الوساطة الجزائية نموذج للتحول من عدالة عقابية إلى عدالة إصلاحية

الأستاذة: شنين سناء جامعة عمار ثليجي بالأغواط

د. سليمان النحوي جامعة عمار ثليجي بالأغواط

إعادة نشر بواسطة محاماة نت
ملخص
تشهد السياسة الجزائية المعاصرة توجها جديدا للأخذ بفكرة الرضائية والتخلي عن فكرة العقوبة وتبني بدائل للدعوى العمومية، باعتبار أن الدعوى هي الوسيلة القانونية الوحيدة لتطبيق العقوبة التي أصبحت قاصرة عن تحقيق أهدافها في الردع والإصلاح، فنشأ ما يعرف بأزمة العدالة الجزائية، الأمر الذي زاد في تعقيد الإجراءات وتراكم الدعاوى الجزائية، فظهرت إتجاهات حديثة تنادي بتطبيق بدائل للدعوى العمومية تجسد العدالة التصالحية من بين هذه البدائل الوساطة الجزائية والتي تعتبر وسيلة لفض المنازعات الجزائية بالتفاوض بين أطراف الدعوى استحدثت الوساطة الجزائية بموجب الأمر رقم 15/02 المؤرخ في 23 يوليو 2015 المتضمن قانون الإجراءات الجزائية .

الكلمات المفتاحية:

الوساطة الجزائية، العدالة الجزائية، عدالة عقابية، عدالة تصالحية، بدائل الدعوى العمومية، المنازعات الجزائية .

Résumé:

La politique criminelle contemporaine s’oriente vers une nouvelle approche qui opte l’idée de consensus et abandonne celle de punition. Cette politique criminelle adopte d’autres alternatives qui remplacent l’action publique étant donné que cette action est le seul moyen légal pour faire appliquer la sentence. De ce fait la sentence est devenue insuffisante pour atteindre ses objectifs en matière de la dissuasion et de la réforme, ce qui a crée la crise de la justice pénale, la complexité des procédures et l’accumulation des actions pénales. Ainsi, les tendances récentes appelent à l’application d’autres alternatives qui remplacent l’action publique qui incarnent la justice conciliatrice. Parmi ces alternatives, la médiation pénale, qui est considérée comme un moyen de régler des différents contentieux pénales par voie de négociation entre les parties de l’action publique. La médiation pénale avait été introduite par l’ordonnance no 02/15 en date du 23 Juillet 2015 relative à la code des procédures pénales.

Mots-clés:médiation pénale, la justice pénale, la justice punitive, la justice réparatrice, des alternatives à l’action publique, les litiges criminels.

مقدمة

الجريمة ظاهرة اجتماعية قديمة قدم المجتمع البشري، يترتب على وقوعها نشوء حق الدولة في العقاب والدعوى العمومية هي الوسيلة التي تباشر من خلالها الدولة هذا الحق طبقا لمبدأ الشرعية، و نظرا للارتفاع الملحوظ في نسبة الجريمة أصبحت العدالة الجنائية عاجزة عن التصدي للجريمة، أمام هذا الوضع ظهرت خيارات جديدة لمعالجة أزمة العدالة الجنائية أصبحت ضرورة ملحة في الوقت الراهن، ومن هذه الخيارات فتح المجال للتواصل مع أطراف الخصومة الجنائية لتوسيع آليات العدالة التصالحية، من خلال اعتماد وسائل جديدة لحل النزاعات خارج الإطار التقليدي للمحاكمة وإجراءاتها تفاديا لتعقيدات القضاء وكثرة شكلياته، من هنا ظهرت الوساطة الجنائية كنمط جديد من الإجراءات التي تقوم على الرضائية، وهو ما اتجه إليه المشرع الجزائري الذي تبنى هذه الأنظمة تدعيما لبرنامج إصلاح العدالة، وذلك من خلال تفعيل آليات العدالة التصالحية.

إلى أي مدى تساهم الوساطة الجنائية في تجسيد عدالة تصالحية تقوم على التفاوض بين أطراف الدعوى، وما هي آثارها على الدعوى العمومية، و ما هو الدور الذي تلعبه في نظام العدالة الجنائية ؟

للإجابة على هذه الإشكالية، قمنا بتقسيم الفكرة الأساسية إلى فكرتين فرعيتين، و ذلك من خلال مبحثين تطرقنا في المبحث الأول إلى الإطار المفاهيمي للوساطة الجنائية، و في المبحث الثاني إلى الإطار الإجرائي للوساطة الجنائية بالإضافة إلى خاتمة شملت النتائج المتوصل إليها والتوصيات.

المبحث الأول: الإطار المفاهيمي للوساطة الجزائية

أنظمة التسوية أو بدائل الدعوى العمومية هي إجراءات تحول دون تعرض الجاني لآثار المحاكمة الجنائية وتجنب تسليط عقوبة جنائية، فأجاز القانون الجنائي للأطراف في طائفة محددة من الجرائم، وبغية تيسير إجراءات التقاضي أن يتم الاتفاق والتفاوض بينهم على إنهاء الإجراءات الجنائية، وقد جاءت هذه البدائل استجابة لضرورة تبني سياسة جنائية تقوم على المصالحة بين أفراد المجتمع وجبر الضرر بالنسبة للضحية وإعادة إدماج الجاني([1]).

المطلب الأول: مفهوم الوساطة الجزائية (التعريف، الطبيعة والخصائص)

تعد الوساطة الجنائية أحد الوسائل الحديثة التي اتجهت إليها التشريعات المقارنة، من أجل وضع حلول عملية للمشاكل التي يعاني منها نظام العدالة الجنائية، وحتى يمكننا دراسة الإطار المفاهيمي ينبغي علينا التعريف بالوساطة الجنائية وتحديد طبيعتها القانونية وخصائصها .

الفرع الأول: تعريف الوساطة الجزائية

رغم انتشار الوساطة كأسلوب جديد لحل النزاعات الجزائية في اغلب التشريعات المقارنة، إلا أن هذه النصوص تجنبت في غالبيتها وضع تعريف محدد للوساطة الجزائية، مما حذا بالفقه إلى تقديم عدة تعريفات:

انقسم الفقه في تعريفه للوساطة إلى اتجاهين، اتجاه يعرفها من حيث الموضوع، واتجاه يعرفها من حيث الغاية، فبالنظر إلى موضوعها الوساطة نظام يستهدف الوصول إلى اتفاق أو مصالحة بين أطراف ويستلزم تدخل شخص ثالث لحل النزاع بطريقة ودية، أما تعريفها من حيث الغاية أو الهدف منها :([2])

هي ذلك الإجراء الذي بموجبه يحاول شخص من الغير بناء على اتفاق الأطراف وضع حد ونهاية لحالة الاضطراب التي أحدثته الجريمة، عن طريق حصول المجني عليه على تعويض كاف عن الضرر الحاصل ناهيك عن إعادة تأهيل الجاني .

