التشريح للجثة .. بين القبول و الرفض

تشريح الجثة من وجهة نظر الفقه الشرعي و القانوني

ورقة معمقة و دراسات في تشريح الجثة

“مقدمة “

تمتد حرمة الإنسان إلى ما بعد الموت , حيث يقضي المبدأ باحترام الجثه , وعدم المساس بها لأي سبب , وقد ثبت المشرع الجزائي هذه الحرمة عندما اعتبر أن سرقة الجثه أو إتلافها , أو أخذها , أو تشريحها , أو استعمالها بأي وجه سواءً أكان هذا لغرض علمي أو تعلييم بدون موافقة من له الحق بذلك , جريمة يعاقب عليها القانون , وتهدف هذه الحرمة إلى احترام كرامة الميت , واحترام مشاعر أقربائه, ونجد للحماية مكاناً متساوياً في القانون الخاص.

ومع هذا فالسماح بالخروج على المبدء في ما بين الأحياء سمح بالخروج عليه بالنسبة لجثة الشخص المتوفى , لأن إباحة استقطاع بعض الأعضاء ونقلها , لا توفر إلا القليل مما يحتاجه الناس الأحياء المرضى, ومما يحتاجه التطور في مجال العلوم الطبية , لا سيما وأن الإنسان الحي يتردد كثيراً في التنازل عن جزء من جسده , ويحرص على صيانة مبدء الكمال , , إلا أن هذا ليس بنفس القوة بالنسبة له وهو ميت .

كما يضاف إلى هذه الاعتبارات أن بعض الأعضاء لا يمكن أخذها من الإنسان الحي لأنهاأعضاء مفردة وأساسية للحياة , ويترتب على استقطاعها الموت , كالقلب , والكبد , ولهذا تعتبر الجثث المصدر الأكبر والأهم للحصول على الأعضاء البشرية وهي تلك التي تشكل حيزاً محدوداً من الجسم البشري مثل , الكلى , والرئه, والقلب , والكبد , والعظم , والعين , والطحال , والشرائح العضلية والجلدية ….إلخ .

هذا والتشريح في اللغة يعني الفتح والقطع , والشَرْحة هي القطعة من الحم , وهو في المصطلح القانوني لا يخرج عن هذا المعنى , حيث يقصد به أخذ الأعضاء البشرية من جسم إنسان ميت لزرعها في جسم إنسان آخر يحتاج إليها لغاية علاجية.

أما مطلح جثة الانسان فيقصد به في اللغة شخصه , ويقول عنه بعضهم أنه جسم الإنسان الذي توقفت فيه الحياة .
فمن أجل بيان المشاكل التي تثيرها عملية الاستقطاع من الجثة , فإننانبين مدى المشرويعة في ذلك من خلال الشريعة والفقه الشرعي , والفقه القانوني , والقانون الوضعي السوري المقارن , ثم نبين ما هي مصادر الحصول على الجثة التي يمكن إجراء عمليات الاستقطاع منها :

1- مشروعية الاستقطاع من الجثه :

توجد خلافات حادة بين رجال الفكر الشرعي والقانوني والتشريعي , حول مبدء حرمة الجثه البشرية , والخروج على هذا المبدء في بعض الحالات منطلقين من اعتبارات متباينة يمكن تحليها وفق ما يلي :

أ- في الشريعة والفقه الشرعي :

يقول د. عبد السلام السكريإن الميت له حرمة كحرمة الحي لا يجوز انتهاكها , ولا يجوز الاستقطاع من جثته أو تشريحها , ولا يجوز للشخص أن يوصي بجثته من أجل هذه الغاية , لأن مثل هذه الوصية تخالف الشروط اللازمة لصحتها وأركانها , وأهمها أن الانسان لايملك ما يوصي به , كما أن إباحة هذا يعتبر من قبيل المثًّلة وهي منهي عنها , شرعاً , والواجب يقضي بدفن الميت احتراماً له , كما أن إنشاء بنوك للأعضاء البشرية ما عدا الدم لا يتفق مع تعاليم الاسلام وهي حرام شرعا .
ويذهب د. أحمد شرف الدين إلى القول بأن المواقف الفقهيه المتعددة أجازت شرعاً فتح بطن الحامل لإخراج ولدها الذي يرجى حياته , أو إخراجه إذا كانميتا حفاظاً على حياتها , ومصلحة إنقاذ الحي أعظم من مفسدة هتك حرمة الميت , وبطريق القياس , يجوز تشريح جثث الموتى للاستفادة منها في أغراض التعليم الطبي, أو الكشف عن اسباب الأمراض أو الوفاة.

أما اللجنة الدائمة للافتاء في المملكة العربية السعودية فقد أجازت استعمال أعضاء من مات بالشروط الآتيه :

1- أن يتبرع المنقول منه بعضوه حال حياته عن طريق الوصية بأخذه منه بعد وفاته .

2- أن يتبرع بالعضو ولي الميت , وأن يأذن بالتشريح .

3_ أما إذا لم يوصي الميت , ولم يأذن الولي الشرعي , أو غذا عارض ذلك فإنه يمكن لولي المسلمين ( الحاكم ) أن يأذن بالتشريح , والانتفاع بالأجزاء اللازمة من الجثه , إذا وجد أن المصلحة العامة تقضي بذلك .

كما أن الأمانة العامة لهيئة كبار العلماء , في السعودية قد أجازت بقرارها , رقم \62\تاريخ 25\10\1398هـــ نقل القرنية من عين إنسان ميت بالشروط التالية:

  • 1- أن يتم التأكد من موت الانسان .
  • 2- أن يتم زرعها في عين إنسان مسلم مضطر إليها .
  • 3- أن يغلب على الظن نجاح العملية .
  • 4- أن لا يانع أولياء الميت من الأخذ والنقل .

