم تكن هذه الجرائم تعد سابقة في العود بالنسبة لهذه القديمة فمن ثم لا يجوز ان يعتبر هذا الجاني عائدا إذا ان الجاني لم يكن عالما بالنتائج المشددة التي ستلحق به عند ارتكابه هذه الجريمة في ظل القانون الجديد وان كان الرأي الراجح في الفقه والقضاء الفرنسي يذهب الى عكس ذلك.
وينتقد الباحث رأى الفقه والقضاء لان من المساواة والانصاف وتغليباً لاعتبارات العدالة الا يعتبر الجاني عائدا الا على الجرائم التي ارتكبها بعد صدور النص الجديد مادامت لا تعتبر سابقة عود في ظل النص القديم لان الجاني لم يكن عالما بالنتائج المشددة التي ستلحق به عند ارتكابه هذه الجريمة في ظل القانون الجديد
إذا كانت المسالة تتعلق بجريمة متتابعة الافعال أي ان كل فعل يشكل جريمة مستقلة (كجريمة سرقة طقم فضية من منزل على عدة مرات) فهنا لا يوجد خلاف في تطبيق القانون الجديد ولو كان اشد على المتهم.

ثانيا: قاعدة رجعية النصوص الأخف
تتطلب معالجة هذه القاعدة استعراض ماهيتها ودعائمها من ناحية وشروط تطبيقها من ناحية اخرى والقيد التشريعي على تطبيقها من ناحية ثالثة وذلك كله على التفصيل الاتي:
ماهية القاعدة ودعائمها
من الممكن تطبيق القانون بصورة رجعية وذلك استثناء على الاصل العام طالما لم يفصل في الدعوى بحكم بات وطالما كان النص الجديد يفيد المتهم أكثر من النص القديم او يضعه في مركز أفضل مما لو طبق عليه النص القديم

وقد نصت على هذا صراحة الفقرة الثانية من المادة 5 من قانون العقوبات (ومع هذا اذا صدر بعد وقوع الفعل و قبل الحكم فيه نهائياً قانون اصلح للمتهم فهو الذى يتبع دون غيره)، ولكن يجب لتحقيق هذا التحقق ان نكون بصدد قانون بمعنى ان يضع قاعدة عامة مجردة و ان يكون صادراً من السلطة المختصة بالتشريع فان كان غير ذلك فلا يعد قانون، و مثال على ذلك ما قضت به محكمة النقض بأن ” ما يصدره المحافظ لمحل معين لبيع مشروبات روحية بعد الميعاد المحدد في القانون استثناء من القانون و تحقيق لمصالح مختلفة لا يعتبر قانونا اصلح في حكم المادة 5 “.

شروط تطبيق القاعدة:

يتضح من نص الفقرة الثانية من المادة الخامسة من قانون العقوبات ان المشرع تطلب شرطين لتطبيق قاعدة رجعية النص الجديد الاصلح للمتهم، الاول: يتعلق بطبيعة النص الجديد وهو ان يكون أصلح للمتهم، والثاني: يتعلق بصدور النص الجديد قبل الحكم نهائيا على المتهم.

أولاً: اعتبار النص الجديد أصلح للمتهم

معنى ذلك ان يؤدى تطبيقه الى استفادة المتهم، أي ان ازالة وصف التجريم او التخفيف من العقوبة يعد من التشريعات الاصلح للمتهم ويعد كذلك ايضاً ان يضيف التشريع الجديد سبباً جديداً من أسباب الاباحة او مانعاً من موانع العقاب (مانع العقاب: هو مانع يقدر المشرع لاعتبارات تتعلق بالمصلحة العامة وجوب استفادة مرتكب الفعل الإجرامي منه).
وتفعل المحكمة ذلك من تلقاء نفسها حتى ولو لم ينتبه الى ذلك المتهم نفسه باعتباره من القواعد المتعلقة بالنظام العام، وان تقدير ما إذا كان التشريع أصلح ام لا مسألة موضوعية يقوم بها قاضى الموضوع تحت رقابة من محكمة النقض وان محكمة النقض تفصل في ذلك أي في حالة وجود قانون أصلح للمتهم من تلقاء نفسها وقد نصت على ذلك المادة 35 من القانون رقم (57) لسنة (1959) بشأن حالات واجراءات الطعن امام محكمة النقض.

