عرض قانوني للركن المفترض لجريمة التعذيب

تنص المادة 126 من قانون العقوبات على أن: “كل موظف أو مستخدم عمومي أمر بتعذيب متهم أو فعل ذلك بنفسه لحمله على الاعتراف يعاقب…..”

ويتضح من هذا النص أن المشرع قد استلزم ضرورة توافر صفة معينة فى كل من الجاني والمجنى عليه عند مباشرة السلوك الإجرامي كيما يكتمل البنيان القانوني للجريمة، فاشترط أن يكون الجاني متمتعاً بصفة “الموظف العام” من ناحية، وأن يكون المجني عليه متمتعاً بصفة “المتهم” من ناحية أخرى.

وعلى ذلك فإذا انتفت صفة الموظف العام عن الجاني، أوصفة المتهم عن المجني عليه فإن السلوك الإجرامي الذى يأتيه الجاني يشكل جريمة أخرى من جرائم الاعتداء على الأشخاص غير تلك المنصوص عليها فى المادة 126 من قانون العقوبات.

وعليه فإن الركن المفترض لجريمة التعذيب يقوم على عنصرين الأول صفة الجاني (الموظف العام)، والثاني صفة المجني عليه (المتهم).

ويقتضي الوقوف على الركن المفترض لجريمة التعذيب تحديد المقصود بالموظف العام، وتحديد المقصود بالمتهم.

وعلى هدى ما تقدم فسوف نقسم هذا الفصل إلى مبحثين كالآتي:

·المبحث الأول: صفة الجاني (الموظف العام).

·المبحث الثاني: صفة المجني عليه (المتهم).

المبحث الأول

صفة الجاني

(الموظف العام)

على الرغم من أن المشرع قد اشترط فى نص المادة 126 من قانون العقوبات أن يكون الجاني “موظفا عاما أو مستخدما عموميا”؛ فإنه لم يضع تعريفا لهذا اللفظ أو ذاك فى أي نص من نصوصه بما فى ذلك نص المادة 126 عقوبات.

ولما كانت كلمة الموظف العام تنتمي أصلا إلى فرع القانون الإداري لذا فقد ثار خلاف فى الفقه الجنائي حول تحديد المقصود بالموظف العام فى مجال تطبيق نصوص قانون العقوبات، وهل هو ذلك المفهوم الذى يجرى الأخذ به فى مجال القانون الإداري، أو أن لمفهوم الموظف العام فى قانون العقوبات معنى آخر يتفق مع ذاتية واستقلال هذا القانون.

ذهب رأي فى الفقه إلى أنه إزاء صمت المشرع الجنائي عن وضع تعريف للموظف العام فلا مفر من الرجوع إلى القانون الإداري للأخذ بالتعريف الوارد به لكلمة الموظف العام.

ومن جهة أخرى فقد ذهب رأى إلى أنه ليس هناك ما يشير إلى أن المشرع الجنائي قد اعتنق المفهوم الإداري للموظف العام. فضلا على أن القانون الجنائي له ذاتية مستقلة تميزه عن غيره من القوانين. هذه الذاتية مردها طبيعة وظيفته ودوره فى حماية المصالح الاجتماعية المختلفة، ومن ثم فإن مدلول الموظف العام فى القانون الجنائي يختلف عنه فى القانون الإداري

ويقتضي ذلك تعريف الموظف العام فى القانون الإداري (المطلب الأول) ثم تعريف الموظف العام فى القانون الجنائي (المطلب الثاني).

* * *

المطلب الأول

تعريف الموظف العام فى القانون الإداري

لم تهتم قوانين الوظيفة العامة بوضع تعريف عام وشامل للموظف العام، ومن ثم كان لزاما على الفقه والقضاء الإداريين أن يجتهدا لوضع مفهوم لتحديد المقصود بالموظف العام.

