بحث قانوني حول التطور التاريخي لديوان المظالم

د.يحيي بني طه

ان الهدف من تتبع التطور التاريخي لديوان المظالم في عصر الدولة الاسلامية وصولا الى شكله الحديث، هو التعرف على الية النظر في مظالم الناس. “وتظهر أهمية هذا التقديم التاريخي من ان تاريخ القانون هو أداة لفهم القوانين الحديثة والمبادئ الحالية، ووسيلة نتعرف بها على مقدار الاثر القانوني الذي أحدثته النظم والشرائع القديمة في تكوين النظم المعاصرة”.( ) ينقسم هذا االمبحث الى فرعين: الفرع الاول يوجز تاريخ ديوان المظالم في العصور الاسلامية، أما الفرع الثاني فيتناوله في العصر الحديث، في الاردن على وجه الخصوص.

الفرع الاول : ديوان المظالم في العصور الاسلامية
ان العدل ورفع الظلم يعتبر من الركائز التي قام عليها الاسلام. وقد ورد التأكيد على تحريم الظلم في العديد من النصوص القرانية الكريمة والنصوص النبوية، وهي نصوص عامة تشمل الحاكم والمحكوم وتنطبق بحق الحكام ورعاياهم. ومنها قوله عز وجل” ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون”.( ) وقوله تعالى ” احشروا الذين ظلموا وأزواجهم”.( ) وقوله تعالى “فادع واستقم كما امرت ولاتتبع اهوائهم وقل امنت بما أنزل الله من كتاب وأمرت لاعدل بينكم”.( ) كما ورد كذلك العديد من الاحاديث النبوية الشريفة التي تؤكد ذات المعنى، منها “ما جاء في الحديث القدسي: يقول الله تعالى: يا عبادي اني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا”.( )

و على ذلك، فان الشرع أجاز محاسبة الحاكم اذا قصر في أداء واجباته، “ولكل مسلم أو لغير المسلم الحق في الشكوى لرفع أي مظلمة تقع عليه من قبل الحاكم”.( ) ونجد العديد من الشواهد على امتداد العصور الاسلامية التي تدل على حق الفرد في التظلم من الادارة الرسمية بسبب افعالها، لكن لابد من الاشارة الى أن اسلوب رفع المظالم يختلف من زمان الى زمان، حيث ان اسلوب النظر في مظالم الناس ورفعها يتفق مع طبيعة كل مرحلة. ففي حياة النبي عليه السلام ” اقر الرسول الاكرم، على ما يرويه ابن هشام، ما ذهب اليه عرب مكة قبل الاسلام من التحالف على رفع الظلم عمن يظلم في مكة سواء كان من أهلها أو ممن يدخلها من غيرهم، وهو ماسمي (حلف الفضول). وقد ذهب البعض الى أن واقعة اقرار الرسول لهذا الحلف، هي مما يعتمد في مشروعية قضاء المظالم، سنة. فالماوردي بعد أن أورد هذا الحديث النبوي قال انه: (وان كان فعلا جاهليا دعتهم اليه السياسة، فقد صار بحضور النبي و ما قاله في تأكيد امره حكما شرعيا وفعلا نبويا”.( )

ان أول من طبق النظر في المظالم، هو النبي عليه الصلاة والسلام،”و لكنه لم يكن بشكله الذي كان عليه في الخلافة الاموية بعد ذلك، وكان ذلك طبيعياً، اذ لم يكن في عهد الدولة النبوية ما يستدعي وجود ولاية المظالم الا في حالات قليلة.) ( “كانكار النبي لما قام به خالد بن الوليد تجاه قبيلة جذيمة من عرضهم على السيف، حيث قال النبي عليه السلام( اللهم اني أبرأ اليك مما صنع خالد بن الوليد) فودى لهم النبي دماء القتلى وما اصيب لهم من الاموال”.( ) وهذا من قضاء المظالم.( )

و على هذا النهج سار الخلفاء الراشدين، ومن ذلك استغلال موسم الحج للنظر في شكاوي الناس وايجاد الحلول لمشكلاتهم. “حيث كان الحج مجمعا لعمال الدولة يلتقون فيه مع الخليفة، وكان أول من أحدث ذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه. يقول الطبري:( وكان من سنة عمر و سيرته أن يأخذ عماله بموافاة الحج في كل سنة للسياسة، وليحجزهم بذلك عن الرعية، وليكون الحج لشكاة الرعية وقتا وغاية ينهونها فيه اليه). فكان الخليفة عمر بن الخطاب يعمل على اراحة الرعية من ضغط العمال وموظفيهم، ويستمع لاصحاب الشكاوي على العمال لحل مشاكلهم ورفع الظلم عنهم”.( ) “وقد حرص الخلفاء الراشدين على نظر المظالم بأنفسهم، وعلى اقامة العدل والمساواة بين الخصوم مهما كانت درجاتهم ودياناتهم”.( )

