دعوى ثبوت الزوجية : المأزق التشريعي و البديل المقترح

كتبها الدكتور عبد الحكيم الحكماوي
نائب أول لوكيل الملك لدى المحكمة الابتدائية بالرباط
استاذ جامعي زائر بكلية الحقوق سلا

باحث قانوني

تحتل مؤسسة الزواج مكانة مهمة ليس في حياة الإنسان الفرد فقط ، و إنما في حياة المجتمعات برمتها على اعتبار أنها البذرة الأولى التي تضمن استمرار تلك المجتمعات ؛ لذلك فهي تحظى بالاهتمام اللازم و الرعاية الكافية الكفيلين بجعلها ترقى إلى مكانة التقديس الذي يرتبط بها سواء من حيث تعريفها أو حتى أحكامها .

و لما كان الزواج بهذا القادر من الأهمية فإنه كان و لا يزال محط اهتمام من طرف جميع الحساسيات الاجتماعية بكل توجهاتها و إن اختلفت الرؤى بشأنه ، لكن الأكيد هو الاتفاق على تنظيم أحكامه تنظيما محكما يضمن لكل طرف فيه حقوقا و يحمله التزامات تتناسب و المركز الذي يحتله داخل المنظومة الاجتماعية الأسرية .

و هكذا فقد أولى المشرع المغربي اهتماما خاصا بتنظيم الأحكام القانونية المؤطرة للزواج شروطا و شكليات ، حتى لإنه لم يذهب في الاتجاه الغربي القائم على فكرة الأسرة الليبرالية المستندة إلى قواعد القانون المدني الخالص ؛ و إنما بقي وفيا لروح الشريعة و أحكامها المرتبطة بالزواج و الأسرة عموما ، كما حافظ على الكثير من الخصوصيات المغربية الأصيلة التي تساهم في تأطير طقوس هذه المؤسسة في غير مخالفة لقواعد الشريعة الإسلامية .

غير أنه و في إطار السيرورة الطبيعية للتحولات التي يشهدها المجتمع المغربي ، و استباقا منه لشكل العلاقات التي يجب أن تسود المجتمع المغربي حاول المشرع المغربي أن يدخل بعض ” التحديثات ” على مؤسسة الزواج مع الحفاظ على هويتها الحقيقية .

و لعل ذلك يظهر في مجموعة من الجوانب منها ما يرتبط بالصداق و الولاية و التعدد و غيرها من الأحكام. و من ضمن ما استأثر باهتمام المشرع نجد فكرة توثيق العلاقة الزوجية ، إذ حاول المشرع المغربي أن ينظمها بأحكام عامة تساهم في جعل الكتابة هي الوسيلة الوحيدة في إثبات العلاقة الزوجية ؛ لذلك فقد عمل على وضع المقتضيات العامة الواردة في المادة 16 من مدونة الأسرة ، و هي المقتضيات التي عوضت – إلى حد ما – مقتضيات الفصل 5 من مدونة الأحوال الشخصية المتعلقة بسماع دعوى الزوجية .

غير أن المستجد الذي أدخله المشرع المغربي على أحكام هذه الدعوى هو أنه جعل سماعها مقترنا بمدة أو فترة زمنية محددة حددت في الصيغة الأولى لمقتضيات المادة 16 من المدونة في خمس سنوات انتهت في الثالث من فبراير 2009 ، ليتم تمديدها لمدة خمس سنوات أخرى انتهت بتاريخ 04 فبراير 2014 من غير أن ينتهي ذكر لدعوى ثبوت الزوجية ، مما يجعنا نتساءل حول الجدوى من هذا التحديد الزمني و ما إذا كانت هناك فائدة منه خاصة و أن المؤشرات الاجتماعية تدل على أن الوعي بتوثيق عقد الزواج إن كان مرتفعا نسبيا في الوسط الحضري فإن الوسط القروي يطرح مجموعة من التحديات المرتبطة بانخفاض مستوى ذلك الوعي مع وجود تقاليد و عادات قد تتجاوز أحكام مدونة الأسرة برمتها و ليس فقط بتوثيق الزواج ؟

من ذلك وجب علينا إثارة أمرين اثنين ؛ أولهما متعلق بالطبيعة التشريعية لمقتضيات و أحكام سماع دعوى الزوجية الواردة بالمادة 16 من مدونة الأسرة و الآثار المترتبة عن ذلك ، لنخلص في الأمر الثاني ل” سيناريوهات الحل ” الممكنة لهذا المأزق التشريعي .

