التجربة الأمريكية في الرقابة القضائية علي دستورية القوانين

الرقابة علي دستورية القوانين في الولايات المتحدة الأمريكية

التجربة الأمريكية في الرقابة القضائية علي دستورية القوانين هي اقدم التجارب وأكثرها ثراء وأبعدها تأثيرا .
وقد ظلت هذه التجربة طوال القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين هي التجربة الوحيدة في الرقابة علي دستورية القوانين إلى أن بدأت البدايات الأولى في أوربا في النمسا عقب الحب العالمية الأولى – 1920 وبعد ذلك بدأت في الانتشار الواسع في النصف الثاني من القرن العشرين علي نحو ما سنري عندما ندرس هذه الرقابة في الدولة الأوربية .
ويكاد الفقهاء يجمعون علي أن الدستور الأمريكي لم ينظم الرقابة علي دستورية القوانين ولم يتحدث عن مثل تلك الرقابة صراحة في نص من نصوصه ، ولكن في المقابل ومن ناحية فانه لا يوجد في نصوص الدستور الأمريكي ما يفهم منه صراحة أو ضمناً الحيلولة بين القضاء ومثل هذه الرقابة ، عكس ذلك هو الصحيح ذلك أن الفقرة الثانية من المادة السادسة من الدستور الأمريكي التي تقول ” هذا الدستور وقوانين الولايات الصادرة وفقاً له وكل المعاهدات المعقودة أو التي ستعقد في ظل سلطة الولايات المتحدة ستكون هي القانون الأساسي للبلاد ، والقضاة في كل البلاد سيتقيدون بذلك بصرف النظر عن أي حكم مخالف في دستور الولاية أو قوانينها .

وذلك فضلاً عن نص الفقرة الثانية من المادة الثالثة من الدستور التي تتحدث عن الاختصاص القضائي والتي جاء فيها : أن الوظيفة القضائية تمتد إلى كل القضايا المتعلقة بالقانون أو العدالة ، التي تثور في ظل هذا الدستور .
هذان النصان من نصوص الدستور الاتحادي الأمريكي وإن كانا لا ينظمان وسيلة معينة لمراقبة دستورية القوانين إلا انهما بغير شك يفتحان الباب عن طريق التفسير أمام المحاكم للنظر في مدي اتفاق القوانين الصادرة في ظل الدستور مع ذلك الدستور .
وهذه هو ما فعله القضاء الأمريكي .
وقد بدا الأمر في محاكم الولايات – عندما كانت تلك الولايات دولا مستقلة قبل نشأة الاتحاد ثم أخذت به المحكمة الاتحادية ابتداء من عام 1803 في قضية مار بوري ضد ماديسون المشهورة .
واستقر بعد ذلك – ومنذ عام 1830 – قضاء المحكمة العليا وقضاء محاكم الولايات علي حقها في النظر في دستورية القوانين ومازالت الأسباب التي استند إليها قاضي القضاة مارشال في قضية مار بوري ضد ماديسون عام 1803 تمثل حجر الأساس الذي تعتمد عليه المحاكم الأمريكية في قضائها في هذا الموضوع .
بل أن القضاة في كثير من البلاد التي لم ينظم فيها الدستور طريقاً لمراقبة الدستورية نهجت إلى حد كبير ذات النهج الذي اتبعه مارشال في تسبيبه لحكمه .

ومن بين ما جاء في أسباب ذلك الحكم التاريخي واصبح بعد ذلك ميراثاً قضائياً عاماً : ” أمام أن يكون الدستور هو القانون الاسمي الذي لا يقبل التعديل بالوسائل العادية ، وأما أن يوضع الدستور علي ذلك المستوي مع الأعمال التشريعية العادية التي يستطيع المشرع العادي أن يغيرها كلما أراد ، وعلينا أن نختار ” .

” أما أن التصرف التشريعي المخالف للدستور لا يعتبر قانوناً ، وأما أن الدستور نفسه يصبح لغوا في محاولته لتقييد سلطة هي بطبيعته غير مقيدة ” [ يقصد السلطة التشريعية ] ثم يقول : أن الاختصاص الممنوح للسلطة القضائية بمقتضى الدستور يعطيها في نظر كل القضايا المتعلقة بالقوانين والتي تثور في ظل الدستور ، فهل يتصور أن يقصد واضعوا الدستور إلى أن يحرموا القضاة من فحص الدستور بينما يلزموهم بالفصل في الخصومات التي تنشا في ظل ذلك الدستور ، ثم ينتهي إلى النتيجة الآتية :