أولاً:تعريف الموظف العام فى الفقه الإداري

عرف الفقه الإداري الموظف العام بأنه:”كل شخص يقوم بصفة قانونية بعمل دائم فى خدمة مرفق عام تديره الدولة أو أحد الأشخاص المعنوية العامة بطريق الاستغلال المباشر”

غير أن هذا المفهوم التقليدي للموظف العام قد لحقه تطور فى العنصر الخاص بدائمية العمل فى الوظيفة. فأصبحت صفة الموظف العام تنسحب على كل من يعين فى وظيفة دائمة أو مؤقتة، ومن ثم يمكن تعريف الموظف العام بأنه:”كل شخص يعين للعمل بصفة دائمة أو مؤقتة فى خدمة مرفق عام تديره الدولة أو أحد أشخاص القانون العام الأخرى بطريق الاستغلال المباشر

وفقا لهذا التعريف فإن مفهوم الموظف العام يقوم على عنصرين:

العنصر الأول:العمل فى خدمة مرفق عام تديره الدولة أو أحد الأشخاص المعنوية العامة بطريق الاستغلال المباشر:

فلكي يكتسب الشخص صفة الموظف العام يتعين أن يكون من العاملين فى خدمة مرفق عام سواء كان هذا المرفق إداريا أم اقتصاديا، والمرفق العام هو كل مشروع تقوم به الإدارة بنفسها أو بواسطة الأفراد تحت رعايتها وإشرافها لإشباع حاجة عامة. ويتعين أن يكون المرفق العام مدارا بطريق الاستغلال المباشر فطريقة إدارة المرفق لها أثرها فى تحديد صفة الموظف العام.

ومن ثم يخرج من نطاق الموظفين العموميين عمال المرافق التى تدار بطريق الالتزام، ومن يعملون فى أحد المشروعات الخاصة.

وعلى ذلك فإن صفة الموظف العام تنسحب على كل العاملين فى الدولة ممثلة فى سلطتها التشريعية والتنفيذية والقضائية، وعلى كل العاملين فى الوزارات والهيئات والإدارات المختلفة سواء أكانت إدارية أم اقتصادية

العنصر الثاني: التعيين فى الوظيفة

لكي يكتسب الشخص صفة الموظف العام يتعين أن يكون قد التحق بالمرفق العام ب

خلاصة القول:

إنه إذا توافر فى الشخص العنصران السابقان اكتسب صفة الموظف العام، ولا يؤثر فى ذلك أن يكون مؤديا للعمل بمقابل أو دون مقابل، خاضعا للنظام القانوني العام للموظفين أو خاضعاً لنظام قانوني خاص بطائفة معينة؛ كأعضاء هيئة التدريس بالجامعات وضباط الشرطة والجيش، كما لا يؤثر رضاء الموظف بالتعيين فالمكلفون بالتعيين فى وظائف معينة يعتبرون موظفين عموميين).

ثانياً:تعريف الموظف العام فى القضاء الإداري:

عرفت محكمة القضاء الإداري الموظف العام فى العديد من أحكامها؛ فقد قضت بأن “الموظف العام هو الشخص الذى يعهد إليه بعمل دائم فى خدمة مرفق عام تديره الدولة، أو أحد أشخاص القانون العام بالطريق المباشر.

وقضت المحكمة الإدارية العليا بأنه:”لكي يعتبر الشخص موظفا عاما خاضعا لأحكام الوظيفة العامة يجب أن يعين بصفة مستمرة غير عارضة للمساهمة بعمل دائم فى خدمة مرفق عام تديره الدولة بالطريق المباشر

زوال صفة الموظف العام

تزول صفة الموظف العام بانتهاء خدمته والانتهاء من الخدمة قد يكون بصفة مؤقتة، وقد يكون بصفة دائمة.

أولا:الانتهاء المؤقت للخدمة

يكون الانتهاء المؤقت للخدمة عن طريق “منح الإجازة” ومعناه إنهاء خدمة الموظف بصفة مؤقتة لمدة معينة يتوقف خلالها عن خدمة الدولة، ولكن دون أن تنقطع صلته بها نهائيا

وعلى ذلك فإن صفة الموظف العام تزول عن الشخص طيلة فترة منح الإجازة، ولا تعود هذه الصفة إليه مرة أخرى إلا بعودته إلى الوظيفة.

ثانيا:الانتهاء النهائي للخدمة

تنتهي خدمة الموظف نهائيا لأسباب معينة نصت عليها المادة 94 من القانون رقم 47 لسنة 1978 وهى:

1-الوفاة.

2-بلوغ سن التقاعد.

3-عدم اللياقة الصحية.

4-الاستقالة.

5-الإحالة إلى المعاش أو الفصل كعقوبة تأديبية.

6-الفصل بقرار جمهوري.

