دراسة وبحث قانوني هام فن المحاكمة l’Art de juger

كتبهاالأستاذ هرادة عبد الكريمmaitre herrada a.elkarim ، في26نوفمبر 2008 الساعة: 11:23ص
بقلم د, هايل نصر

الدور الكبير, المتزايد اتساعا وعمقا, الذي يلعبه القضاء في حياة المجتمعات,يفرضه تشعب الحياة, وتعقيداتها, وتطورها في جميع المجالات : الاجتماعي والاقتصادي والثقافي والأمني والإعلامي..كما يتطلبه الانفتاح, والتواصل,والتعاون, والتنافس, بين المجتمعات على المستوى الداخلي وفي علاقاتها الخارجية. فالمجتمعات الآسنة ,المنغلقة على نفسها والمجترة لتجاربها فقط,لم تعد تملك مقومات المجتمعات القابلة للحياة والتطور.

ومع ذلك, تبقى جوانب عديدة من دور القضاء ومهامه,وطرق التقاضي والمحاكمات, غامضة ومجهولة, ليس فقط لدى العامة. وإنما كذلك من جانب كبير من المثقفين, وحتى عند العديد من ممارسي مهن لها صلة بالقضاء. ومنها الإلمام بطرق ووسائل وأساليب المحاكمات, وكيفية وصول القاضي إلى إصدار حكمه أو قراره. ومعرفة القاضي نفسه بالكيفية الصحيحة الموصلة إلى إصدار الأحكام والقرارات الملائمة, التي ستعتبر عن صدورها عنوان الحقيقة في القضايا المحكوم بها. أي معرفة, ما يسميه غي تولييه, فن المحاكمة.

وعليه رأينا من المفيد بهذا الصدد عرض كتاب نادر في موضوعه, مؤلفه غي تويليه Guy Thuillierقاض ومدير دراسات في المدرسة العليا للدراسات التطبيقية. عنوانه , l’Art de juger يمكن ترجمته ب فن المحاكمة.لا يتجاوز عدد صفحاته 74 صفحة باللغة الفرنسية, (كانت لدى المؤلف رغبة في أن تبلغ عدد الصفحات 800 صفحة كما ذكر في خاتمة الخاتمة) يتصدى فيه لفن المحاكمة عن طريق طرح أسئلة والإجابة عليها بنفسه,عرضنا له ليس ترجمة, ولا دراسة, ولا ادعاء تعليق, أو نقد , وإنما عرض,يتوخى الأمانة, بقدر ما يسمح نقل الأفكار من المصدر إلى اللغة العربية,ومع ذلك, ولضرورة التوضيح كان لا بد من إعادة صياغة الأفكار, دون الخروج بها عن غايتها, بما يتلاءم مع أسلوب لغتنا وطرقها, على أن يكون ذلك في حلقات تتناسب مساحة كل منها مع ما تسمح به الجريدة الالكترونية, وكذلك صبر القارئ غير المهتم كثيرا بمثل هذه المواضيع, التي يعتقد أنها لا تتعلق بواقعه اليومي الضاغط إلى درجة يكاد يخرجه من دائرة كل اهتمام, وحتى من دائرة الحياة نفسها.
يطرح الكاتب أسئلة منها:
ماذا يعني فن المحاكمة؟
كيف يمكن أن نحاكم؟
ما هي المبادئ الواجب تطبيقها؟
كيف يمكن أن يكون القاضي قاض جيد, نزيه, موضوعي, معتدل, وحذر؟
ما هي قواعد اللعبة؟
أسئلة صعبة, كما يصفها بنفسه, و يجهد للإجابة عليها في 11 فصل.
في المقدمة يعرض الكاتب مسألة كيفية المحاكمة ومعنى المحاكمة. وكيف ينظر القاضي لنفسه كقاض؟.

نحن هنا, كما يعلن, في مجال من المجالات التي يكتنفها الغموض. في حين أن الاعتقاد السائد أن المحاكمة عملية سهلة,واضحة, سلسة, إذ يكفي تطبيق قاعدة القانون. في هذه الحالة, كما يسارع للإشارة, نكون قد حكمنا بشكل معيب, غير كامل, وغير أكيد. فالأحكام الجادة ليست دائما معتادة ومتواترة, حتى ولو حلم كل قاض بان يكون قاض جيد. ويقرر أن هناك العديد من الصعوبات تعترض المحلل للدخول بعمق في هذا المجال, الذي يبدو بعيدا عن الاهتمام العام.

المحاكمة عملية معقدة لأبعد الحدود. يدخل فيها,لمعرفة أبعادها, الاهتمام بالجانب المتعلق بحياة القاضي, حاضره, وماضيه .و توخي الحذر, مع المواربة, للوصول لهذه المعرفة (لأننا لا نستطيع قول كل شيء), ولكن لا بد من تقديم بعض الملاحظات الضرورية (احتياطيا) حول أسس ومبادئ فن المحاكمة, وحول القاضي وواجباته.وكذلك حول القواعد الجيدة المعمول بها.
تحت عنوان ماذا تعني المحاكمة؟ يقرر الكاتب أن المحاكمة هي الطريقة التي يتم التقاضي بموجبها, وهي غير معزولة ولها صلة بالآخرين, وطريقة في التصرف. أي أنها أكثر من مجرد الخضوع للقواعد القانونية. وفيها يؤخذ في الحسبان: حياة القاضي, والقواعد المعنوية لديه,ومقدرته الحدسية, وإبداعه. ويذكرالكاتب أن ما يُعرف في هذا المجال قليل جدا, لعدم وجود مؤلفات في فن المحاكمة. ولرفض الذهاب بعيدا فيما يتعلق بخلفية عمليات المحاكمة.

هذا الرفض جدير بالاهتمام: فظاهريا, كأننا نلمس المقدس. لا يُراد إبراز أسرار المهنة. يُراد إعطاء صورة عن القضاء وكأنه فوق كل قاعدة. هناك خوف من المحامين الذين يقضون وقتهم في النميمة وقول السوء في القاضي. مما يتطلب الحذر. ولا يوجد شرحا جيدا لهذا (فلا نجد مذكرات خاصة لأحد من القضاة في هذا الشأن). نجد كل عام أعدادا كبيرة من الأحكام, والقرارات, تتزايد, كما يتزايد عدد القضاة. ويمكن افتراض أن هناك طرقا لتعديل الأحكام, وزيادة فعاليتها ومصداقيتها, ولكن لا توجد بحوث حول الآليات التي تُوصل إلى المصداقية.

في هذا المجال, يقول: نحن في حقل ملغم ومفخخ, و ضبابية تحيط بفن المحاكمة, ويعطي على ذلك مثلا : هل توجد طرق محاكمات متطابقة, في حين يوجد قضاة مهنيون وقضاة غير مهنيين ؟ ( تجدر الإشارة إلى أن عدد قضاة القضاء العادي كان عام 1994 .6197 قاض. والقضاة الإداريين 713 قاض, في العام نفسه. والى جانبهم يوجد 20000 قاض غير مهني, بما فيهم قضاة العمال والعمل .. غير مكونين, عموما, بشكل كاف. وموكلة إليهم مهام غير واضحة بدقة, عرفية, ولهم دون شك طرقهم في فن المحاكمة .. ), وفي الوقت الذي فيه لكل محكمة تقاليدها وطقوسها الخاصة ؟ هل بقيت طرق المحاكمة ثابتة أم أنها تبدلت وتنوعت مع الزمن؟ . نرىاليوم اتساع المحاكمات في المجتمع. ولكن برقابة سيئة, واتساع سلطات القضاة, مع ضغط وسائل الإعلام على سير العدالة. مما أدى إلى خلق الكثير من المشاكل.ولكن مع ذلك هل تغير فن المحاكمة في مبادئه؟ هل يجب التذكير بان فن المحاكمة يتغير مع مزاج, وعمر, وجنس, القاضي وتجربته المعيشية, وتكوينه المعنوي, آو الفلسفي ؟.

وعليه, يرى انه من المستحيل بناء نظرية عامة في فن المحاكمة, ومع ذلك يمكن, احتياطيا, رسم نظريات جزئية, غير مكتملة, تسمح بان تعطي نظرة عن القاضي, عن حياته المعيشية, وعن داخله وعالمه الخاص. مثل هذه الطريقة, رغم كونها تعسفية, توضح مع ذك بعض المسائل, وتظهر نقاط الخلاف للباحثين المستقبليين. ويجب الحذر هنا في هذا الميدان. حيث لكل قاض طريقة في المحاكمة, وله أنماطه السلوكية المختلفة, و رؤية للحقوق قد تكون خاصة. المحاكمة ــ ويلفت الكاتب إلى انه يتحدث من موقع التجربة ــ من حيث المبدأ, تعد مهنة صعبة, لها مقتضياتها, تبعث القلق, والاضطراب, وخيبات أمل. مضيفا من يستطيع القول, متأكدا, بأنه قاض جيد.

في الفصل الثاني من الكتاب يتحدث المؤلف عن الركائز fondementالمبني عليها فن المحاكمة.
فيعلن أن آلية المحاكمة معقدة , وليس لغير القاضي, في الدرجات المتقدمة, إمكانية إدراكها. فعلى ماذا يتأسس إصدار الحكم jugement؟
يجيب على ذلك عارضا الأسس التالية.
1ـ مقدرة القاضي على النفاذ إلى الكل المبهم,المغلق( ملف القضية), ومعرفته من الداخل.والتنبه لكل مطباته وخفاياه,والبحث في كل زواياه.
2ـ حل العقدة, والتنسيق, والتحديد, والتقرير.وُيقدّم على ذلك مثلا ما لاحظه فاليري من أن فكرة القضاء هي في العمق كالمسرحية ـ مطلوب حل عقدتها, وإعادة التوازن المفقود. بعد ذلك لا يبقى شيء وتنتهي المسرحية. ولا يستطيع القاضي, الواجب عليه القيام بمهام القضاء, ترك المسرحية, أي القضية, دون نهاية.
3ـ معالجة مجموعة من الأشياء, غير متناسقة,متناقضة, مشكوك بها, متجسدة في كم مختلط ( القضية المطروحة أمامه), يرى فيها العديد من الاحتمالات التي يجب تقيمها , وطرح الافتراضات المتعددة,وتسليط الضوء عليها. وعليه معرفة التمييز بين المهم والأكثر أهمية, وما ليس فيه أية أهمية. وامتلاك الإحساس المسبق بالمعاني التي قد تقود في هذا الاتجاه أو بذاك.
4ـ يدافع القاضي عن النظام العام, والنظام القانوني, والنظام الاجتماعي, طبقا للقواعد. وعليه إعادة النظام المعتدى عليه إلى ما كان عليه قبل خرقه. كما عليه إصدار حكم, أو قرار, يكون واضحا ومثاليا.
5ـ تتطلب المحاكمة من القاضي امتلاك مرونة فكرية,ومقدرة على الولوج إلى العمق, ومقدرة على الاستيعاب. ويشير المؤلف إلى وجود متعة في عملية المحاكمة, متعة ممزوجة بحساسية. وممزوجة بخوف وبحذر ووسوسة. أشكال هذه المتعة متعددة: المتعة في الوصول إلى فهم ما هو غير مكتمل في ملف قضية بين يديه. متعة كفاح في حل خصومة معروضة عليه. متعة المحاجة والإقناع. متعة تحرير الملخصات, وتركيب الكلام الموزون, وإصدار الأحكام والقرارات الصائبة.

