إثبات أو نفي النسب بالوسائل العلمية الحديثة

ذ. زريويل محمد
أستاذ بكلية الحقوق بمكناس

تعتبر الوسائل العلمية التي توصل إليها العلم الحديث وسيلة فعالة تصل إلى حد اليقين في مجال إثبات النسب نظرا للتطور الهائل الذي عرفته هذه الوسائل، ولقد كانت المناداة دائما من طرف أغلب الفقه من أجل الأخذ بالوسائل العلمية في مجال إثبات النسب نظرا للمزايا التي لها في هذا المجال وكذلك لوجود أساس شرعي يمكن الاستناد عليه في الأخذ بها . وقد ا ستبشر المهتمون خيرا في بداية العقدين الأخيرين، من القرن الماضي عندما حققت العلوم البيولوجية طفرة منقطعة النظير حيث أصبح بالإمكان الاعتماد على ما لا يقل عن عشرين نظاما لفحص الدم فتكون داخل علم البيولوجيا مجموعة من العلوم مثل علوم الأجنة والخلايا البيولوجية الطبية والهندسة الوراثية1، التي تفيد الجزم وتحسم في مسألة الإثبات لخدمة الحقيقة القانونية والعلمية2 ، مسايرة بذلك روح العصر ومتطلباته. وهو ما استجابت له مدونة الأسرة باعتبارها خرجت من محيط التطورات التي عرفتها الحياة المجتمعية في المغرب في شتى الميادين، وإلى الاهتمام البالغ بالأسرة كنواة أولى في المجتمع. فالمدونة أكدت على إمكانية الاعتماد على الخبرة في مجال إثبات النسب بتوافر شروط معينة متجاوزة بذلك الوضع الذي كان في ظل مدونة الأحوال الشخصية حيث لم تنص هذه الأخيرة على إمكانية اعتماد الخبرة إضافة إلى العمل القضائي الذي كان يستبعدها في دعاوي النسب 3.
فما هي الوسائل العلمية الحديثة التي يمكن اللجوء إليها في إثبات النسب؟ وما مدى نجاعتها باعتبارها وسائل لإثبات ونفي النسب؟ وما هو موقف كل من التشريع والقضاء المغربي والمقارن من الخبرة الطبية ؟

المحور الأول
البصمة الوراثية كوسيلة قاطعة لإثبات ونفي النسب

جاء في بيان ختام أعمال المجمع الفقهي الإسلامي لرابطة العالم الإسلامي في دورته الخامسة عشرة, الذي انعقد بمكة المكرمة في 31 أكتوبر1998, حول موضوع البصمة الوراثية و مجال الإستفادة منها على أنه لو تنازع رجلان على أبوة طفل فإنه يجوز الإستفادة من استخدام البصمة الوراثية. ولعل هذا ما حذا بالمشرع المغربي إلى أن يتبنى هذه الوسيلة – البصمة الوراثية-لإثبات ونفي النسب محققا بذلك قفزة نوعية في النظام القانوني المغربي الذي يكون بذلك قد ساير أهم المستجدات العلمية، سابقا في ذلك تشريعات أخرى وهو ما سنتعرض له في بيان مفهوم ومزايا البصمة الوراثية وما موقعها من الأدلة الشرعية في إثبات أونفي النسب.

أولا : مفهوم ومزايا البصمة الوراثية ADN.
تلقت البشرية ميلاد وسيلة إثبات جديدة تعرف بإسم البصمة الوراثية لم تكن تعرفها من قبل و أن النتائج التي حققها الخبراء تؤكد ضرورة اتساع الشريعة الإسلامية لكل المحدثات التي يفرزها العلم بكل يسر واقتدار. سنقف أولا على ما المقصود بهذه الوسيلة العلمية ثم إلى إبراز أهمية ومزايا الأخذ بالبصمة الوراثية ثانيا.

