دراسة وبحث قانوني هام عن عناصر الركن المادي للجريمة

المقدمـة :

– من المبادئ المسلم بها المسلم أنه لا سلطان للقانون على ما يدور في ضمائر الأفراد من أفكار أو ما يعتقدونه من عزائم ونيات، طالما أنها لم تبرز إلى العالم الخارجي بأفعال تترجم عنها. ولهذا كانت كل جريمة مستلزمة بالضرورة لقيامها ركنا ماديا يتمثل في فعل أي واقعة خارجية تدركها الحواس وتستند إلى الجاني من الناحية المادية . و نقصد بالجريمة أنها سلوك غير عادي يلحق ضررا بمصلحة يحميها القانون وهي بذلك تكون إما القيام بفعل يجرمه قانون العقوبات أو الامتناع عن أداء واجب يأمر به القانون . أما الركن المادي للجريمة هو الفعل أو الامتناع الذي بواسطته تتكشف الجريمة ويكتمل جسمها ، و من هنا يستلزم وجود ركن مادي لقيام الـجريمة يبــرره أن الأفعال المحسوسة هي وحدها التي يمكن أن تحقق عدوانا على الحقوق أو المصالح التي يحميها ويرعاها. أم الأفكار والنيات فلا ضرر منها طالما ظلت حبيسة النفس وليس للقانون أن يتدخل بالعقاب عليها كفالة لحرية الفكر . غير أنه لقيام الركن المادي للجريمة يجب توفر عناصر معينة ، و من تم نطرح التساؤل التالي : فيما تتمثل هذه العناصر ؟

المبحث الأول : الفعل الإجرامي :

– يقصد بالفعل الإجرامي ذلك السلوك المادي الصادر عن الإنسان والذي يتعارض مع القانون ، وبذلك يتكون الفعل من عنصرين هما : السلوك الجنائي من جهة والإرادة من جهة أخرى .

المطلب الأول : السلوك الجنائي :

– يتمثل السلوك الجنائي في الفعل المعبر عليه بحركة الجاني الصادرة عن إحدى أعضائه وهذا ما نقصد به بالفعل الإيجابي ، كما يشمل الامتناع عن القيام بعمل يستوجبه القانون وهذا ما يسمى بالفعل السلبي.
– فالفعل الإيجابي هو تلك الحركة العضوية الإرادية للجاني ، الذي يصدر عن الفاعل في شكل حركات غايتها إحداث أثار مادية معينة. فالجاني الذي يريد إحداث وفاة عدوه أو خصمه فيحضر الوسيلة لذلك فليكن السلاح ثم يوجه هذا السلاح لخصمه ويضغط على بحركة يديه على الزناد لإطلاق العيار الناري لإحداث النتيجة وهي الوفاة. وهذا الفعل يصدر عن الجاني في هذه الصورة في حركة عضوية من عضو أو عدة أعضاء من جسمه ، باليد أو بالرجل أو بهما معا مثل جريمة القتل أو السرقة . واللسان مثل جريمة السب أو الشتم ، و عندما يقترن الفعل المادي هذا بإرادة ارتكاب الجريمة تكتمل إذن في صورة السلوك الفعل الإيجابي. أما الفعل السلبي فيقصد به امتناع الفاعل عن القيام بعمل معين يأمر به القانون . فجريمة امتناع الأم عن إرضاع طفلها تتمثل في إحجامها عن القيام بفعل يفرضه القانون. وكذلك امتناع السائق عن الامتثال لإشارات وتعليمات المرور، وامتناع الرجل من دفع نفقة الحضانة وامتناع الشاهد عن الإدلاء بشهادته أمام القضاء ، يعتبر بذلك الفاعل أنه قد امتنع عن القيام بواجب يفرضه القانون . و هو لا يختلف عن السلوك الإيجابي في مسألة إدراك الجاني بالموقف الذي سيتخذه عن إحجامه القيام بعمل يستوجبه القانون .