و لذلك فقد ارتأينا أن نتطرق لهذا الموضوع وفق الخطة التالية :
المبحث الأول : طبيعة مقتضيات التحديد الزمني لأحكام دعوى الزوجية و آثارها
المبحث الثاني : المأزق التشريعي و ” سيناريو ” الحل المقترح

المبحث الأول
طبيعة مقتضيات التحديد الزمني لأحكام دعوى الزوجية و آثارها

تعتبر المقتضيات الواردة بالمادة 16 من مدونة الأسرة مفتاحا أساسيا للنظر في مصير مجموعة من الحالات التي لا تزال عالقة سواء من حيث خضوعها لمقتضيات المدونة أو للنظر فيها أمام القضاء ، لذلك فإن طبيعة مقتضيات التحديد الزمني لأحكام دعوى الزوجية تعطي صفة وقتية لتلك الأحكام ( المطلب الأول ) لا تلبث آثارها تندثر بمجرد انتهاء الفترة المحددة قانونا مما يجعلها عديمة الأثر كنتيجة منطقية لانتهاء وقت مفعول تلك المقتضيات ( المطلب الثاني ) .

المطلب الأول
أحكام دعوى ثبوت الزوجية أحكام وقتية

من المعلوم أن القواعد القانونية على اختلاف أجناسها إما قواعد تتضمن أحكاما مستمرة في الزمان أو أحكاما وقتية . و إذا كانت الأحكام المستمرة في الزمان هي الأحكام التي لم يحدد لها المشرع نطاقا محددا لسريان آثارها ، سواء من حيث النطاق الزماني أو النطاق المكاني ، فإن الأحكام المؤقتة هي تلك التي حدد لها المشرع فترة زمنية تسري فيها آثارها ، غير أن ذلك السريان لا يهم إلا التصرفات و الوقائع القانونية التي حددها المشرع بنفسه .

و هكذا ؛ فالتجربة المغربية في مجال القوانين الوقتية لا تعدو أن تخرج على نوعين من تلك القوانين من حيث سريان آثارها ، فهي إما أن تحكم وقائع مادية أو قانونية و تصرفات قانونية بعينها وقعت عند دخول تلك القوانين حيز التنفيذ أو وقعت في فترة زمنية سابقة لتاريخ دخولها حيز التنفيذ – كما هو الحال بالنسبة للقانون الذي حكم القضية المشهورة بقضية الزيوت المسمومة – ، أو أنها قواعد قانونية حدد من خلالها المشرع آجالا معينة للقيام بأعمال أو الامتناع عن القيام بأعمال يحددها القانون نفسه بغض النظر عما إذا كانت تلك الأعمال أو الامتناعات قد حدثت قبل دخول القوانين الوقتية حيز التنفيذ أو بعد أن دخلت إلى غاية انتهاء المدة التي حددها المشرع .

و إذا كانت مقتضيات الدستور تمنع رجعية القانون ؛ فإن القوانين الوقتية التي تحكم أفعالا سابقة لتاريخ دخولها حيز التنفيذ تعتبر قوانين غير دستورية و يمتنع الخضوع لها و لو صدرت عن الجهة التشريعية المخولة لها ذلك ، لأن تدخل هذه الجهة بالتشريع لا يعفي من الخضوع لأحكام أعلى قيمة من القواعد القانونية العادية .

و بالتالي فإن تصور وجود قواعد قانونية تسري آثارها على الوقائع و التصرفات القانونية السابقة على دخولها حيز التنفيذ أصبح أمرا مستحيلا بحكم مقتضى القاعدة الدستورية نفسها ؛ مما جعلنا أمام نوع واحد من القوانين الوقتية ألا و هو المجسد في الحالة التي يحكم فيها ذلك القانون الوقتي الوقائع و التصرفات القانونية التي وقعت بعد دخول ذلك القانون حيز التنفيذ إلى حين انتهاء مفعوله . وعلى ذلك فإن كل الوقائع التي وقعت في ظل القانون الوقتي و بعد دخوله حيز التنفيذ تبقى خاضعة لأحكامه متى تعلق الأمر بتصرفات قانونية تعطي للأفراد مراكز قانونية تتحدد بموجبها الحقوق و الالتزامات المتبادلة .