وقد استندت الهيئة في قرارها على قاعدة , تحقيق أعلى المصلحتين , وأخف الضررين , وإيثار مصلحة الحي على مصلحة الميت , واعتبرت أن هذا الفعل ليس مُثْلَةً بالعين لأنها تغمض ويطبق جفناها ومصيرها الدمار والتحول إلى رفات .
أما دار الإفتاء المصرية فقد وضعت مجموعة من المبادء يمكن إيجازها في ما يلي :

1- للميت حرمة كحرمته حياً , فلا يتم التعدي عليه بكسر أو شق أو غير ذلك لأنه ورد عن الرسول صلى الله عليه وسلك : النهي عن كسر عظم الميت لأنه ككسره حياً .

2- قواعد الدين الاسلام يمبنية على حماية المصلحة الراجحة , وتحمل الضرر الأخف لجلب مصلحة يكون تفويتها أشد من الضرر , وعليه فإن هذه المصلحة تتحقق بتشريح جثة الميت من أجل معرفة سبب الوفاة سواء من أجل إثبات تهمة على قاتل , أو لإثبات برائته منها , وتتحقق أيضاً بأخذ طبقات سطحية من جلد متوفٍ لعلاج حروق جسيمة وعميقة لدى إنسان حي , وكذلك أخذ عين ميته لترقيع قرنية مكفوف

3- لا يتم التشريع والأخذ والاستقطاع من جثة إلا إذا وجدت وصية من الميت ( وهي لا تدخل في نطاق الوصية بمعناها الشرعي ) أو بإذن عصبته بذلك إذا كان له أسرة معروفة , وفي حال عدم معرفة الأهل يجب الحصول على إذن النيابة العامة .

أما مجمع الفقه الاسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الرابع في جدة في المملكة العربية السعودية في الفترة من 6 – 11 شباط 1988. فقد نص في الفقرة الثامنة من القرار رقم \1\ تاريخ 4\8\1988 على أنه :
” يجوز نقل عضو من ميت إلى حي تتوقف حياته على ذلك العضو , أو تتوقف سلامة وظيفة أساسية فيه على ذلك , بشرط أن يأذن الميت أوورثته بعد موته , أو بشرط موافقة ولي المسلمين إن كان المتوفى مجهول الهوية أو لا ورثة له “.

****************

من هذه الآراء والمواقف نجد أغلبية الفقه الشرعي توافق على تشريح جثة الميت وتقر به بقصد الاستقطاع خلافاً لمبدء حرمة جسد الميت بشرط المصلحة الراجحة , والموافقه المسبقة , وانتفاء المقابل المادي.

في الفقه القانوني :

يجمع الفقه القانوني على مشروعية التشريح والاستقطاع من الجثة , انطلاقاً من زوايا مختلفة .
فالأهواني يرى أن حرمة الجثة , وتقديس الموتى لا يجب أن يقف عائقاً في وجه التقدم العلمي , في عصر ظهرت فيه قيمة الجثة وأهميتها بالنسبة للبشر الأحياء , بالتالي فإن المصلحة الإنسانية المؤكدة تقتضي السماح بالمساس بجثة الميت , وأن القاعدة الشرعية القائلة بأن الضرورات تبيح المحظورات , وأن الإنسان الحي أفضل من الميت , تؤكد مشروعية الحصول على قطع الغيار البشرية اللزمة من جثث المتوى بقصد العلاج.
ويقول شبيب إن تشريح الجثة يمكن أن يتم لأغراض تعليم طبي في كليات الطب , وهو مسألة ضرورية من أجل التدريب على معالجة الأحياء , وإما أن يتم من أجل معرفة الحالات المرضية الغامضة لمعرفة السبب الحقيقي للوفاة وإزالة الشبهات حول ذلك .أو بهدفالنتفاع بالأعضاء أو بأجزائها لمصلحة الأحياء , وهذه مسألة تقتضيها ضرورة الحفاظ على الحياة , ثم يمضي إلى القول أنه لم يجد نصاً شرعياُ يحرم تشريح الجثة التي ذكرها , بل نصوصاً تهدف إلى تكريم الإنسان حياً ميتاً, وماذكره من حالات فيهاتكريم للإنسان بشرط اقتصارها على الحالات الضرورية التي تستوجب ذلك , وأن يتم التعامل مع الجثة باحترام , وأن تدفن بقايا ما بعد التشريح بالطرق المتبعة شرعاً

ويذهب أبو السعود إلى القول إن المشرع المصري سمح بالوصية بالعيون بنص قانوني,وقياساً عليه يرى مشروعية الاستقطاع والنقل من الجثة .

ويمضي عبد السلام إلى أبعد من الإجازة والسماح بتشريح الجثة واستقطاع الأعضاء منها بإجازة الحصول على مقابل لها أو للعضو المقتطع منها بحجة أن هذا المقابل المادي يشجع الأفراد على التصرف بجثثهم بعد الوفاة , لأن التصرف تبرعاص لم يعد يتفق ومنطق الواقع , وهو يقترح إنشاء مجمع ضخم للقطع التبديلية البشرية له مركز وفروع في كافة أرجاء البلاد قياساً علىبنك العيون , تحتفظ الأعضاء في مصنفات أرشيفية وتصرف للمرضى المحتاجين مقابل دفع الثمن , على أن يكون المصدر الأساسي لهذا المجمع جثث الموتى المجهولي الهوية , وقتلى الحوادث الذين تشرح جثثهم , والأشخاص الذين نفذت فيهم أحكام الإعدام .

كما أن محكمة النقض الفرنسية قد أرست مبدأ حرية الشخص في التصرف في جثته كما يتصرف في أمواله , مالم تدخل الجثة في التجارة والمعاملات المالية .