ويلاحظ ان في التشريعات الاجرائية الجنائية لا رجعية للنصوص فيها حتى ولو كانت في صالح المتهم وانما الرجعية مقصورة على الاحكام الموضوعية (فاذا اشترط التشريع الإجرائي الجديد الموافقة الجماعية لأعضاء المحكمة للحكم بالإعدام او المؤبد فلا يستفيد منه المتهم الذي تمت محاكمته في ظل تشريع كان يكتفى بأغلبية حتى ولو لم يصبح الحكم بعد نهائياً).

معايير تقدير ما إذا كان النص أصلح أم أسوأ في مواجهة المتهم

اكتفى المشرع بتقرير سريان النص الاصلح بأثر رجعى ولم يضع معايير مباشرة لتقدير ما إذا كان النص أصلح ام لا، وثمة عدة ضوابط استخلصها الفقه والقضاء في هذا الصدد يتوقف تطبيقها على ما إذا كانت المقارنة تجرى بين نصين أحدهما بكامله اشد والاخر بكامله أخف او كان النص الجديد يتضمن احكاماً فرعية بعضها أخف والاخر اشد او كانت هناك عدة نصوص متعاقبة منذ لحظة وقوع الجريمة وذلك على التفصيل الآتي:

التمييز بين نصين أحدهما أشد و الآخر أخف

يقوم القاضي بإجراء موازنة بين النص الجديد وبين النص القديم الذي وقعت الجريمة في ظله، ومن البديهي ان تلك الموازنة عمل قضائي لا شأن للمتهم بها وانما يقرر القاضي ذلك على ضوء المعايير القانونية أي بالنظر الى الاثار الجنائية التي يرتبها قانون العقوبات دون غيره من فروع القانون، فالنص الاصلح هو الذي يضع المتهم تطبيقاً لأحكام قانون العقوبات في مركز أفضل ولو كانت هناك اثار مدنية او ادارية او تأديبية شديدة الوطأة عليه.
ولمعرفة ما إذا كان وضع المتهم أفضل او اسوأ في ظل النص الجديد يحسن التمييز بين مجالي التجريم والعقاب
ففي مجال التجريم: يكون النص الجديد اصلح للمتهم اذا كان قد الغى النص القديم او ابقى عليه او قرر سبب اباحة جديد يحول دون تطبيقه على المتهم المستفيد من الاباحة او استحدث سببا جديدا يفلت بموجبه المتهم من العقاب كتقرير مانع مسؤولية ( لصغر سن او اكراه او عاهة عقلية مثلاً) او مانع عقاب (كالنص على اعفاء من العقاب لعضو عصابة انفك عنها) و في ذات الاتجاه يعد النص الجديد اصلح للمتهم اذا ضيق من دائرة التجريم ( كما لو اضاف شرطا جديدا لتطبيق قانون العقوبات على جريمة وقعت في الخارج او عنصراً اضافياً او شرطاً اولياً لقيام الجريمة كان يشترط لذلك ارتكاب عدة افعال بدلاً من فعل واحد او يتطلب صفة خاصة في الجاني لم يكن يتطلبها النص القديم او وقوع الجريمة في مكان معين او في زمان معين خلافاً للمعمول به في ظل النص القديم و هكذا ) و غنى عن البيان ان النص الجديد يكون اشد في الفروض العكسية لكل ما سبق
وفي مجال العقاب: يعد النص الجديد بوجه عام أصلح للمتهم إذا كان يتضمن قدراً من الايلام العقابي اقل مما كان يشتمل عليه النص القديم، فالموازنة هنا تجرى بين العقوبة المقررة في النصين لمعرفة ما إذا كانت العقوبة الواردة في النص الجديد أخف ام اشد ويلجأ في هذا الصدد الى المعايير القانونية في تدرج العقوبات على النحو التالي:
ينظر اولاً الى مدى اختلاف العقوبتين من حيث النوع: فعقوبات الجنايات اشد دائماً من عقوبات الجنح وهذه الاخيرة بدورها اشد من عقوبات المخالفات وذلك بصرف النظر عن مدة العقوبة وتطبيقا لذلك (تكون عقوبة السجن باعتبارها عقوبة جناية اشد دائماً من عقوبة الحبس باعتبارها عقوبة جنحة ولو كانت مدة السجن اقل وفي مقابل ذلك إذا كانت العقوبة في النص الجديد هي الحبس بدلاً من السجن في النص القديم فان النص الجديد يكون أصلح للمتهم ولو كان الحبس اطول).
إذا كانت العقوبتان في النصين متحدتين في النوع بان كانت كلتاهما مقررتين للجنايات او للجنح فأشدهما هي اعلاهما في سلم التدرج الخاص بعقوبات كل نوع: وتدرج عقوبات الجنايات من الاشد الى الاخف على النحو التالي:
الاعدام
السجن المؤبد
السجن المشدد
السجن
وتتدرج عقوبات الجنح من الاشد الى الخف على النحو التالي:
الحبس مع الشغل
الحبس البسيط
الغرامة
ويتضح من ذلك ان التدرج في العقوبات وليس التدرج في المدد (فعقوبة السجن المشدد لمدة ثلاث سنوات اشد دائماً من عقوبة السجن ولو كانت مدة هذه الاخير اطول وعقوبة الحبس مع الشغل اشد من عقوبة الحبس البسيط ولو كانت مدة هذه الأخيرة اطول وهكذا)
إذا اتحدت العقوبتان في النوع والدرجة (كما لو كانتا سجنا مشدداً او سجناً او حبساً او غرامة) فأشدهما هو ما يتضمن قدراً أكبر من الايلام العقابي: أي مدة اطول من سلب الحرية او مبلغاً أكبر من الغرامة (فمن البديهي ان الحبس لثلاث سنوات كحد اقصى أخف من الحبس الذي لا يزيد على ست سنوات)