– I مفهوم البصمة الوراثية.
عرفت المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية البصمة الوراثية بأنها “البنية الجنينية نسبة إلى الجينات المورثات التفصيلية التي تدل على هوية كل فرد بعينه، وهي وسيلة لا تكاد تخطئ في التحقق من الوالدية البيولوجية والتحقق من الشخصية” والصفات الوراثية تنتقل من الأصول إلى الفروع والتي من شانها تحديد شخصية كل فرد عن طريق تحليل جزء من حامض ADN 4 الذي تحتوي عليه خلايا جسميه وهو اختصار للاسم العلمي Acide Nucleaire doxy أي الحامض النووي الديبي الديوكوسي وسمي بذلك لأنه منزوع الأوكسجين وقد استخلص العلماء أنها تختلف من شخص إلى آخر، رغم أنها تتكون من مكونات واحدة، وإنما التركيب مختلف.
وأساس البصمة الوراثية يقوم على أن طبيعة الشخص والأمراض التي يصاب بها تكون محفوظة على هيئة جينات على شريط ADN. وقد اتضح أن هذا الحامض النووي ADN سلسلة طويلة تبلغ حوالي المتر، مرصوص عليها جينات يتراوح عددها من خمسين إلى مائة ألف، وكل جين مرتب في موقع معين على كروموزم معين كما أن الجين يتركب من زوجين متكررين من القواعد الزوج الأول يتكون من الأدنين والتايمين والزوج الثاني يتكون من الجوانين والسيتوزين كل زوج يتعاشق مع نفسه ثم يلتف مع الزوج الآخر بشكل حلزوني كشريط الأسطوانة حيث يبلغ عدد القواعد في الجين الواحد ثلاثين ألفا، وبذلك يكون الحامض النووي في الخلية الواحدة محتويا على مائة ألف جين. وهذا يتألف من ثلاثة بلايين زوج من القواعد كما ثبت أن هذه الجينات هي الشفرة التي تحمل سيرة الإنسان الذاتية في أدق التفاصيل الوراثية.
ويتم انتقال هذه المعلومات الوراثية من الأبوين إلى الطفل، وذلك باندماج كل من الحيوان المنوي الذي يحمل 23 صبغيا والبويضة التي تحتوي بدورها على 23 صبغي عن طريق الإخصاب مستكملة بذلك البويضة 46 صبغي الذي هو العدد الواجب للخلية في جسم الإنسان.
وللإشارة فإن هذه السلاسل تختلف من شخص لآخر، بحيث أن إمكانية التشابه بين شخصين في هذه السلاسل تكاد تكون معدومة أي أن لكل إنسان على وجه الأرض بصمته الوراثية الخاصة به باستثناء التوائم المتطابقة فهو تركيب ينفرد به الشخص تماما مثل بصمة الأصبع.
ومعرفة البصمة الوراثية أو الجنينية لشخص ما يتم عن طريق فحص الحمض النووي لأحد المواد السائلة في جسمه كاللعاب والدم في حالة إثبات البنوة والمني في حالة الاغتصاب أو لأحد أنسجة الجسم كاللحم أو الجلد أو المواد الأخرى كالشعر والعظام سواء كان الإنسان حيا أو ميتا أو حتى ولو كان رفاتا.
وأهم ميزة تنفرد بها هذه التقنية أنها لا تقتضي سوى الحصول على جزئي المادة الوراثية ولو من رفات وهي بذلك تسمح بالتعرف على النسب الحقيقي للأبناء حتى ولو كان آباؤهم متوفين على خلاف الاستنساخ البشري الذي يتطلب حسب الغالب خلية حية تستطيع أن تتضاعف 5.
وهكذا فإن التقنية العلمية التي تقوم على التحليل الجيني للبصمات الوراثية توفر بالنسبة لإثبات النسب أو نفيه معا نتائج متطابقة للحقيقة بشكل قاطع لا مجال فيه لأية نسبة من الخطأ6.

