كشفت الممارسة العملية لقانون المرور الجديد عما يتمتع به هذا القانون من ازدواجية في التجريم وعدم تناسب العقوبة مع بعض المخالفات‏,‏ وهي عقوبات لامثيل لها في التشريعات الجنائية في أكثر الدول تقدما‏,‏ الأمر الذي قد يصل به إلي عدم دستورية بعض نصوصه‏.‏

وقد يرجع هذا العيب إلي أمرين‏:

الأول ـ أن عددا كبيرا من النصوص الواردة تأتي في مناسبات متفرقة دون مراعاة التنسيق بينها‏,‏

أما الثاني ـ فهو ربط الانضباط بمجرد تشديد الجزاء‏,‏ الأمر الذي يجدر معه إعادة النظر فيها مجتمعة لتفادي التكرار أو التضارب والاختلال بين العقوبات‏.‏

فنجد علي سبيل المثال أن قانون المرور‏(‏ في المادة‏72)‏ يعاقب بالحبس مدة لاتزيد علي ستة أشهر وبغرامة لاتقل عن ثلاثمائة جنيه ولاتزيد علي ألف وخمسمائة جنيه أو بإحدي هاتين العقوبتين من يرتكب فعلا مخالفا للآداب في مركبة‏!‏ ويلاحظ بداية أن جريمة الفعل الفاضح لاعلاقة لها بالمرور من قريب أو بعيد‏,‏ فليس الهدف من تجريم الفعل الفاضح سوي حماية الشعور العام بالحياء والقيم الأخلاقية في المجتمع وليس حماية حرمة المركبة‏!‏

وهي جريمة معاقب عليها في قانون العقوبات بعقوبة أشد‏,‏ ولا أعتقد أن الهدف من القانون هو تخفيف العقوبة في حالة ارتكاب الفعل الفاضح في مركبة‏!‏ حيث يعاقب قانون العقوبات مرتكب الفعل الفاضح بالحبس مدة لاتزيد علي سنة أو بغرامة لاتتجاوز ثلاثمائة جنيه مصري أو احدهما‏,‏ ويستوي في ذلك وقع الفعل في الطريق العام والمتنزهات أو وسائل المواصلات المختلفة‏.

‏ إضافة إلي ذلك فإن عمومية النص الوارد في قانون العقوبات‏(‏ الذي لم يشترط وقوع الجريمة في مركبة‏)‏ ومانص عليه قانون المرور من عدم الإخلال بتطبيق أية عقوبة أشد في أي قانون آخر يؤكد أن القاضي سوف يطبق في النهاية النص الأشد الوارد في قانون العقوبات ـ حال وقوع الفعل في علانية ـ وهو مايكشف عن عدم جدوي التجريم الوارد في قانون المرور‏.‏

أما عن السير عكس الاتجاه‏,‏ فلا يختلف اثنان علي رفض مثل هذا السلوك الذي يعوق تحقيق الانسياب المروري وقد يعرض حياة الآخرين للخطر سواء في الطرق الرئيسية أو الفرعية‏.‏ ومع ذلك فإن العقوبة المقررة لهذه الجريمة وهي الحبس‏(‏ من‏24‏ ساعة إلي‏3‏ سنوات‏)‏ والغرامة التي لاتقل عن ألف جنيه ولاتزيد علي ثلاثة آلاف جنيه أو بإحدي هاتين العقوبتين ـ لاتتناسب مطلقا مع مقدارالجرم أو موضوع الحماية‏..‏

فحسن السياسة الجنائية يقتضي ألا ترصد عقوبة عن تعريض حياة الغير للخطر أشد من العقوبة المقررة في حالة ما إذا ترتب علي المخالفة اعتداء فعلي علي المصلحة محل الحماية‏,‏ فمن غير المقبول عند الموازنة بين جريمة السير عكس الاتجاه في القانون المصري وجريمة القتل الخطأ أن نجد القانون يعاقب علي القتل الخطأ أيضا بالحبس مدة لاتقل عن ستة أشهر وبغرامة لا تجاوز مائتي جنيه أو بإحدي هاتين العقوبتين‏,‏