إذا اتحدت العقوبتان في النوع والتدرج والكم يلجأ الى الاعتبارات الاضافية التي استحدثها او حذفها النص الجديد: فاذا أتى النص الجديد بعقوبة تبعية او تكميلية لم يأخذ بها النص القديم (كمصادرة او عزل من الوظيفة او الحرمان من حق او ميزة ما……….) كان بداهة نصا اشد وفي مقابل ذلك إذا حذف مثل هذا النص الايلام العقابي الإضافي الذي كان معمول به في ظل النص القديم اعتبر نصاً أخف، ومن البديهي كذلك ان النص الذي يضيف الى عقوبة الحبس كما كان يأخذ بها النص القديم عقوبة الغرامة يعد نصا أشد.

شمول النص الجديد أحكاماً أشد و أخرى أخف

قد يأتي النص الجديد بتعديل مزدوج فيكون في شق معين اشد واخر أخف فكيف تجرى الموازنة بينه وبين النص القديم؟
للإجابة يتعين التمييز بين ما إذا كانت تلك الاحكام قابلة للفصل بينهما ام لا
حالة قابلية الاحكام للفصل فيها
اذا كانت الاحكام الاشد و الاخرى الاخف في النص الجديد قابلة للفصل بينهما أي يمكن تطبيق كل منهما استقلالاً عن الاخرى فان كلا منهما يخضع للقاعدة الخاصة به: فالحكم الاشد لا يسرى باثر رجعى و انما يطبق فحسب بأثر فورى على ما يقع بعد العمل به و الحكم الاخف يسرى باثر رجعى على الماضي و تطبيقا لذلك ( اذا تضمن النص الجديد تشديد العقوبة على المتهم العائد الى الاجرام و سمح في ذات الوقت بإيقاف التنفيذ او هبط بحدها الاقصى في مواجهة المتهم المبتدئ طبق الشق الاخير باثر رجعى و امتنع تطبيق الحكم الاول على من اعتبروا عائدين وفقا للنص القديم )
حالة عدم قابلية الاحكام للفصل بينهما
أي إذا كان النص الجديد يجمع بين التشديد والتخفيف على نحو يتعذر معه الفصل بين الشقين فهو من زاوية اشد ولكنه من زاوية اخرى أخف من النص القديم، فهنا يثور التساؤل فكيف تجرى الموازنة بين النصين في هذا الصدد؟
للإجابة على هذا التساؤل لا ينظر الى شق التخفيف وحده ويقال ان النص أصلح في كل الحالات ولا ينظر الى شق التشديد وحده ويقال ان النص اشد في كل الحالات وانما يلجأ الى طريقة التقدير الواقعي أي ينظر الى انطباق النص على الحالة الواقعية وعلى المتهم بالذات ويستبعد التقدير المجرد الذي يتناول النص من الناحية النظرية او يستشف الاتجاه العام للنص