-IIمزايا البصمة الوراثية
إذا كان التحليل للرموز الدموية A.B.O للإنسان لا يكفي في نظر جل العلماء للقطع بثبوت نسب الولد أو نفيه والتي كانت تستعمل في الغالب لنفي وليس للإثبات فإن البصمة الوراثية ترقى إلى هذه الدرجة. وأصبح تحديد أب الطفل أو أمه بواسطة هذا النوع من العلم على درجة عالية من الدقة وبالتالي توفر بالنسبة لإثبات النسب أو نفيه نتائج مطابقة للحقيقة بشكل قاطع لا مجال فيه لآية نسبة من الخطأ7. بل أن هناك أحكاما عديدة صدرت عن المحكمة الإبتدائية بالمحمدية نورد منها حكم رقم 564 في الملف رقم 764/03 بتاريخ 24 غشت 2004 (حكم غير منشور) “…..وحيث أمرت المحكمة بإجراء خبرة كلف للقيام بها مختبر الشرطة بالبيضاء وحيث أفاد تقرير الخبرة بكون جينات الطفل المهدي تتطابق و جينات المدعى عليه وأن هناك علاقة أبوية بين الأب و الطفل, وحيث يتعين تتابعا لذلك الحكم بإلحاق نسب الطفل بالمدعى عليه وبتسجيله هي الحالة المدنية”.
على اعتبار أن نسبة الإيجابية فيها تصل إلى 99,99% أي أن النسبة السلبية لم يتجاوز 0,01% وأن احتمال أن يكون شخص له نفس البصمة الوراثية لشخص آخر كما سبقت الإشارة إلى ذلك هو احتمال معدم باستثناء التوائم المتطابقة.
ومما لا يخفى على أحد أن اعتبار البصمة الوراثية وسيلة لإثبات النسب أونفيه سوف يكون له مزايا كثيرة،
-إلى جانب قوته الثبوتية- لا مناص من ذكر بعضها على سبيل الاستئناس :
– تعين الأم الحقيقية في حالة اختلاط الأطفال داخل حيز مكاني واحد كمصحة للولادة8
– إذا ادعى الزوج بأنه لم يلتق زوجته التي عقد عليها والتي أنجبت ولد بعد مرور أدنى مدة الحمل منذ العقد.
– التنازع بين نسب شرعي ناتج عن شهادة الميلاد ونسب طبيعي ناتج عن إقرار وأيضا التنازع بين نسبين طبيعيين في حالة وجود إقرارين متتاليين ويتم الحسم في استحقاق الأبوة بين أبوين من خلال إقصاء أحدهما والاعتراف بأبوة الآخر.
– قد تتزوج امرأة في عدة طلاق أو وفاة ثم يظهر عليها حمل وقد تحصل الولادة في الآجال القانونية التي تفيد احتمال كون الأب هو الزوج الأول أو كون الأب هو الزوج الثاني كما إذا ولدت هذه المرأة داخل ستة أشهر من دخول زوجها الثاني وبعد أقل من سنة من فراقها مع الزوج الأول9.
وإلى جانب أهميته في إثبات النسب ونفيه، وجد هذا الاكتشاف تطبيقاته السريعة والقوية في مجال الجريمة حين البحث عن الفاعل الحقيقي. فعن طريق البصمة الوراثية ثم القبض على مجرم في قرية بريطانية اغتصب إحدى الفتيات من بين حوالي 20 ألف رجل يسكنون تلك القرية، وذلك بعد مقارنة البصمة الوراثية المستخرجة من مني الجاني بالبصمة المأخوذة من الدم من جميع المشتبه فيهم.
ولعل هذا ما أخذ به القضاء المغربي، حيث جاء في قرار صادر عن محكمة الاستئناف بورزازات بأن “… الخبرة تقنية ولا مطعن وجيه يقدم في صحتها إذا تم الأخذ أو اخذ عينات من لعاب عدد من الأشخاص وتوصل التحاليل إلى أن اللعاب الذي تم إغلاق الأظرفة به هو يعود للظنين دون غيره”10.
هذا ويثارا لتساؤل حول الحالة التي يرفض فيها المطلوب الخضوع للتحليل الجيني، فهل يمكن في هذه الحالة القياس على هذا المنوال واعتبار رفض المطلوب الخضوع للتحليل الجيني قرينة على أبوة المدعاة.
لقد دأب الاجتهاد القضائي المغربي في الموضوع على الإتجاه في نفس السياق حيث قضت المحكمة الابتدائية بالدار البيضاء بأنه “وحيث بناء على امتناع المدعى عليه عن الامتثال للخبرة الطبية المأمور بها بمقتضى الحكم التمهيدي وكذا بناء على ما جاء في مضمون الشواهد الطبية… يجعل طلب المدعي لكل ذلك غير مؤسس قانونا ويتعين بالتالي رفضه”.
إلا أنه وللوصول إلى نتائج مطمئنة يجب أن يتم الفحص في مختبرات تخضع لإشراف الدولة، وأن لا تكون تابعة لقطاع خاص وأن لا يجري هذا الفحص إلا بناءا على أمر أو حكم قضائي وألا ينتدب في هذه المسائل كخبراء لدى المحاكم سوى المعتمدين رسميا المتخصصين في هذا المجال11 ، وأن يجري الفحص على أكثر من عينة لضمان الحصول على نفس النتائج وإعطاء الحق للمعترض في إجراء الفحص مرة أخرى.