فالوساطة هي وسيلة لحل المنازعات ذات الطبيعة الجزائية والتي تأسس على فكرة التفاوض بين الجاني والمجني عليه على الآثار المترتبة على وقوع الجريمة، ويترتب على نجاحها تعويض المجني عليه وتأهيل الجاني وإصلاح الآثار المترتبة على الجريمة، وتمثل الوساطة نمطا جديدا من الإجراءات الجزائية التي تقوم على الرضائية في إنهاء المنازعات الجزائية، كما تعتبر الخيار الثالث للنيابة العامة حيث كانت سابقا تتجه إلى إحدى الطريقين إما حفظ الدعوى أو متابعة الإجراءات الجزائية .([3])

و قد أصبحت الوساطة الجزائية أحد المصطلحات المألوفة في القانون الجزائي المقارن باعتبارها وسيلة لتفعيل مشاركة الأطراف في نظام العدالة الجزائية وعلاج الآثار التي تخلفها الجرائم البسيطة .

يعرفها الدكتور رامي متولي القاضي بأنها ذلك الإجراء الذي يتم قبل تحريك الدعوى العمومية بمقتضاه تخول النيابة العامة جهة وساطة أو شخص، تتوفر فيه شروط خاصة وبموافقة الأطراف الجاني والمجني عليه لتسوية الآثار الناجمة عن طائفة من الجرائم التي تتسم ببساطتها أو بوجود علاقات دائمة بين أطرافها وتسعى لتحقيق أهداف محددة نص عليها القانون، ويترتب على نجاحها عدم تحريك الدعوى العمومية . ([4])

تعريف الوساطة في قانون الإجراءات الجزائية الجزائري :

قانون الإجراءات الجزائية المعدل رقم 15/02 المؤرخ في 15يوليو 2015، لم يعطي تعريفا للوساطة خلافا لقانون حماية الطفل 15/12 المؤرخ في 15 جويلية 2015 الذي جعل الوساطة آلية قانونية تهدف إلى إبرام اتفاق بين الطفل الجانح، أو ممثله الشرعي من جهة أو بين الضحية أو ذوي حقوقها من جهة أخرى وتهدف إلى إنهاء المتابعات وجبر الضرر الذي تعرضت له الضحية، ووضع حد لآثار الجريمة والمساهمة في إعادة إدماج الطفل، فالوساطة في جرائم الأحداث تهدف أساسا إلى إصلاح القاصر وتهذيبه وتعويض المجني عليه، وهي غالبا ما تكون ذات طابع تربوي تعليمي ([5]).

انطلاقا مما سبق يمكننا تعريف الوساطة بأنها آلية قانونية تهدف إلى إبرام اتفاق بين الضحية والمشتكى منه يلتجأ إليها وكيل الجمهورية بغرض إنهاء المتابعة، و جبر الضرر الذي تعرضت له الضحية، ووضح حد لآثار الجريمة وإعادة إدماج الجاني.

الفرع الثاني: طبيعة الوساطة الجزائية: ثار خلاف في الفقه الجزائي حول تحديد طبيعة الوساطة، فهناك من يرى أنها ذو طبيعة عقدية، وهناك من يرى أنها ذو طبيعة اجتماعية أو ذو طبيعة إدارية .

الوساطة الجزائية ذات طبيعة عقدية: يرى أنصار هذا الاتجاه أن الوساطة ذات طبيعة عقدية فهي تتشابه مع عقد الصلح المدني، لأنها تهدف لتعويض المجني عليه وهو ما يهدف إليه الصلح، وهي بذلك تعد وسيلة يتوصل فيها الجاني والمجني عليه إلى اتفاق تم التفاوض لأجله ينتهي بتوقيع الأطراف لاتفاق الصلح، كما أن اتفاق الوساطة لا تمنع النيابة من تحريك الدعوى العمومية وهو ما يتفق مع الصلح، واعتبار اتفاق الوساطة ذو طبيعة عقدية يستلزم توافر الأركان الواجب توافرها في العقد، لكن في الواقع هذا الإتجاه يغفل الدور الذي تلعبه النيابة في قبول أو رفض هذا الإتفاق .

الوساطة الجزائية ذات طبيعة اجتماعية :إعتبر أنصار هذا الإتجاه الوساطة نموذج للتنظيم الإجتماعي الذي يسعى لتسوية النزاعات بشكل ودي وأكثر إنسانية، بعيدا عن التعقيدات الشكلية للتقاضي، ولم ينف هذا الإتجاه الصفة الجنائية فمجال تطبيقها هو المنازعات الجزائية، لكن ما يعاب عليه هو إغفال الغاية من إجراء الوساطة في إنهاء الخصومة الجزائية .

الوساطة الجزائية ذات طبيعة إدارية: يرى أنصار هذا الإتجاه أن الوساطة ليست عقدا مدنيا، وهي إجراء من إجراءات الإتهام التي تمارسها النيابة العامة في الدعوى العمومية، فهي لا تتوقف على موافقة الجاني والمجني عليه، و إنما تخضع لتقدير النيابة العامة في إطار سلطتها المستمدة من المادة 37 مكرر من ق إ ج،و بما أن النيابة تصدر قرار الحفظ تحت شرط تعويض المجني عليه وإزالة آثار الجريمة وهذا القرار ذو طبيعة إدارية فإن الوساطة ذات طبيعة إدارية.([6])

الوساطة الجنائية بديل من بدائل الدعوى العمومية: يعتبر أنصار هذا الاتجاه أن الوساطة هي بديل عن الملاحقة القضائية تهدف إلى تعويض المجني عليه، و أمام اختلاف الفقه الجنائي حول طبيعة الوساطة نرى أن الوساطة وسيلة لحل المنازعات الجنائية، وهي بديل من بدائل الدعوى العمومية له أثر اجتماعي أقوى من اللجوء إلى الطريق القضائي، خاصة في التعامل مع الجرائم البسيطة والتي تثقل كاهل المحاكم، بالشكل الذي يحقق تطور في نظام العدالة الجنائية، وهو ما أخذ به المشرع الفرنسي الذي إعتبر الوساطة أحد بدائل الملاحقة القضائية.