7-فقد الجنسية أو انتفاء شرط المعاملة بالمثل.

8-الفصل بناء على حكم جنائي.

* * *

المطلب الثاني

تعريف الموظف العام فى القانون الجنائي

لم يعرف المشرع الجنائي المصري مدلول “الموظف العام” تعريفا عاما ومجردا يطبق على جميع المسائل الجنائية، أو بالأحرى على الجرائم التى يتطلب فيها المشرع هذه الصفة. بيد أن المشرع قد بين المقصود بالموظف العام فى جرائم معينة كالرشوة والاختلاس وغيرهما؛ بأن أورد تعدداً للأشخاص المعتبرين موظفين عموميين فى تلك الجرائم .

ويلاحظ أن المشرع فى تلك الجرائم قد أدخل فى عداد الموظفين العموميين طوائف أو فئات أخرى لا تنسحب عليهم صفة الموظف العام وفقا للمفهوم الذى جرى عليه الفقه والقضاء الإداريان. مما يعني أن المشرع الجنائي المصري قد اعتنق مفهوما واسعا للموظف العام فى مجال تطبيق هذه الجرائم يختلف عن المفهوم الإداري الأقل توسعا().

وفى فرنسا اتجه المشرع الجنائي الفرنسي إلى التوسع فى مجال أو نطاق الوظيفة العامة، ومن ثم التوسع فى مدلول الموظف العام فأدخل فى عداد الموظفين العموميين أصحاب السلطة العامة كأولئك المكلفين بمهام مرفق عام، أو بوكالة عامة؛ الأمر الذى يكشف عن استقلال القانون الجنائي عن القانون الإداري فى شأن تعريف الموظف العام).

وبناء عليه فسوف نقسم هذا المطلب إلى ثلاثة فروع كالآتي:

·الفرع الأول: تعريف الموظف العام فى الفقه الجنائي.

·الفرع الثاني: تعريف الموظف العام فى القضاء الجنائي.

·الفرع الثالث: تحديد المقصود بالموظف العام فى نص المادة 126 عقوبات.

الفرع الأول

تعريف الموظف العام فى الفقه الجنائي

إزاء صمت المشرع الجنائي المصري عن وضع تعريف عام ومجرد للموظف العام فى قانون العقوبات فقد ثار خلاف فى الفقه الجنائي حول تحديد المقصود بالموظف العام فى مجال القانون الجنائي، ويمكن تقسيم الآراء التى قال بها الفقهاء فى هذا الصدد إلى اتجاهين:

الاتجاه الأول:

يرى أن سكوت المشرع عن وضع تعريف عام للموظف العام فى قانون العقوبات ليس معناه سوي الإحالة إلى التعريف المعمول به فى الفقه والقضاء الإداريين

الاتجاه الثاني:

ويرى أن القانون الجنائي له ذاتية مستقلة تميزه عن غيره من القوانين، ولذا فإن مفهوم الموظف العام فى القانون الجنائي يختلف عنه فى القانون الإداري

الاتجاه الأول:

يرى أنصار هذا الاتجاه أنه لما كان المشرع فى قانون العقوبات لم يضع تعريفا للموظف العام فلا مفر من الرجوع فى شأن هذا التعريف إلى الأحكام والمبادئ المستقر عليها فى القانون الإداري.

وعلى ذلك فقد- أورد الفقهاء من أنصار هذا الاتجاه عدة تعريفات للموظف العام، وهذه التعريفات، وإن كانت مختلفة فى صياغاتها وألفاظها إلا أنها لا تخرج فى فحواها ومضمونها عن التعريف الذى يجرى عليه العمل فى القانون الإداري.

فقد قيل إن الموظف العام هو:”كل شخص يقوم بعمل دائم فى خدمة مرفق عام تديره الدولة أو غيرها من الوحدات الإدارية بأسلوب الاستغلال المباشر”

كما قيل إن الموظف العام هو:”كل شخص يؤدي عملا يتميز بصفة الدوام فى خدمة مرفق عام أو مصلحة أو مؤسسة عامة”

وقيل إن الموظف العام هو: “كل شخص يعمل بصفة دائمة فى خدمة مرفق عام أو مصلحة عامة سواء كان تابعا مباشرة للحكومة المركزية أو كان تابعا لإحدى السلطات أو الهيئات الإدارية اللامركزية كالمحافظات، والمدن، والقرى، والمؤسسات العامة”).