ومعنى ذلك انه لا يمكن القول بطريقة مطلقة ان القانون الجديد هو الاصلح في كل الحالات و في مواجهة كافة المتهمين او القول بعكس ذلك لان لتحديد ايهما افضل يقوم القاضي بموجب سلطاته التقديرية بأجراء موازنة بين أي النصين افضل للمتهم و ذلك بالنظر الى ظروف كل متهم على حدة، و غنى عن البيان ان القاضي في كل الحالات لا يكون في وسعه سوى تطبيق قانون وحيد اما القديم او الجديد و ليس في مقدوره ان يصطنع قانونا جديدا حده الادنى هو الاقل في القانونين و الاقصى هو الاقل فيهما (فاذا مثل امام القاضي المتهمان زيد و عبيد و رأى ان ظروف القضية تقتضى اخذ الاول بالرأفة و الثاني بالشدة فان اصلح القانونين بالنسبة للأول هو الذى يتضمن حداً ادنى اقل من الاخر و لو كان حدة الاقصى اعلى لان الفرض ان القاضي سوف يختار العقاب متجهاً ببصرة صوب الحد الادنى و في مقابل ذلك فان اصلح القانونين بالنسبة لمن يراد اخذه بالشدة هو القانون الذى يتضمن حداً اقصى اقل و لو كان حدة الادنى اعلى لان القاضي (في مواجهة هذا المتهم بالذات سينظر تجاه الحد الأقصى لا الأدنى)
فاذا كان النص القديم ينص على عقوبة الحبس لمدة لا تتجاوز ستة أشهر وجاء النص الجديد ورفعها الى سنة مع السماح بإيقاف التنفيذ فان أصلح للمتهم الذي يراد اخذه بالرأفة هو القانون الجديد لان القاضي حينئذ سوف يفيد المتهم من ايقاف التنفيذ، اما المتهم الذي يراد اخذه بالشدة فأصلح القانونين بالنسبة له هو القانون القديم الذي يتضمن حداً اقصى اقل لان القاضي حينئذ سيختار عقوبة تنفذ دون ايقاف
وهكذا يترتب على طريقة التقدير الواقعي تطبيق النص الجديد او القديم وفق ظروف كل قضية على حدة
تعاقب عدة قوانين منذ لحظة وقوع الجريمة
قد تقع الجريمة في ظل نص معين وفي المرحلة الوسطى من الاجراءات كالاستدلال والتحقيق يصدر نص أصلح ثم يطول امد النزاع فيصدر نص ثالث اشد من الثاني وأخف من الاول اثناء المحاكمة وقبل الحكم النهائي، فهل يتم تقدير القانون الاصلح بالمقارنة بين النصوص الثلاثة ام بين الاول والثالث باستبعاد النص الوسيط؟ لا صعوبة إذا كان القانون النافذ وقت المحاكمة هو اشد القوانين المتنازعة فحينئذ لا يسرى بأثر رجعى ولا صعوبة كذلك إذا كان القانون أصلحهم جميعا فحينئذ يسرى بأثر رجعى