الفرع الثالث: خصائص الوساطة الجزائية

– الوساطة نموذج آخر لتسيير النزاع، إنها بديل للدعوى العمومية: توصف الوساطة بأنها إجراء إيجابي مقارنة بالإجراءات التي تتبعها الهيئات القضائية ذلك أنها تمنح سلطة تسيير النزاع للأطراف من خلال فتح المجال للتفاوض والحوار، الذي يمكن من إيجاد سبل جبر الضرر، وبطريقة أخرى إعادة بناء وسط اجتماعي تصالحي، كما تقدم رد فعل اجتماعي في مواجهة الجريمة، مجتنبين ثقل إجراءات المحاكمة التقليدية.

– الوساطة الجزائية إجراء يقوم على مبدأ الرضائية: يقصد بالرضائية إجراء تفاوضي يستلزم اتفاق الأطراف وإذا كانت العدالة الجزائية التقليدية تفترض مشاركة إيجابية للمتهم في جميع الإجراءات، فإن العدالة الرضائية تفترض مشاركة إيجابية للمتهم والمجني عليه على حد السواء، وتقوم الوساطة الجزائية على أساس حرية الأطراف في البحث عن حل ودي للنزاع أو السير في الإجراءات القضائية العادية، و ليس البحث عن تطبيق العقوبة كالدعوى العمومية، وتتمثل الرضائية في الوساطة الجزائية في اشتراط موافقة الأطراف والنيابة العامة على مبدأ الوساطة، و اختيار وكيل الجمهورية لإجراء الوساطة يعد سلوك طريق آخر غير الطريق القضائي لهذا سميت بالطريق الثالث، لأنه أختار الوساطة وتخلى على إجراءات المتابعة الجزائية أو إجراء حفظ الدعوى، مبدأ الرضائية أثار عدة إشكاليات قانونية لأنه يؤدي للتخلي عن الصبغة الموضوعية لقانون العقوبات التي تقوم على السلوك الإجرامي والعقوبة طبقا لمبدأ الشرعية، و من الناحية الإجرائية تغيير النظام الإجرائي من النظام التنقيبي إلى النظام الإتهامي، فكيف تتلاقي إرادة الجاني والمجني عليه والنيابة العامة لشل القواعد الجزائية رغم اعتبارها من النظام العام، لكن تطورت فكرة الرضائية في نظام العدالة الجزائية ووجدت من يناصرها في ظل الأسباب والمبررات والمشاكل التي تعاني منها العدالة الجزائية .([7])

– الوساطة الجزائية نموذج لعدالة تصالحية: العدالة التصالحية هي عملية تتيح لكل شخص له علاقة بجريمة بسيطة الجاني والمجني عليه، المشاركة للتوصل إلى حل جماعي وتسوية المشاكل الناشئة عن الجريمة كثيرا ما تكون بمساعدة شخص مسير، لتحديد الاحتياجات الفردية والجماعية وإعادة إدماج الجاني والمجني عليه في المجتمع([8]).

وتؤسس العدالة التصالحية على فكرة التعويض وإصلاح الأضرار، وإعادة بناء العلاقات الاجتماعية للجاني والمجني عليه،و الوساطة الجزائية هي الوسيلة التي تتحقق بها هذه الأهداف، بينما تسعى العدالة الجزائية التقليدية لتطبيق العقوبة من خلال النظام العقابي، لأن نظام العدالة التصالحية قوامه ترضية المجني عليه وتفعيل دوره في الإجراءات الجزائية، عن طريق تمكينه من التفاوض مع المتهم حول الآثار الناجمة عن جريمته، وإعادة تأهيل الجاني.([9])

المطلب الثاني: مبررات الأخذ بنظام الوساطة الجزائية

نظرا لزيادة نسبة الجرائم، ما أثبت فشل العقوبة في حماية المجتمع من الجريمة، وبما أن العقوبة نتوصل إليها من خلال مباشرة إجراءات الدعوى العمومية، دعا الفقه إلى هجر فكرة العقوبة، وبالتالي هجر الدعوى العمومية باعتبارها الوسيلة القانونية للوصول إلى تطبيق العقوبة، من هنا بدأ البحث عن أنظمة إجرائية بديلة للدعوى العمومية، وفيما يلي نتناول المبررات التي دفعت إلى الأخذ بنظام الوساطة، فهناك مبررات مستقاة من الإشكالات التي تعاني منها العدالة الجنائية ومن تجارب مختلفة للنظم القانونية المقارنة، وهناك مبررات مصرح بها رسميا .

أولا: تعذر الوصول إلى عدالة ناجزة: كانت المشاكل والصعوبات المعاصرة لنظام العدالة الجزائية في مراحل مباشرة الإجراءات الجزائية السبب الرئيسي في تعذر الوصول إلى عدالة جزائية ناجزة، وهو ما يعرف بأزمة العدالة الجزائية فهذه الأزمة أصابت نظام العدالة بالشلل، لهذا اتجهت غالبية التشريعات إلى المناداة بضرورة تطبيق إجراءات تتسم بالإيجاز والسرعة، ويرجع السبب الرئيسي في الوصول إلى عدالة ناجزة لعدة أسباب، تتمثل في عدم قدرة أجهزة القضاء على الفصل في القضايا المنظورة أمامها في أجال معقولة بسب زيادة عدد القضايا أمام المحاكم ناهيك عن قلة عدد القضاة،الأمر الذي أدى بالمساس بالعدالة([10])

ثانيا: بطئ سير الإجراءات الجزائية: ويقصد بها طول المدة التي يخضع فيها المتهم لسلطات الدولة بدءا من تحريك الدعوى العمومية، وإنتهاءا بصدور حكم بات فيها، ويرجع سبب هذا البطء إلى زيادة عدد القضايا المنظورة أمام المحاكم ما أثر سلبا على عملية حسن سير العدالة الجزائية، بل أن طول المدة الخاصة بإجراءات التحقيق والبحث عن أدلة الإثبات وإستدعاء الشهود، وإحالة القضية للمحاكمة ثم تأجيل النظر في القضية لعدة مرات، ما يؤدي إلى مرور فترة زمنية طويلة بين ارتكاب الجريمة والنطق بالحكم، ناهيك عن تأخر تنفيذ الحكم، فهذا الوقت الطويل يؤدي إلى المساس بالحقوق والتأثير في جدوى العقوبة والمساس بقرينة البراءة، كما يؤثر بطء الإجراءات على المتهم ليدفعه على الاعتراف بجريمة لم يرتكبها للتخلص من هذه الإجراءات، أما بالنسبة للمجني عليه فقد يفقد الرغبة في متابعة إجراءات الدعوى، ناهيك عن الصعوبات التي تواجه استدعاء الشهود.([11])

