دراسة وبحث قانوني فريد عن القانون الذي يحكم آثار الالتزامات الصرفية

تقديم:

يعتبر تحديد القانون الذي يحكم آثار الالتزامات الصرفية من أهم المسائل التي عرفت خلافا بين الفقهاء، نظرا للمعالجة المعيبة التي جاءت بها اتفاقية جنيف في هذا الباب. ذلك أن الجهود الدولية وإن كللت بعقد مؤتمر جنيف لتوحيد القانون الواجب التطبيق، فإنه في حقيقة الأمر جاءت عرفية للمذهب القائل بتعدد القوانين الواجبة التطبيق والذي يخضع آثار كل التزام صرفي لقانون الدولة التي تنشأ فيها.

وللإجابة على التساؤل الجوهري في هذا العرض وهو: هل نجحت اتفاقية جنيف في الحد من تنازع القوانين في ضمانات الوفاء والرجوع الصرفي؟
نكون مضطرين إلى بحث الموضوع من ثلاث زوايا وهي: اتفاقية جنيف ومدونة التجارة وظهير 12 غشت 1913 المنظم لوضعية لفرنسيين والأجانب بالمغرب.
هكذا ولمعالجة ما سلف ذكره سنعتمد التصميم التالي:
المبحث الأول: القانون الواجب التطبيق على ضمانات الوفاء في الكمبيالة.
المطلب الأول: القانون الواجب التطبيق على القبول
المطلب الثاني: القانون الواجب التطبيق على الضمان الاحتياطي
المطلب الثالث: القانون الواجب التطبيق على مقابل الوفاء.
المبحث الثاني: القانون الواجب التطبيق على الرجوع الصرفي في الكمبيالة.
المطلب الأول: القانون الذي يحكم حالات الرجوع الصرفي وشروطه
المطلب الثاني: القانون الذي يحكم ممارسة حق الرجوع في الكمبيالة.

المبحث الأول:
القانون الواجب التطبيق على ضمانات الوفاء في الكمبيالة.

ضمانات الوفاء في الورقة التجارية هي القبول والضمان الاحتياطي ومقابل الوفاء، وسنخصص كل منها مطلبا مستقلا.

المطلب الأول: القانون الواجب التطبيق على القبول.

نصت المادة الرابعة من اتفاقية جنيف في فقرتها الأولى على أنه: “تخضع آثار التزامات قابل الكمبيالة لقانون المكان الذي تكون فيه مستقلة الوفاء، وتخضع الآثار الناتجة عن توقيعات الملتزمين الآخرين في الكمبيالة لقانون الدولة التي أعطيت هذه التوقيعات في إقليمها”.
بالمقابل نجد المادة 174 في فقرتها الأولى تنص على أنه: “يجوز لحامل الكمبيالة أو لمجرد الحائز لها أن يقدمها حتى تاريخ الاستحقاق إلى المسحوب عليه في موطنه لقبولها”.

هكذا يترتب عن القبول نشأة التزام صرفي في ذمة المسحوب عليه يلزمه بأداء مبلغ الكمبيالة في تاريخ الاستحقاق للحامل ولو كان الساحب، باعتباره أصبح بتوقيعه بالقبول على الكمبيالة المدين الرئيسي فيها.[1]

وعليه فإن القانون الواجب التطبيق على آثار التزام المسحوب عليه القابل هو قانون محل الوفاء،[2] أي قانون موطن المسحوب عليه وهو الرأي الذي أخذ به المشرع المغربي والمصري.

لكن هذه المهمة تقع على عاتق الحامل الذي عليه البحث عن قاعدة الإسناد الواجب إعمالها، وهو ما سيحيله إلى قانون محل الوفاء وبطبيعة الحال لن تختلف هذه الدولة في الحالتين، ومتى تحدد القانون على هذا النحو فإن هذا القانون يكون هو المختص بتحديد مسائل تبعية من قبيل آثار إعمال التقديم للقبول، وهل يجوز التقديم بعد ميعاد الاستحقاق وغيرها..؟ لكن ما الحكم بالنسبة لآثار شرط القبول أو عدم القبول الذي قد يضيفه الساحب أو أحد المظهرين؟

يرى الرأي الراجح في الفقه الفرنسي إلى أنه لما كان هذا الشرط يتعلق في هذا الفرض برضاء الملتزم في الورقة، فإنه يجب أن يسري في شأنه القانون الذي يحكم الشروط الموضوعية أي قانون محل نسوء الالتزام الصرفي اللهم إذا اتفق الأطراف على قانون آخر شريطة أن يكون ذلك ظاهرا في الورقة التجارية ذاتها تطبيقا لمبدأ الكفاية الذاتية.