ولكن تثور المشكلة إذا كان القانون الوسيط هو أصلح القوانين الثلاثة، ولكن الراجح وهو ما يجرى عليه القضاء ان ذلك القانون يكون واجب التطبيق رغم انه لم يكن له وجود وقت المحاكمة والحجة في ذلك ان هذه هي النتيجة الطبيعية للمقارنة بين القوانين المتزاحمة وانه لا يجوز ان يضار المتهم من تأخر في الاجراءات يفوت عليه فرصة الاستفادة من ذلك القانون وهو عامل لا دخل لإرادته فيه

ثانيا: صدور النص الجديد قبل الحكم نهائياً على المتهم

ينطوي هذا الشرط بدورة على شقين او شرطين فرعيين يتعلق اولهما بصدور النص وثانيهما بتوقيت صدوره
اولاً-فيما يتعلق بصدور النص: لا يسرى النص الجديد بأثر رجعى الا إذا كان قد مر بالفعل بمرحلة الاصدار وفقاً للإجراءات المتبعة في اصدار التشريعات كما يحددها الدستور أي يكفي ان يكون رئيس الدولة قد أصدر النص الجديد تمهيداً للعمل به ويكتفى المشرع في هذا الصدد بمحض الاصدار فلا يلزم لرجعية النص الجديد الاصلح للمتهم ان يكون قد تم نشره في الجريدة الرسمية ولا حتى ان يكون بدأ العمل به وفقا لقواعد نفاذ القوانين ولهذا يثور هنا تساؤل لماذا لا يشترط المشرع ان يتم العمل به من وقت نشره في الجريدة الرسمية؟ الرد على هذا التساؤل هو بهدف التعجيل بإفادة المتهم من النص الاصلح بمجرد اصداره و ذلك يرجع الى اعتبارات متعلقة بالعدالة و اعتبارات اخرى متعلقة بمصلحة كل من المجتمع و الفرد و حتى لا يحدث اخلال بميزان العقاب حينما يظل الجاني خاضعاً للنص القديم الاشد بينما يخضع مرتكب ذات الفعل بعد العمل بالقانون الجديد الاصلح لهذا القانون الجديد فيتفاوت بذلك مصير كل منهما رغم تطابق فعليهما، و ايضا لانتفاء العلة من نشره في الجريدة الرسمية لان الهدف من النشر هو اعلام الكافة بالقانون الجديد ولكن هنا لا يوجد اهمية الى معرفة الكافة أي لا مصلحة في ذلك ليتم تطبيق القانون الجديد وذلك تغليباً لمصلحة المتهم لان النص الجديد الذى يراد تطبيقه بالطبع يضعه في موضع افضل .
ثانيا- فيما يتعلق بتوقيت صدور النص الاصلح: هنا يلزم ان يكون صدور النص الاصلح في تاريخ سابق على صيرورة الحكم في مواجهته نهائيا، ومن المستقر عليه ان المقصود في هذا الصدد هو الحكم البات وليس الحكم النهائي ولهذا يجب التفرقة بين الحكم البات والحكم النهائي؟