و برجوعنا لمقتضيات المادة 16 من مدونة الأسرة نجدها تنص على أنه : ” إذا حالت أسباب قاهرة دون توثيق العقد في وقته، تعتمد المحكمة في سماع دعوى الزوجية سائر وسائل الإثبات و كذا الخبرة. تأخذ المحكمة بعين الاعتبار وهي تنظر في دعوى الزوجية وجود أطفال أو حمل ناتج عن العلاقة الزوجية، وما إذا رفعت الدعوى في حياة الزوجين. يعمل بسماع دعوى الزوجية في فترة انتقالية لا تتعدى عشر سنوات، ابتداء من تاريخ دخول هذا القانون حيز التنفيذ ” .

فكما هو ظاهر من هذه المقتضيات نجد أن المشرع الأسري ذهب في اتجاه وضع قاعدة قانونية وقتية تسري أحكامها لمدة حددها في خمس سنوات و مدد مفعولها لخمس سنوات أخرى ، و قد كان ذلك نتيجة رغبة التيارات الاجتماعية التي رأت بأن نظام الأسرة يجب أن يرتقي من حكم العرف إلى حكم القانون ، و بالتالي فإن هذا الارتقاء لا يمكن أن يؤتي مفعوله إلا بفرض إجبارية و إلزامية توثيق العلاقة الزوجية و جعل الكتابة الوسيلة الوحيدة لإثبات تلك العلاقة و تمييزها عن غيرها من العلاقات التي تنشأ خارج أحكام مدونة الأسرة .

و ما يستفاد من حكم هذه مقتضيات المادة 16 من مدونة الأسرة أن المشرع أعطى للأفراد المتزوجين و الغير موثقين لعلاقاتهم الزوجية مدة محددة للجوء إلى القضاء من أجل تدارك هذا الإخلال في التوثيق ، مؤسسا تصوره ذاك – حسب فهمنا – على رؤية اجتماعية خاصة تقوم على نمو الوعي بتوثيق الزواج و وجود مجموعة من القوانين التي تصب في هذا السياق كما هو الحال بالنسبة لقانون الحالة المدنية الذي يقوم على ترسيم الوقائع بناء على وثيقة الزواج أساسا ، أو قانون الجنسية و غيرهما من القوانين ذات الارتباط بالمجال الأسري .

غير أن رؤية المشرع تلك و المترجمة لرؤية توجهات اجتماعية لم تصمد طويلا ؛ إذ سرعان ما ظهرت الحاجة إلى ضرورة تمديد الفترة الزمنية الأولى من أجل استيعاب الحالات التي لا تزال موجودة في الواقع لبلوغ الهدف المرجو من سن القاعدة القانونية نفسها ، و هو ما اضطر المشرع عينه إلى التدخل من جديد بغاية إضافة مدة خمس سنوات أخرى حتى يتم التخلص من الزيجات غير الموثقة ، لكن الأمر على ما يبدو لم يكن كما تصوره المشرع أو كما أعطته القراءات السابقة للتشريع و المؤثرة فيه .

لذلك فإن التساؤل حول جدوى تلك القراءات و محاول الرقي بها إلى مصاف القراءة السليمة يجعلها تصطدم بمجموعة من العوامل الاجتماعية و الثقافية المتأثرة بالنزعة الدينية و العرفية التي تؤطر مؤسسة الزواج ، مما يجعل تحديد فترة معينة لتوثيق عقد الزواج مسألة مجازفة حقيقية لا تصمد أمام طغيان العرف بمفهوميه العام و الخاص في مسألة الزواج ، بل إن القيود التي ما فتئ المشرع يضعها للحد من قيام علاقات زوجية خارج إطار ” القانون ” هي نفسها التي تكرس – في مجموعة من الحالات – سقوط نظرية التوثيق المكتوب للعلاقة الزوجية .