كما يشير, زيادة على ذلك, إلى بعض الأسس التي يعتبرها بسيطة, مثل: استيعاب ما هو مطروح عليه في كل غامض, وتسوية قضية,والدفاع عن النظام العام. واستيعاب خلفيات القضايا المطلوب النظر فيها ضمن:

ـ الوقت والمدد المحددة, والمراحل المتتابعة. فعلى القاضي تقع دائما ضغوط الوقت.
ـ الالتزام: القاضي ملزم بالنطق بالعدالة, حسب أنظمة معينة, فهو يملك وكالة ( غالبا ما تكون عائمة وغير واضحة تتبع العرف), وقواعد يجب احترامها ( سواء أكانت مكتوبة أم عرفية, تعود للتكتم),والتزامات عليه التقيد بها ( الرقابة الذاتية, والتقيد بالانضباط المهني).
ـ عزلة: المحاكمة تتطلب الانعزال عن العالم الواقعي المحيط به, ليتصرف, ويفكر بترو, وغالبا بطقوس معينة.
ـ يعمل القاضي ما بوسعه, وبضمير, ويمكنه أن يصبح قاض جيد يصدر أفضل القرارات,ولكن الواقع يبين أن هناك قضاة ليسوا بالمستوى المطلوب, ضعفاء, محدودي التكوين. ويظهر ذلك عندما لا تكون المحاكمة بقاض منفرد. فالمداولات مع نظرائه في القضايا الصعبة, بما يحدث فيها بالضرورة من توتر ومماحكات ,واصطدام حساسيات, وجدل فقهي, وبروز العديد من الأفكار المسبقة. يظهر فيها الوضع الصعب لبعض القضاة من النوع المذكور.

ـ ويشير المؤلف إلى الخطأ الذي قد يحصل في المحاكمات, مثلا:
1ـ خلال التحقيق, وعدم المعرفة الكافية, وعدم المثابرة والاجتهاد في العمل, والرغبة في الوصول للقرار المتعجل. وعدم اخذ الوقت الكافي في البحث و التعمق في التفكير.
2ـ عن عدم القدرة على البناء المتماسك للأشياء, وعدم معرفة الصياغة الجيدة للأحكام والقرارات.
3ـ عن اللجوء للبرهنة المجردة التي لا تتصل بالوقائع, إما للاستعجال, وإما للتقيد بما سبق من أحكام وقرارات.
4ـ عن الافتقاد للنزاهة, والبت بطرق انتهازية.والحساسية تجاه التأثيرات, أو الضغوط, وعدم الأمانة في القيام بالوكالة المسندة إليه كقاض. ويضيف المؤلف: إن النظام الذي اعتمدناه (يقصد به النظام القضائي الفرنسي) يقود بسهولة لبلوغ معدل لا بأس به من الأخطاء التي لا يمكن تجنبها, والآتية من القضاة المكونين بشكل غير كاف, ضيقي التفكير والمعرفة, أو المتسرعين في مهامهم.
ـ عن الطموح غير المؤسس للقاضي, وهو المكلف بمهام معقدة, بان يكون قاض جيد, وهو طموح مشروع , والطموح بالتدرج في المراتب القضائية, وبناء سمعة حميدة وشهرة ثابتة. كما يطمح بالوصول إلى مقدرة عالية في صياغة أحكام و قرارات جيدة, وبناء قانوني رائع, وصولا إلى خلق قواعد جديدة مبادئ عامة. وأحيانا طموحات سياسية ( برؤية أن العالم العادل يقتضي احتلال القاضي فيه المركز الأول, متقدما حتى على المشرع). هذه الطموحات أو الأحلام, كما يراها المؤلف, متعددة الأشكال, فهي أحيانا ديناميكية, وغالبا ما تكون خطيرة ( إذ يمكن إن تفسد الأحكام المطلوب إصدارهاJugementsمما يبعدهعن الطريق السليم).

عرضنا فيما سبق لما تطرق إليه مؤلف كتاب فن المحاكمة, غي توييهGuy Thuillier ,قاضي ومدير دراسات في المدرسة العليا للدراسات التطبيقية, في المقدمة,وتعريفه لمعني المحاكمة في الفصل الأول, وللأسس في الفصل الثاني. ونعرض في السطور القادمة للفصل الثالث الذي أعطاه عنوانا, اتخذ صيغة سؤال: كيف نحاكم؟
يذهب في إجابته على السؤال المذكور إلى القول إن عملية المحاكمة غامضة إلى درجة كبيرة, فإذا ما تُركت جانبا قواعد الإجراءات, وقواعد الشكل, والطقوس الخاصة بكل محكمة, فالقليل من الأضواء الخافتة تسلط أحيانا عليها: و ما يهم معرفته هنا هو الآلية الداخلية المطلوب فهمها. ويرى, ولكن بحذر, ضرورة تحليل حياة القضاة , والتي هي متنوعة جدا. ومع ذلك يذهب لوضع رسم تخطيطي بهذا الصدد:
ـ إذا أخذنا, كما يقول, قضية معقدة قليلا في محكمة الاستئناف, يمكننا, لنستطيع إصدار قرار فيها, التمييز بين مراحل متعددة:

المرحلة الأولى:

أخذ ملف القضية والاعتكاف لدراسته مرات عديدة. وذلك في محاولة فهمه من الداخل. وفهم منطقه الخاص, فهم المهم وصولا إلى الأكثر أهمية فيه. استيعابه والسيطرة عليه. (يقال يستحوذ على ملفه مستوعبا إياه).أو انه (مستحوذ عليه من قبل الملف). ولكن الملف غالبا ما يقاوم, و يمتنع عن كشف خفاياه, للوصول لأعماقه ومعرفته كاملا. رغم فطنة القاضي و حدسه.

المرحلة الثانية:

الشروع في محاولة فهم الملف. فيقوم القاضي بجمع كل العناصر. جمع الحجج والوقائع. ما هو ظاهر, وما هو مخفي من الأشياء, أو محرف, أو مزور. وصولا إلى التخمين, والتساؤل حول نوايا الأطراف, ومدى مقدرتهم على الإخفاء, على الكذب. والنفاذ إلى المناطق المظلمة فيه, ووضع اليد على ثغراته ونواقصه. وهذا ما يقوده لطرح العديد من الأسئلة, وترقيم الصعوبات, وترتيبها حسب نظام التدرج في الأولويات, ودرجات الأهمية. وفحص الاحتمالات, وإحصاء الأخطاء المحتملة التي يمكن ان يكون قد ارتكبها قاضي الدرجة الأولى.

المرحلة الثالثة:

الاقتراب شيئا فشيئا في التعامل مع الملف, ووضع الأسئلة الجيدة وتكوين رأي, وتقديم حل أو حلين ممكنين. وتعتبر هذه المرحلة شاقة وتتطلب وقتا طويلا.

المرحلة الرابعة:

يضع القاضي فيها موضع الشك كل ما يعتقد انه أصبح معلوما لديه, ويمتحن سدادة وسلامة آرائه, ويفكك المجموع, وينتقد الحلول المتوصل إليها أو المحتملة. في هذه المرحلة من الشك النقدي يطرح الأسئلة المتعددة ومنها:
ـ هل هذا الذي أعتقده على جانب من القيمة؟
ـ هل تمكنت من الإطلاع على كل شيء؟ وأحصيت كل شيء؟
ـ هل حلقات السلسلة مكتملة ؟
ـ ما لذي يمكن أن يكون قد تم عمدا إخفاؤه عني؟
ـ هل علي أن أطلب عناصر أخرى؟
ـ هل استنتاجاتي جزئية وغير مكتملة ؟
ـ ما لذي يمكن أن يعارض اطروحاتي؟ ما الذي سيطرحه علي زملائي القضاة ؟
ـ هل الحل الذي أقدمه غير عادل؟ مقلق ؟ تعسفي ؟
ـ ما النتائج التي ستترتب عليه؟ ما النتائج التي قد تترتب على الحل الآخر البديل ؟
لا شك, يضيف المؤلف, أن القاضي يدرك أهمية وضرورة الأدلة المضادة. و انه يعلم بان كل شيء ممكن حدوثه. ويقوم بالمقارنة و الموازنة. فهذه المرحلة غير سهلة. و فيها إنضاج القرار ببطء وهدوء.

المرحلة الخامسة:

يجري العمل فيها على صياغة القرار المتخذ. بناء موجباته منطوقة. وتُراعي الجودة في الصياغة, والتماسك في البناء, والوضوح في المعاني, بمنطق خاص وكلمات موزونة بدقة.
2ـ وهنا يبدو التعسف واضحا في ترتيب تسلسل المراحل:لأنها مراحل متداخلة ومترابطة. فالمرحلة الأولى المتعلقة بفهم الملف تتداخل أحيانا بالمرحلة الثالثة التي هي مرحلة الشعور المسبق. والمرحلة الثانية التي هم الفهم تختلط بالمرحلة الرابعة, مرحلة الشك..
ومع ذلك لا ينعدم وجود خط رئيسي يسمح بالتقدم السريع في هذا المجال. كما يجب التنويه إلى أن نتائج إجراءات التحقيق قد تأتي مغايرة كليا لما يراه . وعليه يجب الاحتياط والفهم الجيد للعوامل الستة التالية المشوشة التي قد تعقد طريقة المحاكمة:

العامل الأول:
الحدس. القاضي الذي لا تعوزه البصيرة, يحذر من الرؤية المغرقة في منطق الأشياء. فهو يرى في الملف ما وراء المظاهر.ويستطيع الولوج إلى داخل مكوناته, يحس بما يتوجب عليه عمله. فالحدس يلعب دورا أساسيا, ولكن من غير المعروف كيف للحدس توجيه إرادة القاضي. كيف يمكنه أن يقوده إلى طريق محدد واضح. كيف له أن يجبره إلى اتخاذ القرارات الجيدة. الحدس يسمح في تسريع عملية المحاكمة: ولكن الجانب الحدسي, كما ينبه, يختلف في درجته ونوعيته اختلافا كبيرا من قاض لأخر.

العامل الثاني:
توقع النتائج. القاضي الحصيف لا يمكنه أن يكون غير مبال بالنتائج التي قد تترتب على قراراته. فهو ملزم بتوقع ما يمكن أن يحدث بعد صدور الحكم ( وهذا مصدر قلق وأرق له, وعليهتوقع النتائج المحتملة).

العامل الثالث:
الأحكام المسبقة. وهذه مستعصية عن الاستبعاد كليا:فلا يمكن للقاضي التجرد كاملا من أحكامه المسبقة, بما فيها القادم من ضغوط الأشياء المعروفة, ومن تجاربه الخاصة, ويمكن أن تكون هذه الأحكام من وحي النظام القانوني الذي يدافع عنه, والمصالح المحتملة للجسم الاجتماعي.

العامل الرابع:
التصور. الذي يقود للاجتهاد في بعض القضايا الحساسة. ويمكن أن يتضمن ذلك الخلق, أو الإنشاء, والابتكار. ويستطيع ـ حسب مهارته, وشفافيته, و وقدرته على الترميم ـ تحريك وتطوير بعض المبادئ العامة. وقد تعترضه أحيانا ظروف سياسية ,أو اجتماعية, مواتية لتمرير أطروحته. ويثبت بذلك تميزه, ويبحث عن فسحة من الحرية, ويعوض بذلك الفقر أو النقص الذي لم يكمله المشرع. ولكن ماذا يعني «الإنشاءcréationبالنسبة للقاضي؟ أليس هذا في بعض الأحيان يحمل خطرا, ومنازع فيه؟ .الإنشاءات الحكمية (المتعلقة بالأحكام والقرارات) يمكن أن تثير الحذر.وهي من طبيعة تقود للفوضى واضطراب النظام.