بل ان بعض الاحكام تكتفي بعقوبة الغرامة‏(‏ مائتي جنيه‏)‏ مع التعويض المدني‏,‏ ونجد كذلك أن عقوبة الاصابة الخطأ أخف من العقوبة المقررة للسير عكس الاتجاه‏!‏ حيث يعاقب القانون علي الإصابة الخطأ بالحبس مدة لاتزيد علي سنة وغرامةن لاتجاوز مائتي جنيه أو إحدي هاتين العقوبتين‏,‏

وتشدد العقوبة فتصبح الحبس لمدة لاتزيد علي سنتين والغرامة التي لاتتجاوز ثلائمائة جنيه أو إحدي هاتين العقوبتين‏(‏ مازالت العقوبة أقل من عقوبة جريمة السير عكس الاتجاه حتي مع التشديد‏)‏ إذا كانت الإصابة الخطأ ثمرة إخلال الجاني إخلالا جسيما بواجبات وظيفته أو مهنته أو كان الجاني متعاطيا مسكرا أو مخدرا عند ارتكابه الخطأ الذي تسبب في وقوع الحادث أو إذا نشأ عن الفعل عاهة مستديمة أو نشأ عن الفعل إصابة اكثر من ثلاثة أشخاص‏.‏

خلاصة القول أن قانون المرور يعاقب علي جريمة السير عكس الاتجاه بعقوبة أشد من بعض جرائم الضرر التي يترتب عليها المساس الفعلي بسلامة جسم الإنسان أو الاعتداء علي الأموال‏.‏

فإذا افترضنا أن قائد السيارة أثناء دخوله في شارع جانبي عكس الاتجاه أصاب شخصا‏,‏ فإنه يعاقب في هذه الحالة العقوبة المقررة لجريمة السير بعكس الاتجاه والتي قد تصل إلي الحبس ثلاث سنوات ـ باعتبارها الجريمة الأشد ـ دون اعتبار للعقوبة المقررة لجريمة الإصابة الخطأ‏,‏ وهي الحبس مدة لاتزيد علي سنة وغرامة لاتجاوز مائتي جنيه أو إحدي هاتين العقوبتين‏.‏

ومن هنا فلا نجد بدا من القول بأن الإفراط في تشديد العقوبات في قانون المرور أدي إلي عدم التناسب بين العقوبة والجريمة أي بين رد الفعل والخطورة الإجرامية لمرتكب المخالفة‏.‏ وهي عقوبات لن تحقق ردعا علي الأمد البعيد‏,‏ وذلك لعدم صلاحيتها للتطبيق بعكس العقوبة المتناسبة مع الجرم‏,‏ وما يؤكد ذلك أن محكمة مرور القاهرة ـ في الأسبوع الماضي ـ قضت بتغريم‏14‏ متهما قدموا للمحاكمة بمبالغ تتراوح بين‏1000‏ و‏1200‏ جنيه‏(‏ بينهم‏10‏ قدموا للمحاكمة محبوسين‏!)‏ ولم تقض بعقوبة الحبس‏.‏ فليس من الجائز لتحقيق الهدف من التجريم والحد من مخالفة اللوائح المرورية أن تكون معالجتها بنظرة مجردة تعتمد فقط علي مجرد تغليظ العقوبة بما لايتناسب مع الفعل‏.‏

وهذا المعني أكدته المحكمة الدستورية العليا حين قضت أن شرعية الجزاء مناطها أن يكون متناسبا مع الأفعال التي أثمها المشرع‏,‏ وأن الأصل في العقوبة هو معقوليتها‏,‏ فلا يتدخل بها إلا بقدر لزومها‏,‏ فإذا كان مجاوزا تلك الحدود التي لايكون معها ضروريا أصبح مخالفا للدستور‏.‏

