بحث قانوني و دراسة حول أوجه الاعسار في الفقة و القانون

مقدمـة

لمّا كان الدفع بالإعسار من الدفوع المتاحة للمدين لكي يتمّ بموجبها إطلاق سراح المدين وفقاً لمَا هو منصوص عليه في المادة 244 إجراءات مدنية لسنة 1983م ولكثرة ما تّمت إثارته من خلال تلك الدفوع عند التطبيق أمام المحاكم في مدى جواز الأخذ بالإعسار والشروط المطلوبة لذلك من حيث الفقه والقانون ما بين مؤيّد لقبول الإعسار ورافض له.

ولتبايٌن تطبيقات السوابق القضائية “غير المنشورة ” كان ذلك دافعاً قوياً لي لبحث الأمر في الفقه والقانون ، ومن ثَمّ يتناول البحث الإعسار في اللغة والاصطلاح والقانون ، وآراء الفقهاء في قبول الإعسار والبيّنة عليه فقهاً وقانوناً ، وتطبيقات السوابق ، والموازنة بين الفقه والقانون ، وذلك بتقسيم البحث إلى مباحث.

المبحث الأول تعريف العسر لغةّ:

( عسر ) الأمر عسراً مثل قرب قرباً وعسارةً بالفتح فهو عسير ، أي صعب شديد ، ومنه قيل للفقر عسر وقال الزمخشري: عسر: العٌسْرٌ ضدّ اليٌسْر ، وعسر الأمر ضاق. وعسر عليَّ فلان: خالفني ، ورجل عسر وهو نقيض السهل… ولا تعسر غريمك ولا تعسره لا تأخذه على عسرةٍ ولا تطالبه إلاّ برفق.
وجاء في محيط المحيط: ( عسر ) الغريم يعسٌره ويعسِره عسراً وعٌسراً طلب منه الدَّيْن على عسرةٍ.
ومن خلال ما ورد في المعاجم لتعريف العسر يتّضح أنّه ضدّ اليسر ، وأنّه بمعنى العسير ، وهو الصعب الشديد ، ولذا قيل للفقر عسر.
واليسر في اللغة: اليسر بالفتح ، ويٌحرَّك ؛ اللّين والانقياد .. واليسر بالضمّ وبضمّتيْن ، واليسارٌ واليسارةٌ والميسٌرة مثلّثة السين السهولة والغنى ، وأيسر يساراً صار ذا غنىً فهو موسر ، الجمع مياسير ، واليسر ضدّ العسر.
وبالنظر والموازنة بين تعريف (عسر) ولفظ (يسر).
يتّضح التبايٌن بين اليسر والعسر فهما من الأضداد ، حيث إن الأولى تأتي بمعنى الغنى والسهولة والثانية ( العسر ) بمعنى الفقر والضيق ، أي صعوبة الأمر.
ويلحظ أن هنالك ألفاظاً ذات صلة بكلمة (عسر) منها الفلس والمفلس والغريم والذي هو المدين وصاحب الدين أيضاً وهو الخصم مأخوذ من ذلك ؛ لأنه يصير بإلحاحه على خصمه ملازماً ، الجمع غرماء مثل كرماء.

العسر اصطلاحاً:

تناول الفقهاء الإعسار بالتعريف ، وقد انصبت التعريفات على أن المعسر من لا فلوس له. ولتباين ذلك أورد ما جاء فيه ضمناً في تعريف الإفلاس لتناول الفقهاء مسألة الإعسار في تصانيفهم ومؤلفاتهم في أبواب الحجر والفلس. ولبيان أن لفظ الفلس من الألفاظ ذات الصلة بلفظ عسر.
نقل ابن شهاب عن الإمام مالك قوله: الفلس شرعاً ( من قصر ما بيده عما عليه من الديون ) فيقال أفلس الرجل كأنه صار إلى حال ليس له فلوس ، كما يقال له أقهر إذا صار إلى حال يقهر عليه … والجمع مفاليس ، وحقيقة الانتقال من حالة اليسر إلى العسر.
وقال بن رشد ( الإفلاس في الشرع يطلق على معنيين : أحدهما أن يستغرق الدين مال المدين فلا يكون ماله وفاء بديونه ، الثاني أن لا يكون له مال معلوم أصلاً )
وبالنظر إلى التعاريف الواردة أعلاه نتبين أن العسر ملازم لحالة الإفلاس ومتعلق بلفظ الفلس ، فقد ذكره الفقهاء ضمن مصطلح الفلس لتبيان معنى الإعسار ، وهو لا يخرج عن حال الفقر ؛ إما بأن يستغرق الدين مال المدين كله أو لا يكون له مال معلوم أصلاً. وبالموازنة بين تعريف العسر أو الاعسار لغة وإصطلاحاً يٌلحظ اتفاقهما في بيان أن الإعسار ضد اليسر.
ونفس الأمر لبيان معنى الإعسار في اللغة والاصطلاح وافق ما جاء في كتب التفسير في بيان معنى الإعسار في قوله تعالى: [ وإن كان ذو عسرةٍ فنظرةٌٌ إلى ميسرةٍ ] البقرة الآية (280) ، وعلى سبيل المثال ما أورده الفخر الرازي ( العسرة اسم من الإعسار ، وهو تعذر الموجود من المال ، يقال أعسر الرجل إذا صار إلى حالة العسرة ، وهى الحالة التي يتعسر فيها وجود المال ).
وبالتالي نقول : ( الإعسار هو أن لا يجد في ملكه ما يؤديه بعينه ، ولا يكون له مال لو باعه لأمكنه أداء الدين من ثمنه ).