إن وجود أعراف و تقاليد مجتمعية في مجموعة من المناطق المغربية ترى في الزواج تحصينا للفتى و الفتاة أو تؤطر العلاقات الزوجية المتعددة في إطار الشرع ، تجعل من هذه المؤسسة محكومة برؤية دينية و عرفية تفوق قوتها قوة القاعدة القانونية . لذلك فإننا نجد محاولة الفرض القسري لأحكام مثل هذه القواعد القانونية خلال مدة معينة أمرا يبدو شبه مستحيل ، مما يجعل القاعدة القانونية الواردة في المادة 16 من مدونة الأسرة قاعدة عديمة الجدوى متى ارتبطت بالتحديد الزمني . و على ذلك فإن إلزام القضاء بفترة معينة لسماع تلك الدعوى يبدو أمرا مجانبا للصواب و لا يحقق المبتغى المنشود بل يزيد من تعقيد الأمور و الوضعيات و يضاعف من الحالات ” الخارجة ” عن نطاق القانون . لذلك فإننا نجد أنفسنا أمام تساؤل كبير حول الآثار القانونية التي ترتبها الصفة الوقتية لأحكام دعوى ثبوت الزوجية ، و هو الأمر الذي سيكون موضوع المطلب الموالي .

المطلب الثاني
الآثار المترتبة على الصفة الوقتية لأحكام دعوى ثبوت الزوجية

إن الصفة الوقتية لقاعدة قانونية ما تعني أن وجود تلك القاعدة لا يتحقق إلا انطلاقا من دخولها حيز التنفيذ و ينتفي بمجرد انتهاء المدة التي حددها المشرع لسريان أحكامها . و على ذلك فإن الحكم الذي تقضي به تلك القاعدة القانونية الوقتية لا يكون له أي مفعول إلا خلال الفترة البينية الفاصلة بين تاريخ سريان القانون و تاريخ انتهاء مدة سريانه ؛ و هو الأمر الذي يجعلنا أمام حكم مؤقت يحد من ممارسة الحقوق و التحمل بالالتزامات إلا في الإطار الذي رسمه المشرع من الناحية الزمنية .

لذا وجب علينا طرح سؤالين مهمين مرتبطين بالحكم الوارد في الفقرة الأخيرة من المادة 16 من مدونة الأسرة ، و هي الفقرة التي تنص على أنه : ” يعمل بسماع دعوى الزوجية في فترة انتقالية لا تتعدى عشر سنوات، ابتداء من تاريخ دخول هذا القانون حيز التنفيذ ” موضوع هذين السؤالين هو هل يمكن تصور سريان حكم هذه القاعدة القانونية على الزيجات التي قامت من غير توثيق قبل دخول مدونة الأسرة حيز التنفيذ أم لا ؟ و هل يمكن فعلا القول بوجود حكم توثيق الزواج في المادة 16 فقط أم أن الأمر يتعدى نطاق هذه المادة إلى غيرها و يعطي للقضاء إمكانية توثيق الزواج بطريقة ضمنية من خلال أحكام مدونة الأسرة ذاتها ؟

فبخصوص السؤال المتعلق بمدى إمكانية سريان آثار الحكم الوقتي لسماع دعوى الزوجية على الزيجات القائمة قبل دخول مدونة الأسرة حيز التنفيذ ؛ فإننا نرى أن هذه القاعدة لا يمكن أن تسري بالمرة على تلك الزيجات ، على اعتبار أن القاعدة القانونية موضوع الحديث هي قاعدة شكلية ترتبط فقط بمسألة اللجوء إلى القضاء من أجل التوثيق ، و الحال أن قيام الزوجية مسألة موضوعية تنشأ من العقد المبرم بين الطرفين متى توفرت أركانه و شروطه من غير التفاتة إلى شكلية إثباته التي حددها المشرع في الكتابة كما هو ظاهر من مقتضيات الفقرة الأولى من نفس المادة 16 التي تنص على أنه : ” تعتبر وثيقة عقد الزواج الوسيلة المقبولة لإثبات الزواج ” 

و هو الأمر الذي يجعل مسألة اللجوء إلى القضاء من أجل سماع دعوى الزوجية لا يعدو أن يكون الغرض منه الحصول على الوثيقة المكتوبة التي يمكن الاحتجاج بها تسهيلا للقيام بأعمال يفرضها القانون على الأفراد كما سبقت الإشارة إليه بشأن الحالة المدنية و الجنسية و الكفالة و غيرها . و ما يعزز هذا الطرح هو أن حكم القضاء بثبوت الزوجية لا يتحقق إلا بإثبات شروط موضوعية تدل على قيام الزواج ذاته قياما صحيحا و مكتملا ، ما يعني أن الغرض من سماع دعوى الزوجية هو الكشف عن العلاقة الزوجية و ليس إنشاؤها .