العامل الخامس:
اليقينية. الفقه. بعض القضاة لا يبحثون إلا لبناء مجموع فقهي, بناء نظريات, وصناعة أنظمة ملائمة للقضايا, محل النظر, التي يعرفونها. إعجابهم الكبير بالقواعد القانونية يجعلهم يستهينون غالبا بأبعاد الملف وأعماقه. فلا يضعون مطلقا معارفهم موضع الشك. ولا يتابعون باهتمام كبير إلا هدفا مجردا. وعليه فان هذا النوع من القضاة يتزايد عددهم, وتُحاكى طرقهم في المحاكمة, وطرق استدلالهم الخاصة مما تؤثر في القضاة الجدد.

العامل السادس :
يتحدث المؤلف هنا عن الخطوط غير المرئية. القاضي ليس شخصا مجردا, فقد سبق تكوينه في المدرسة الوطنية للقضاء, حسب أعراف,وله سابقيه وسيكون له تابعون. وهو راسخ في الجسم القضائي. وروح هذا الجسم تلعب دورا في طريقة الحكم, فهناك طرق خاصة في الاستنتاج, والاعتماد على قيم معينة يجب الدفاع عنها, وتقارير, ومناقشة تقارير الآخرين, وإبداء الآراء ( فالقاضي لا يحاكم منفردا), هذه الخيوط غير المرئية التي هي في قلب المهنة, صعب استيعابها, ويصعب الوعي بها , ولكنها تبين الكيفية التي تجعله يختار طريقه الخاص به, بما في ذلك تحريره الأحكام والقرارات.
الواقع أن أصول المحاكمة متشابكة: فهي, كما يراها,كيمياء معقدة, فنحن لسنا بصدد نظام حدسي. ولا بصدد نظام منطق قانوني صرف (كما يحاول أن يوحي به بعض المعلقين). نحن هنا بصدد نظام مختلط, ضبابي, غير محدد, ولا يمكن إيجاد الطريق فيه إلا بمشقة.

وللحقيقة, انه لا يوجد أمامه إلا بعض نقاط الدعم:لان لا يمكن للقاضي, من حيث المبدأ, الاستناد على سابقيه في الجسم القضائي. ولا على النظريات في مدرسة التكوين المهني (يطلق عليه المؤلف البيتmaisonكما جرت العادة, أي مكان التكوين). أو على خبرة الحياة ( معرفة الرجال,وأهوائهم هو الشيء القيم للمحاكمة في العمق ـ ولكن هذا لا يمكن امتلاكه إلا في المراحل المتأخرة من حياة القاضي). ويجد القاضي نفسه غالبا مرهقا لمعرفة كيف يمكنه الوصول لإصدار أحكام وقرارات جيدة, تجلب الرضاء له وللآخرين. وأخيرا يستنتج المؤلف, أن ليس من السهل على القاضي أن يصبح لاعبا جيدا في مثل هذه المهنة.

ملاحظة: دعتنا ضرورة التوضيح, في موضوع معقد, إلى التوسع في التصرف في عرض أفكار المؤلف, ولكن مع الحفاظ على جوهرها وتسلسلها).
كما ذكرنا فيما سبق, فن المحاكمة من المواضيع النادر التطرق إليها. وحين تعرض لها المؤلف غي تويلييه Guy Thuillier ,في مؤلفه المذكور, كان يتمنى أن تكون صفحات كتابه 800 صفحة لا 74. ولذلك نرى أسلوبه على درجة كبيرة من التركيز, بحيث أن المتخصص وحده يدرك أبعاد كل كلمة. وقد رأينا فائدة للقارئ العربي من مواضيع بهذه الأهمية. إذ أن المعني هنا ليس القاضي وحده, وإنما المحامي كذلك الذي يفيده جدا معرفة كل ما يجب معرفته عن القاضي, وكيفية إصداره حكما أو قرارا, والقارئ العادي,الذي وقف يوما, أو سيقف, أمام القاضي, وقد يتعرض لحكم أو قرار يمس حريته أو مصالحه.
ونتابع في السطور القادمة تكملة ما عرضناه في الحلقتين السابقتين. مع إعادة التذكير بأننا لا نترجم, ولا نحرّف, وإنما نحاول أن نعرض ما يراه المؤلف, ولكن بأسلوب يجهد للوصول إلى القراء ممن ذكرنا, وشرح, كلما اقتضت الضرورة, ما يتطلب شرحه. فغالبا ما تكون العبارات حمّالة معان مختلفة وعديدة, ليس من السهل معرفة أيها يقصد المؤلف, وخاصة في حالة قدومها من لغة أجنبية وثقافة مختلفة.

الفصل الرابع
الواجبات المترتبة على القاضي بصفته هذه.

يميز المؤلف بين الواجبات المترتبة على القاضي, بصفته قاض ــ سنشير إليها نحن باصطلاح واجبات الصفة ــ وبين واجباته الأدبية Déontologie (الواجبات المتربة على صفة القاضي , ليست مكتوبة: فهي داخلية, هي التجربة الحياتية الخاصة بكل قاض, ولها قيمها الروحية. وهذا غير ما يُعرف بـ”أدبيات القاضي”التي هي شيء خارجي عنه).
للقاضي مهمة. وعليه أن يكون في مستوى أعبائها:فعليه واجبات. وهو مؤطر في نصوص, وقواعد عرفية, غاليا ما تكون غير ثابتة أ وجامدة, و قابلة للتمدد , وأحيانا مجزأة, تعسفية, كما انه أسير لعلاقات غير مرئية ( محكوم بميول. وتلقن المهنة, والتدرج فيها. وبروحية الجسم القضائي).
1ـ ملزم بالتفكير بمهنته, والتساؤل حول الواجبات المهنية المتربة على صفته كقاض, والجزء الطيع والمرن من التزاماته.
يحاول المؤلف حصر المبادئ التي تقتضيها واجبات الصفة, فيصنفها في خمسة مبادئ:

المبدأ الأول:
يربطه بمتطلبات ملف القضية. فعلى القاضي لدراسة الملف أن يعطيه الوقت الكافي, والجدية, والشجاعة الضرورية, وهذا يتطلب منه جهدا متواصلا, ويتطلب الإرادة الملائمة للقيام بالمحاكمة. والتصميم, وصفاء الذهن والذكاء. (السيطرة على الملف, شيء غير جلي دائما في القضايا المعقدة, وحتى ولو كان من قبل قضاة متمرسين وأصحاب خبرة طويلة). والإرادة الطوعية وهي ضرورة مهنية ( وهذا, كما يشير, جزء منسي غالبا).

المبدأ الثاني:
النزاهة, والاستقامة,والاستقلالية. هذه الصفات الثلاثة في القاضي الجيد متقاربة جدا ومتكاملة.ومع ذلك فكل قاض يرى فيها ما يفهمه شخصيا ( كل يفسر بحرية اليمين الذي أداه). (نعلم إن مفهوم الحكم jugement النزيه ـ حسب المادة 6 من الاتفاقية الأوربية لحقوق الإنسان ــ مفهوما عائما,وحوله نقاش طويل. فبعض المحامين يرون عدم النزاهة في قرارات المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان, لان القاضي المقررrapporteurيشارك, حسب تقليد عرفي قديم, في المداولات, وهنا يكمن الخطر.).
ويتطلب هذا من القاضي معرفة كيفية اتقاء ضغوط وتأثير الآخرين عليه, ومقاومة طرق التفكير المفروضة والسائدة, ومعرفة ما إذا كان تفكيره هو تفكيره فعلا وصادر عنه نفسه. هذا وفي المجال العملي, كما يعلن المؤلف, أن القاضي لا يملك , إن لم يكن مستقلا ويتذوق طعم الكفاح والتحدي, إلا قليلا من الحرية الحقيقية (القضاة المسترخون, أو الذين يقومون بمهامهم آليا, ليسوا نادرين) . وإذا حاول فقط أن يجاري الآخرين. (مثلا: محاولة الالتزام بأقل قدر ممكن من المساهمة الفعلية في المداولات,كمسايرة, أو خوف, أو تهاون) فالاستقامة ليست سهلة في أوساط لا تعتبرها دائما فضيلة.

المبدأ الثالث.
أداء العدالة يتطلب نوعا مما, اسماه المؤلف,التواضع. واجب التواضع هذا لا يفهم غالبا بشكل ملائم. علما بان القاضي,ولو كان صاحب خبرة كبيرة, “حتى ولو كان عالما” يبقى غير متأكد وواثق تمام الثقة من نفسه, ومن صحة حكمه, ومقدرته على المعرفة الكاملة لنواقص الملف ,ومن متانة تجربته في الحياة (عليه تعلم كيف يصبح لماحا ومبصرا بالأشياء).ويبقى غير متأكد من أساليبه في العمل, و طريقته في التفكير, وشجاعته في التلخيص. في كل نقطة من هذه النقاط (إذا ما تم تقييم القاضي دون مجاملة )يمكن أن لا يكون في مستوى مهنته, حتى ولو بذل ما في وسعه, لا يعلم, أو لا يمكنه أن يعلم إذا ما كان قاض جيد: فحوله الكثير من القضاة دون المستوى,أو غير الموهوبين . ومع ذلك ليس من السهل معرفة حدود وأبعاد هذا التواضع الضروري, و استخدامه بذكاء لتجنب الوقوع في الخطأ.

المبدأ الرابع.
يقوم القاضي, حتى تقاعده, بدور اللاعب الذي عليه معرفة اختيار أدوات وأساليب اللعب الجيد, ليتمكن من أن يكون لاعبا جيدا,عليه أن يكون محبا للعبة, يضع فيها كل تصوراته ومهاراته , ومرونته,وحساسياته الضرورية. وان يكون مؤتمن على صورة القاضي التي يحملها ويتصف بها, بقيامة بأعباء مهامه بضمير وإخلاص, ودون إهمال أي شيء إلى نهاية تقديم الحساب النهائي. متسائلا دائما ” هل أهملت شيئا؟”. يقوده هذا إلى نوع من النظام الداخلي, وحتى إلى درجة من الزهد, وذلك بالرقابة الذاتية الدقيقة, والفاعلية لما يفعله, للتحكم بأفكاره, وتنظيم سلوكه, كما لو انه سيقدم عن ذلك حسابا غدا.

المبدأ الخامس.
الحذر من التجريد, ومن استبداد الأفكار, والقواعد المطلقة, والتنبه إلى أننا لا نعيش في عالم من الأفكار الأفلاطونية, وعليه أن يرى في كل قضية خصوصياتها, ما هو إنساني فيها, وان يرى في الملف حياة,والإحساس بما هو مخفي وغامض فيه. فالتجريد, والقواعدية, والعقائدية,والنظام المغلق, وتعسف القواعد القانونية المنقطعة عن الواقع, يقود إلى انحدار المهنة. وعليه أن يحمي نفسه, وان يحذر من الانفصال عن الواقع, الذي هو خلف كل آلية في التفكير ( يُذكّر برنار شينوت هواة “النظريات” بأنه لا يجب خلط الأنظمة العائدة إلى ما وراء الطبيعة بتلك العائدة إلى مهنة القاضي).

يحذر المؤلف من أغراء القاعدة, ومن أن يحصر القاضي نفسه فيها دون أن يرى غيرها. وان يتبع تلقائيا ما هو سابق عليه ( يشير باكون إلى أن: الرجوع المحدود لأحكام المحاكم يعيد الحقوق,ولكن الرجوع الكثير لهذه الأحكام يبعد عن هذه الحقوق: هذه حقيقة مستمدة من التجربة).