المطلب الثاني : الإرادة :

– تتجسد الإرادة في إدراك الجاني لخطورة ما يصدر عنه من سلوك جنائي. وهو يكون في هذه الحالة مدفوعا بقوة نفسية تسيطر عليه من أجل تحقيق غاية معينة، ومن ثم فليس للفعل قيمة إذا لم يكن صادرا عن إرادة واعية. وللحركة الإرادية أهمية في الموضوع وذلك لاستبعاد كل حركة غير إرادية فمثلا الشخص الذي يغمى عليه فجأة أثناء قيادته للسيارة ويتسبب في قتل شخص مار بالطريق لا يعد سلوكا إراديا و لا يكيف الفعل على أساس القتل العمدي ، لأن الجاني لم يتسبب في إحداث النتيجة

بإرادته الذاتية بل هناك قوة خارجية دفعته لارتكاب الفعل. وهذا ما تنص عليه المادة 48 من قانون العقوبات : ” لا عقوبة على من اضطرته إلى ارتكاب الجريمة قوة لا قبل له بدفعها “.

المبحث الثاني : النتيجة :

-يقصد بالنتيجة الأثر المادي المترتب على السلوك الإجرامي، وقد اختلف الفقهاء حول مفهوم النتيجة بين رأي يقول بالرأي المادي (الطبيعي) وآخر يقول بالمفهوم القانوني لها.

المطلب الأول : المفهوم المادي :

– يقصد بالجريمة حسب هذا المفهوم الأثر المادي الذي يحدث في العالم الخارجي كأثر السلة الإجرامي، فالسلوك قد أحدث حسيا ملموسا في الواقع الخارجي ومثاله : إزهاق الروح في جريمة القتل، وانتقال الحيازة في جريمة القتل والحصول على الأموال في جريمة النصب. ومفهوم النتيجة كعنصر في الركن المادي للجريمة يقوم على أساس ما يأخذ به المشرع ويرتب عليه نتائج بغض النظر عما يمكن أن يحدثه السلوك الإجرامي من نتائج أخرى. فالنتيجة التي تهمنا هي النتيجة التي يتطلبها المشرع لاكتمال الركن المادي للجريمة دون البحث في النتائج الأخرى التي أحدثتها جريمة القتل كالخسارة المادية التي تصيب أسرة القتيل، أو الألم النفسي الذي ترتب على الجريمة بالنسبة لعائلة القتيل. وأخذا بهذا المفهوم يقسم الفقهاء الجرائم إلى نوعين : الجرائم المادية ذات النتيجة كجرائم القتل والسرقة … الخ. والجرائم الشكلية والتي لا يتطلب ركنها قيام النتيجة كجرائم ترك الأطفال وشهادة الزور

المطلب الثاني : المفهوم القانوني :

– ويتمثل هذا المفهوم فيما يسببه سلوك الجاني من ضرر أو خطر يصيب أو يهدد مصلحة يحميها القانون. وعلى هذا الأساس تكون النتيجة في جريمة القتل مثلا هي العدوان على الحق في الحياة. والنتيجة في جرائم الضرب والجرح هي العدوان على الحق في سلامة الجسم. ويؤدي الأخذ بهذا المفهوم إلى القول بأن كل جريمة يجب أن يكون لها نتيجة حتى الجرائم الشكلية لها بحسب هذا المفهوم نتيجة ، لأنها لا تخلو من خطر يهدد مصلحة محمية قانونا. فجريمة حمل السلاح مثلا لها نتيجة قد تتمثل في تعريض مصلحة الناس في أمنهم واستقرارهم للخطر. وعلى هذا الأساس قسم الفقه الجرائم إلى نوعين : جرائم ضرر وجرائم خطر .