إن الوقوف على تحقيق طبيعة دعوى ثبوت الزوجية هل هي منشئة أم كاشفة هو المفتاح الذي يجب التعامل معه عند النظر في القضايا المعروضة على القضاء ، و بالتالي فإن الإجماع القائم على كون الأحكام القضائية الصادرة في دعاوى ثبوت الزوجية ما هي إلا أحكام كاشفة و ليست منشئة يجعلها أحكاما موضوعية لا علاقة لها بالشكل و بالتالي لا يمكن أن يقيد الأخير بمدة محددة ، لأن التقييد في القانون أصله و محله في الموضوع و ليس في الشكل .

و مما يترتب على اعتبار دعوى ثبوت الزوجية كاشفة ليس إلا ؛ هو اعتبار الزوجية أصلا قائمة بقوة الواقع قياما منفصلا تمام الانفصال على وسيلة إثباتها .

لذلك فإنه من جهة أولى لا يستقيم القول بسريان الحكم الوقتي على ما نشأ قبل دخوله حيز التنفيذ من تصرفات ، لأن القول بخلافه يعني التسليم برجعية القانون أي أن الأفراد سيكونون مجبرين على الخضوع لقاعدة لم تكن معلومة و لم تقرر وقت إبرامهم لزواجهم ، و هو ما يجعلنا أمام هدر لقاعدة دستورية هامة ، هذا إن سلَّمنا بكون القاعدة المعنية بتحديد المدة الزمنية قاعدة يمكن الركون إليها أصلا .

و من جهة ثانية فإن التحديد الزمني الذي جاء به المشرع في المادة المذكورة لا يعدو أن يكون مرتبطا بالحق في اللجوء إلى القضاء من أجل إثبات وقائع معينة قد تكون متنازع فيها و قد تكون غير ذلك كما هو الأمر في دعوى إثبات الزوجية ، لذلك يبقى التساؤل مشروعا حول مدى إمكانية القول بالحد من هذا الحق الذي يعتبر حقا إنسانيا تكفله كافة التشريعات و المواثيق الدولية فضلا عن كون هذا الحد يخرق القواعد الدستورية التي تضمن حق الأفراد في الولج للقضاء ؟

إن تدخل المشرع وفق التصور الذي جاء في مدونة الأسرة لم يكن موفقا لمجموعة من الاعتبارات التي يمكن إجمال أهمها في التالي :

أنه عوض أن يربط وقتية القاعدة القانونية بالموضوع ربطها بالشكل ، و هو أمر لا يتصور في منطق القانون . لذلك لا يتصور أيضا أن تكون هذه القاعدة القانونية التي تحدد مدة اللجوء إلى القضاء من أجل إثبات الزوجية في خمس سنوات تم تمديدها خمس سنوات أخرى ، قاعدة سليمة ؛ لأن القاعدة القانونية الوقتية على فرض قبولها فهي تهتم و تحكم الموضوع و ليس الشكل .

أنه حكَّم قاعدة شكلية لاحقة في وضعيات موضوعية سابقة و متجددة ، مما يجعل بناء تلك القاعدة مهتزا و لا يمكن التسليم بها ؛ لأن قواعد الشكل ترتبط بالإجراءات التي يتم القيام بها أمام القضاء ، بينما موضوع دعوى الزوجية ليس هو المنازعة في الإجراءات حتى يجوز القول بإمكانية تصور تحديد المدة المسقطة للحق في الإجراءات ، و إنما موضوعها مراكز قانونية تحدد حقوق و التزامات من طبيعة خاصة نشأت بين طرفي العلاقة الزوجية و غيرهم مما يعتبره الدين و العرف ، و بالتالي لا يمكن تصور أن تحكم القاعدة الشكلية في الموضوع .

أن القول بتحديد مدة معينة لقبول دعوى الزوجية هو أمر يحد من أهم المبادئ التي تقوم عليها فكرة العدالة ، ألا و هو الحق في الولوج إلى القضاء ، كما يشكل خرقا لمقتضيات الدستور التي هي – من حيث التراتبية – أقوى و أسمى من القاعدة القانونية العادية التي يصدرها المشرع .