2ـ الواجبات المترتبة على الصفة مبنية على هذه المبادئ. غير أن امتداداتها متغيرة ومتنوعة. الجانب المرن فيها كبير: لكل قاض مفهومه الخاص لهذه الواجبات (كل قاض حر في تفسير اليمين الذي أداه).ومع ذلك تبدو الصعوبة كبيرة في مراعاة هذه الواجبات:

1ـ الاستقلال الذهني.
يراه في غياب ” الأحكام المسبقة” والتفكير الجاهز. فمن حيث المبدأ, يجب رفض التفكير الجمعي, وعدم الاستسلام للإطراء. المطلوب التفكير بمعزل عن الآخر, حتى ولو افسد ذلك العلاقة مع البعض). والاجتهاد قدر الإمكان في الابتعاد عن الفهم الجاهز ( كثير من الأشياء الجاهزة تتسبب في تشويه الحكم, وتعيق قراءات الملف بشكل صحيح, وتثقل الفكر و تشوشه,وتفقده توازنه, بحيث تجعله يجري وراء ما هو غير واقعي ومفيد). يحث على عدم التوقف عن بذل الجهد المتواصل والعنيد لا كتساب هذه الاستقلالية. ( التي,كما يراها, غير قابلة للاكتساب قبل 30 إلى 35 سنة من الخبرة).

2ـ النزاهة.
تتطلب النزاهة البعد عن المصالح, والتدقيق في الإثبات والنفي, والبعد عن محاباة أحد الأطراف أو التأثر به. ولكن واجب النزاهة هذا يتطلب بذل الجهود الدائمة لتملكه, والتنبه لما تبذله بعض الأطراف للإيقاع بالقاضي وحرفه عن نزاهته, عن طريق خداعه أو تضليله, ونصب الكمائن له. كما يقتضي التنبه للانقياد وراء أصحاب النظريات الجاهزة وإغراءاتها, فالتأثر يترصد دائما القاضي غير الجيد مما يخرجه عن الوكالة الممنوحة له.

3ـ الإدراك
وهذا واجب يتطلب الفهم الصحيح, عن طريق دراسة الملف, والذهاب بعيدا في الشك, والتحقيق, وعدم تركه قبل استيعابه بشكل كامل ( غالبا ما يتطلب ذلك بين 4 و 5 قراءات لاكتشاف العيوب, واتخاذ القرار). فكثيرا ما يلف الملف, أو جانبا منه, الغموض أو بعضه, والضبابية التي لا يسهل كشفها وإجلائها, “إيجاد النقص” الذي لم يره احد, أو الذي لم يرد احد أن يراه. وكشف الحلقات الناقصة من السلسلة. في ملف معقد بعض الشيء, ليست كل الأشياء واضحة وسهلة الفهم ( يجب لذلك معرفة ما قبل و ما بعد), وأحيانا يقود تحقيق جديد إلى تشويش الرؤية ( القاضي ليس مراقبا contrôleur ,فليس لديه طرق التقييم والشرح). واجب الإدراك هذا متسع جدا, ولكن القاضي لا ينجح دائما باستيعاب الأشياء في أبعادها وأعماقها.

4ـ الشجاعة.
على القاضي التحلي بالشجاعة. شجاعة الرأي ( الذهاب عند الضرورة ضد الآخرين في المداولات والجرأة في التلخيص,واتخاذ المواقف, والشجاعة في الفصل. فكثيرا ما توجد إغراءات من جوانب معروضة ومفصلة بشكل سيء, تقود لحلول هجينة, ولتسوية مصالح بعض الأطراف بشكل معين لأسباب “واقعية” أو للملائمة. ومن المعلوم إن الشجاعة تتراجع مع التقدم في السن, وتضعف الرغبة في الكفاح والتحدي.

5ـ المرونة, والليونة,
هذا الواجب, المنسي غالبا, المتعلق بالصفة يُبعد عن النمطية, والتقوقع ضمن نماذج “قاعدية” تكون أحيانا متعسفة, والتفكير بطريقة مجردة, تبسيطية (التبسيط يُوقع دون شك في الخطأ). فلا بد من امتلاك ذهن حاد, ومتابعة الملف بخصوصياته, ومداوراته. وان يملك القاضي القدرة على رؤية نقاط ضعفه الخاصة, والقيام بانتقاد نفسه. فالقاضي صاحب الفكر المتصلب, والأحكام المسبقة, والذي يصدق كل ما يقال, هو قاض غير كفء.
6ـ كلمة التواضع التي سبق الحديث عنها لا يجري فهمها بشكل صحيح. فليس للقاضي أن يبالغ في تقدير نفسه, ويعتبر انه بحكم تكوينه هو قاض جيد, فعال, مكون جيدا, شجاع, ويقدّر بأنه يجسد وحده القاعدة, وبأنه يدافع عن الدولة, والشأن العام, وحده دون غيره. عليه أن لا يتمادى في هذا الاعتقاد. صحيح انه يقوم ببعض هذه المهام, ولكن عليه الاعتراف بانه غير قادر إلا على بعضها. وانه ضعيف, وغير معصوم من الخطأ. كل قاض متمرس يعلم جيدا بان حكما متقنا, مصاغ جيدا, دون أخطاء ظاهرية و مقدّر من الجميع, يمكن أن يكون حكما ظالما, خطيرا, ضار بالجسم الاجتماعي.

7ـ الاعتدال .
غالبا ما تنسى هذه الفضيلة, وهي مرتبطة بشكل وثيق بالحذر, وبالوعي بنسبية الأشياء, وبحدود الوكالات المعهودة إليه. يجب أن تكون المحاكمة باعتدال, ولكن هذا صعب, لوجود هوى المحاكمة, وللجوء القاضي إلى التلقائية كلما تقدم به السن.
يوجد دون شك نتائج جانبية تترتب على اختلاف الأجيال في الموقف المعتدل, ومع ذلك يلاحظ هنا أو هناك, انحرافات عديدة خطيرة. فن المحاكمة باعتدال لا يمارس دائما, ولا يدرك القاضي دائما النتائج المتربة على حكمه. وغالبا ما يكون بعيدا عن العالم الواقعي.
3ـ يشير المؤلف للنتائج المتربة على واجبات الصفة, مصنفا إياها كما يلي:

النتيجة الأولى
تقيد القاضي بالواجبات المتعلقة بالصفة يخلق أنواعا من الجفاء مع الآخرين, مع المجموعة التي يعمل معها, ويدخله في علاقات توتر مع أولئك الذين لا يعيرون أهمية كافية لتلك الواجبات, أو الذين لا يملكون فكرة كافية عنها(يرى القاضي ذلك حوله يوميا. طرق تعيين القضاة التي أصبحت تدريجيا متنوعة, تجعل اندماج بعضهم في المهنة غير كاف, مما يخلق بعض المشاكل في هذا المجال).

النتيجة الثانية
تقيد القاضي بالواجبات المترتبة على الصفة يفرض رقابة ذاتية على أفكاره, وعلى سلوكه. يمكن أن تتحقق هذه الرقابة بمحاسبة مستمرة لضميره ( يتلمس موقعه, ينظر نظرة نقدية لطريقته في رؤية الأمور,لطرقه في المحاكمة). رقابة تمتد طيلة العمر ( بقدر التقدم في السن, بقد ر ما تضعف الهمة في بذل الجهد, وتنمو نزعة الخلود للتلاؤم مع ما هو قائم ..).

النتيجة الثالثة
تقيد القاضي, ذاتيا, بواجبات الصفة, قد يكسبه بعض النزعات الروحية, مثل: من يُحاكِم سوف يُحاكم , وربما بأشد قسوة مما حاكم به الآخرين. فالمحاكمة الجيدة يمكن أن تقود إلى بعض وجوه الرقابة الطوعية , والزهد. من حيث المبدأ, يمكن اعتبار القاضي رجل دين” في واجبه”. رجل واجبات. علاقاته مع الله “معقدة” بالضرورة لأن (الله وحده القادر أن يقيم عدالة كاملة. لأنه وحده من يملك علم العدالة. الله يعلم ظلم أو عدم جودة أحكامي, وكل الأحكام, ويعلم كل شيء عن مهنتي ..). ويسجل المؤلف هنا بأنه يمس مسائل,يُفضّل السكوت عنها, ولكنها موجدة رغم ذلك عند العديد من القضاة.

الحدود المقيدة:
من الضروري معرفة الحدود الواردة على ما سبق ذكره.فعدم معرفة ذلك ورفض الاعتراف به يقود مباشرة للوقوع في الخطأ. ويبحث المؤلف عن توضيح هذه الحدود المقيدة فيحددها في خمسة أنواع:
1ـ تلك المتعلقة بالوكالة الممنوحة للقاضي, والتي هي غير واضحة, و تعود فقط, في الأشياء المهمة, للعرف. ولتقاليد الجسم القضائي. يتساءل القاضي: ماذا عليّ أن افعل؟ ماذا أستطيع أن افعل؟ أمور ليست في غاية الوضوح. (ما هي حدود وكالتي عندما يوجد نقص في القانون, أو قاعدة قانونية مهملة التطبيق؟).
2ـ تلك المتعلقة بمقاومة الملف للقاضي, بما يخفيه عنه عمدا, أو عن غير قصد. فقضاة الدرجة الأولى يهملون, كليا أو جزئيا, عدم وضوح أو عدم صرامة القاعدة القانونية. وهذا يقود إلى الاحتمالية, أو الشك, الذي هو خلف كل حكم. وعليه يعلم القاضي بالخبرة بان لا يوجد شيء أكيد, وبان الحقيقة , في مبدئها, غير قابلة للوصول أليها بسهولة. وبان الاحتمالية وحدها يمكن أن تزود القاضي بقواعد الوصول أليها.ومع ذلك لا يحب أحد التحدث عن الاحتمالية.
3ـ تلك المتعلقة بما يعيب الأحكام, وبضعف الإيضاحات المتحصل عليها. التردد, القلق, التذبذب, قد يوصل القاضي إلى لحظة يتخذ فيها موقفا إلى جانب احد الأطراف.
القاضي قليل المهارة وحده من تتكون عنده القناعة, والاعتقاد بامتلاك الحلول الصحيحة, معتمدا دون كبير حرج على “السوابق”. لا يعترف بالجهل الضروري, و لا يعرف التواضع, لا يعرف كيف يشك, أو يضع الأمور موضع الشك الذي هو “الواجب” الأول للقاضي.
4ـ تلك المتعلقة بالتبسيط . إغواء التبسيط يوصل إلى تقليص الملف, والاختزال, وعدم التدقيق, أو طلب معلومات إضافية. والى اختيار البراهين بتعسف, واللجوء إلى نوع من الآلية,. وصولا إلى تحريف الأفكار بحذف الخصوصيات التي تميز القضية المنظور فيها عن غيرها من القضايا, رافضا رؤية النتائج البعيدة والأخطاء الممكن توقعها.
استمراء التبسيط يمكن شرحه بالتأثر بالجماعة (يعمل مثل ما يعمل الآخرون) , وبنفس عاداتهم بالعمل, (يفكر مثلما يفكرون و بشكل قطعي, لا يبحث عن التعمق, واخذ الملف من الداخل) عبر الاعتقاد بمبادئ عامة دون تمعن أو تمحيص عند اللجوء إليها. ( محاولا إدخال القضية مجال البحث ضمن إطار هذه المبادئ) يمكن لما سبق عرضه أن يوصل إلى قرارات غير صائبة بما فيه الكفاية, والى فعاليات مشكوك فيها ( حتى ولو كان الفقه غير منازع فيه).

بقدر ما يلجأ القاضي للتبسيط بقدر ما يبتعد عن العمل الواقعي. التبسيط يقود إلى قرارات ظالمة. ولكن, على من يؤمن بضرورته, في قضايا معينة, أن يعلم المقدار الضروري من التبسيط المراد اللجوء إليه, وعدم اعتياده تلقائيا خلال العمل.