ثانيا : موقع البصمة الوراثية من الأدلة الشرعية

قد يظهر لأول وهلة للباحث أو المهتم في هذا المجال أن النتائج التي تتوصل إليها الخبرة الطبية في مجال النسب معارضة لقاعدة الولد للفراش ومعارضة لحق الزوج في اللعان لنفي الولد أو لحق في الإقرار ليثبت النسب ولكن الحقيقة عكس ذلك تماما، بل تعتبر دعما وتقوية لتلك القاعدة وذلك الحق. لذلك ارتأينا أن نقف عندها لأجل إبراز دور البصمة الوراثية في تعزيز تقوية إثبات أو نفي النسب .

I – البصمة الوراثية وقاعدة الولد للفراش
يقصد بالفراش من الناحية الاصطلاحية الزوجية القائمة بين الرجل والمرأة أو كون المرأة معدة للولادة من رجل معين، ولا يكون ذلك عادة إلا بالزواج الصحيح (المادة 153 من المدونة) أو ما ألحقه به المشرع استثناء كالنكاح الفاسد (المادة 154) أو الوطء عن طريق الشبهة (المادة 155).
ولا يكفي لكي يلحق النسب بالزواج لدى جمهور الفقهاء ووفقا لأحكام المدونة الجديدة أن يكون هناك عقد زواج يربط بينه وبين زوجته وإنما لابد من تحقق مدة الحمل المفروضة شرعا، (المادة 154 من المدونة) وهي:
– أن يولد الولد داخل ستة أشهر من تاريخ العقد وأمكن الاتصال سواء كان العقد صحيحا أم فاسدا، – باستثناء الزواج المجمع فساده فهذا الأخير لا يثبت فيه النسب وكذلك المختلف في فساده مع وجود نية سيئة- وهذا ما كرسه أيضا المجلس الأعلى في عدة مناسبات إذ جاء في أحد قراراته “الولد للفراش متى ولد لستة أشهر من عقد الزواج وهي أدنى مدة الحمل”12.
– أن يزداد الولد خلال سنة من الفراق كيفما كان سبب ذلك الفراق طلاق أم وفاة أم فسخ.
والفراش بذلك متى استوفى الشروط، يعد قرينة قانونية قاطعة على إثبات نسب الأولاد المزدادين خلاله إلى أبيهم فهي بذلك غير قابلة لإثبات العكس بأية وسيلة من وسائل الإثبات إلا عن طريق اللعان أو بواسطة خبرة طبية تفيد القطع إذا استجمعت شروطها المحددة قانونا في المادة 153 من المدونة، إدلاء الزوج المعني بدلائل قوية على ادعائه صدور أمر قضائي بهذه الخبرة.
وعليه يمكن القول أن البصمة الوراثية لا تغني عن قاعدة الفراش في شيء من حيث الإثبات للنسب فكلما توفر الفراش كان قرينة قاطعة لإثبات النسب يغني بذلك اللجوء إلى الخبرة الطبية، هذه الأخيرة التي لا يمكن اللجوء إليها إلا إذا طعن في النسب بالفراش من أجل نفي ذلك.
ومن القرارات المتعلقة بالموضوع والتي نشرت مؤخرا للمجلس الأعلى “…لئن كان الفراش الشرعي قرينة قاطعة على إثبات النسب فإن ذلك مشروط بأن تكون الولادة ثابتة بتاريخ وداخل الأمد المعتبرة شرعا بشكل لا مراء ولا جدال فيه.
يوجب على المحكمة أن تبحث بوسائل الإثبات المعتمدة شرعا ومنها الخبرة التي لا يوجد نص قانوني صريح يمنعها والاستعانة بها..”13.