(الحكم النهائي )هو الذى استنفذ طرق الطعن العادية (المعارضة و الاستئناف) وان ظل قابلاً للطعن فيه بالطريق غير العادي، اما (الحكم البات) فهو الذى استنفذ طرق الطعن العادية و الغير عادية وبذلك يصبح غير قابل للإلغاء لذلك فالمقصود من النص هنا هو الحكم البات، و مؤدى ذلك انه يكفى و يلزم ان يصدر النص الجديد في أي لحظة قبل ان يصبح الحكم بات فقد يصدر في مرحلة التحقيق او في مرحلة المحاكمة قبل صدور حكم في الموضوع او اثناء الميعاد المقرر للطعن او اثناء نظر الطعن امام المحكمة المختصة حتى و لو كانت هذه الاخيرة هي محكمة النقض فطالما لم يصبح الحكم باتاً بانقضاء مدة الطعن او الفصل فيه بالفعل يستفيد المتهم من النص الجديد الاخف، و يتعين على محكمة النقض ذاتها انزال هذا النص على الواقعة المعروضة امامها و ان تفصل في ذلك من تلقاء نفسها وقد اكد على ذلك نص المادة 35 من القانون رقم (57) لسنة (1959) بشأن حالات واجراءات الطعن امام محكمة النقض.
وهذا الشرط مبعثه الرغبة في تحقيق الاستقرار القانوني لان تطبيق غير ذلك سوف يؤدى الى مشكلات عملية وقانونية عديدة ويخل بقوة الحكم البات كعنوان للحقيقة
ويرد على ما سبق استثناء يستفيد بمؤداه الشخص من القانون الاصلح له على الرغم من صدور حكم نهائي في الدعوى، و يقتصر هذا الاستثناء على الحالة التي يصدر فيها القانون جاعلاً الفعل الذى حكم على المتهم من اجله غير معاقب عليه أي انه رفع العقوبة اطلاقاً بأن ازال عن الفعل وصف التجريم او قرر مانعاً من موانع العقاب ففي هذه الحالة لا يلغى الحكم الصادر و انما يوقف تنفيذه و تزول الاثار الجنائية المترتبة عليه و ذلك طبقاً لنص الفقرة الثانية من المادة الخامسة من قانون العقوبات و جاء فيها ان ( اذا صدر قانون بعد حكم نهائي يجعل الفعل الذى حكم على المجرم من اجله غير معاقب عليه يوقف تنفيذ الحكم و تنتهى اثارة الجنائية )
وقد خص المشرع هذه الحالة المميزة للنص الاصلح بهذا الحكم تغليباً لاعتبارات العدالة على اعتبارات الاستقرار القانوني لان النص الجديد في الفرض محل البحث يحدث تعديلاً جوهرياً في نظرة المجتمع للتجريم وهو ما يجب ان يستفيد منه الجميع والقول بغير ذلك سوف يصدم العدالة لأنه يعنى حينئذ تفاوتاً في مصائر المتهمين مرتكبي افعال متماثلة فمنهم من يفلت من العقاب لوقوع افعالهم بعد العمل بالنص الجديد ويظل الاخرون محلاً للعقاب لان الحكم في مواجهتهم كان قد أصبح باتا
ويختلف تأثير النص الاخف بالمعنى السابق على مصير المحكوم عليه بحكم بات تبعاً لما إذا كان قد بدأ في تنفيذ عقوبته ام لا: فاذا لم يكن التنفيذ قد بدأ أصبح من غير الممكن اتخاذ أي اجراء من اجراءات التنفيذ (كما لو كان المحكوم عليه بالحبس لم يودع السجن او المحكوم عليه بغرامة لم يدفع أي جزء منها)
وإذا كان التنفيذ قد بدأ بالفعل (بسلب الحرية أو بتحصيل الغرامة مثلاً) يوقف التنفيذ فوراً ويخلى سبيل المحبوس او يوقف تحصيل الغرامة