5ـ متعلق بالزمن. القاضي أسير طريقته في المحاكمة, وطرق استدلالاته واستنتاجاته. أسير عمره, وهمومه, وطرق تفكير”جيله”. المحاكمة مرتبطة بالضرورة بتواريخ محددة. والمدد المحتملة للحكم غالبا ما تكون قصيرة. وهذا ضاغط وصعب على القاضي.
على القاضي تلافي المبالغة في تقدير مهامه كقاص,فهو ليس إلا مجرد “أداة”, وتلافي الاعتقاد بان بإمكانه إبداع شيء ما(الفنان, أو المتعهد, على سبيل المثال, قادر على الإبداع), أو على الأقل جانب الإبداع والابتكار عنده ضعيف جدا. مهنة القاضي شجية لأنه غير قادر على خلق أي شيء.يتبع .. د. هايل نصر.

الحمد لله إن للقانون رجال صادقون, من غير ما نرى بين حين وحين ممن ينسبون رجولتهم, غير الأكيدة, إليه بمناسبة ودون مناسبة.رجال جعلوا نصب أعينهم تحقيق العدالة وحمايتها, وكرسوا حياتهم للخلق في هذا المجال, والدفاع عن الإنسان وحقوقه, أينما كان وكانت. وعدم تركه وتركها لتعسف أية جهة كانت, وحتى ولو كانت قواعد قانونية تم التجاوز عليها صياغة وتفسيرا وتطبيقا, بحسن أو بسوء نية. تصدوا “للسياسي”الجامح, والطامح أبدا لتحجيم “القانوني” وتسخيره لخدمته. وعملوا على تحقيق التوازن و التوافق, دون تعارض, بين ما هو سياسي وما هو قانوني في دولة الأدوار فيها واضحة. دولة سيادة القانون والمؤسسات. الفرد الخارج على القانون فيها, لا يبقى دون مساءلة, مهما كان موقعه الوظيفي والاقتصادي والاجتماعي والسياسي .. . والمؤسسة لا تخرج عن دورها المحدد بأحكامه, ولا تستطيع الإفلات من رقابته ومحاسبته.

في مجال القضاء, وهذا ما يعنينا هنا, يعمل رجال القانون على إيجاد آليات فعالة للذهاب من التجريد إلى التجسيد, ومن العمومية إلى الضبط والدقة, سعيا للوصول إلى الأحكام والقرارات المناسبة,العادلة بقدر الإمكان, والتي تجهد قدر المستطاع لاحترام الإنسان في شخصه وحرياته وحقوقه.
وضمن هذا الاتجاه, ولهذه الغاية, تذهب جهود غي تولييه ــ مواكبة جهود المئات ــ في كتابه فن المحاكمة, الذي عرضنا فصوله الأولى في 3 مقالات سابقة, ونتعرض في السطور القادمة للفصلين الخامس والسادس المتعلقين بالاحتمالية و المداولة.

الاحتمالية Probabilisme
(مذهب يرى أن لا سبيل لبلوغ اليقين وان كل ما يمكن بلوغه هو احتمال, أو رجحان).
يذهب المؤلف إلى أن القاضي, أي قاض, لا يتعرض إلا لأمور غير مؤكدة, غير محددة, مشكوك فيها. ولا يشتغل إلا على الاحتمال (لا يستطيع الحديث عن أشياء أكيدة , إلا إذا كان يريد أن يُقنع من أجل أن يخدع), (البلاغة تلعب دورا في فن المحاكمة وتحرير الأحكام والقرارات ولكنها ليست إلا وسيلة للهيمنة على الأفكار). ليس لدى القاضي إلا أحكاما مسبقة, قد يستشف بقدر أو بأخر بعض الاحتمالات : أي استدلالات لا يمكن إن تقود إلا إلى أشياء محتملة. ومع ذلك لا ينظر الناس بارتياح إلى الاحتمالية. و يفضل الجميع التحدث عن اليقين وبيقين. و عن الحقيقة. كما ولو انه من المستطاع الوصول إلى الحقيقة. ويتساءل المؤلف ما هي أسس الاحتمالية عند القاضي؟ مجيبا بنفسه ومشيرا إلى أربعة أسس:

الأساس الأول:
الرؤية المزدوجة للأمور. فكل من إطراف الدعوى يحاول أن يعرض أمام القاضي صورة مغايرة لما يعرضه خصمه, محرفة, غير صحيحة, كاذبة وبعيدة عن الحقيقة. فالغش قد يكون متقنا بهذا القدر أو ذاك. وعلى القاضي أن يذهب بعيدا في إعمال الاحتمال أو الترجيح بتعمقه في دراسة الملف واضعا نصب عينيه أن الأشياء المهمة يمكن أن تفلت منه (في الملفات الهامة والمعقدة قد تتعذر المعرفة الواضحة والكاملة للأشياء).

الأساس الثاني:
لا يعتقدن احد بسهولة الوصول إلى الحقيقة ( فقد تتعمد الأطراف الضبابية في صياغة مذكراتها, كما يعمل بعض المحامين لتعمية الرؤية قصد إخفاء ما هو هام ــ معتمدين التزوير والغش في عملهم ــ وغالبا ما يذهبون بعيدا ويتركون تحقيق الدرجة الأولى المعد بشكل غير جيد, دون تغيير, ليأخذ به قاضي الاستئناف, الذي ليس لديه الوسائل, و أحيانا الإرادة للقيام بتحقيق جديد أكثر عمقا ). ليس لدى القاضي إلا شعورا أوليا ,واحتمالات, أو بين بين. ويبقى المجهول عنده أكثر من المعلوم. يمكن للقاضي المكون بالتجربة استنتاج ما يشبه بوصلة التوجيه والإرشاد, التي توجه عمله وتجنبه المطبات والكمائن المنصوبة له من الأطراف المتنازعة من جهة, ومما تم تعمد تضمينه في الاتفاقات, وما هو في التقاليد والأعراف, و جار العمل به, وفي الأساليب المتداولة والمهيمنة, وفي ضغوط ونصائح الآخرين, من جهة أخرى.
ومن هنا ينصح المؤلف بزيادة الحذر من كل شيء, بالخلوة بالنفس للتروي ( فمن الأفضل التمهل حتى ولو أدى إلى التأخير, على إصدار أحكام آو قرارات غير ناضجة, ومتسرعة, فالخلوة هنا تعني اخذ الوقت الكافي).

الأساس الثالث:
المطلوب من القاضي, احتياطيا, وضع كل شيء موضع الشك. ولكن المؤلف يرى إن هذا الاحتياط قد يستمر طويلا : عليه أن يحترس من الظواهر, ومن الميول, والخطابات العامة حول المبادئ (مثل المادة 6 من الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان). وان يعمد إلى البحث عن الحلقات المفقودة في السلسلة, وتجنب أنظمة الاتصالات الزائفة, وعبادة “السوابق”,أي العودة الآلية للاحاكم والقرارات السابقة (لأنه لا توجد قضية مشابهة ومطابقة تماما لقضية أخرى). (الذين ينسون كثيرا هم الذين يؤمنون ب “أحكام القضاء” عكس ما هو الاعتقاد ) . أحكام المحاكم لها مهمة خاصة, فهي لا تستطيع شيئا آخر غير مساعدة القاضي لا يجاد الثغرات في الملف. ويعتبرها البعض حين اللجوء إليها بأنها الطريق الأكثر أمانا وثقة والأكثر صوابا, أو الأقل معارضة فيها. وهذا نوع من الضمان” (فن المحاكمة. المجلة الإدارية. 1996ص. 178). ”
يعيش القاضي محترسا من نفسه, الشيء الذي يجبره على التفكير, ويجبره على الانعزال: هذا الاحتراس لا يأتي عفوا و تلقائيا,وإنما يجب اكتسابه وترسيخه بالتدرب عليه, وبطرق صارمة, وهو ما يتطلب كثيرا من الشجاعة , والطاقة.

الأساس الرابع:
يجب إيجاد المحتمل وتقديره كما ونوعا, في الوقت الذي يطلب الجميع من القاضي ما هو أكيد ويقيني. (المعلقون, وأساتذة الجامعات, ورجال الفقه, والرأي العام, وحتى المحاكم المنادية بشعار وضوح الحكم, يجهلون أو يتجاهلون نسبية الحقوق). يجب الوقوف عند ما هو غير محدد,و تفحص بقدر كاف المشكوك فيه. (كل خطوة نحو الزعم باليقين تقود بالضرورة إلى الخطأ, وغالبا إلى الظلم).
القاضي بالضرورة من أنصار الاحتماليةprobabiliste (حتى ولو قال, من قبيل الزعم, بأنه هو أيضا كالآخرين لديه القناعة واليقين),وهذا ينعكس بالضرورة على المبادئ القانونية المطبقة. وشرح النصوص,والعادات والتي هي خلف المحاكمة. وهنا تأتي ضرورة حساب الاحتمالات التي توجه القرار, وتسود الملخصات, والمداولات. فمناطق الشك عديدة.
تركيز المؤلف على الاحتمال, وعلى الشك, والذهاب بهذا بعيدا, جعله يؤشر نتائج تترتب على ذلك, منها:
1ـ ما يتولد عن الاحتمالية الفعالة من بعض الحريات, مثل حرية المناورة, التي يمكن أن تسمح بالوصول إلى أحكام وقرارات معقولة ومنصفة. وعليه يحب الاهتمام جيدا بهذا البعد للاحتمال.
2ـ يمكن أن ينشأ عن الاحتمالية بعض التعسف, فالقاضي لا يمكنه في الكثير من الحالات معرفة مقدار ومكان تعسفه. يشير شينوت برنار بأنه غالبا ما يجري التركيز على منطوق الحكم, أما موجباته فيتم بناؤها لاحقا, وهذا تعسف وشيء خطير.
3ـ تقود الاحتمالية القاضي إلى بعض التشاؤم. لا أحد يمكنه الوثوق بكل ما يقول أو يكتب. وهذا ينطبق كذلك على القاضي. فالتشاؤم يعكس تعقيدات الحياة. القاضي الذي يعتقد دائما بمصداقية أحكامه وقراراته يمكن أن يعتبر قاض نصف ماهر, أو نصف عالم. فأي حكم لا يحتوي إلا على قيمة نسبية. فلا يجب نسيان تدخل عوامل عديدة في ذلك, مثل: المزاج, وعدم الوضوح الكافي للمعلومات المتحصل عليها, وبان الحق متحرك بالضرورة.

ولكن كيف يمكن للقاضي أن يحاكم إذا كان شكاكا, ويشك فيما يعتقد بأنه يعلمه؟ إلى أي حد يستخدم الارتياب, والتجاهل المقصود؟.ويمضي المؤلف ليقرر أن أنصاف المهرة من القضاة يعتقدون بكل شيء, وبأنهم يتكلمون باليقين السطحي غالبا. ليس للقاضي من دور غير مساعدة العدالة ومحاولة إقامتها. العدالة المطلقة لا توجد, وهي تعود لله (يطرح القاضي على نفسه السؤال الصعب: كم هو المعقول في هذا الحكم آو ذاك الذي أصدرته, والمتعلق بأشياء هامة؟. إلى أية درجة اقتربت من الحل الصحيح والمنصف؟ ما هي النتائج الضارة والخطيرة التي ترتبت أو قد تترتب عليها؟).كما أن الارتياب الفعال يجعل القاضي لا يكل في طرح أسئلة على نفسه بعد كل محاكمة مثل: هل كنت يوم المحاكمة قاض جيد؟ هل فعلت كل شيء لا يجاد الحلول المعقولة للمشاكل المستحيلة؟ هل اقتربت من العدالة؟.