وقيل – أيضا – لا شك أنه يتعين الرجوع إلى القانون الإداري لتحديد صفة الموظف العام، وقد عرفته المحكمة الإدارية العليا بأنه: “الشخص الذى يعين بصفة مستقرة غير عارضه للمساهمة فى عمل دائم فى خدمة مرفق عام تديره الدولة أو السلطات الإدارية بالطريق المباشر”غير أن الفقيه صاحب هذا الرأي قد عدل عنه فيما بعد، منتقدا الرجوع إلى القانون الإداري بشأن تعريف الموظف العام وبذلك يكون قد انضم إلى أنصار الاتجاه الثاني.

وقد قيل إنه:”لا يختلف مدلول الموظف العام فى القانون الجنائي عنه فى القانون الإداري، فهو ينصرف فى الحالتين إلى شخص يباشر عملا دائما فى مرفق عام تديره الدولة بطريق الاستغلال المباشر

كما قيل إن الراجح أن موقف المشرع الجنائي يفيد قصد الإحالة فى تعريف الموظف العمومي إلى القانون الإداري باعتباره الأصل فى تنظيم أحكام موظفي الدولة، لهذا فإن الموظف العام هو:”الشخص الذى يسهم بعمل دائم بمرفق عام تديره الدولة أو غيرها من الوحدات الإدارية بأسلوب الاستغلال المباشر).

وقيل إنه: “لم يتضمن قانون العقوبات تعريفا للموظف العمومي، وترك ذلك للمحاكم مستعينة بتعريفه فى القانون الإداري، والموظف العام طبقا لما هو مستقر عليه فى القانون الإداري – هو الشخص الذى يعهد إليه بعمل دائم فى خدمة مرفق عام تديره الدولة أو أحد أشخاص القانون العام الأخرى عن طريق شغله منصبا يدخل فى التنظيم الإداري لذلك المرفق”

خلاصة القول

إن أنصار هذا الاتجاه يحيلون إلى القانون الإداري عند تعريفهم للموظف العام فى القانون الجنائي، ولذا فإن الموظف العام – عندهم – وبعد مراعاة التطور الذى طرأ على تعريف الموظف العام هو: “كل شخص يعهد إليه بصفة دائمة أو مؤقتة للعمل فى خدمة مرفق عام تديره الدولة أو أحد أشخاص القانون العام الأخرى بطريق الاستغلال المباشر”

فإذا توافرت فى الشخص العناصر أو الشروط التى يقوم عليها الموظف العام فى القانون الإداري اكتسب صفة الموظف العام فى القانون الإداري والجنائي معا، ويستوى بعد ذلك أن يكون الموظف مثبتا أو غير مثبت، يتقاضى أجرا أم يؤدي عمله بدون مقابل ومن ثم فإن العمد ومشايخ الحارات والأقسام يعتبرون من قبيل الموظفين العموميين، ويستوى أن يكون الشخص خاضعاً للنظام القانوني العام الذى يخضع له الموظفون العموميون أو أن يكون خاضعا لنظام قانوني خاص بطائفة معينة كأعضاء هيئة التدريس فى الجامعات أو أفراد الشرطة أو القوات المسلحة، كذلك فلا يؤثر فى اعتبار الشخص موظفا عاما رضاؤه بالتعيين فالمكلفون بالتعيين فى وظائف معينة يعتبرون موظفين عموميين

ولا عبرة بطبيعة العمل الذى يقوم به الموظف فيستوي أن يكون العمل فنيا أو أداريا، هاما أو قليل الأهمية. كما يستوي أن يكون الموظف متفرغاً للوظيفة العامة أو أنه يمارس عملا أخر بالإضافة لها

ويلاحظ أن أنصار هذا الاتجاه لم يأخذوا فى اعتبارهم – وهم بصدد تعريف الموظف العام – التطور الذى طرأ على أحد العناصر التى يقوم عليها تعريف الموظف العام ألا وهو العنصر الخاص بدائمية الوظيفة، إذ اشترطوا لكي يكون الشخص موظفاً أن يعمل فى وظيفة دائمة. غير أن جانبا قليلا من أنصار هذا الاتجاه، لا يتطلب هذا الشرط، ويرى أن مناط اعتبار الشخص موظفاً عاماً هو العمل فى خدمة مرفق عام أو مصلحة أو مؤسسة عامة حتى لو كان يشغل الوظيفة بصفة مؤقتة إعمالا لنص المادة 13 من القانون رقم 47 لسنة 1978.