ثالثا: صعوبة مكافحة الجرائم البسيطة :أدى التطور في علاقات الأفراد واتساع نطاق التعامل بينهم إلى ظهور نمط جديد من الجرائم اليومية والمعتادة، والتي تتسم ببساطتها وقلة خطورتها، والتي تشغل أجهزة الشرطة والنيابة والقضاء وتعرقل المؤسسات العقابية عن تنفيذ برامج التأهيل والإصلاح للمحكوم عليهم .

و يشير الواقع العملي إلى أن أجهزة القضاء تعجز عن مواجهة هذا النوع من الجرائم، والتي غالبا ما تتعامل معها بإجراء حفظ الدعوى أو الحكم بالبراءة أو بعقوبة قصيرة المدة ([12]).

رابعا :صعوبة تحقيق أغراض العقوبة :تتمثل أزمة العدالة الجزائية كذلك في صعوبة تحقيق أغراض العقوبة، والتي فشلت في تحقيق فكرتي الردع العام والخاص، خاصة إذا كانت قصيرة المدة، ناهيك عن مشكلة اكتظاظ المؤسسات العقابية والتي تعيق عملية تنفيذ البرامج الإصلاحية للمحكوم عليه .([13])

خامسا: الآثار السلبية للعقوبات قصيرة المدة :تسعى العقوبة السالبة للحرية إلى تحقيق أغراض محددة، تتمثل في الردع العام والخاص، لكن الواقع العملي أثبت عجز النظام الجزائي على تحقيق هذه الأغراض خاصة في التعامل مع الجرائم البسيطة من خلال تقرير عقوبات سالبة للحرية قصيرة المدة، ما ينجم عن تطبيقها العديد من الآثار السلبية، والتي لا ينحصر نطاقها على فترة التنفيذ بل يمتد إلى ما بعد الخروج من السجن، كما أنها لا تمس المحكوم عليه فحسب بل تنعكس على جميع العلاقات الاجتماعية التي تربطه بأسرته وبالمجتمع بأكمله .([14])

سادسا: أزمة الاكتظاظ في المؤسسات العقابية وصعوبة تحقيق دورها الإصلاحي: تعتبر أزمة الاكتظاظ في المؤسسات العقابية أبرز الإشكاليات التي تعيق تنفيذ برامج الإصلاح، بالنظر للآثار السلبية التي تخلفها هذه الظاهرة، حيث أثبت الواقع العملي صعوبة تحقيق دورها الإصلاحي في ظل زيادة معدلات الجريمة وبسب تكدس المحكوم عليهم في المؤسسات العقابية، وهو الأمر الذي انعكس سلبا على قدرة الأجهزة العقابية على إصلاح وتأهيل المحكوم عليهم، فأصبح السجن مدرسة عملية للإجرام بسب الاختلاط بمجرمين أكثر خطورة وهو ما دعا إلى المناداة باستبدال هذه العقوبات ببدائل أخرى كعقوبة العمل للنفع العام والاختبار القضائي والمراقبة الإلكترونية .([15])

سابعا: ارتفاع نسبة العود إلى الجريمة :من الأسباب الرئيسية لارتفاع حالات العود في المجتمع هو إسراف التشريعات الجنائية في فرض العقوبات السالبة للحرية قصيرة المدة، حيث أشارت الدراسات الإحصائية إلى وجود علاقة بين حالات العود، وبين خضوع المحكوم عليهم لعقوبات سالبة للحرية قصيرة المدة، خاصة في حالة ارتكابهم لجرائم بسيطة، وهذا نظرا للآثار السلبية التي تخلفها هذه العقوبات ([16]).

أما المبررات المصرح بها رسميا، وحسب المذكرة الإيضاحية التي صدرت عن وزارة العدل بخصوص التعديلات التي طالت قانون الإجراءات الجزائية بناءا على القانون رقم 15/02 فإن هذه التعديلات تهدف إلى: ” تفعيل دور النيابة في مختلف مراحل الإجراءات إلى جانب وضع آليات جديدة تضمن رد فعل جزائي ملائم ومتناسب مع القضايا القليلة الخطورة “، وعلى رأسها نظام الوساطة والذي يعتبر حسب ما ورد في المذكرة: ” آلية بديلة للمتابعة الجزائية في مادة المخالفات وبعض الجنح البسيطة والتي حددها المشرع على سبيل الحصر، ويلجأ إليها تلقائيا من طرف وكيل الجمهورية أو بناءا على طلب الضحية، وللنيابة إمكانية المبادرة بهذا الإجراء كلما رأت من شأنها وضع حد نهائي للإخلال الناتج عن الجريمة وضمان جبر الأضرار الحاصلة للضحية ” ما نشير إليه أن هذه التصريحات اقتصرت فقط على المبررات التي لها علاقة بتراكم القضايا الجزائية والتي يكون مصيرها إما المعالجة السطحية وإما الحفظ، وفي كلتا الحالتين تصبح العدالة الجزائية عاجزة عن التصدي للجريمة، إن التأكيد على هذا الهدف من تبني نظام الوساطة الجزائية لا يدل على أنه هو المبرر الوحيد، بل أن هناك عدة مبررات سبق لنا طرحها تتقاطع مع الأهداف التي قصدها المشرع، والتي تتجاوز المبررات التي تبناها هذا التصريح. ([17])

المبحث الثاني: الإطار الإجرائي

إستحدث المشرع الجزائري نظام الوساطة الجزائية كبديل عن الدعوى العمومية بمقتض الأمر 15/02 المؤرخ في 23 يوليو 2015 حيث خصص لها فصل مكرر من المواد 37 مكرر إلى 37 مكرر9، وبالرجوع لمجمل هذه المواد فإن القانون اقتصر فقط على تحديد أطراف الوساطة، والجهة المؤهلة لإجرائها، كما حدد نطاق الوساطة من حيث الموضوع .([18])

المطلب الأول: الإجراءات ( الشروط والنطاق والآثار)

سوف نتناول في هذا المطلب الفرعين التاليين:

الفرع الأول: شروط الوساطة الجزائية

هناك عدة شروط ينبغي توافرها لتطبيق نظام الوساطة الجنائية بعضها موضوعية وأخرى إجرائية، الشروط الموضوعية تتمثل في:

– مشروعية الوساطة: وهي السند القانوني لهذا الإجراء تطبيقا لمبدأ الشرعية، حيث تستمد الوساطة مشروعيتها من نصوص المواد 37 مكرر إلى 37 مكرر9 من قانون الإجراءات الجزائية المعدل والمتمم بمقتضى الأمر 15/02 المؤرخ في 15 يوليو 2015.