أما في العهد الاموي فقد تطور قضاء المظالم بسبب “اختلاط رغبة الحاكم في ارساء حكمه والرضوخ للشريعة الاسلامية، مع اعطاء الاهمية للمحافظة على مؤسسة الحكم قوية. وكثر تظالم الناس ومجاهرتهم بذلك قولا وتطبيقا، ولم يعد الوعظ وتأثير الشريعة كافيا لردع الظالم”.( ) “بالاضافة الى أن اتساع الامبراطورية الاسلامية أدى الى تنوع أقضيتها واستحداث قضايا جديدة، كما أدت كثرة اغتيال الخلفاء والامراء الى احتجابهم عن الرعية واتخاذ الاعوان والحجاب، فكانت ولاية المظالم واستقلت عن القضاء، وصار لها وال مختص بنظرها. ثم أصبح لها ديوان خاص يعرف بديوان المظالم ويسمى رئيسها بناظر المظالم”.( ) وقد كان عبدالملك بن مروان أول من خصص يوما يتلقى فيه شكاوى المتظلمين، فاذا وجد فيها مظلمة أحالها الى قاضيه. أما الخليفة الخامس عمر بن عبد العزيز فقد أرسى قواعد هامة في قضاء المظالم، فالغى الاعمال التي تخالف الشرعية وفرض التعويض للمتضرر تطبيقا للسنة النبوية. وتصدى لحكام الاقاليم وولاة الامر الذين عرفوا بتجاوزهم على حقوق الناس وحرياتهم.( ) “وهو الذي بدأ بنفسه وباهل بيته وأبناء عمومته من الامويين”.( )

تطور قضاء المظالم بشكل كبير في العهد العباسي “حيث استقر هذا القضاء بولاية خاصة مستقلة، فأصبحت المظالم تناط بقاض خاص ويعقد له مجلس خاص منذ أيام الخليفة العباسي الثالث المهدي في القرن الخامس الهجري. كما بدأ تقديم المظالم بشكل مكتوب. وكان من أهم اختصاصات قاضي المظالم النظر في تعدي الولاة على الرعية، والاموال المغصوبة من قبل الولاة و المتنفذين، ونقص مخصصات الموظفين وتأخرها”.( )

نخلص مما سبق أن نظر المظالم في العصور الاسلامية كان يهدف الى ارساء المشروعية و لايقبل الانحراف أو التجاوز في السلوك الاداري تجاه الافراد و هو بذلك بسعى لتحقيق المصلحة العامة. فالدولة والفرد يخضعان لاحكام الشريعة الاسلامية. وفي هذا الاطار تجر الاشارة الى أن هناك قول مفاده:” أن دولة السويد طبقت نظام وقانون ديوان المظالم كرد للجميل للدولة العثمانية التي استضافت الملك السويدي تشارلز الثاني عشر واعادته الى ملكه عام 1805، أي أن ديوان المظالم ليس من مستحدثات الفكر الغربي ولكنه من الفكر الاسلامي”.( )

الفرع الثاني: ديوان المظالم في العصر الحديث
ان ديوان المظالم في الاردن يشبه نظام الامبودسمان المطبق في بعض الدول الغربية. وكلمة امبودسمان،” كلمة سويدية تعني المفوض أو الوكيل أو الممثل، وهو نظام يطلق على شخص مكلف من قبل البرلمان بمراقبة الادارة والحكومة، فكانت مهمته وسطا بين الرقابة البرلمانية والرقابة القضائية”.( ) “وقد استحدث نظام الامبودسمان في السويد استنادا الى دستور (1809)،( ) وبقي مقتصرا على السويد لفترة طويلة،) ( وكانت الغاية منه تحقيق رقابة السلطة التشريعية على السلطة القضائية والتنفيذية”.( ) ومن الاسباب التي أدت الى ظهور هذا النظام في السويد هو ما عانته من صراعات بين الملك والبرلمان في تلك الفترة، فتارة ينتصر الملك فيستقل بالسلطة بلا منازع وتارة اخرى ينتصر البرلمان فتقيد سلطة الملك الى أقصى حد، وقد أدت هذه الفوضى الى ضرورة استحداث نظام يحقق التوازن بين هاتين السلطتين فكان هذا النظام، ما اصطلح عليه بالامبودسمان. والذي تطور حتى بات يطلق عليه اسم ( حامي المواطن) فهو الشخص الذي يلجأ اليه المواطن طالباً حمايته وتدخله اذا ما صادفته مشاكل أو صعوبات مع الحكومة أو الجهات الادارية.( )