ويعاب على هذا الاتجاه أنه يعصف كلية بفكرة ذاتية قانون العقوبات واستقلاله عن غيره من فروع القانون الأخرى

الاتجاه الثاني:

يرى أنصار هذا الاتجاه أنه ليس هناك ما يشير إلى أن القانون الجنائي قد اعتنق المفهوم الإداري للموظف العام؛ لأن القانون الجنائي له ذاتية مستقلة تميزه عن غيره من القوانين، وهذه الذاتية مصدرها وظيفة القانون الجنائي واختلاف هذه الوظيفة عن مثيلاتها من القوانين الأخرى، ومنها القانون الإداري. فالقانون الإداري يرمي إلى تنظيم العلاقة بين الشخص والإدارة من حيث الحقوق والواجبات، لذا فإن قصر الموظف العام على نطاقه فى القانون الإداري قد يكون له ما يبرره. أما القانون الجنائي فلا يرمي إلى تنظيم العلاقة بين الشخص والإدارة، وإنما يرمي إلى حماية مصالح الإدارة لذا فلا مناص من التوسع فى مفهوم الموظف العام بما يتلاءم والمصلحة المراد حمايتها. ومن ثم يبدو خطأ وقصور الإحالة إلى القانون الإداري لتحديد المقصود بالموظف العام فى القانون الجنائي

ويرى البعض أن القانون الجنائي لم يتبن الفكرة الإدارية للموظف العام لأنه قدر من الناحية المنطقية أنها قامت على اعتبارات يعيرها القانون الإداري أهمية فى حين أن القانون الجنائي لا يعطيها الأهمية ذاتها، ومن الواجهة العلمية فإن المشرع الجنائي لم يتبن الفكرة الإدارية للموظف العام لأنه قدر أنها على اتساعها أضيق مما ينبغي، فالالتجاء إليها يضيق من نطاق التجريم فلا يمتد إلى أناس يؤدون أعمالا لها أهميتها فى المجتمع لذلك كله كان من الطبيعي أن يكون لقانون العقوبات منهج مستقل فى تعريف الموظف العام يختلف عن منهج القانون الإداري

وبناء على ما تقدم فقد قام أنصار هذا الاتجاه بتعريف الموظف العام فى القانون الجنائي بطريقة تتفق مع ذاتية واستقلال هذا القانون، فقيل إن الموظف العام هو:”كل شخص يعمل فى مواجهة الأفراد باسم الدولة أو أحد الأشخاص المعنوية العامة، ويمارس إزاءهم فى صورة طبيعية تستدعي ثقتهم أحد الاختصاصات التى خولها القانون لمرفق عام تديره الدولة أو الشخص المعنوي العام إدارة مباشرة

وهذا التعريف لا يختلف فى نظرنا عن التعريف الإداري للموظف العام، إذ يقصر فى نهاية المطاف صفة الموظفين العموميين على عمال المرافق العامة التى تدار بأسلوب الاستغلال المباشر. أما عمال المرافق العامة التى تدار إدارة غير مباشرة فلا يعتبرون موظفين عموميين، فوفقاً لهذا التعريف لا تنسحب صفة الموظف العام على شركات القطاع العام أو شركات الاقتصاد المختلط لأن هذه الشركات تدار بمعرفة مجالس إدارتها، فضلا على كونها لا تعد من أشخاص القانون العام.

كما قيل إنه لتحديد مفهوم الموظف العام فى المجال الجنائي يتعين أن نأخذ فى الاعتبار المعيار الموضوعي، بمعنى أن من يباشر الوظيفة العامة يعتبر موظفا عموميا فى عرف المشرع الجنائي بغض النظر عن العلاقة القانونية التى تربط الشخص بالجهة العامة، فالنشاط الذى يباشره هو الذى يضفي على صاحبه صفة الموظف العام، طالما أنه يباشر لصالح جهة عامة. فهناك شرطان لكي يعتبر الشخص موظفاً عاماً فى نظر المشرع الجنائي: الأول مباشرة نشاط عام هو من اختصاص جهة عامة، والثاني أن يكون النشاط منسوبا لتلك الجهة. ولا يهم بعد ذلك أن تكون علاقة الشخص بالجهة العامة يحكمها قانون موظفي الدولة أو القوانين واللوائح الخاصة التى تتحد علاقة الفرد بالجهة العامة، ويستوي أيضا نوع النشاط فقد يكون نشاطا إداريا بحتا كما يكون نشاطا تشريعيا أو قضائيا(.