إن هذه المؤيدات و غيرها مما يرتبط بالحد من حق نصت عليه المواثيق و الاتفاقيات الدولية كلها تجعل فكرة التحديد الذي جاءت به مدونة الأسرة مسألة منتقدة ، و تجعل الوضع الذي أخذت به مدونة الأحوال الشخصية مسألة معقولة و منضبطة للواقع و المنطق القانونيين ؛ ذلك أن مقتضيات الفصل 5 من مدونة الأحوال الشخصية التي نصت على أنه :” يجوز للقاضي – بصفة استثنائية – سماع دعوى الزوجية و اعتماد البينة الشرعية في إثباتها ” ربطت هذه الدعوى الاستثنائية بالموضوع بدل الشكل و هو ما كان منسجما مع المبادئ العامة لبناء القاعدة القانونية ، عكس ما هو الحال في مدونة الأسرة .

هذا من جانب الجواب على السؤال المتعلق بالمدى الزمني لسريان حكم دعوى الزوجية، أما فيما يتعلق بمدى إمكانية القول بأن المشرع لم يعتد إلا بالوثيقة المكتوبة ( سواء أكانت رسما عدليا أو حكما قضائيا ) لإثبات الزوجية أم أن المدونة تضمنت أحكاما ضمنية تعترف بالزواج الشرعي دون توثيقه ، فإننا نقول بأن المشرع الأسري بالفعل اتجه في الاعتراف بالزواج في صيغته الشرعية و ليست القانونية ، و يظهر ذلك من الأحكام العامة للزواج ذاتها . كما يظهر من مقتضيات المادة 156 من مدونة الأسرة في فقرتها الأولى التي تنص على أنه : ” إذا تمت الخطوبة، وحصل الإيجاب والقبول وحالت ظروف قاهرة دون توثيق عقد الزواج وظهر حمل بالمخطوبة، ينسب للخاطب للشبهة إذا توافرت الشروط التالية … “

فكما هو ملاحظ من هذه المقتضيات فإن المشرع تعامل مع فترة الخطوبة و ما يتعلق بها من علاقة تقوم بين الطرفين على أساس أنها علاقة زوجية قائمة الذات كما هو الأمر بالنسبة لأية علاقة زوجية أخرى ، غير أن هناك ظروفا قاهرة حالت دون توثيق عق الزواج ، مما جعله يرتب كافة الآثار القانونية على عقد الزواج ذاك و خاصة إثبات النسب و ما يرتبط به من ولاية و نفقة و إرث و غيره ، مما جعل المشرع يبقى وفيا لروح الأحكام الشرعية المتعلقة بالزواج و يكشف حقيقة موقف المشرع الأسري من مسألة قيام الزواج و عدم ربطها بشكلية الكتابة أو الإشهاد ، مكرسا بذلك النظرة الاجتماعية الحقيقية لهذه المؤسسة و القائمة على الإشهار بدل الإشهاد و توفر باقي الشروط و الأركان الأخرى .

و يستنتج من كل ذلك أن المشرع لما تعامل مع العلاقات الزوجية تعامل معها على أساس موضوعي و لم يتعامل معها على أساس شكلي مما تبقى معه مسألة تحديد مدة قبول دعوى إثبات الزوجية و إجبار القضاء بها مسألة فيها نظر ، الشيء الذي يجعلنا نتساءل حول مصير هذا المأزق التشريعي – و ما نجم عنه من واقع مُعطِّل لمصالح الناس – و سبل تجاوزه ، و هو ما سيكون موضوع المبحث الثاني .