وإذا كان الحكم ينتج اثراً قانونياً محدداً (كاعتباره سابقة في العود او اساساً للحرمان من حق او مزية معينة) تنتهي هذه الاثار فوراً.

القيد التشريعي على رجعية النصوص الأصلح

القوانين محددة الفترة هي تلك التي يمتد سريانها الزمنى لفترة محددة استثناء من التشريعات النافذة في الاوقات العادية (أي هي التشريعات الموضوعة لمواجهة ظروف خاصة لا يمكن مجابهتها بالقوانين العادية )، بحيث تعود هذه الاخيرة الى السريان من جديد عقب انتهاء الفترة التي عمل فيها بالقانون محدد الفترة و الفرض بطبيعة الحال ان مثل هذا القانون الاخير يأتي بأحكام اشد من تلك التي يعمل بها في الاوقات العادية لان المشرع هنا يواجه فيها ظروفاً استثنائية تتطلب سياسة جنائية اشد ردعا، كما ان العلة في رجعية القوانين الاصلح للمتهم لا تعد قائمة او متوفرة في القوانين محددة الفترة
والقوانين محددة الفترة نوعان: نوع يكون فيه التأقيت بنص يحدد مسبقاً تاريخ انتهاء العمل بالقانون دون حاجة الى استصدار تشريع جديد
ونوع يكون التأقيت فيه من طبيعة القانون ذاته والذي يسرى في ظروف استثنائية تمر بها البلاد (كحالة الطوارئ) ولا يعرف على وجه التحديد متى سوف تنتهي
ولا صعوبة إذا وقعت الجريمة في فترة نفاذ النص المؤقت بالمعنى السابق فحينئذ تطبق القاعدة العامة ويطبق القانون المعمول به وقت ارتكاب الجريمة، والفرض انه اشد من القانون النافذ في الاوقات العادية
اما إذا كانت الجريمة قد وقعت في ظل النص العادي وقبل انغلاق الدعوى بحكم بات صدر النص المؤقت الاشد فان هذا الاخير لا يسرى على تلك الجريمة بأثر رجعى
وتثور الصعوبة حينما تقع الجريمة في ظل النص محدد الفترة وتحرك الدعوى في مواجهة المتهم ثم تنقضي الفترة المؤقتة دون ان يكون قد صدر في مواجهته حكم بات او يكون مثل ذلك الحكم قد صدر ولم يشرع بعد في تنفيذه او نفذ تنفيذاً جزئياً فحسب
فهل يعود القانون القديم (العادي) الى السريان من جديد في هذه الحالة؟ والفرض انه أصلح من القانون المؤقت ليطبق على كافة الجرائم التي لم يفصل فيها بحكم بات، وهل يستمر نظر الدعوى التي بدا تحريكها في ظل النص المؤقت رغم انتهاء العمل بهذا النص؟ وهل تنفذ او يستمر تنفيذ العقوبات المحكوم بها تطبيقا للنص المؤقت؟
إذا ترك الامر للقواعد العامة أصبح القانون المؤقت عديم القيمة بانتهاء مدة العمل به وعاد القانون القديم الى السريان من الجديد
ولتفادي تلك النتيجة على وجه التحديد أتى المشرع بنص خاص هو الفقرة الاخيرة من المادة الخامسة من قانون العقوبات والتي تقضى بانه (في حالة قيام اجراءات الدعوى او صدور حكم بالإدانة فيها وكان ذلك عن فعل وقع مخالفاً لقانون ينهى عن ارتكابه في فترة محددة فان انتهاء هذه الفترة لا يحول دون السير في الدعوى او تنفيذ العقوبات المحكوم بها.
ومؤدى ذلك ان النص محدد الفترة الذي وقعت الجريمة في ظله سيظل واجب التطبيق عليها على الرغم من انتهاء مدة سريانه، طالما ان الدعوى كانت قد حركت في ظل ذلك النص او كان حكم القاضي بالإدانة لم ينفذ كاملاً وهناك رأى يقول ان (من البديهي انه لا محل لتطبيق هذا القيد إذا انقضت الفترة المؤقتة دون ان تكون الدعوى قد حركت بالفعل فيها فحينئذ لا يجوز تحريكها ابتداء وفقاً للقانون محدد المدة
غير ان هناك رأى اخر يقول بان (المتهم لا يستفيد من الغاء التشريعات المؤقتة سواء تم تحريك الدعوى الجنائية ضده اثناء سريان هذه التشريعات ام تم تحريكها بعد الغائها)