ويلاحظ على هذا الرأى أنه يعتمد كلية على العمل أو النشاط الذى يباشره الشخص كمعيار لتحديد المقصود بالموظف العام. فإذا كان الشخص يمارس نشاطا عاما لمصلحة ولحساب جهة عامة اعتبر موظفا عاما. وعلى ذلك فإن عمال المرافق العامة أيا كانت الطريقة التى تداربها هذه المرافق يعتبرون موظفين عموميين.

وعليه فإن هذا التعريف يتسع ليشمل كل من هو موظف عام وفقا للقانون الإداري، وكذا جميع المستخدمين والموظفين فى المصالح الحكومية والمؤسسات العامة، وكذلك جميع رجال القضاء والنيابة ورجال الشرطة والجيش حتى المجندين منهم باعتبارهم مكلفين بخدمة عامة وأعضاء المجالس النيابية

فهذا التعريف – إذن – يدخل فى عداد الموظفين العموميين أشخاصا لا يعتبرون كذلك وفقا للمفهوم الإداري للموظف العام.

ويؤخذ على هذا الرأي أنه توسع أكثر من اللازم فى تعريف الموظف العام، فأدخل فى عداد الموظفين العموميين أشخاصا اعتبرهم المشرع – حكما – موظفين عموميين فى جرائم معينة دون سواها مراعاة للصالح العام كما هو الشأن فى جرائم الرشوة والاختلاس وغيرهما من الجرائم المنصوص عليها فى البابين: الثالث والرابع من الكتاب الثاني من قانون العقوبات، فعلى سبيل المثال فقد اعتبر – هذا الرأى – المكلفين بخدمة عامة، وعمال القطاع العام والمجندين، وأعضاء المجالس النيابية موظفين عموميين على الرغم من أن المشرع قد اعتبرهم كذلك فى جرائم معينة فحسب، كما أن القضاء الجنائي أيضا لا يعتبرهم موظفين عموميين إلا فى نطاق جرائم معينة على النحو الذى سنبينه فيما بعد؛ لذا يمكننا القول إن التعريف السابق للموظف العام يتعارض وإرادة المشرع.

وقد قيل إن الموظف العام فى القانون الجنائي هو “كل شخص يعين أو ينتخب قانونا لممارسة عمل عام ودائم لأداء خدمة عامة أو القيام على مال فيلتزم بتنظيم الحريات أو الحقوق أو الأموال العامة مع سلطة المساس بها عند الاقتضاء فى حدود القانون، سواء كان إسناد العمل إليه طواعية أو جبراً بمقابل أو بدونه بصفة دائمة أو لمدة محددة

ويتضح من العبارات التى صيغ بها هذا التعريف أنه ينطوي على قدر من التناقض فتارة – فى ديباجته – يشترط أن يكون العمل الذى يمارسه الشخص عملا عاما دائما وتارة – يقرر أنه يستوي أن يكون هذا العمل قد أسند للشخص بصفة دائمة أو مؤقتة.

وأخيرا يعرف البعض الموظف العام بأنه: “كل شخص يمارس نشاطا عاما باسم إحدى الجهات العامة أو القائمة على النفع العام ولحسابها بناء على سند قانوني أو ضرورة طواعية أو جبرا بأجر أو دون أجر بصفة دائمة أو عرضية

ويتميز هذا التعريف بالتحديد والوضوح من ناحية كما أنه لم يعتمد على المعيار الموضوعي وحده، وإنما أدخل فى الاعتبار المعيار الشكلي أو العضوي؛ إذ تطلب أن تكون ممارسة النشاط العام بناء على سند قانوني أو ضرورة وعليه فإن منتحل صفة الموظف العام لا يكتسب هذه الصفة لمجرد كونه يمارس نشاطا عاما بيد أنه يؤخذ على هذا التعريف أنه يتوسع كثيرا فى مفهوم الموظف العام، فيدخل فى عداد الموظفين العموميين أشخاصا لم يعتبرهم المشرع، والقضاء موظفين عموميين إلا فى نصوص معينة، الأمر الذى يجعل هذا التعريف مخالفا لإرادة المشرع.