-II البصمة الوراثية واللعان

اللعان نظام قانوني يهدف من ضمن ما يهدف إليه إلى نفي النسب ودرء الحد وهو نظام إسلامي خالص، ثابت بالكتاب والسنة والإجماع لا نظير له في باقي التشريعات السماوية أو القوانين الوضعية غير الإسلامية الأخرى.
إن طلب اللعان قديما كان يقبل وقائع علمية تؤيده لعدم وجود وسيلة يقينية تدعمه، ومن ثم كان انتفاء النسب عن طريق اللعان يقوم على الشك، لا على اليقين فهو مبني على شعور أو اقتناع لدى الزوج بأن الولد ليس منه ويحدث اللعان رغم تحقق شروط الفراش14. وهذا ما جعل الفقه يتشدد في تطبيقه بتوافر عدة شروط من أبرزها الإسراع بالنفي والتعجيل به وذلك للحد من الشك الذي يحوم نسب الولد، ولعل هذا ما سايره المجلس الأعلى أيضا في إحدى قراراته الذي جاء فيه “… إذا علم الزوج بالحمل وسكت فلا يسمع قوله بنفي النسب ولا يمكن من اللعان…”15 .

والشك يظهر لنا من خلال أن الزوج إذا كان في استطاعته أن يشهد على زوجته على سبيل القطع أنها قد ارتكبت الزنا، كما يشهد الشاهد على الزنا. فبالمقابل تشهد الزوجة أيضا على أن زوجها كاذب فيما يقول فإن الأمر على خلاف ذلك بالنسبة لواقعة نفي الولد، لأن الزوج لا يستطيع أن يؤكد على سبيل القطع أن الولد ليس منه حتى ولو كان صادقا في اتهامه لزوجته بواقعة الزنا. إذ قد تكون الزوجة مرتكبة للزنا فعلا، لكن الولد قد يكون ابنه و أن الحمل قد حدث منه، وبالتالي إن واقعة نفي الولد لا يمكن أن يرد عليها يمين أو شهادة الزوج على سبيل القطع أو البث ومن هنا يتضح لنا أهمية البصمة الوراثية فإذا جاءت نتيجة الفحص تؤكد على انتفاء النسب فلا توجد أصلا مشكلة حيث يصبح اللعان سببا موجبا للفرقة، وذلك إذا استجمعت الخبرة القضائية شروطها المحددة في المادة 153 من المدونة16 أما إذا علم من تلك النتائج أن الولد منه فلا يمكن من إجراء اللعان لأجل نفي الولد، وإنما يمكن اللعان كإجراء شرعي لدرء الحد عن الزوجين وللتفريق بينهما لأن الزوج لربما قد يكون متأكدا من صلة زوجته غير المشروعة بغيره، وهنا يكون من حقه إجراء اللعان دون نفي الولد.

وفي هذا الصدد نورد ما أكده مفتي الجمهورية التونسية أمام المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية حول موضوع حجية البصمة الوراثية في إثبات ونفي النسب :”إن هذه الحجة تكون سببا مغنيا عن اللعان, فالزوج يلجأ إلى اللعان لنفي النسب عند فقد من يشهد له بما رمى به زوجته من أن الحمل ليس منه (و لم يكن لهم شهود إلا أنفسهم). فمع التقدم العلمي في هذا الميدان لم يبق الزوج وحيدا لا سند له, بل أصبح له شاهدا وهو الخبرة التي ستنجز في هذا الشأن” 17.