وباعتبار الأحكام المكرسة في م.4/1 بمثابة مبادئ القانون الدولي الخاص والتي تقضي بأن آثار القبول يحكمها قانون موطن المسحوب عليه، فإنه القانون الذي يجب الرجوع إليه لحكم المسائل الآتية: مضمون ونطاق التزامات القابل في مواجهة الساحب والدفوع التي يمكن للمسحوب عليه أن يحتج بها في مواجهة الحامل أو الحملة المتعاقبين والعملة الواجب الوفاء بها ومعدل الفوائد عن التأخير وتاريخ بدء سريان هذه الفوائد…

وقد ذهب واضعو اتفاقية جنيف في هذا الصدد وناشدهم بعد الفقه إلى اعتبار السند الذي أساسه يخضع آثار القبول لموطن المسحوب عليه القابل هو خضوع العقد السابق الذي بمقتضاه أصبح المسحوب عليه مدينا للساحب لقانون موطن المسحوب عليه.[3]
أما بخصوص القبول الجزئي فإن اتفاقية جنيف التي كرست من حيث المبدأ مذهب التعدد، أخضعته للقانون الذي يحكم الوفاء في الورقة إن على مستوى جوازه أو آثاره.
وصفوة القول فإن قانون محل الوفاء هو الذي يبين ما إذا كان القبول الجزئي مقبولا أو معلقا على شرط من شأنه تعديل البيانات الأصلية وكذلك هو الذي يحدد حقوق وواجبات الحامل.

المطلب الثاني: القانون الواجب التطبيق على الضمان الاحتياطي.

تعتبر العلاقات المتفرعة عن الضمان الاحتياطي من أخطر العلاقات وأكثرها تعقيدا في نظر الفقه الحديث، فهي تخضع لنوعين من القواعد: قواعد قانون الصرف من جهة، وقواعد الكفالة التضامنية من جهة أخرى.[4]
وفي مضمار تنازع القوانين يسري قانون محل نشأة الالتزام على آثار الضمان الاحتياطي، وذلك تطبيقا لمقتضيات الفقرة الثانية من المادة 4 من اتفاقية جنيف لسنة 1930، ويكرس هذا الحل كذلك إعمال مبدأ تعدد القوانين وهو ما يتماشى مع استقلال الالتزامات الصرفية.[5]

وبالرجوع لمدونة التجارة نجدها تنص في الفقرات السابعة والثامنة والتاسعة من المادة 180 بأن الضامن الاحتياطي يتحمل نفس الالتزام الملقى على عاتق الشخص المضمون، ويكون تعهد الضامن صحيحا ولو كان التزام المضمون باطلا لأي سبب كان غير العيب في الشكل، وحيث يؤدي الضامن الاحتياطي قيمة الكمبيالة يكتسب الحقوق الناتجة عنها تجاه الشخص المضمون وتجاه الأشخاص الملزمين نحو هذا الأخير بمقتضى الكمبيالة.

ويستنتج مما سبق، أن الضمان الاحتياطي تترتب عنه عدة آثار تختلف بحسب علاقة الضامن الاحتياطي بالحامل أو بحسب علاقته بالمضمون أو بباقي الموقعين على الكمبيالة، فآثار الضمان الاحتياطي هي نفس الآثار المترتبة على الكفالة التضامنية لأن الضامن الاحتياطي يعتبر في الأصل كفيلا متضامنا مع الشخص المضمون، غير أن التزام الضامن الاحتياطي يشكل التزاما صرفيا مستقلا عن الالتزامات الأخرى في الكمبيالة استنادا إلى قاعدة استقلال التوقيعات.[6]