– وجود دعوى عمومية مطروحة أمام النيابة العامة: يشترط لتطبيق الوساطة وجود دعوى عمومية، تتطلب افتراض تحريكها نظرا لوقوع جريمة ونسبتها إلى شخص معين ووجود مجني عليه، وأن يكون هناك ضرر واقع عليه بسبب الجريمة، ويشترط ألا تكون النيابة قد اتخذت قرارها بالتصرف في الدعوى في المرحلة السابقة لتحريكها والتي تبدأ من لحظة علم النيابة بالجريمة إلى لحظة تحريك الدعوى .([19])

– ملائمة النيابة العامة لإجراء الوساطة: يتمتع وكيل الجمهورية بسلطة الملائمة في اتخاذ إجراء الوساطة والذي نستشفه من عبارة “يجوز”، ومنه فإن وكيل الجمهورية له مطلق الحرية في ملائمة اللجوء للوساطة وهو ما أشارت إليه المادة 37 مكرر ق إ ج، فلا يجوز للأطراف إجبار النيابة على قبول الوساطة، كما انه لا يجوز طرح النزاع للوساطة دون موافقة وكيل الجمهورية .

كما تجوز الوساطة بناءا على طلب الضحية، وهو كل شخص أصيب بضرر من الجريمة، سواء كان ضررا مباشرا أو غير مباشر، وطلبه يقتصر على التعويض المالي حتى ولو بعد تحريك الدعوى العمومية كما تتم الوساطة بطلب من المشتكى منه وهو كل شخص توجه إليه الضحية بالشكوى، وذلك بعد موافقة وكيل الجمهورية والضحية([20]) .

– قبول الأطراف لمبدأ الوساطة: يشترط للسير في عملية الوساطة قبول الأطراف الضحية والمشتكى منه فلا يمكن أن تنجح عملية الوساطة بدون توافر رضا أطرافها، وقد نصت على ذلك صراحة المادة 37 مكرر1 على أن: “يشترط لإجراء الوساطة قبول الضحية والمشتكى منه “([21]).

بالنسبة لرضا الضحية، يعتبر الهدف من إجراء الوساطة هو تفعيل مشاركة الضحية في الإجراءات الجزائية لذلك كان قبوله بالوساطة شرط أساسي وضروري لقيامها، وفي الواقع بطء إجراءات العدالة الجزائية التقليدية واحتمال عدم متابعة الجاني في الغالب هو ما يدفع الضحية لقبول الوساطة([22]) .

كما يشترط لإجراء الوساطة قبول المشتكى منه، وفي حالة رفضه يمكن السير في إجراءات الدعوى العمومية ولا يجوز إجباره على قبول الوساطة، فله الحق في اللجوء إلى القضاء.

الشروط الإجرائية: تتمثل الشروط الإجرائية للوساطة الجزائية في ضرورة توافر الأهلية الإجرائية والرضا والشكلية .

الأهلية الإجرائية: وهي صلاحية كل طرف من أطراف النزاع في مباشرة الإجراءات الجزائية بصفة عامة والموافقة على إجراء الوساطة، وتتحد الأهلية في القانون الجزائي طبقا لسن الشخص،ويكون الشخص كامل الأهلية إذا كان بالغا سن 18سنة، واستثناءا يمكن للطفل الجانح أن يلجأ إلى الوساطة الجزائية عن طريق ممثله الشرعي([23]) .

الرضـــــــــــــــا: تقوم الوساطة الجزائية على مبدأ حرية الإرادة، أي حرية الأفراد في اللجوء لهذه الآلية، وأن تكون هذه الإرادة صحيحة غير مشوبة بعيوب الإرادة، كالغلط والتدليس والإكراه، فلا يتصور قيام الوساطة إذا كان قبول المشتكى منه أو الضحية نتيجة إكراه أو غلط أ وتدليس([24]).

الشكليــــــــة: يقصد بها إفراغ اتفاق الوساطة في شكل معين، وهذا استنادا لنص المادة 37 مكرر2 حيث تنص على ضرورة أن تتم الوساطة باتفاق مكتوب وليس شفهي بين مرتكب الجريمة والضحية، يدون هذا الاتفاق في محضر يتضمن هوية الأطراف وعنوان الأطراف، كما يتضمن الاتفاق جبر الأضرار المترتبة عن الفعل الإجرامي، وإذا لم يتم تنفيذ الوساطة في الوقت المحدد في الاتفاق، يتم تحريك الدعوى العمومية، ولم يحدد المشرع الشكل الذي تتم فيه الوساطة ما يفتح المجال لاجتهاد النيابة العامة، أو انتظار تعليمات وزارية تحدد كيفية ذلك .

وتمر الوساطة بثلاث مراحل المرحلة الأولى الاقتراح الذي يكون في شكل استدعاء يتضمن الجريمة موضوع الوساطة، والتدابير المقترحة، والمدة القانونية لهذا الإجراء وتاريخ الحضور، والتنبيه بالاستعانة بمحامي، أما المرحلة الثانية هي جلسة الوساطة والتي لم يبين المشرع كيفية تنظيمها، لكن مبدئيا تقسم إلى مرحلة التفاوض ومرحلة الاتفاق، فمرحلة التفاوض تتوقف على ما يبديه أطراف النزاع من تفاهم وتوافق من أجل الوصول إلى حل النزاع بمكتب وكيل الجمهورية أو أحد مساعديه، أما الخطوة الثانية هي الاتفاق على حل النزاع عن طريق إجراء الوساطة، وإذا لم يتم الإتفاق يحرر وكيل الجمهورية محضر عدم الإتفاق ويعلن صراحة فشل الوساطة ويتخذ الإجراءات اللازمة لتحريك الدعوى العمومية في إطار مبدأ الملائمة .([25])

و في حالة الإتفاق على حل النزاع عن طريق هذا الإجراء يحرر وكيل الجمهورية محضر الإتفاق الذي يتضمن صياغة التزامات الأطراف، والتأكد من تنفيذها في الوقت المحدد، والتوصل لاتفاق الوساطة والذي يدون في محضر يشمل طبقا للمادة 37مكرر 3 من ق إ ج هوية وعنوان الأطراف، وعرضا وجيزا للأفعال وتاريخ ومكان وقوعها، ومضمون اتفاق الوساطة وأجل تنفيذها، ويوقع المحضر من وكيل الجمهورية وأمين الضبط والأطراف وتسلم نسخة لكل طرف ([26]).