المبحث الثالث : علاقـة السببية :

– يقصد بعلاقة السببية تلك الصلة التي تربط بين الفعل المادي الذي يرتكبه الجاني والنتيجة التي تتحقق من ذلك الفعل

المطلب الأول : نظرية تعادل الأسباب :

– ترجع هذه النظرية النتيجة إلى جميع العوامل التي ساهمت في إحداثها. ومؤدى ذلك أن فعل الجاني باعتباره واحدا من العوامل التي ساهمت في إحداث النتيجة، يعد سببا لإحداث النتيجة ولو تفاعل مع عدة أسباب أخرى وساهمت جميعها في إحداث النتيجة. وسان بعد ذلك أكان فعل الجاني هو العامل الأهم أو العامل الأقل أهمية. فكل الأسباب تقف في – نظر هذه النظرية – على قدم المساواة في إحداث النتيجة عندما تساهم في إحداثها. فمن ضرب خصمه فجرحه يُسأل عن النتيجة التي حدثت للمجني عليه الذي ذهب إلى المستشفى للتداوي من الجرح فأخطأ الطبيب المعالج في العلاج ومات المجني عليه. كما يُسأل الجاني الذي ضرب رجلا مريضا إذا حدثت نتيجة للضرب والمرض. وحجة هذا الرأي تستند إلى القول بأن العوامل الأخرى المعاصرة أو اللاحقة ما كانت لتحدث النتيجة لولا فعل الجاني، ولدا فإن فعله هو السبب. فلو لم يضرب الجاني خصمه ويجرحه لما اضطر هذا الأخير إلى الذهاب إلى المستشفى ليحدث له ما حدث في مثالنا الأول، ولم لم يضرب الجاني الرجل المريض لما استطاع المرض أن يُحدث الوفاة للمريض في مثالنا الثاني. وعليه، فإن فعل الجاني هو السبب في حدوث النتيجة إذ لولا فعله لما وقعت الجريمة. ويعد الفعل سببا على العموم للنتيجة إذا كان يترتب على تخلفه انتفاؤها. أي انه يعد سببا كل عامل من العوامل التي ساهمت في إحداث النتيجة إن كان في تخلفه ما يجعل النتيجة بعيدة التحقيق. ولدا فإن كل عامل ساهم في إحداث النتيجة يعد ضروريا ولو كان أقل أهمية من العوامل الأخرى من حيث الواقع. ونظرا لضرورة لزوم كل عامل من العوامل التي ساهمت في إحداث النتيجة، فقد اعتبرت كلها متساوية أو متعادلة في إحداث النتيجة. ولدا سميت هذه النظرية بنظرية تعادل الأسباب.

– تقييم هذه النظرية : جاءت النظرية بمعيار سهل لاستخلاص وجود علاقة السببية بين الفعل والنتيجة، إذ يكفي أن يكون السلوك ضمن بقية العوامل التي أدت لتحقيق النتيجة حتى نقول بتوافر علاقة السببية. ولكن النظرية تعرضت لنقد شديد وأخذ عليها أنها تساوي بين العوامل المختلفة . إذ من غير المنطقي وضع الأسباب الضعيف منها والقوي على قدم المساواة. فإذا أمكن تطبيق أرائها في عالم الطبيعة المادي، فإنه لا يجوز تطبيعها في عالم القانون الوضعي. وزيادة على ذلك فقد حملت هذه النظرية الجاني تبعة العوامل الأخرى والتي لا شأن له بها أحيانا مما يجعلها براي المنتقدين لها تجافي روح العدالة .

المطلب الثاني : نظرية السبب المنتج :