الفرع الثاني

تعريف الموظف العام فى القضاء

حسمت محكمة النقض الخلاف الدائر فى الفقه الجنائي حول تحديد المقصود بالموظف العام فى الفقه الجنائي فقد استقرت على أن الموظف العام هو كل شخص يعهد إليه بعمل دائم فى خدمة مرفق عام تديره الدولة أو أحد أشخاص القانون العام عن طريق شغله منصبا يدخل فى التنظيم الإداري لهذا المنصب

وعلى ذلك فيشترط لكي يكتسب الشخص صفة الموظف العام شرطان

الأول:أن يعهد إليه بعمل دائم فى خدمة مرفق عام.

الثاني: أن يكون هذا المرفق مدارا بمعرفة الدولة أو أحد أشخاص القانون العام بطريق الاستغلال المباشر فإن توافرت هذه الشروط اكتسب الشخص صفة الموظف العام، ولا يهم بعد ذلك نوع العمل المكلف به. حيث يستوي كونه عملا فنيا أو إداريا مهماً أو قليل الأهمية. كذلك لا يؤثر فى صفة الموظف العام أن يكون من الدائمين أو غير الدائمين، أو أن يكون ممن لهم الحق فى المعاش أو ممن ليس لهم الحق فيه أن يؤدي عمله بمقابل أو دون مقابل. كما أنه لا عبرة بالنظام القانوني الذى يحكم طائفة معينة من الموظفين فلا يشترط خضوعه للقانون الخاص بنظام العاملين المدنيين؛ إذ أن هناك طوائف من الموظفين يخضعون لأنظمة من الموظفين لأنظمة خاصة كأعضاء الهيئات القضائية وهيئات التدريس بالجامعات

ويستفاد – ضمنا – مما تقدم أن صفة الموظف العام تنسحب على جميع الأشخاص الذين يعملون فى خدمة الدولة ممثلة فى سلطاتها التشريعية والتنفيذية والقضائية، على كل العاملين فى مختلف الوزارات والمصالح والإدارات التابعة لها، وكذلك على عمال الهيئات والمؤسسات العامة دون تمييز بين المؤسسات العامة الإدارية والمؤسسات العامة الاقتصادية.

وكذلك تنسحب صفة الموظف العام على العمد والمشايخ والمأذونين

وعلى العكس من ذلك فإن صفة الموظف العام لا تنسحب على عمال المرافق التى تدار بطريق آخر غير الاستغلال المباشر.

ولذا لا يعتبر العاملون فى شركات القطاع العام موظفين عموميينوكذلك لا يعتبر رؤساء مجالس إدارة المؤسسات الصحفية والعاملون بها موظفين عموميين

كما لا يعتبر المكلفون بخدمة عامة موظفين لذا فلا يعتبر المجندون موظفين عموميين بل مكلفون بخدمة عامة

بيد أن محكمة النقض وإن كانت قد استقرت على التعريف السابق للموظف العام إلا أنها قد خرجت على هذا التعريف فى بعض أحكامها.

فقضت بأن الموظف العام هو من يولي قدرا من السلطة بصفة دائمة أو مؤقتة أو يمنح هذه الصفة بمقتضى القوانين واللوائح سواء أكان يتقاضى مرتبا من الخزانة العامة كالموظفين والمستخدمين الملحقين بالوزارات والمصالح التابعة لها أم بالهيئات المستقلة ذات الصفة العمومية كالجامعات والمجالس البلدية ودار الكتب، أم كان مكلفا بخدمة عامة دون أجر كالعمد والمشايخ وما إليهم. ويمكن القول إن هذا التعريف ينطوي على خلط كبير بين الموظف العام والمكلف بخدمة عامة؛ إذ يعتبر الأخير موظفا عاما، رغم أن ثمة فارقا بين الموظف العام والمكلف بخدمة عامة. فالمكلف بخدمة عامة وإن كان يقوم بخدمة عامة لصالح المجتمع إلا أنه لا يدخل ضمن طائفة الموظفين العموميين.

ومن ناحية أخرى فإن التعريف قد اعتبر العمد والمشايخ مكلفين بخدمة عامة فى حين أنه ينطبق عليهم وصف الموظف العام.