المداولة le délibéré :
ينتقل المؤلف إلى المداولة التي تجري بين القضاة قبل إصدار الأحكام والقرارات, فيتحدث عنها بإيجاز وتركيز كما هو الحال في كل فصول كتابه, لأنه يتوجه للقضاة وحدهم.
لا يجلس القاضي غالبا للحكم منفردا. يجلس مع غيره من القضاة ويتداول معهم. وهذا ما يترتب عليه الدخول في مداولة وتشاور لإصدار الحكم أو القرار. والمداولة عملية معقدة. و تصبح بالغة التعقيد في القضايا الصعبة والحساسة.
القضاة أناس عاديون من لحم ودم. لكل منهم شخصيته الخاصة, حساسياته, أهوائه وميوله, وتجربته في الحياة, ونظرة خاصة للنظام القضائي, مما يسمح له ببناء رأيه على طريقته. ويضيف المؤلف, تعرف المداولة الدبلوماسية نوعا من الدبلوماسية لا يجري الحديث عنها, لأسباب غير معروفة.

المداولة “تشرح” غالبا الأحكام أو القرارات.وأحيانا تسبقها مناقشات قبل بدئها بين الرئيس والقضاة. كما يصار في أحيان كثيرة إلى تلخيص القضايا الحساسة في اجتماع أولي غير رسمي. الشيء الذي يسمح بمعرفة نقاط الخلاف, والحصول على مؤشرات توجيه. ولكن عند المداولة يمكن لكل قاض المناورة للدفاع عن طروحاته, فيطلب الكثير للحصول على القليل, أو يلح على هذه النقطة أو تلك من النقاط في القضية. كما يناور لتجنب المواجهة مع غيره من زملائه (يعمل القاضي أحيانا على أن يضمن قبل الشروع في المداولة دعم من هو صاحب أرجحية في الرأي. كما يحاول امتزاج رأي هذا أو ذاك من المشاركين فيها).

دور الرئيس هنا هام وتترتب عليه مواقف. فالرئيس الحازم يفرض نوعا من السلطة, يتضح منها خطا أساسيا يسمح لكل مشارك, على أساسه, أن يبني موقفا. في حين أن الرئيس المتساهل يفسح المجال, بتهاونه,أمام تشكل تكتلات من المتداولين, وهو شيء غير موات للمحاكمة الجيدة.
كثيرا ما تلعب الآراء المترددة,القلقة, غير الواضحة, غير الواثقة في تكوينها, دورا في المداولة. فيتم اختيار حلول غير موفقة, تحت ذريعة الحذر, أو بحجة إتباع العرف. كما تجدر الإشارة إلى أن الآراء الحاسمة اللامعة القاطعة, التي تشير بوضوح للنقص والعيوب وتقوله بصوت عال, ينظر إليها بعدم ارتياح. وكأنّ على القاضي,لتمرير طروحاته , و ليتجنب تشكل غالبية أراء ضده,عدم قول الأشياء كاملة.
تنطوي المداولة على خطورة: فعلاقات الصداقة والتقدير بين القضاة لا تمنع من إثارة الحساسيات بينهم عندما يقوم احدهم بنقض طروحات زميل له. مما يجعل هذا الأخير يفكر بالثأر لنفسه وبرد اعتباره في جلسة مداولة قادمة. وهذا ما يمكن أن يتولد عنه عداوات. ( في التزام الحذر, عكس ما هو معتقد, لا يكون الكلام دائما حرا).
قواعد اللعبة معقدة جدا, وتختلف بشكل كبير, حسب تركيب لجان المداولة: ما هو هام هنا عند القاضي هو معرفة الأعضاء المشاركين معه فيها: نقاط ضعفهم, عاداتهم في التفكير, طرقهم في المحاكمة. وهذا ينطبق على المهنة بمجموعها. ويمكن لكل قاض إن يتلاءم بحرية مع قواعد التوجيه ضمن المجموعة :فتكنيك الحذر معروف جيدا (التحكم باللسان, عدم قول أشياء غير ملائمة. عدم إثارة منازعات. اكتساب اصدقا موثوقين يعتمد على مساندتهم..).

في المداولة الأقل تعقيدا, على القاضي معرفة كيفية لعب اللعبة, ( هناك فن يتمثل في عدم الكلام عندما يكون من المناسب عدم قول شيء أو البوح به) رغم صعوبة تلافي مزاج هذا الزميل. أو عدم سماع عبارات غير واضحة من زميل آخر, أو تلافي نقد قادم ممن هو فقهي,أي متمسك بالنظريات الفقهية إلى درجة التعصب. وهذا لا يجيده الجميع.

يشير المؤلف لبعض الاعتبارات والعوامل التي تلعب دورا في جلسات المداولة, فهناك: السن وفوارقه, وتفاوت المهارات المهنية,والجو العام, والتجربة في الحياة, والفكر الثاقب عند البعض, والحذر ومقدار الآخذ به…
ومن المعروف إن ما لا يقال في المداولات يكون أحيانا أكثر أهمية مما قيل فيها أو تم السكوت عنه. وعليه من الخطأ رؤية الأمور ببساطة, وخاصة في المداولات المتعلقة بالقضايا الهامة.
وحسب المؤلف, لا يضمن القاضي, أي كان, النجاح في المداولة. ولا يمكنه توقع ما قد يحدث من إشكالات فيها: لكن ما هو ثابت له أن هناك شك في “التضامن” بين القضاة. وشك في بناء أسس الأحكام والقرارات.وليس هذا بجديد, كما يرى, فهو موجود منذ أن كان هناك قضاء وقضاة.
يتبع .. هايل نصر.

ندرك جيدا إن الحديث عن فن المحاكمة في منطقة لا تعير القضاء, بأكمله, الأهمية التي يستحق, و لا تعترف له باستقلال ـ رغم النصوص الدستورية, المعلقة ـ أو بأي بقدر من احترام. وليس لقضاته مهام القضاء المحددة والمعروفة في دولة القانون. “السلطة” القضائية فيها لا تسمو إلى فاعلية أية سلطة, وإنما قُلصت إلى جهاز, مجرد جهاز في خدمة المتحكمين بالدولة, وتحت تصرفهم, كباقي الأجهزة المسخرة لهذه الغاية.

وندرك أن مثل هذه الكتابات قد تصل بشق الأنفس لبعض النشر, وبالصدفة للقارئ, غير المؤمن بفعل الرؤية والتجربة, بما يسمى نزاهة القضاء أو استقلاله. وان المدّاحين والمروجين, والنصوص “المُضمنة” في مدونات(codes)الإجراءات والقوانين بأنواعها, و شعارات العدالة, وميزانها, كل هذا لا يقيم عدالة حقيقة , ولا يبرهن على وجودها.
وندرك أن الحديث في هذه المواضيع وما يشبهها, ليس من قبيل الترف الفكري. فنحن في منطقة لم تقم الدولة فيها بعد,رغم مظاهرها, والحاجة كبيرة لمعرفة كل ما يجب توفره لبناء الدولة الحديثة,وفي شتى المجالات ومنها, بشكل خاص, الحديث عن القضاء والقضاة.

و ندرك أيضا أن كل عمل مخلص يتوخى وضع لبنة في بناء دولة القانون والعدالة, المؤسسة على الديمقراطية, وحقوق الإنسان, وفي أي مجال, هو جهد غير ضائع ومرحب به. فالبناء لا يستقيم إن لم تقام كل جوانبه على أسس سليمة. وبجهود الجميع, دون إقصاء أو استثناء.

كما ندرك أهمية وضع تجارب الآخرين وخبراتهم في خدمة مجتمعاتنا, خاصة وأننا أصبحنا الضفة الأخرى, الجنوبية, الساعية للتوازن مع”شقيقتها المنافقة” الضفة الأخرى, الشمالية, في اتحاد متوسطي. أليس هذا الكلام حديث جدا يعود إلى البارحة؟, وموقع عليه في اتفاقية نشوء الاتحاد, و في احتفالية كبرى, البارحة؟ ( والمنتهية فاعليته و مصداقيته مع انتهاء الاحتفالات والتوقيع, ودخوله غيبوبة كبرى, عشية البارحة).
وندرك في مجال القضاء, موضوع السطور القادمة, إن من المفيد متابعة ما عرضناه في المقالات السابقة عن فن المحاكمة لمؤلفه غي توييه Guy Thuillier ,وعرض الفصول الأخيرة من كتاب يعتبر من الكتب الهامة والقليلة في فن المحاكمة. هذا ما ندركه نحن على الأقل, راجين أن يوافقنا القارئ في ذلك.
يتحدث المؤلف في الفصول الأخيرة عن النتائج, وتصورات القاضي, وقواعد اللعبة, والمستقبل في هذا المجال.

1ـ النتائج:
يرى أن قواعد “اللعبة” غامضة, قاتمة, إدراكها محدود, حتى مع توفر بعض التجربة في المحاكمة. فالقاضي ليس دائما في مناطق واضحة لدى ممارسته مهامه (وهذا مصدر قلق له). يعلم ما هو المطلوب منه.ويعلم, بقدراقل, ما يطلبه هو من ذاته. كما انه في شك حول الالتزامات التي يفرضها عليه ضميره.
بعد تفحصه الملاحظات السابق تقديمها في الفصول السابقة, يخلص المؤلف إلى تسجيل أربعة نتائج:

النتيجة الأولى:
وجود عدم يقين كبير حول المبادئ المتعلقة بفن المحاكمة. وهذا ما يؤكده المؤلف متسائلا: هل يمكن لفن المحاكمة أن يكون واحدا, مها كان نوع النظام القضائي ؟. من المعروف جيدا اختلاف ذهنية قاضي القضاء العادي عن ذهنية القاضي الإداري. كما من المعروف أن المحاكمة في مرحلة الاستئناف مختلفة عن المحاكمة في الدرجة الأولى. ولكن من غير المعروف, بما فيه الكفاية, مدى وحدود الوكالة أو “المهمة” الموكولة للقاضي غير المهني, الذي غالبا ما يشغل وظيفة أخرى غير القضاء, وله طرق مختلفة في الاستدلال. لا احد يملك رؤية واضحة عن المحاكمة.

النتيجة الثانية:
الحديث عن فن المحاكمة قد يُدهش. فالاعتقاد السائد إن الأمر متعلق بتطبيق شبه آلي للقواعد القانونية. (هذه الفكرة منتشرة في أوساط المحامين الذين يحاولون دفع القاضي بهذا الاتجاه, مروجين بان ليس له حرية المناورة, وهذا ما يغضب كثيرا القضاة ). مع رفض الاعتبارات التي تفرضها الحياة الخاصة والنفسية للقاضي. وجرت العادة على إتباع طرق التحليل التربوي (وهو ما يفسر دون شك إن المؤلفات القانونية لا تتحدث عن فن المحاكمة, مثلما لا تتحدث مؤلفات العلوم السياسية عن فن السياسة).
ليس هناك فينومولوجياphénoménologie (علم يدرس الظاهرات كما تبدو بصرف النظر عما وراءها من حقائق) للمحاكمة. ولا احد يعلم عنها شيئا لنقص المصادر ذات المصداقية (لا توجد مذكرات قضاة, ولا تحقيقات شفهية دقيقة حول الموضوع).
كيف يعمل ذهن القاضي؟. ما هي توجهات أفكاره ابتداء من اتصاله الأول بالملف وصولا إلى تحريره الحكم أو القرار؟. ويستشهد هنا بالرئيسBernard Chenot(وللتنويه, هذا الأخير رئيس في محكمة النقض الفرنسية, وليس رئيس الجمهورية كما يفهم عندنا للوهلة الأولى, حيث الرئيس هو الرئيس و لا رئيس إلا هو, فرؤساء الجمهوريات في غير عالمنا العربي ليست لديهم الموهبة الشاملة لصياغة كل شيء, بما فيه فن المحاكمة, أو حتى لصياغتها تحت رعايتهم وتوجيهاتهم) الذي أبدى بعض الملاحظات ضد مفبركي الأنظمة في المحاكمة, وحول الممارسات الفعلية للقضاة الإداريين, مذكرا أن التجربة تبين تعقيد المحاكمات, فالتردد , والزلات,والعثرات, والأرق, والمناقشات مع الآخرين قبل وخلال المداولات, والحساسيات الشخصية, كل هذا إضافة للمبادئ الأخلاقية , تنعكس جوانب منها على الأحكام والقرارات الصادرة عن القضاة. كما أن لكل قاض, من حيث المبدأ, طريقته في المحاكمة, وليس من السهل تقييمها.