– ومؤدى هذه النظرية أن الجاني لا يسأل عن النتيجة التي حدثت إلا إذا كانت متصلة مباشرا بفعله ويعني ذلك أن رابطة السببية تظل قائمة ولا تنقطع ما دام الجاني هو الأقوى أو السبب الأساسي في حدوث النتيجة بالمقارنة مع الأسباب الأخرى التي ساهمت معه في حدوث النتيجة بالمقارنة مع الأسباب الأخرى التي ساهمت معه بحيث يمكن القول بأنها حدثت بفعله دون غيره. ومعيار ذلك هو أن : إذا كان فعل الجاني قادر على تحقيق النتيجة باستبعاد العوامل الأخرى فهذا يعني أن رابطة السببية متوافرة ويُسأل الجاني عن النتيجة ، وتنقطع رابطة السببية ولا يُسأل الجاني إذا كان فعله غير قادر على تحقيق نتيجة. وعلى عكس نظرية تعادل الأسباب نجد على أن هذه النظرية تُغلب مصلحة المتهم على مصلحة الضحية، فالمتهم لا يُسأل إلا إذا كان فعله الأقوى من بين الأسباب التي أدت إلى حدوث النتيجة. ويعني ذلك أن المتهم قد يفلت من المسؤولية عن النتيجة التي حدثت فيما لو شاركه في حدوثها أسباب مساوية أو أشد من فعله. فلو اعتدى شخص على آخر وتوفي المُعتدى عليه، فقد لا يُسأل الجاني عن النتيجة لو ثبت أن الوفاة قد حدثت بسبب المجني عليه أو خطأ الطبيب المعالج أو انقلاب السيارة التي نقلته على الطريق، وذلك لانقطاع رابطة السبب بفعل العوامل المتدخلة الأخرى التي تُعد أهم وأقوى من فعل الجاني.

– تقييم هذه النظرية : يؤدي الأخذ بهذه النظرية على العموم إلى تسوئ مركز الضحية ومراعاة مصالح المتهم على حسابه. وقد تؤدي إفلات المتهم من المسؤولية إذا ما تداخلت إلى جانب أعماله عوامل أجنبية . ويؤخذ عليها أيضا القول بوجود سبب واحد للجريمة و هو قول تعوزه الدقة ، إذ يصعب أن ينفرد سبب واحد بإحداث النتيجة. وزيادة على ذلك فإنه لا يجوز استبعاد العوامل الأخرى لكونها أقل شدة. كما توجد صعوبة في إيجاد المعيار المناسب الذي يدل على السبب الأشد أو السبب المنتج أو الفعال من بين الأسباب الأخرى، ففي كثير من الحالات تدق التفرقة ويصبح أمر تعيين السبب الفعال أمرا صعبا .

المطلب الثالث : نظرية السببية الملائمة :

– مؤدى هذه النظرية أن الجاني يكون مسؤولا عن إحداث النتيجة إذا كان باستطاعته الفعل أي يؤدي بحسب المجرى العادي للأمور لإحداثها . فالنتيجة تنسب إلى الجاني إذا كان فعله ملائما لإحداثها ضمن الظروف والعوامل التي أحاطت بالفعل وتداخلت معه. وللتحقق من توافر رابطة السببية بين فعل الجاني والنتيجة نتأكد من قدرة الفعل على إحداث النتيجة وهذا يدل على أن رابطة السببية موجودة، وإن كان العكس فهذا يعني أن رابطة السببية منقطعة. فالفاعل يتحمل بموجب هذه النظرية نتائج فعله أيضا مضافا إلى ذلك العوامل الأخرى المألوفة دون الشاذة.

– تقييم هذه النظرية : تتوسط هذه النظرية الاتجاهين السابقين، فهي لا تأخذ بجميع العوامل التي ساهمت في إحداث النتيجة على قدم المساواة كما فعلت نظرية تعادل الأسباب. كما أنها لم تستبعد جميع العوامل التي ساهمت إلى جانب فعل الجاني في إحداث النتيجة كما فعلت نظرية السبب المنتج. وهي بذلك نظرية معتدلة تحصر علاقة السببية في نطاق معقول فتحقق العدالة. ومن محاسنها أنها تميز بين العوامل التي ساهمت في إحداث النتيجة وتعتد بالعوامل المألوفة فحسب . و مع ذلك فقد انتقدت هذه النظرية و قيل بأنها نظرية تحكمية تستبعد بعض العوامل بدون منطق ، و هي عوامل ساهمت فعلا في إحداث النتيجة. وقيل بأنها نظرية تخلط يبن الركنين المادي والمعنوي للجريمة لأنها تعتمد على فكرة التوقع بحسب المجرى العادي للأمور. غير أن هذه الانتقادات غير حاسمة وتبق هذه النظرية هي السائدة على العموم في الفقه والقضاء .