ويذهب لتأييد الرأي الاول الزميل الباحث (شكري أبو رحيل) وفي بيان ذلك يقول: ان الرأي الثاني يخلط ما بين قيام اجراءات الدعوى ضد المتهم وبين مرحلة المحاكمة او التحقيق الابتدائي، فاذا توافرت العلة في الثانية فهي منتفية في الاولى، وبالتالي إذا كانت واقعة الدعوى لم تكتشف او لم يبلغ عنها الا بعد انتهاء الفترة المحددة لسريان القانون، فان المتهم يستفيد من انتهاء هذه الفترة رجوعا الى القاعدة الاصلية، وهي سريان القانون الاصلح بأثر رجعى.
ومن غير المعقول ان يعاقب شخص على فعل غير مجرم او معاقب عليه بعقوبة غير المقررة بالقانون المؤقت وفقاً للقانون الساري لحظة اكتشاف الجريمة او الابلاغ عنها
والقول بأن المشرع ذهب الى اجازة قيام اجراءات الدعوى حتى بعد انتهاء مدة القانون المؤقت تأسيسا على ما ورد بالمذكرة الايضاحية من ” انه لا يجوز ان يستفيد المتهم او المحكوم عليه من مضى المدة التي ينتهى فيها القانون عن فعل او بأمر منه، وإلا ضاع الغرض المقصود من القانون ” هو رأى محل نظر، اذ ان غرض المشرع ذهب الى نفى فكرة تطبيق القانون الاصلح و التي مؤداها تطبيق القانون الاصلح للمتهم مادام لم يحكم عليه بحكم بات، أي ان النفي الوارد بالنص اعلاه متعلق بمرحلة المحاكمة و لا يمت بصلة الى فكرة عدم استفادة المتهم من مضى المدة حال عدم قيام اجراءات الدعوى.
أضف الى ذلك ان الاعتداد بالقانون الساري اثناء اتيان الفعل المجرم من شأنه منح سلطات الضبط القضائي فرصة كبيرة في الاعتداء على حرية الافراد، فطبقاً للرأي الثاني، يملك مأمور الضبط القضائي تحريك اجراءات الدعوى وقت ما يشاء حتى وأن نمت الجريمة الى علمه، بل ومن الممكن استخدام ذلك لإرهاب وتهديد الفاعل دون تحريك اجراءات الدعوى وذلك من وقت انتهاء الفترة المحددة والتي تاريخ تقادم الدعوى الجنائي، مما يمثل اقصى صور مخالفة الحقوق والحريات.
أيضاً الرأي الثاني من شانه امهال اجهزة البحث فترة او مدة كبير يجوز لها فيها تحريك اجراءات الدعوى وهي حتى تقادم تاريخ تقادم الدعوى الجنائية، مما قد يؤدى الى التراخي في مسألة البحث قبل انتهاء المدة على اعتبار ان الوضع سيظل على ما هو عليه بعد انقضاء المدة المحددة وذلك حتى تاريخ تقادم الدعوى الجنائية.
ورغم وجاهة اسانيد الزميل في الرأي الاول الا ان الباحث يؤيد الرأي الثاني لان العبرة بوقت ارتكاب الجريمة أي سواء تم تحريك الدعوى الجنائية ضده اثناء سريان هذه التشريعات ام تم تحريكها بعد الغائها وذلك لتحقيق العدل والمساواة بين مرتكبي ذات الفعل في نفس الوقت الذي صدر فيه قوانين استثنائية، ولذلك يرى الباحث ان الفقرة الاخيرة منالمادة 5 من قانون العقوبات قاصرة عن توضيح إذا كانت العبرة بوقت ارتكاب الجريمة ام تحريك الدعوى
والعلة وراء هذا القيد التشريعي واضحة وهي كما جاء في المذكرة الايضاحية انه لا يجوز ان يستفيد المتهم او المحكوم عليه من مضى المدة التي ينهى القانون عن فعل او يأمر به وإلا ضاع الغرض المقصود بالقانون، هذا فضلا عن ان اعادة القانون العادي الى السريان من جديد في مثل هذا الفرض يشجع الافراد على التحايل باطلة امد النزاع حتى تنقضي الفترة المؤقتة ويعود القانون الاخف الى السريان من جديد.

المراجع
مدخل العلوم القانونية.نظرية القانون.ا.د/ محمد عبد الظاهر حسين.دار النهضة العربية

مبادئ قانون العقوبات العام.ا.د/احمد عوض بلال.دار النهضة العربية

شرح قسم القانون العام.أ.د/اسامة عبد الله قايد.دار النهضة العربية

المبادئ العامة للجريمة والعقوبة.القسم الاول.ا.د/حسن ربيع.دار النهضة العربية