ولذلك يقتضي التناسب بين العقوبة وجريمة مثل السير عكس الاتجاه رصد عقوبة تتناسب مع الفعل‏,‏ مع توقيع تدبير احترازي كحرمان المخالف من القيادة مدة معينة‏.‏

وهذا لن يحول بأية حال دون تطبيق أي عقوبة أخري أشد واردة في أي قانون آخر في حالة ما إذا ترتب علي هذا الخطأ الخاص‏,‏ وقوع جريمة أخري‏,‏ بل يمكن النص علي رفع الحد الأقصي للعقوبة المقررة للجريمة التي تحققت نتيجة هذا الاستهتار‏,‏ أسوة بما اتبعه القانون بشأن رفع الحد الأقصي لعقوبة القتل الخطأ أو الإصابة الخطأ في حالة ثبوت أن الجريمة‏(‏ القتل أو الإصابة‏)‏ كانت نتيجة إخلال الجاني إخلالا جسيما بما تفرضه عليه أصول وظيفته أو مهنته أو حرفته‏.‏

ومن جانب آخر يخطيء من يعتقد ان تشديد العقوبة هو وسيلة تحقيق الانضباط المروري وفرض النظام وتحقيق هيبة رجل المرور لدي المواطن‏,‏ فالانضباط في حقيقته سلوك إنساني قوامه احترام التعليمات والتوجيهات والإرشادات المرورية‏,‏ لايعتمد تحقيقه علي شدة الجزاء واحتجاز المخالف بأقسام الشرطة أربعة وعشرين ساعة لحين العرض علي النيابة‏,‏ وربما صدور قرار من النيابة العامة بحبس المتهم أو المتهمة احتياطيا أربعة أيام علي ذمة التحقيق‏.

(‏ علي الرغم من انتفاء مبررات الحبس الاحتياطي في هذا النوع من الجرائم‏)‏ وإنما يرتكز الانضباط علي تعميق الثقافة المرورية لدي المواطنين ليجعل من النظام واحترامه قيمة واتجاها ذاتيا‏.‏

وتحقيق هذا الانضباط يقتضي القضاء أولا علي مشكلات المرور في مصر بمعالجة أسبابها بما يستلزمه من رفع كفاءة الطرق والعمل علي تسيير الحركة المرورية في الأماكن المختنقة وتزويد الطرق بالإنارة الكافية وخاصة وضع اللوحات الإرشادية بصورة واضحة وكافية‏,‏ ووجود رصد إلكتروني للحركة المرورية في الطرق الرئيسية لتنبيه قائدي السيارات إلي مواطن الاختناق كما هي الحال في دول أخري‏,‏ ورصد المخالفات المرتكبة بصورة تقنية إلكترونية خلال اليوم بأكمله دون الاعتماد علي وجود رجال المرور‏,‏ الذين يرتكب البعض القليل منهم تجاوزات بمناسبة تطبيق قانون المرور تصل في أسوأ صورها لدرجة التحرش ـ مايمثل ناقوس خطر بشأن مايمكن أن يؤول إليه الأمر عند إصدار قانون الإرهاب ودخوله حيز التنفيذ‏.

‏ لايمكن إنكار الجهود المبذولة من قبل النيابة العامة للتخفيف من وطأة تنفيذ القانون بصدور تعليمات عامة من المستشار النائب العام بعدم حجز السيدات بصفة عامة وقصر الحبس الاحتياطي علي المخالفين المستهترين وفقا لظروف كل حالة علي حدة‏,‏ ووجود نيابات مسائية بهدف سرعة التصرف في مخالفات المرور التي تضبط مساء سواء بإخلاء السبيل أوالحبس‏,

‏ وإصداره الكتب الدورية التي تتضمن أهم العناصر التي يجب مراعاتها في شأن تطبيق أحكام قانون المرور‏,‏ وجواز التصرف في قضايا المرور بإصدار الأوامر الجنائية في الأغلب الأعم من الجرائم في إطار الحدين الأدني والأقصي لعقوبة الغرامة المقررة‏.‏
__________________