وهذا ما ذهبت إليه التشريعات المقارنة كالتشريع المصري، ولا مانع كذلك من تعدد القوانين التي تحكم آثار التزامات الضمان إذا تعددت حالات الضمان، على أن تعدد الضامنين الاحتياطيين يتحول والحالة هذه من باعث للثقة إلى عبء ملقى على عاتق الحامل الذي عليه أن يبحث في سائر القوانين التي تحكم هذه الالتزامات لمعرفة الآثار المترتبة عليها.[7]

لنخلص مع هذه الإشكالية إلى خلاصة مفادها أن آثار الالتزامات الصرفية يجب أن تخضع لقانون واحد هو قانون محل الوفاء.[8]

المطلب الثالث: القانون الواجب التطبيق على مقابل الوفاء.

مقابل الوفاء هو دائما وأبدا مبلغ معين من النقود، وهو يمثل تلك العلاقة الأصلية التي كانت تجمع الساحب بالمسحوب عليه، هذه العلاقة هي التي أدت إلى سحب هذه الكمبيالة.[9]

ولم يعد مقابل الوفاء كما كان في القديم العمولة أو المقابل الذي يدفعه الساحب إلى المسحوب عليه ليقوم بالوفاء في تاريخ الاستحقاق، إنما يعتبر في الوقت الحاضر الحق الشخصي الثابت للساحب قبل المسحوب عليه، والذي يلتزم بمقتضاه هذا الأخير بأن يدفع مبلغ الكمبيالة إلى المستفيد أو الحامل.

وتتنازع مقابل الوفاء في الوقت الحاضر نظريتان:
أولا: النظرية الفرنسي: والتي تربط الالتزام الصرفي بالعلاقات السابقة عند إنشائه.[10]

ثانيا: النظرية الألمانية: والتي تعتبر الالتزام الصرفي التزاما مجردا وحرفيا ومستقلا عن العلاقات السابقة، وتحصر طبيعة العلاقة التي تربط الحامل بالساحب في ضمان هذا الأخير للقبول والوفاء، وضمان الوفاء هذا من النظام العام، لا يمكن التحلل منه حسب منطوق المادة 165 من م.ت.
أما اتفاقية الأمم المتحدة فقد أخضعت ضمان الوفاء عندما خولت الساحب أن يتحلل منه هو الآخر ولم تجعله من النظام العام. وقد نصت على إعفاء الساحب من ضمان الوفاء المادة 38 التي جاء فيها:
“1. يلتزم الساحب بأن يدفع في حالة رفض قبول الكمبيالة أو رفض الوفاء بها، وبشرط عمل الاحتجاج اللازم.
2. يجوز بموجب شرط صريح في الكمبيالة أن يعفي الساحب نفسه من التزامه بقبولها أو دفع قيمتها، أو أن يحد من هذا الالتزام…”.[11]

[1] أحمد شكري السباعي، الوسيط في الأوراق التجارية، الجزء الأول، الطبعة الأولى، 1998، دار نشر المعرفة، ص.171.
[2] عكاشة محمد عبد العال، تنازع القوانين في الأوراق التجاري، الدار الجامعية، 1988، ص.220.
[3] هشام علي صادق، تنازع القوانين (دراسة مقارنة في المبادئ العامة والحلول الوضعية المقررة في التشريع المصري)، منشأة المعارف، ط.3، الإسكندرية، 1974، ص.832.
[4] أحمد شكري السباعي، مرجع سابق، ص.219.
[5] عكاشة محمد عبد العال، مرجع سابق، ص.265.
[6] محمد الشافعي، الأوراق التجارية في ضوء مدونة التجارة المغربية، دار وليلي، الطبعة الأولى، 1998، ص.199.
[7] عكاشة عبد العال، مرجع سابق، ص.
[8] J. Durand, Les conflits de lois en matière de lettre de cange et de billet à ordre, thèse pour l’obtention du Doctorat, Faculté de droit de Nancy, 1950, P.80 et suites.
[9] المختار بكور، الأوراق التجارية في القانون المغربي، دار السلام، الطبعة الثانية، 2011، ص.48.
[10] أحمد شكري السباعي، مرجع سابق، ص.136.
[11] أحمد شكري السباعي، مرجع سابق، ص.139.