” إذا كان التصرف التشريعي المخالف للدستور ليس قانوناً فانه من غير المتصور إلزام المحاكم بتطبيقه ” .
هذه هي بعض الأسباب التي جاءت في ذلك الحكم الذي أصدره مارشال رئيس المحكمة العليا الاتحادية عام 1803 ، وقد ظل القضاء الأمريكي متردداً بل أن ميله إلى الرفض كان اكثر وضوحاً حتى عام 1830 ومنذ تلك السنة وحتى عام 1880 لم يكن حق القضاء في مراقبة دستورية القوانين محلاً لنزاع وسارت المحاكم من جانبها سيراً معتدلاً في مباشرة هذه الرقابة .
ولكن منذ نهاية القرن الماضي وحتى عام 1936 من هذا القرن توسعت المحاكم في مباشرة هذه الرقابة توسعاً دعي إلى القول أن الولايات المتحدة إلا يحكمها السياسيون في البيت الأبيض والكونجرس وانما يحكمها قضاة المحكمة العليا ، وكان الرئيس روزفلت هو الذي قال ذلك كمظهر من مظاهر الاحتجاج علي موقف المحكمة العليا من القوانين الاقتصادية التي أراد أن يتغلب بها علي الأزمة الاقتصادية الطاحنة التي اجتاحت العالم عام 1930 وان يدخل بها بعض صور العدالة الاجتماعية في التشريع الأمريكي.

وكانت المحكمة العليا قد حكمت بعدم دستورية هذه القوانين وأصرت علي ذلك الموقف إصرارا آثار ضدها الرأي العام في تلك البلاد مع احترامه العميق للقضاة .

وقد حاول روزفلت أن يعدل من نظام المحكمة تعديلاً يتيح له زيادة عدد القضاة لكي يتغلب علي عناد القضاة المعارضين لقوانين الاقتصادية الجديدة بتعيين قضاة اكثر تحرراً وتطوراص ، وعلي ذلك تنحاز الأغلبية إلى الموافقة علي تلك القوانين ، ولكن روزفلت لم يتمكن من إدخال ذلك التعديل ، وشاءت الظروف بعد ذلك أن يتوفى أحد القضاة الخمسة المعارضين وان يطلب اثنان منهم أحالتهما إلى التقاعد بعد أن جاوزوا السبعين ، وبتعيين ثلاثة آخرين مكانهم تغير الوضع في المحكمة واصبح فيها سبعة يؤيدون الاتجاه الجديد بعد أن كانوا أربعة فقط ضد خمسة معارضين مما أدى إلى نوع من الشلل في الحياة الأمريكية طوال فترة معارضة المحكمة واعتبارها تلك القوانين غير دستورية .

وبعد هذه أزمة عادت المحكمة العليا ومن ورائها المحاكم الأخرى إلى الاعتدال في مباشرتها لرقابة دستورية القوانين .

وسائل انعقاد الاختصاص في موضوع رقابة الدستورية judicial review

(أ) وسيلة الدفع :

عند نظر أي قضية أمام أي محكمة سواء من محاكم الولايات أو المحاكم الفيدرالية . . فانه يجوز لأطراف الدعوى وللادعاء العام الدفع بعدم دستورية القانون المطلوب تطبيقه علي تلك الدعوى وتملك المحكمة – أيا كانت درجتها – أن تقرر الامتناع عن تطبيق القانون إذا رأت أن ذلك القانون يتعارض مع الدستور .
وأحكام المحكام في هذا الشأن الخطير ليست نهائية ، وانما يجوز أن يطعن فيها أمام المحاكم الأعلى ، وهذه قد تؤيد الحكم أو تعديله أو تلغيه .
وهذه الوسيلة – وسيلة الدفع – هي واكثر الوسائل انتشاراً وهي التي تؤدي إلى ” رقابة الامتناع ” أي امتناع المحكمة عن تطبيق النص القانوني أو القانون المخالف للدستور ، والمحكمة تقرر ” امتناعها ” فقد عن تطبيق القانون ولكنها لا تقرر شيئا ابعد من ذلك ، فهي لا تقرر مثلاً بطلان القانون أو إلغائه ، لذلك فان محكمة أخرى قد تري غير ما رأته المحكمة الأولى وتحكم عكس ما حكمت ، ويظل الأمر هكذا حتى تفصل فيه المحكمة الفيدرالية العليا حيث يعتبر حكمها من قبيل السوابق القضائية الملزمة ، وإن كنا مع ذلك نظل في إطار رقابة الامتناع لأنه حتى المحكمة العليا نفسها لا تحكم بإلغاء النص ولا تملك ذلك وانما تملك أن تمتنع عن تطبيقه ، ومن الناحية العملية فان التزام سائر المحاكم بما قضت به المحكمة العليا من امتناع تطبق نص قانوني معين يؤدي في النهاية إلى الحكم بالموت الفعلي علي هذا النص القانوني .