إلى جانب الشروط أعلاه يجب أن يتضمن اتفاق الوساطة على الخصوص ما يلي: إعادة الحال إلى ما كانت عليه، بمعنى أن يقوم الجاني مثلا في جريمة عدم تسليم طفل بتسليمه إلى من له حق الحضانة، أو رد أموال الإرث إذا استولى عليها بطريق الغش .

– تعويض مالي نقدي أو عيني بمعنى أن يخير الجاني في جنحة التخريب العمدي لأموال الغير إما بدفع مبلغ مالي للضحية مقابل الأموال المخربة، أو التعويض العيني عن طريق إصلاح الأضرار التي لحقت بممتلكات الضحية .([27])

الفرع الثاني: نطـاق الوساطة الجزائية

يقتصر نطاق الوساطة على بعض الجنح المعاقب عليها بالحبس أو بالغرامة، كما تجوز الوساطة في مواد المخالفات، وحدد المشرع هذه الجنح على سبيل الحصر ويمكن تقسيمها لعدة فئات: الجرائم التي تمس بالشخص واعتباره: وحددها في المادة 37 مكرر2 وهي جرائم السب المادة 297 ق.ع، القذف المادة 296 ق ع، جنحة الاعتداء على الحياة الخاصة المادة303 مكرر، التهديد والأفعال المنصوص عليها في المواد 185،186،187ق ع، الوشاية الكاذبة المادة303، ترك الأسرة 330، جريمة الامتناع العمدي عن تقديم مبالغ النفقة331، عدم تسليم طفل328، الضرب والجرح غير العمدي 289، الضرب والجرح دون سبق الإصرار والترصد 264 ق ع.

جرائم الأموال: جنحة إصدار شيك بدون رصيد 374 ق ع، جنحة الاستيلاء على أموال التركة قبل قسمتها 363ق ع، الاستيلاء على أموال الشركة 363/1 ق ع، الاعتداء على الملكية العقارية386، التخريب والإتلاف العمدي لأموال الغير407، إتلاف المحاصيل الزراعية وو الرعي في أملاك الغير 413ق ع استهلاك مأكولات أو مشروبات من خدمات أخرى عن طريق التحايل (الباب الرابع من الكتاب الثالث :الغش في بيع السلع والتدليس في المواد الغذائية والطبية ).

أما في جرائم الأحداث فإن الوساطة تجوز في الجنح والمخالفات وتستثنى من هذا الإجراء الجنايات طبقا لنص المادة 111 من القانون المتعلق بحماية الطفل .([28])

الفرع الثالث: آثار الوساطة الجزائية

يترتب على اتفاق الوساطة كبديل عن الدعوى العمومية مجموعة من الآثار القانونية يمكن حصرها فيما يلي:

– يعتبر محضر اتفاق الوساطة سندا تنفيذيا حسب نص المادة 37 مكرر 6 شأنه شأن السندات التنفيذية المنصوص عليها في المادة 600 من قانون الإجراءات المدنية والإدارية .

-لا يجوز الطعن في محضر اتفاق الوساطة بأي طريق من طرق الطعن باعتباره عملا إداريا وليس قضائيا تتخذه النيابة العامة كجهة إدارية عند تصرفها في نتائج الإستدلال كبديل من بدائل الدعوى العمومية.

_ محضر إتفاق الوساطة يؤدي لوقف سريان تقادم حق النيابة العامة في تحريك الدعوى العمومية، وذلك في الآجال المحددة لتنفيذ الإتفاق المادة 37 مكرر 8.

– في حالة عدم تنفيذ الوساطة في الآجال المحددة، فإنه يجوز لوكيل الجمهورية اتخاذ أي إجراء يراه ضروريا بشان إجراءات المتابعة ضد الشخص الممتنع، المادة 37 مكرر8 .

_ يتعرض للعقوبات المنصوص عليها في المادة 47 من قانون العقوبات الشخص الذي يمتنع عمدا عن تنفيد إتفاق الوساطة عند إنقضاء الأجل المحدد للتنفيذ المادة 37 مكرر 9.([29])

المطلب الثاني: دور الوساطة في تطور نظام العدالة الجزائية

الوساطة الجزائية تعتبر نموذج يشير إلى تحول العدالة الجزائية من عدالة عقابية (تقوم على العقوبة ) إلى عدالة رضائية تصالحية تقوم على فكرة التفاوض بين أطراف الدعوى .

أولا: إصلاح نظام العدالة الجزائية: نظرا للصعوبات التي يواجهها نظام العدالة الجزائية، وعدم قدرته على التعامل مع الجرائم ذات العدد الهائل فقد اتجهت المؤتمرات الدولية وخاصة مؤتمرات الأمم المتحدة لمنع الجريمة والعدالة الجزائية للتوصية بضرورة إجراء إصلاحات في هيكل العدالة الجزائية عن طريق إشراك الأفراد في حل المنازعات الجزائية وتعتبر الوساطة واحدة من آليات تلك السياسة .([30])

ثانيا :الوساطة الجزائية وسرعة الإجراءات الجزائية :الوساطة الجزائية هي إجراء يهدف إلى تعويض سريع للمجني عليه عن الأضرار الواقعة عليه، بالمقارنة مع إجراءات الدعوى التقليدية، كما أنها لا تخضع للقواعد الإجرائية التي تتقيد بها المحاكمات العادية، وبالتالي يفترض فيها أن تتم على نحو أسرع مما عليه الحال في إجراءات الدعوى العمومية، وقد أثبتت بعض الدراسات في فرنسا أن أكثر من 50 بالمائة من حالات الوساطة كانت المدة المحصورة بين لحظة وقوع الجريمة ولحظة بداية إجراءاتها تتراوح بين شهر إلى 3 أشهر وأن جلسة واحدة كانت كافية لتسوية النزاع في معظم قضايا موضوع الوساطة .([31])