المبحث الثاني
المأزق التشريعي و ” سيناريو ” الحل المقترح

لقد نتج على تحديد فترة زمنية محددة لسماع دعوى الزوجية أزمة قضائية إن جاز التعبير ؛ ذلك أن القضاء توقف مرتين عن الفصل في الدعاوى المتعلقة بثبوت الزوجية ، المرة الأولى سنة 2009 عندما انتهت مدة الخمس سنوات الأولى التي حددها المشرع في الصيغة الأولى للمادة 16 من مدونة الأسرة ، في حين توقف للمرة الثانية عن الفصل في القضايا المعروضة عليه مباشرة بعد انتهاء المدة الثانية ، مما يجعلنا نتساءل حول مصير مصالح المتقاضين و عموم المواطنين هل هي في خطر أم في مأمن ؟ و هل القضاء هو المسؤول عن هذه الوضعية أم أن المشكل ناتج عن المشرع ذاته ؟

ما من شك في أن المشرع بتدخلاته المتناقضة سواء من حيث تصوره للقانون و قواعده المنطقية و مدى تمكنه من الصناعة التشريعية أو من حيث رغبته في الجمع بين رؤى تيارات مختلفة لحد التناقض في بعض الأحيان ، هو المسؤول عن وضع قاعدة قانونية غير سليمة قد تعصف بحقوق الأفراد كما هو الحال بالنسبة لموضوع الدراسة هذا . ذلك أن إلزام القضاء بمدة محددة إن كان مبررا عند انتهاء مدة خمس سنوات الأولى على اعتبار أن سلطة القضاء تتجسد فقط في تطبيق القاعدة القانونية على عِلاَّتها مع عدم تمكن القضاء من أية وسيلة أخرى لتجاوز مقتضى القاعدة القانونية ، فإن انتهاء مدة خمس سنوات الثانية هي فرصة لتنزيل بعض بنود الدستور من قبل القضاء بالشكل الذي يُجبر المشرع على أن يقوم بتدخل سليم من أجل تجاوز هذ المأزق التشريعي المرتبط بتحديد مدة قبول دعوى الزوجية .

و هكذا ؛ فإذا تحققت لنا الصياغة المعيبة شكلا و مضمونا لمقتضيات المادة 16 من مدونة أسرة وفق التفصيل أعلاه ، فإن التعامل مع هذا الواقع و على ضوء انتهاء المدة “التشريعية ” الثانية يجعل ما نصت عليه المادة المذكورة بخصوص سماع دعوى الزوجية معدوما من حيث الأثر القانوني ؛ لأن انتهاء المدة المحددة لقاعدة قانونية معينة وفق القانون و منطقه يُنهي حكم تلك القاعدة ، و بالتالي ينتهي مفعولها مما يجعل القانون الساري المفعول مستقلا عن حكم القاعدة المنتهية الصلاحية و لا يجوز ربط أي مقتضى قانوني لا يزال جاريا بحكم القاعدة التي تصبح هي و العدم سواء ، الشيء الذي قد يخلق نوعا من الفراغ القانوني بشأن حكم التصرفات التي كانت القاعدة المنتهية الصلاحية تؤطرها .

و لعل التدخل التشريعي عند انتهاء الفترة الأولى كرس فكرة أن حقوق الأفراد المتعلقة بإثبات الزوجية رهينة بالتدخل التشريعي لإصلاح هذه الثغرة و تمديد المدة الأولى المنتهية ، مما جعل نفس السلوك ينشأ مباشرة بعد انتهاء الفترة الثانية . و لكن ، و على ضوء ما سبق ، فإن التحليل السليم لهذا الوضع التشريعي المأزوم يجعلنا نرى الحل في مستويين يكمل أحدهما الآخر

المستوى الأول يقوم على التأكيد على كون مسألة ثبوت الزوجية مسألة موضوع و ليست مسألة شكل ، لذلك فإن الخيار الممكن في هذا السياق و في ظل غياب نص قانوني يسمح بالقول بتمديد فترة قبول دعوى الزوجية لمدة غير محددة و ربطها بالموضوع كما كان عليه الأمر في ظل مدونة الأحوال الشخصية ، يمكننا اللجوء إلى مقتضيات المادة 400 من مدونة الأسرة ، و هي المادة التي تعتبر مفتاحا أساسيا من مفاتيح أحكام مدونة الأسرة ، بل أصلا أصيلا كان على المشرع أن يُصدِّر به المدونة و يضعه في الأحكام العامة الواردة في الباب التمهيدي بدل أن يجعله في آخر مادة ، ذلك أن مقتضيات هذه الأخيرة تنص على أنه : ” كل ما لم يرد به نص في هذه المدونة، يرجع فيه إلى المذهب المالكي والاجتهاد الذي يراعى فيه تحقيق قيم الإسلام في العدل والمساواة والمعاشرة بالمعروف. “ .