III- البصمة الوراثية و الإقرار

الإقرار بالنسب هو ادعاء المدعي المقر أنه أب لغيره18 وقد اعتبر – كما هو معلوم- سيد الأدلة، فهو ينسجم مع تصور الشريعة الإسلامية إلى حفظ الأنساب بدل قطعها وعليها فإنه لمن الطبيعي أن يعتد به الفقه الإسلامي والمدونة في إثبات النسب19 وقد نظمه المشرع المغربي بمدونة الأسرة الجديدة وسماه بالاستلحاق في المواد من 160 على 162 من المدونة.
وقد أخضع الإقرار بالبنوة لمقتضيات خاصة مستمدة من الفقه الإسلامي تختلف عن قواعد الإقرار الواردة في قانون الالتزامات والعقود.
ولعل هذا ما يتضح لنا جليا من وضع العديد من الشروط والمقومات حتى يعتد بالإقرار كوسيلة لإثبات النسب.
وبرجوعنا إلى المواد 160و 161و162 من مدونة الأسرة، يمكن اختزال هذه الشروط فيما يلي:
1- أن يكون الأب المقر أو المستلحق عاقلا، ويقصد بالعقل أن يكون المقر بالنسب كامل الأهلية، فلا يكون صبيا أو مجنونا أو معتوها أو مكرها.
2- أن يكون المقر به أي الولد مجهول النسب بأن لا يكون معروف النسب من أب آخر، فإن كان ثابت النسب من أب معروف غير المقر كان هذا الإقرار باطلا.
3- أن لا يكذب المستلحق عقل أو عادة فبالنسبة للعقل لا يصح أن يستلحق الصغير الكبير، لأن الواقع والمنطق يكذبان مثل هذا الإقرار، ولعل هذا أيضا ما تكذبه العادة، وهو أن يقرر رجل نسب ولد من بلد أو مكان ما لم يسبق له مطلقا أن زاره أو أن يثبت الرجل المقر الذي لم يسبق له مطلقا أن تزوج.

4- أن يوافق المستلحق إذا كان راشدا حين الاستلحاق وأما إذا لم يكن راشدا فإنه يبقى من حقه عند بلوغه سن الرشد أن يرفع دعوى نفي النسب.
5-أن يصرح المقر بأن هذه البنوة قد نشأت في إطار عقد زواج صحيح كان أو فاسدا فقد ورد في أحد قرارات المجلس الأعلى على أنه “… لا يلحق نسب البنت المولودة قبل عقد النكاح وإن أقر الزوج بنوتها لأنها بنت زنا وابن الزنى لا يصح الإقرار ببنوته ولا استلحاقه…”20.
6- أن يكون الإقرار صادرا من الأب المعني بالإقرار شخصيا إذ لا يصح إقرار غيره (المادة 161 من المدونة) وجاء في قرار المجلس الأعلى “إقرار الأب بالبنوة يحمل به في لحوق النسب وهذه القاعدة مؤسسة على الأصول العامة في مذهب الإمام مالك…”21.

كما يجب أن يكون الإقرار في شكل رسمي أو بخط يد المقر الذي لا شك فيه (المادة 162 من المدونة).
فمتى استوفى الإقرار هذه الشروط ثبت به النسب، وهو نفس المنهج الذي سلكه المجلس الأعلى “.. النسب يثبت بالإقرار كما يثبت بالفراش أو بالبينة، لو بنكاح فاسد أو بشبهة ويترتب عنه جميع نتائج القرابة وتستحق معه النفقة والتوارث ولا تمييز في إثباته…”22.
وعليه فإن موقع البصمة الوراثية من الإقرار، لا يثير أي لبس إذ كلما أقر الأب ببنوة ابنه يغني عن اللجوء الى الخبرة الطبية ما لم يكن هناك فراغ كما لو أنكرت الأم بذلك إذ في هذه الحالة يمكن اللجوء إلى الخبرة الطبية لتأكيد إقرار الأب المقر أو تصديق الأم المنكرة بذلك.
وبعد كل هذا نتساءل عن دور الخبرة الطبية في إثبات ونفي النسب سواء بالنسبة للمشرع المغربي أو المقارن.

——–

1 ادريس الفاخوري” نفي و إثبات النسب بالتحاليل الطبية” رسالة الدفاع العدد3 ، طبعة 2002، ص 98.

2 عبد االله الرطب “إثبات النسب وآثاره في مدونة الأسرة”. بحث نهاية التمرين , المعهد العالي للقضاء. 2003-2005، الفوج 33، ص 11.

3 – أحمد ميدة و محمد رافع “إثبات النسب بين الوسائل الشرعية والتطور العلمي”. بحث نهاية التمرين , المعهد العالي للقضاء الفوج 33، 2003-2005 ص 37.