(ب) وسيلة الأمر القضائي injunction :

مقتضى هذه الوسيلة أن يلجا صاحب مصلحة حقيقية إلى محكمة اتحاد مكونة من ثلاثة قضاة طالباً من تلك المحكمة أن تصدر أمراً قضائياً لموظف عام بالامتناع عن تنفيذ قانون معين في حالة معينة استناداً إلى أن ذلك القانون يمس بمصالح ذلك الشخص وحقوقه وان ذلك القانون مخالف للدستور .
وإذا صدر الأمر القضاي للموظف المعني بالامتناع عن التنفيذ وجب عليه الامتثال لأمر المحكمة إلا إذا طعن في ذلك الأمر والغي .
ومن ناحية أخرى يجوز إصدار أمر قضائي لأحد الموظفين بتنفيذ نص قانوني أو قرار معين وعلي الموظف أن يصرح بالأمر ويقوم بالتنفيذ فان هو خالف أمر المحكمة . . عد مرتكباً لجريمة احتقار المحكمة ” التي قد تؤدي إلى حبس ذلك الموظف ” .

(ج) وسيلة الحكم التقريري declaratory indgement :

الحكم التقريري شانه شان الأمر القضائي يعتبر وسيلة وقائية .
وقد بدا العمل بهذه الوسيلة – الحكم التقريري – منذ عام 1918 واستمر حتى الآن . هذا وقد اقر الكونجرس هذه الوسيلة بقانون اتحادي أصدره عام 1938 .
ويلجأ الإفراد إلى هذه الوسيلة عندما يثور خلاف بشأن ما يتمتع به هؤلاء الإفراد من حقوق والتزامات متبادلة ، وما قد يكون هناك من تعارض بين القانون الذي يحدد هذه الحقوق والالتزامات وبين الدستور نفسه .
والمحكمة لا تفصل في نزاع عندما تصدر حكماً تقريرياً وانما هي تكشف عن رأيها في مسالة معينة قد تؤدي إلى تجنب المنازعات القضائية مستقبلاً وقد لا تؤدي إلى ذلك إذا لم يرتض الأطراف الحكم التقريري ورأوا استمرار المنازعة وطرحها علي القضاء .
وفي ختام هذا العرض السريع لموقف القضاء الأمريكي يجب أن نلاحظ أن القضاء الأمريكي لا يقضي ببطلان القانون لمخالفته للدستور ، فهو لا يملك ذلك ، وانما هو يقضي بالامتناع عن تطبيق ذلك القانون في القضية محل البحث .
ولكن نظراً لان النظام القضائي الأمريكي يقوم علي السوابق القضائية وعلي اتباع المحاكم الدنيا لقضاء المحاكم العليا فان قضاء المحكمة الاتحادية العليا بالامتناع عن تطبيق قانون معين لعدم دستوريته يعني من الناحية العلمية أبطال مفعول ذلك القانون في الحياة ، اللهم إلا إذا عدلت المحكمة العليا نفسها عن قضائها بعد ذلك ، وهي رغم تقيدها بالسوابق القضائية إلا انها تعدل عنها في بعض الحالات ، وهذا هو ما حدث فعلا بالنسبة للقوانين الاقتصادية التي استصدرها روزفلت وفقاً لما كان يسمي بالسياسة الجديدة آنذاك N.E.P.. وهذه الطريقة هي ما تسمي عادة الرقابة عن طريق الامتناع . . أي امتناع المحاكم عن تطبيق النص المخالف للدستور .

والي جوار الرقابة بطريق الدفع المؤدي إلى الامتناع أوجد القضاء الأمريكي وسيلتين أخريين لمباشرة رقابة الدستورية ، وهاتان الوسيلتان هما :

أولاً : الأمر القضائي injunction ومقتضاه أن يصدر أمر من المحكمة – التي هي وفقاً للنصوص محكمة اتحادية مشكلة من ثلاثة قضاة – بناء علي طلب ذي مصلحة إلى موظف معين بالامتناع عن تنفيذ قانون معين في حالة معينة ، وعلي ذلك الموظف أن يمتثل لأمر المحكمة إلا إذا طعن فيه والغي الأمر .

والوسيلة الثانية هي الحكم التقريري ، ومقتضاها أن يصدر حكم بناء علي طلب ذي مصلحة ليقرر ما إذا كان قانون معين يراد تطبيقه علي ذلك الشخص دستورياً أم غير دستوري ، وهذا الحكم ذو اثر نسبي أي انه لا يحتج به إلا من صدر لصالحه وفي تلك الحالة دون غيرها ، وقد اقر الكونجرس تلك الوسيلة بقانون اتحادي أصدره عام 1938 .
هذه هي الوسائل الثلاث التي يباشر بها القضاء في الولايات المتحدة الأمريكية رقابة دستورية القوانين في تلك البلاد والتي بني علي أساسها صرحاً قضائياً ضخماً في هذا الموضوع (20) .