وفى موضع آخر قضت محكمة النقض بأنه “يراد بالموظف العام العمومي – بحسب الشارع فى المادة 109 مكررا من قانون العقوبات– كل شخص من رجال الحكومة بيده نصيب من السلطة العامة، فلا يدخل فى هذا المعنى سوى رجال السلطة القضائية وكبار رجال السلطة التنفيذية والإدارية

ويتضح من هذا التعريف أنه يقصر صفة الموظف العام فى جريمة الرشوة على من يتمتعون بقدر وافر من السلطة والنفوذ، إلا أنه قد بات من المستقر عليه أن صفة الموظف العام تنسحب على الشخص أيا كانت درجته فى السلم الوظيفي وأياً كان نوع العمل المكلف به(.

كما قضت محكمة النقض بأن “الموظف العمومي المشار إليه فى المادتين 211 ،213 من قانون العقوبات هو كل من يعهد إليه بنصيب من السلطة يزاوله فى أداء العمل الذى يناط به أداؤه سواء كان هذا النصيب قد أسبغ عليه من السلطة التشريعية أو السلطة التنفيذية أو القضائية

وجدير بالذكر أن التعريفات الثلاثة الأخيرة لا يمكن تعميمها؛ حيث إنها صدرت فى مناسبة معينة، وكانت متعلقة بحالات خاصة؛ ومن ثم فهي لا تمثل اتجاها مستقرا ومطردا داخل قضاء محكمة النقضوذلك بعكس الأحكام التى عرفت الموظف العام بأنه كل شخص يعهد إليه بعمل دائم فى خدمة مرفق عام تديره الدولة أو أحد أشخاص القانون العام عن طريق شغله منصبا يدخل فى التنظيم الإداري لهذا المرفق.

ولما كانت اعتبارات تحقيق المصلحة العامة قد اقتضت من المشرع أن يتوسع فى مفهوم الموظف العام وذلك بإدخال أشخاص معينة فى حكم الموظفين العموميين وإن لم يكونوا كذلك بحسب التعريف المستقر عليه فى قضاء محكمة النقض للموظف العام، كما هو الشأن فى جرائم الرشوة واختلاس الأموال الأميرية والتسبب بالخطأ الجسيم بإلحاق ضرر جسيم بالأموال وغيرها من الجرائم المنصوص عليها فى البابين الثالث والرابع من الكتاب الثاني من قانون العقوبات.

فإن هؤلاء لا يكونون من بين المعنيين بالقواعد والأحكام التى تخاطب الموظفين العموميين إلا فى هذه الجرائم فحسب دون سواها.

وتطبيقا لذلك قضت محكمة النقض بعدم تطبيق المواد 63،123 من قانون العقوبات والمادة 63 من قانون الإجراءات الجنائية على الأشخاص المعتبرين حكما موظفين عموميين وذلك تأسيسا على القول إن المشرع كلما رأي اعتبار أشخاص معينة فى حكم الموظفين العموميين فى موطن ما أورد به نصا، وحيث إن المشرع لم يورد نصا من شأنه أن يجعل هؤلاء الأشخاص فى حكم الموظفين العموميين فى نطاق تطبيق المواد 63([)، 123)من قانون العقوبات، والمادة 63من قانون الإجراءات. فلا مجال لإنزال أحكام هذه المواد عليهم.

وكذلك قضت محكمة النقض – أيضا – بعدم تطبيق عقوبة العزل المنصوص عليها فى المادتين 26 و 27 من قانون العقوبات إلا على الموظفين العموميين دون من فى حكمهم، وإن كان المشرع قد اعتبرهم فى حكم الموظفين العموميين فى جرائم معينة

وفى فرنسا ضمن القضاء الجنائي العادي فى فئة الموظفين العموميين أعضاء الحكومة وأعضاء البرلمانوأعضاء المجالس المحليةوالعمد ومعاونيهموالمستشارين البلديينوموظفي الوحدات المحلية والموظفين القضائيين ووكيل التفليسة أو الدائنين.

وفى صدد جريمة الرشوة عرفت محكمة النقض الفرنسية الموظفين العموميين بأنهم المواطنون الذين يباشرون قدرا من السلطة العامة، وكذلك من يمارسون وكالة عامة بطريق الانتخاب أو بتفويض من السلطة التنفيذية