ويمضي المؤلف للقول بضرورة الاعتراف بالجهل في هذا المجال: لأن لا أحد يمكنه أن يفهم القاضي إلا إذا كان هو نفسه قاض. (وقد لاحظ العميد جورج فيدال عندما كان قاض في المجلس الدستوري أنه عمل سابقا كمحام, وبأنه بروفسور في كليات الحقوق, ولكنه وجد في مهنته كقاض دستوري مهنة جديدة كليا عليه ..) فالمنطقة ضبابية و لا يخصص لها ما يكفي من الإضاءة لوضوح الرؤية. التفكير المنصب عليها غير كاف. وعليه , يرى من الضروري بذل مزيد من الجهود للتأمل والتفكير بأمور هامة, تتعلق بالبحث عن الأسباب المؤدية لعدم نزاهة القاضي, و لانحرافه, وكذلك لعدم كفأته حين لا يكون في مستوى الأعباء الموكولة إليه.

النتيجة الثالثة:
وجوب الاهتمام الدائم بمسألة الخطأ الذي يشوب الأحكام: لماذا ينزلق القاضي إلى الخطأ؟. بالتأكيد أن الخطأ شيء غير واضح,حتى ولو أن قاضي الاستئناف رقيب على الأخطاء في الشكل والموضوع, فلا نعرف كيف يصفه, ليست هناك نظريات تتعلق بالخطأ. و لا نعرف الآليات التي تقود إليه. ولكن الخطأ ممكن توقعه كما أن هناك معدلا من الخطأ يمكن التسامح به بالتوافق: وهذا ما يثير بالضرورة بعض المشاكل. مصدر الخطأ يعود غاليا للطبيعة الإنسانية الضعيفة. ولشروط تكوين واختيار القاضي. وللطرق المعتادة في الاستنتاج. والى جنوح خيال القضاة.

النتيجة الرابعة:
تقتضي المحاكمة الجيدة, من حيث المبدأ, الرؤية المسبقة والتقدير الصحيح للنتائج التي ستترتب على الأحكام والقرارات, وهذا يتطلب الإلمام الجيد بممارسة مهنة القضاء, ومعرفة دقيقة للمبادئ . فعلى القاضي توقع, في الوقت المناسب, الإخطار المتربة على هذا القرار أو ذاك,متسائلا إذا اتخذت هذا القرار فهذه النتائج التي ستترب عليه. وإذا اتخذت القرار الآخر فهل ستكون النتائج أكثر خطورة؟. إذن لا يستطيع القاضي, مهما كانت درجته, إن لا يهتم بالنتائج المترتبة على قراراته.
لا شك أن القوانين, والقرارات الوزارية, المصاغة بشكل معيب تقود إلى الخطأ. فيترتب عليها غالبا تفسيرات غير موفقة, مما يتسبب في صدور أحكام ظالمة. مثل هذه القوانين والقرارات مسؤولة كذلك عن خطأ القاضي وإيقاعه فيه. فتوجهه للحكم طبقا لقواعد الإنصاف, وبحثه عن الأخطاء المتوقعة, قد يقود إلى الفوضى في المبادئ. ولكن هل يوجد قاض لم يتجشم الصعوبات في محاولاته الحكم بالعدل ؟, وعندما يحاول تعويض النقص الذي تركه المشرع, أو الوزير, بإحلال مبادئه محل القانون الساري, لا نعلم عندها, بشكل جيد, إذا ما كان قد احترم, في هذه الحالة, الوكالة الممنوحة له, أو النظام القانوني الذي تقوم عليه أساسا مشروعيته. ولا مقدار المتاعب التي يعرض نفسه لها.

فالقاضي , مهما كانت درجته, عليه أن يتساءل عن مدى حدود وكالته, مهما كانت الضغوط الواقعة عليه, الإيديولوجي منها أو السياسي. وعن مقدار اتساع الهامش الذي يمكنه المناورة فيه؟ وهي تساؤلات تبقى مصدر نقاش فقهي غير محدود. وعلى كل في مجاله وفي موقعه في النظام القضائي التفكير العميق فيها: هناك ما هو ما وراء au-delàالمحاكمة, وهو ما لا يجب إهماله.

2ـ تصورات القاضي:
يرى المؤلف أن إذا ما أريد تأليف مؤلف عن فن المحاكمة, توجب مقدما, تخصيص جزء منه للحديث عن تصورات القاضي وتخيلاته.ولكن كيف يمكن وصف هذه التصورات و التخيلات ؟ خاصة ونحن هنا في منطقة داكنة, أو حتى سوداء, مع مشاعر قلما تكون ملائمة, أو تنزع للبوح عن وجودها. فالقاضي لا يرغب في ملاحظة “فوضاه الداخلية” وبحكم تكوينه المهني يصعب عليه فهم وقبول الفوضى وانعدام النظام. (هناك الكثير من التناقضات والأشياء الغامضة, ومشاعر نابعة من الحياة اليومية للقاضي:الفوضى أشكالها متنوعة جدا كتنوع الأشخاص). التصور, والشطط في التخيلات, وأحيانا تسلط المشاعر وضغوطها, كل هذا يلعب, كما يرى, دورا في المحاكمة, وبالتالي للانحراف بالأحكام نحو الخطأ.

ويحاول المؤلف تحليل الأشكال المتعددة للتصورات أو التخيلات ليلخصها في خمسة أشكال:

1ـ يحلم القاضي بان يكون على قدر كبير من الاعتبار,وبان يمارس التأثير السلطوي والهيمنة ( فيرغب بان يؤثر في المداولات وحتى بإدارتها). ولكن هذا ليس إلا من قبيل الأحلام التي لا تصمد للواقع, خاصة عند عدم توفر المؤهلات الكافية لديه.
2ـ يحلم بابتكار قواعد, وبالتنظير. وقد يعتقد بقدرته على بناء طريقة أو نظام محاكمة (هذه الأحلام تعود إلى مراحل تكوينه الأولى).
3ـ الحلم بالتميز. بأن يكون قاض مشهور ومتميز عن زملائه. والاعتقاد بالتفوق.
4ـ يحلم أحلاما فلسفية. تتمثل بالاعتقاد بأنه اختير لتعريف العدل والظلم. (فهو كأداة من أدوات الله المسخرة في هذا المجال).وللتصدي للظلم. والعمل على تمييز العدالة الحقيقية عن العدالة الزائفة.ويصل به الأمر إلى درجة التعصب, والاعتقاد الذي يشبه العقيدة الدينية المتزمتة, لمهنته. وهذا شيء خطير في مهنة مبدأ ” الاحتمال” فيها أساسيي.وتفترض الحذر, وعدم الإفراط في التفاؤل.
5ـ الحلم بالاستقلال. يعتقد القاضي بأنه مستقل, عند التجرؤ على قول كل شيء. و قد يقود هذا إلى سلوكيات تفتقر للعقلانية (مجرد الشعور بالانتماء لجسم معين يحدد بالضرورة الاستقلال).
هذه الأحلام تمس صورة القاضي: فقد يكّون عن نفسه صورة مغلوطة, بفعل التخيل, مغالى فيها, مما يفقده القدرة على تحدي التصورات الزائفة.
ويمكن الذهاب بعيدا في هذا المجال والبحث عن العوامل التي تؤدي إلى زيادة خطورة هذه التصورات والأحلام:

العامل الأول:
التقدم في السن. عندما يتقدم القاضي في السن يصبح متسامحا وعطوفا, وأكثر مرونة. ولكنه مع ذلك يمكن أن يصبح أكثر تصلبا وتزمتا. لا يعمل على تجديد أفكاره. ويصطدم بالشباب من زملائه.

العامل الثاني:
الطموح. طموح القاضي المفرط للترقي واخذ مواقع متقدمة في السلم القضائي, يمكن أن يقوده إلى أنواع من السلوك غير المتزن.فاستبداد هذا الطموح به, وسيطرته كليا عليه, يؤدي إلى إفساد مقدرته على إصدار الأحكام السليمة.

العامل الثالث:
السياسة, والعقائدية. تقودان إلى تصورات وتخيلات خطيرة, عن طريق طرح أفكار ونظريات فقهية بحيث تذهب به إلى الانحياز وخلط أفكار العدالة بالأفكار السياسية. وهذا يجره إلى الخطأ, والخروج عن الموضوعية, لتتشابك الخيوط أمام ناظريه.

العامل الرابع:
الإعجاب بالنفس وتقديرها أكثر من قدرها, والمبالغة في تقدير دوره وفعاليته, هي من اخطر الأمور التي يضع نفسه فيها في وسط مجرد ــ يعتمد على الأقوال والكتابة ــ فهو بعكس الطبيب أو المهندس لا يرى النتائج الملموسة لما قام ويقوم به. لا شيء يستطيع منع شطط التصورات والأحلام غير الوعي الكامل بواجبات الصفة (الواجبات المتعلقة بصفته كقاض,كما سبقت الإشارة إليها تحت عنوان واجبات الصفة).
على القاضي أن يكون حذرا جدا من مثل هذه التصورات والأحلام, الدافعة للانحراف, و لنسيان الوكالة الممنوحة له.

2ـ قواعد اللعبة:

المحاكمة, كما يراها المؤلف, مهنة شاقة, جاحدة, تغير شكلها كثيرا. كل يلعب اللعبة كما يراها. ومن غير الممكن إعطاء نصائح ـ فهذا شيء خطير ـ ومع أن عملية المحاكمة عديمة الوضوح, يشير إلى إمكانية تأشير بعض قواعد اللعبة التي تتلاءم مع كل الأوضاع, ملخصا إياها في خمس قواعد:

القاعدة الأولى:
على القاضي تفحص ودراسة طرق عمله, ومحاكماته,والانتباه المتواصل لنفسه. وهو ما يفترض مقدرة كبيرة على التحليل. عليه استيعاب القيم التي يعمل بموجبها, وتطبيقها, والتمعن بتصرفاته, وبما يصدر عنه (وهذا بالنسبة للقضاة غير المهنيين ليس في غاية الوضوح), والوعي بالحدود الدقيقة لمهنته.

القاعدة الثانية:
الحذر من نفسه ومن تحديات الآخرين,أفرادا ومجموعات. وهي قاعدة ملزمة. وعدم الانسياق في التبسيط, والسير على خطى غيره (العمل كما يعمل الآخرون من زملائه). و الرضوخ للاعتبارات التي تمس بما يعالجه من قضايا, والآلية في العمل, واللجوء المفرط لأحكام القضاءjurisprudence.فالمحاكمة تكون لكل حالة بذاتها (فليس هناك تطابق كامل في القضايا).