وكان من نتائج نجاح هذا النظام في السويد أن نقلته عنها الدول الاسكندنافية،ثم تلتها دول أخرى أوربية ودول انجلوسكسونية وبعض دول العلم الثالث، كما تطبقه بعض ولايات امريكا الشمالية وكندا.( ) “ونظرا للاختصاصات والواجبات المتعددة والمتداخلة التي يتولاها الأمبودسمان ولصعوبة ترجمة الكلمة إلى اللغات الأخرى مع احتفاظها بمضمونها المتعدد الجوانب, فإن الكلمة دخلت الى اللغات المختلفة كما هي في اللغة السويدية، وأصبحت معروفة الدلالة في أدبيات حقوق الإنسان وعند العاملين في هذا المجال. وقد سمّي بالاسم العربي في كلّ من السعودية والأردن ومصر”.( )

وكان من نتيجة” اختلاف ظروف ونظم الدول التي أخذت بالنظام، أن اختلفت اختصاصاته وطريقة تعين رئيسه. ( ) وعلى ذلك ضاق اخنصاصه أحيانا و توسع أحيانا اخرى،”ففي الدول الاسكندنافية له حق المبادرة في التفتيش على أعمال الجهات الادارية، نجد أن ليس له هذا الحق في انجلترا حيث لا يدرس الا الشكاوى التي تصله عن طريق أعضاء البرلمان”.( ) كما أن اختصاصه “في بعض الدول كفلندا والدنمارك، يمتد للرقابة على القضاء فيما يخص تأخير حسم الدعاوى أو عدم محافظتهم على المستندات والسجلات وسوء تنفيذهم للاحكام أو اخلالهم بالسلوك الواجب اتباعه في الجلسة أو خارج المحكمة، كما يسأل الامبودسمان القضاة عن الاحكام الصادرة خلافا للقانون”.( ) مع ما سبق من تفاوت في الصلاحيات، الا ان اختصاصه القائم على حماية حقوق المتعاملين مع الادارة العامة وضمان تحقيق المساواة والانصاف بقي هو الاصل. “أي أن الامبودسمان يختص بمراقبة عمل الموظفين العامين على كل المستويات للتحقق من مدى مطابقة أعمالهم للقوانين والواجبات الوظيفية.( ) وللامبودسمان الحق في التدخل من تلقاء نفسه أو بناءً على شكوى يتلقاها من الأفراد أو بأي وسيلة أخرى يعلم من خلالها بوقوع مخالفة فيعمل على توجيه الإدارة إلى وجوب اتباع أسلوب معين في عملها لتتدارك أخطائها، وله استجواب أي موظف في هذا الشأن”.) (

ومن الجدير بالذكر أن الهاشمين قد ساروا، “منذ عهد الملك عبدالله الاول، على نهج رفع الظلم عن المظلومين وسماع الشكاوى والاخذ بيد المظلوم من خلال المجالس التي تعقد للنظر في شكاوي المظلومين والزيارات الشخصية المفاجئة لالتماس معاناة المواطنين وحلها. وفي عهد جلالة الملك عبدالله الثاني بدأت الحكومة بالتفكير في استحداث جهاز مستقل عن الادارة من جهة وعن القضاء من جهة اخرى، يعالج ما قد تنطوي عليه الادارة الحكومية من اختلالات وتعقيدات لا تستجيب لاشكال الرقابة التقليدية، ما أدى الى سعي الحكومة لانشاء ديوان مظالم يعنى بمتابعة الشكاوى على الادارة العامة، وذلك بهدف تعزيز قواعد ومأسسة عملية التشكي والتظلم وفق مؤسسية واضحة من حيث الاختصاصات واليات العمل، وتعزيز التواصل مع الادارة العامة، وبناء قواعد مرجعية من شأنها زيادة الالتزام بالحقوق وأسلوب تقديم الخدمة العامة، وتعزيز ثقافة القانون”.( ) “وتخفيف العبء عن كاهل القضاء الاداري”.

وفي هذا الاطار باشر ديوان المظالم الاردني عمله في عام 2009. ليكون ملاذا للفرد في تظلمه من الادارة العامة سواء كان في الاردن أو خارجه، ولاي شخص مهما كانت جنسيته مقيم في الاردن أو كان في الخارج وتعامل مع مؤسسات الادارة العامة الموجودة خارج الاردن. وقد أختص بالنظر في التمييز أو عدم تحقيق المساواة في المعاملة الواقع من الادارات العامة أو موظفيها على متلقي الخدمة أو بين موظفي الادارة العامة ايا كان نوعه أو سببه، وكذلك في سوء الادارة أو الامتناع عن القيام باجراء اداري أو فعل أو ممارسة يوجبها القانون أو تقتضيها حسن الادارة، وايضا ينظر في الاجراءات أو الممارسات المشكو منها التي تستند الى أنظمة وتعليمات غير قانونية أو تعتمد معايير غير عادلة ومجحفة بحق أي من الاشخاص أو الفئات المستهدفة بتطبيقها، وأي تقصير أو اهمال اداري من قبل الادارة العامة أو موظفيها.( ) بعد هذه العرض التاريخي ننتقل فيما يلي الى المبحث الثاني الذي يتعلق بالزامية قرارات رئيس الديوان وطبيعتها وأنواعها.