ثالثا: الوساطة الجزائية وسياسة الحد من العقاب: تعرف السياسة الجزائية المعاصرة عدة وسائل لعلاج أزمة العدالة الجزائية، تتمثل في سياسة الحد من التجريم وسياسة الحد من العقاب، والمعالجة غير القضائية أو التصالحية للدعوى العمومية، وتتمثل سياسة الحد من العقاب في بقاء الفعل مجرما لكن مع التخفيف من فكرة العقاب، وهذا ما يتحقق من خلال سلطة الملائمة التي تتمتع بها النيابة العامة في عدم تحريك الدعوى العمومية، من خلال إجراء الوساطة الجزائية، بهذا الإجراء يمكن تفعيل سياسة الحد من العقاب، بالشكل الذي يؤدي إلى تطوير وإصلاح نظام العدالة الجزائية([32]).

رابعا: الوساطة الجزائية وتأهيل وإصلاح الجاني :يعتبر تأهيل الجاني وإعادة تكييفه اجتماعيا من أهم الأفكار التي نادت بها حركة الدفاع الاجتماعي والوساطة الجزائية كإجراء يساهم بشكل كبير في إصلاح الجاني لأن العقوبة تعرض الجاني للعزلة عن أفراد المجتمع، كأن يكون الجاني من المبتدئين، وأن تكون جريمته قليلة الخطورة، وألا يكون عائدا، ويكون قابلا للتأهيل والإصلاح .

خامسا: الوساطة الجزائية أحد أساليب السياسة الجزائية :تعرف السياسة الجنائية أربعة أساليب للحد من الجريمة ووضع حل للمنازعات الجزائية، وكل أسلوب يصلح لمواجهة جرائم معينة ذات طبيعة تتناسب مع طبيعة الأسلوب المطبق، من هذه الأساليب الأسلوب العقابي والذي يؤسس على فكرة العقوبة ويكون محور هذا الأسلوب شخص الجاني من خلال تأهيله وردعه بفرض العقوبات السالبة للحرية، أما الأسلوب العلاجي يؤسس على فكرة بدائل العقوبة وتدابير الأمن، يهدف لإزالة الخطورة الإجرامية الكامنة في المجرم من خلال الإيداع في المؤسسات التأهيلية والعلاجية، أما الأسلوب التعويضي فهو أسلوب يؤسس على فكرة تعويض المجني عليه عن طريق إصلاح الضرر، وآخر هذه الأساليب هو الأسلوب التوفيقي ويسعى هذا الأسلوب للتوصل إلى حل النزاع بين الجاني والمجني عليه ومحور هذا الأسلوب هو المحافظة على العلاقة بين طرفي النزاع من خلال إجراء عملية التوافق بينهما للوصول إلى حل توفيقي، هذا الأسلوب هو الذي تقوم عليه الوساطة الجنائية، بالإضافة إلى الأسلوب التعويضي . ([33])

سادسا: الوساطة الجزائية صورة لخصخصة الدعوى العمومية :خصخصة الدعوى العمومية هو إعطاء دور أكبر لأطراف الدعوى الجاني والمجني عليه، للمشاركة في إنهاء الدعوى العمومية والسيطرة على مجرياتها لمواجهة الظاهرة الإجرامية، ولامجال للتخوف من فكرة الخصخصة، باعتبار أن الوساطة تتم تحت رقابة دقيقة من النيابة العامة، والتي يكون لها سلطة الحفظ أو تحريك الدعوى بناءا على نتيجة الوساطة .([34])

سابعا: الوساطة الجزائية تمثل تطور في وظيفة النيابة العامة: النيابة العامة تباشر سلطتها في ملائمة تحريك الدعوى العمومية أو حفظها من خلال النظر في ملابسات القضية وظروفها، دون أن يتضمن ذلك أدنى اتصال بين طرفي النزاع، إلا انه من خلال آلية إجراء الوساطة الجزائية أصبح بإمكانها الاتصال بإطراف النزاع سواء بنفسها أو من خلال الوسيط، وهذا الدور الجديد يكشف عن توسع في وظيفتها، حيث أصبح دورها يشمل إختصاصا جديدا إلى جانب وظيفة الاتهام التقليدية ويتعلق الأمر بسلتطها في إدارة عملية التفاوض بين طرفي الخصومة، ناهيك عن سلطتها في متابعة الوساطة وتقدير مدى نجاحها أو فشلها.([35])

خاتمة:

تمثل الوساطة الجزائية نمط جديدا داخل المنظومة الجزائية، تقوم على إيجاد مساحة للتحاور والتفاوض بين أطراف الخصومة الجزائية، فهي تعتبر الآلية القانونية الناجعة لمواجهة الكم غير المبرر للقضايا الزجرية البسيطة، والمساهمة في تخفيف العبء عن القضاء مما يساهم في تحسين صورة العدالة الجزائية بالإضافة إلى مسايرة التطور الذي يعرفه نظام العدالة من المفهوم العقابي الزجري إلى عدالة تصالحية تعويضية تسعى للإهتمام بأطراف الجريمة، وتتجه نحو تفعيل مشاركة الأفراد في نظام العدالة الجزائية من خلال فتح المجال أمام المجني عليه ليلعب دورا هاما في إنهاء الدعوى العمومية، لكن ليس بمفهوم التخلي عن النظام العقابي وإنما هي وسيلة تدعم العدالة الجزائية التقليدية وتعاضدها في الحد من الجريمة.

بالرغم من كل هذه الإيجابيات التي تسعى الوساطة لتحقيقها إلا أن النصوص القانونية التي تنظم إجراء الوساطة يشوبها بعض القصور، لذا فعلى المشرع الجزائري إعادة قراءة هذه النصوص وتدعيمها، بالإضافة إلى أن المشرع لم يحدد أن نظام الوساطة الجزائية هو بديل من بدائل الدعوى العمومية أثبت نجاحه في معظم التشريعات الجزائية المقارنة.