4 يرمز لها في اللغة الإنجليزية بحروف D.N.A وفي اللغة الفرنسية بحروف A.D.N وعلم الوراثة مجموعة كبيرة منها ما هو متخصص بالدراسات الوراثية يدرس بذلك الكروموزومات فقط، ومنها ما هو مختص بدراسة التركيب الكيماوي للكروموزمات ويسمى A.D.N وهو الحمض النووي أساس المادة الوراثية في كل المخلوقات أي أنه المكون الأساسي لكل الكروموزمات على اعتبار أن كل جسم يتكون من مجموعة من الخلايا وداخل الخلية توجد النواة التي تسيطر على الجسم كله وداخل النواة يوجد A.D.N.. إثبات البنوة بين الشك واليقين, مؤتمرالطب الشرعي بالقاهرة جريدة الإتحاد الإشتراكي 1/1/1995.

5 كريمة بارودي “الإستنساخ من الناحية القانونية”. مجلة المعيار, 2002 ص 18 . عبد الكريم بوسكسو ” إثبات النسب بالخبرة الطبية في مدونة الأسرة”. مجلة المنتدى العدد الخامس يونيو 2005 ص 179 -187.

6 اللعب بالجينات كارثة الهندسة الوراثية سلاح ذو حدين مجلة صحتك عدد 4 أكتوبر/ دجنبر 1997 ص 32.

7 إدريس الفاخوري “إثبات ونفي النسب بالتحاليل الطبية” مجلة رسالة الدفاع العدد الثالث 2002 ص 45.

8 يوسف وهابي : تحليل البصمة الوراثية ADN ودورها في إثبات أو نفي النسب قراءة في مواقف القضاء والتشريع (مدونة الأسرة) دراسة مقارنة مجلة الملف، العدد 8 مارس 2006 ص14.

9 ادريس الفاخوري مرجع سابق ص 45..

10 ملف جنحي تلبسي العدد 963/03 صدر بتاريخ 31/07/2003 ,مجلة الملق العدد 6 ماي 2005 ص 42.

11- محمد الكشبور “مركز الخبرة الطبية في مادة الأحوال الشخصية” مجلة المحاكم المغربية العدد 77 و 78 ص 38.

12- قرارا المجلس الأعلى رقم 195 بتاريخ 3-2-1987، ملف شرعي 5420/85 مجلة قضاء المجلس الأعلى عدد 40، ص 167.

13- قرار المجلس الأعلى عدد 186 بتاريخ 12/1/2007 ملف شرعي عدد 815/05 أورده الطلبة لعكيدي نورا و حموشن ياسر ” دعوى إثبات النسب على ضوء مدونة الأسرة” بحث لنيل الإجازة في الحقوق-جامعة المولى إسماعيل كلية الحقوق. مكناس. 2006-2007 ص 52-53.

14- ادريس الفاخوري “نفي وإثبات المنسب بالتحاليل الطبية مقارنة شرعية قضائية وفقهية” المجلة المغربية الفضائية للاقتصاد والقانون المقارن، العدد 40 2003 ص 47.

15- قرار المجلس الأعلى الصادر في 5 يوليوز 1976 بمجلة قضاء المجلس الأعلى العدد 23 ص 34.

16- ادريس الفاخوري م.س ص 46-47.

17- محمد المختار السلامي مجلة الوعي الإسلامي . عدد 435 يناير/فبراير 2002.

18- محمد الكشبور مرجع سابق ص 414.

19- الحسين بلحسايني : قواعد إثبات النسب والتقنيات الحديثة المجلة المغربية للاقتصاد والقانون العدد 6، 2002 ص 95-116.

20- قرارا المجلس الأعلى رقم 446 بتاريخ 30-3-1983 ملف شرعي 54758 مجلة قضاء المجلس الأعلى عدد 40 ص 370.

21- قرار المجلس الأعلى عدد 12 بتاريخ 29 أكتوبر 1962، مجلة قضاء المجلس الأعلى عدد 65 ص 108.

22- القرار عدد 435 الصادر بغرفتين بتاريخ 22/09/2004 الملف الشرعي 235/2/1/2002، ادريس بلمحجوب، قرارات المجلس الأعلى بغرفتين أو جميع الغرف ج الثالث، الطبعة الأولى 2005 مطبعة الأمنية الرباط ص 269..

اعادة نشر بواسطة محاماة نت