إذ أن انتهاء المدة التشريعية التي حددها القانون يجعل أثر القاعدة القانونية منعدما و بالتالي فهو ما لم يرد به نص في هذه المدونة ، الشيء الذي يفسح المجال للعمل بأحكام الفقه المالكي و الاجتهاد الذي يحقق العدل و المساواة و المعاشرة بالمعروف .و لعل هذا التوجه القائم على اعتماد الوسائل الشرعية في إثبات الزواج يؤكده ما جاء في الفصل 32 من دستور 2011 و الذي نص على أن :” الأسرة القائمة على علاقة الزواج الشرعي هي الخلية الأساسية للمجتمع .

تعمل الدولة على ضمان الحماية الحقوقية و الاجتماعية و الاقتصادية للأسرة ، بمقتضى القانون ، بما يضمن وحدتها و استقرارها و المحافظة عليها ” إذ من القانون ما جاء بالمادة 400 من مدونة الأسرة ما دام أن المشرع قد نص عليه و يمكن اعتباره قاعدة إسناد يرتكز عليها القاضي في أحكامه للنهل من أحكام الفقه المالكي فيما لا نص فيه حكما أو حقيقة في المدونة .

و على ذلك يمكن في هذه الحالة إما النظر مباشرة من قبل القضاء في دعاوى ثبوت الزوجية على اعتبار أن ذلك يعتبر اجتهادا يحقق العدل و المساواة في جميع تجلياتها و على رأسها المساواة في حكم القانون كما يحقق قيم الإسلام في المعاشرة بالمعروف بين الزجين ، و هو ما يشكل النواة الحقيقية للأسرة الشرعية التي اعتبرها الدستور النواة الأساسية للمجتمع ، كما يمكن الرجوع إلى اعتماد البينة في إثبات الزوجية ( كالإشهاد و التقارر ) كما كان معمولا بها قبل صدور المدونة و دخولها حيز التنفيذ .

أما المستوى الثاني ؛ فيتمثل في الفكرة الجديدة التي جاء بها دستور 2011 من وجوب صدور الأحكام على أساس التطبيق العادل للقانون . و من باب العدل في تطبيق القانون أن يضمن القضاء لكل فرد على حدة مركزه القانوني الذي يحدد له حقوقه و التزاماته التعاقدية و القانونية . و لعل في تجاوز هذه القاعدة القانونية الوقتية و تجاوز سلبياتها تطبيق عادل للقانون على اعتبار أنها قاعدة تحد من الحق في اللجوء للقضاء ، و هي قاعدة غير دستورية يمكن الطعن فيها بعدم الدستورية متى صدر القانون التنظيمي الذي يبيح و ينظم حق الطعن للأفراد ، و هو الأمر الذي لم يكن متاحا قبل دستور 2011 سواء من حيث إمكانية تجاوز القضاء للقاعدة التشريعية لانتفاء فكرة التطبيق العادل للقانون في المنظومة القانونية المغربية و عدم دسترتها ، و كذا لعدم تمكين الأفراد من حق الطعن في دستورية القانون كما كان مكرسا بصورة ضمنية في الفصل 25 من قانون المسطرة المدنية . كما أنه من باب التطبيق العادل للقانون موافقة حكم القانون لروح العدالة بما تتضمنه فكرة عدم القابلية لرجعية القاعدة القانونية من حيث الزمان على الشكل الذي فصلناه أعلاه .

تلك إذن كانت أهم النقاط القانونية التي ارتأينا بسطها في موضوع دعوى ثبوت الزوجية و ما ارتبط بها من مشاكل قانونية لم تؤثر على عمل القضاء فقط و إنما على مصالح و حقوق الأفراد و ما يرتبط بها من مسائل يفرضها القانون . لذلك فإن أهم خلاصة يمكن أن نخلص إليها في هذا السياق و أهم توصية هي أن يتخلى المشرع على فكرة التحديد الوقتي لحكم سماع دعوى ثبوت الزوجية و ربط هذا الدعوى بمدى توفر أركان و شروط الزواج قبل صدور الحكم بالكشف عنه بدل ربط ذلك بالحق في اللجوء إلى القضاء الذي يعتبر أهم مبدأ من مبادئ حقوق الإنسان القائمة على الحق في التقاضي و الخضوع لحكم القانون .
انتهى بحمد الله تعالى