توصيات:

– تبني الآليات التشريعية الكفيلة بتنظيم المركز القانوني للوسيط الجزائي ومختلف الشروط الواجب توافرها والواجبات الملقاة على عاتقه، لأنه لا يسوغ للنيابة أن تكون طرفا وحكما في نفس الوقت إذ يجب إيجاد صياغة أخرى تمكن النيابة العامة بمبادرة هذا الإجراء والإشراف عليه .

– وضع الثقة في هذا النظام وتهيئة كل الوسائل المادية والبشرية وتوفير الآليات القانونية الكفيلة لإنجاحه.

– تحسيس الرأي العام بأهمية الوساطة الجزائية في حسم الخصومات الجزائية وبأهمية العدالة التصالحية وإبراز فوائدها مقارنة بالأسلوب التقليدي لتحريك الدعوى العمومية .

– ضرورة تقرير نظام الوساطة الجزائية في أي مرحلة من مراحل الدعوى العمومية، سواء في مرحلة التحقيق الأولي أو في مرحلة التحقيق الإبتدائي خاصة في حالة تحريك الدعوى من طرف المدعي المدني، أو في مرحلة المحاكمة، وذلك من خلال إقرار نظام الوساطة ضمن كل النظام الإجرائي الجزائي .

– الإستفادة من تجارب الدول التي نجحت في تنظيم الوساطة في تشريعاتها الجزائية، حيث عرفت العديد من التشريعات هذا النظام.

([1]) رامي متولي القاضي أنظمة التسوية في الدعوى الجنائية في القانون الفرنسي، دار النهضة العربية، ط1،مصر،2011،ص 8.

([2]) الدكتور متولي القاضي، الوساطة في القانون الجنائي الإجرائي المقارن دار النهضة العربية، ط1، مصر،2011 .

([3]) ([3]) الدكتور متولي القاضي، الوساطة في القانون الجنائي الإجرائي المقارن، مرجع سابق، ص43 .

االدكتور رامي متولي القاضي، أنظمة التسوية في الدعوى الجنائية في القانون الفرنسي، مرجع سابق، ص 39.

([5]) دكتور عبد الرحمان خلفي، الإجراءات الجزائية في التشريع الجزائري المقارن، دار بلقيس،الجزائر،2016 ص155 .

([6]) الدكتور رامي متولي القاضي، الوساطة في القانون الجنائي الإجرائي المقارن، مرجع سابق، ص67-68.

([7]) دكتور محمد سامي الشوا، الوساطة والعدالة الجنائية، دار النهضة العربية، مصر، 1998، ص 9.

([8]) تعريف حدده قرار المجلس الإقتصادي والإجتماعي للأمم المتحدة رقم 2002/12 في المبادئ الأساسية لإستخدام برامج العدالة التصالحية في المسائل الجنائية.

([9]) الدكتور رامي متولي القاضي، الوساطة في القانون الجنائي الإجرائي المقارن، مرجع سابق، ص118،119،121.

([10]) ا الدكتور رامي متولي القاضي، أنظمة التسوية في الدعوى الجنائية في القانون الفرنسي، مرجع سابق، ص15.

([11]) االدكتور رامي متولي القاضي، أنظمة التسوية في الدعوى الجنائية في القانون الفرنسي، مرجع سابق، ص18.

([12]) الدكتور مدحت عبد الحليم رمضان،الإجراءات الموجزة لإنهاء الدعوى الجنائية،دراسة مقارنة، دار النهضة العربية، مصر، 2000،ص 38.

([13]) االدكتور رامي متولي القاضي، أنظمة التسوية في الدعوى الجنائية في القانون الفرنسي، مرجع سابق، ص21 .

([14]) االدكتور رامي متولي القاضي، أنظمة التسوية في الدعوى الجنائية في القانون الفرنسي، مرجع سابق، ص21.

([15]) دكتور محمد سامي الشوا، مرجع سابق، ص 10/11.

([16]) دكتور عبد الرحمن خلفي، بدائل العقوبة، المؤسسة الحديثة للكتاب، لبنان،2015، ص 36.

([17]) الدكتور بدر الدين يونس، مقال بعنوان الوساطة الجزائية في المادة الجزائية،منشور في مجلة البحوث والدراسات الإنسانية العدد12-2016 جامعة 20أوت1955سكيكدة، ص 95.

([18]) دكتور عبد الرحمان خلفي، مرجع سابق، ص 154 .

([19]) االدكتور رامي متولي القاضي، أنظمة التسوية في الدعوى الجنائية في القانون الفرنسي، مرجع سابق، ص 55 .

([20]) دكتور عبد الرحمان خلفي، مرجع سابق، ص 159/158 /157 .

([21]) الدكتور رامي متولي القاضي، الوساطة في القانون الجنائي الإجرائي المقارن، مرجع سابق،ص 137 .

([22]) الدكتور مدحت عبد الحليم رمضان، مرجع سابق، ص33 .

([23]) دكتور رامي متولي القاضي، الوساطة في القانون الجنائي الإجرائي المقارن، مرجع سابق،ص 152 .

([24])الزهرة فرطاس، مقال بعنوان الوساطة نموذج من العقوبات الرضائية وفقا للأمر 15/02، كلية الحقوق والعلوم السياسية جامعة حسيبة بن بوعلي الشلف، ص315.

([25])دكتور عبد الرحمان خلفي، مرجع سابق، ص166 /167 .

([26]) دكتور علي شملال، المستحدث في قانون الإجراءات الجزائية الجزائري،الكتاب الأول، دار هومه، الجزائر،2016، ص69.

([27]) دكتور علي شملال، مرجع سابق، ص 69/70 .

([28]) دكتور عبد الرحمان خلفي، مرجع سابق، ص161/162 .

([29])دكتور علي شملال، مرجع سابق، ص 72 .

([30])دكتور رامي متولي القاضي، الوساطة في القانون الجنائي الإجرائي المقارن، مرجع سابق،ص157 .

([31])دكتور رامي متولي القاضي، الوساطة في القانون الجنائي الإجرائي المقارن، مرجع سابق،ص155/156 .

([32]) دكتور رامي متولي القاضي، الوساطة في القانون الجنائي الإجرائي المقارن، مرجع سابق،ص 95 .

([33]) دكتور محمد سامي الشوا، مرجع سابق، ص 10/11 .

[34]) دكتور رامي متولي القاضي، الوساطة في القانون الجنائي الإجرائي المقارن، مرجع سابق،ص94.

([35]) دكتور رامي متولي القاضي، الوساطة في القانون الجنائي الإجرائي المقارن، مرجع سابق،ص 96 .