القاعدة الثالثة:
تجنب المبالغة في تقدير مهمته, وكل اعتقاد غير واضح بتفوق القاضي, والاعتراف بعدم معرفة أشياء كثيرة. قلا احد يملك اليقين,خاصة عندما يلف الغموض الكثير من القضايا. فالقاضي يعمل على الاحتمال:وهذا ما يُجبر على التواضع, وعلى الحذر من الاستسلام للأفكار المسبقة,وعلى المزيد من التحفظ. وهو لا يعلم دائما إذا ما قام بالمحاكمة على أفضل وجه أم لا. والقاضي الذي يعتقد كثيرا بما يقوله أو يفكر به, والمتأكد دائما من نفسه وفي كل الأحوال, يخاطر بالاحتفاظ بواجبات مهامه وينحدر إلى الرداءة.

القاعدة الرابعة:
تنظيم الأفكار, والمعرفة الجيدة لواجبات الصفة, و لحدود وكالته كقاض. وتحديد قواعد اللعبة بشكل متقن وحسب موقعه في النظام القانوني. وبشكل خاص معرفة طرح الأسئلة الصعبة, الأسئلة الجيدة حول ممارسته لمهنته:
ـ هل قدت جيدا هذه القضية إلى نهايتها؟
ـ هل وجدت الحل الجيد المعقول, الذي يوفق بين الاتجاه الصحيح, والعدل, والقاعدة القانونية المطابقة للنظام القانوني؟
ـ هل كنت قطعيا, غير حذر, ومتطرف؟
ـ هل كنت نزيها, مستقيما مع نفسي؟ هل لجأت للغش؟ ( يكون غش النفس عند اللجوء للتسوية, وتجاهل بعض الحجج التي تربك طروحاته).
ـ هل خصصت الوقت الكافي الضروري للتعمق الواعي في الملف؟
ـ هل كنت في الكنيسة في الوقت الذي كان علي أن أكون فيه في القصر العدلي؟
( يشير المؤلف هنا إلى ما كان يردده P. Crasset عام1675 :يجب إرضاء الواجبات الملقاة على عاتقنا قبل العبادة. ” لا تفصل أبدا خدمة الله عن الوجبات الملقاة على عاتقك, لا تعتقد أبدا ان من المرغوب فيه التواجد في الكنيسة عندما يكون التواجد مطلوب في قصر العدالة” ..”. ”احتفظ بدقة بالقواعد المنظمة لمهامك. فهذا حق للناس وهو قيد على حريتك. لا يمكنك التنكر له وتدعي مع ذلك العدالة”). ”
امتحان الضمير المطلوب ممارسته بشكل دوري, لا يبدو دائما مريحا لبعض القضاة. فالقاضي لا يحب أن يرى ضعفه,وعيوبه. يريد أن يعتقد بكل ثمن بأنه قاض جيد وناجح.

القاعدة الخامسة:
تتطلب مهنة القضاء الكثير من المرونة الفكرية,والشجاعة. لا يجب الاعتقاد بوجود طريقة محاكمة دائمة, فالتغير يتبع التجربة في الحياة, و التقدم في السن, و هبوط المهنة أحيانا, الذي لا يمكن تجنبه (المحاكمة المتطرفة, والمحاكمة المتسرعة تقودان بالضرورة إلى نتائج غير مستحبة وتهبط بمستوى المحاكمة).
وليس استيعاب الصعوبات, كما يشير المؤلف بالأمر السهل: فالمطلوب من القاضي أن يتحدى ذاته, ولكن هل هناك طرق ملائمة لفعل ذلك؟. لا يستطيع احد النصح بكيفية التصرف, خارج امتحان الضمير الذي يجب إعماله دوريا, مع أنه أمر صعب وشاق.
من المعتاد أن يعيش الإنسان تبعا لتقاليد وعادات وأعراف الهيئة التي ينتمي إليها, ويرى في هذا راحة كبيرة. يربطه هذا بعلاقات غير مرئية, في الوقت الذي عليه الاجتهاد وبذل الجهد للتعود على التفكير النابع منه هو, وامتلاك المقدرة والشجاعة لإظهار تميزه. رغم ما قد يخلق له من مشاكل في المحكمة التي لا تحب الأفكار المستقلة. (ودليل ذلك ما يظهر جليا في المداولات في القضايا الهامة).

3ـ توجهات مستقبلية:

يعترف المؤلف انه من الصعب جدا التنبؤ بتوجهات فن المحاكمة مستقبلا, طالما بقي الغموض والضبابية, واضطراب الرؤية, تلف الوضع الحالي للمحاكمة. ومع ذلك يمكن تأشير العوامل غير المواتية التي تعمل على الهبوط “المحتمل” بها:

العامل الأول:
يمكن أن تلحق بالمهنة عيوبا كبيرة, يتسبب فيها الاتجاه المتنامي للمنهجية الحالية (فبركة أنظمة لا يجري مراجعتها لاحقا). و توقعات الأحكام (تحت ضغوط المحامين, ورجال القانون الجنائي, وأساتذة الجامعات). وآلية المحاكمة ) ازدياد متواصل باتجاه التجريم , والأحكام المسبقة, والتعميم ,والاعتقاد المفرط بقوة أحكام القضاء, تحت ضغط الشُرّاح الذين هم في غالبيتهم من القضاة ..)هذه الميكانيكية في الحقوق تثقل النظام القضائي,وتقيد حرية القاضي.

العامل الثاني:
يلاحظ اتجاها متزايدا للمبالغة في سلطة القاضي.وهذا واضح منذ 20 عاما. فهو يتدخل في مجالات تفتقد للوضوح, ويُجبر فيها على منح ثقة كاملة “للخبراء”. مع ازدياد الفعاليات إلي يُراد للقاضي الذهاب فيها بعيدا, هو شيء خطير, وتنسيه قواعد الاعتدال الضرورية, ويكون فيها غالبا “مضلل” من قبل المحامين (الذين يستغلون بشكل مبالغ فيه اللجوء إلى المعاهدة الأوربية لحقوق الإنسان).

العامل الثالث:
تزايد التشابه, وحتى المطابقة بين تصرفات وشخصيات القضاة, ويعود إلى التكوين الأساسي والمتشابه, ولانهيار بعض التقاليد,والانقطاع عن نشاط وفعاليات المجتمع ( قاضي القضائي العادي يجهل الأعمال,والمشاريع, والإدارة). (ويؤمن بقانون خارق القوة, و”بمبادئ عامة” للقانون التي تعود في الواقع للسياسة أو إلى ما وراء الطبيعة).

العامل الرابع:
عدم تفكير القاضي وتأمله من وقت لآخر بالمهنة,وبمبادئها, وعدم الخشية من الهبوط بمستواه إلى مادون مستوى مهامه. وعدم المعرفة الدقيقة لحدود وكالته, أو الاهتمام بالنتائج المتوقعة للأحكام التي يصدرها. و تجذر روحية الهيمنة لديه, والثقة الزائدة بنفسه وبتقنياته,متناسيا نسبية الحقوق وتنوعها بمقتضى المصالح العامة والاجتماعية. وكثيرا ما تبدو حساسية بعض القضاة واضحة تجاه وسائل الإعلام, média ,والرأي العام. كما تبرز قويا ظاهرة التبسيط, وعدم اهتمامه بان يكون هو نفسه مصدر أفكاره.
مهنة القضاء مهددة في الاتجاه نحو التدني في العشرين سنة القادمة. فمفهوم الفردانية الإنسانية في طريقه إلى الاختفاء.
هذه نظرة متشائمة جدا, كما يقرر المؤلف نفسه, ويدعو للنظر والتفكير بالعوامل غير المرئية المحرضة على تشويه صورة ومكانة القاضي:
ـ تأثير النماذج الأجنبية, وبشكل خاص الانكلو ـ سكسونية, المعتمدة على طرق أخرى في التفكير في الحقوق, والتي تحاول المؤسسات الأوروبية فرضها بكل ثمن, بالتواطؤ مع بعض القضاة, وبالتعاون مع المحامين.
ـ تأثير النظريات السياسية والعقائدية الغامضة,الهادفة لتوسيع سلطات القاضي في المجتمع, وصولا إلى جعله سلطة منازعة للهيئة السياسية وللمشرع.
ـ تأثير الثغرات في التكوين القانوني والفلسفي (أو الديني) للقاضي, وهذا متوقع في آفاق الأعوام بين 2010 و 2020 . المحاكمة,كما يراها, مهنة تفرض أخلاقية عالية جدا, تضمن استقلالية القاضي, ومقدرته على مقاومة كل الضغوط, فردية كانت أم جماعية.
قواعد فن المحاكمة معرضة لمخاطر أكيدة وجدية, أمام محاولات تهديم التقاليد التي تضمن الاعتدال عند القاضي. فيُراد, على سبيل المثال, فرض فصل التحقيق عن الحكم, باسم مبادئ غير واضحة للحكم “العادل”,ولكن لا احد يعلم كثيرا أين وكيف سندخل في هذا التوجه.

خاتمة:

في خاتمة مقتضبة, يعلن المؤلف بأنه لم يقدم في مؤلفه هذا إلا خلاصة الخلاصة “كنا نطمح لتخصيص 800 صفحة لفن المحاكمة”.ومع ذلك ألا يمكن, كما يقول, استخراج بعض الدروس من هذه التحليلات”الاحتياطية”؟:
الدرس الأول:
لكل قاض كامل الحرية في فهم مهمته, وفي طريقته في المحاكمة, وفهمه لواجبات الصفة, وهذا عائد له كليا. لا احد يمكنه أن يقدم إليه النصائح. وبقدر تقدم السن بالقاضي بقدر ما يتقيد بما تفرضه عادات الجسم القضائي المنتمي إليه, وبقدر ما يكون أسير العلاقات غير المرئية.
الدرس الثاني:
ضرورة النظر, قبل التفكير بفن المحاكمة, بحياة القاضي, وبالعقبات التي تواجهه عند المحاكمة. هذا التفكير يأخذ بعين الاعتبار الخصوصيات المتنوعة في مهنة القاضي, وهي ليست سهلة. ومع ذلك يجب أن يأتي اليوم الذي نستطيع فيه بناء فينومولوجيا للمحاكمة.
الدرس الثالث:
يمكن الحلم بفن محاكمة أمثل, ومع ذلك فان هذا ليس إلا حلما, لدينا معدلات غير متوقعة للأحكام الرديئة , وغير المرضية, أو المعيبة: لا أحد يهتم بالخطأ أو بهبوط المستوى, لا احد, على ما يبدو يبحث عن ميكانزم المحاكمة (هناك خوف مما قد يتم اكتشافه ..). ولكن المجتمع سيطالب ألان أو مستقبلا بالتوسع إلى حدود بعيدة بتقنيات المحاكمة.
ـــــــــــــــــ
وأخيرا, وفي خاتمة هذا العرض ــ الذي اضطررننا لتسهيل القراءة ولسهولة النشر تجزئته إلى 5 أجزاء ــ نتساءل :
ـ أليس من المفيد أن يقوم من هم في بلداننا, في طور التعيين في السلك القضائي, وكذلك المحامون المتدربون, بتقديم دراسات وبحوث في هذا المجال ؟.
ـ ألا تصلح الكثير من العناوين والنقاط, المطروحة فيما سبق, للدراسة المعمقة.
ـ أليس على الأساتذة القضاة الكبار, والمحامين,تعميق مثل هذه المواضيع وإثرائها بخبراتهم وتجاربهم. وتحقيق حلم المؤلف الذي أراد التوسع لوصول بحثه إلى 800 صفحة؟.
ـ أليس في هذا خدمة للعدالة, وبالتالي خدمة للمتقاضين طالبي العدالة ؟