المبحث الثاني الإعسار فقهاً قبوله وإثباته:

تناول الفقهاء الإعسار وأحكامه على اختلاف مذاهبهم ، وبالنظر إلى ما اتبعوه في تبويباتهم لم يتطرقوا إليه منفصلاً ، وإنما أدخله البعض في باب الحجر وأحكامه ، أو في أحكام الرهن والتفليس ، وحتى اللفظ نفسه تباين ، فأطلق الغارم والمعسر والمديان والمفلس.
ومن المسائل المتعلقة بالإعسار تفرعت مسائل اتفقوا فيها ، وأخرى اختلفوا فيها ، ومنها جواز حبس المعسر من عدمه ، ومن يقبل إعساره ، وشروط قبول البينة على الإعسار ، ومن ثم يتناول البحث هذه الجزئيات من حيث الفقه والقانون ، وتطبيقات السوابق القضائية ، والموازنة بين الفقه والقانون.

أراء الفقهاء في حبس مدعي الإعسار:

الحبس لغة الحبس : المنع … حبسه يحبسه ، والحبس المنع ضد التخلية.
وعليه ، من حيث اتفاق الفقهاء ، فقد اتفق الفقهاء على جواز حبس المدين إذا جهل حاله ولم يثبت يساره أو إعساره.
جاء في البدائع : ( الحبس على نوعين : أحدهما حبس المدين بما عليه من الدين … فإن طلب صاحب الدين الحبس من القاضي ، واشتبه على القاضي حاله في يساره وإعساره ، ولم يقم عنده حجة على أحدهما ، وطلب الغرماء حبسه ، فإنه يحبس ليتعرف عن حاله أنه فقير أم غني.
وورد في الشرح الصغير : ( حبس المفلس بثبوت عسره إن جٌهِلَ حاله لا إن علم عٌسره ).
وذكر بن فرحون المالكي نقلاً عن القرافي في بيان المشروع من الحبس ما نصه ( حبس من أشكل أمره في العسر واليسر اختباراً لحاله ، فإذا ظهر حكم عليه بموجبه عسراً ويسراً ).
وقال بن قدامة من الحنابلة : ( ومن وجب عليه حق فذكر أنه معسر به حبس إلى أن يأتي ببينة بإعساره ).
ويٌستخلص مما سبق اتفاق الفقهاء على حبس مدعي الفلس الذي يدفع بالإعسار ، ويشتبه في حاله ، فيكون الحبس لمظنة أنه على الملاء فيؤدي حبسه إلى قيامه بأداء الدين ، أو يثبت إعساره بأن يأتي بالبينة على إعساره وتبعاً لذلك اختلف الفقهاء فـي جواز سماع البينة على الإعسار ، ووقت سماعها ، وقد أجاز أبو حنيفة سماعها ، وعند الإمام مالك حٌكي عنه قوله: (( لا تسمع البينة على الإعسار لأنها شهادة على النفي… وعند الحنابلة سماع البينة على الإعسار مقبول ، وتسمع كسائر البينات التي تسمع في الحال )) وعند الشافعية ( تٌسمع على الرغم من أنها شهادة للنفي قبلت للحاجة ) وبالنظر إلى آراء الفقهاء ، فالحنفية والشافعية أجازوا سماع البينة على الإعسار مطلقاً ، والإمام مالك حٌكي عنه عدم جواز ذلك ، وعلل أنها بينة على النفي لا تقبل ، والشافعية أجازوا رغم أنها بينة على النفي إلا أنها تقبل للحاجة.

وقت سماع البينة:

اختلف الفقهاء في سماع البينة على الإعسار قبل الحبس أم بعده ، وانقسموا إلى رأيين :
الأول : للإمام مالك والشافعي وأحمد ، وعندهم تٌسمع البينة قبل الحبس.
الثاني : للإمام أبو حنيفة ، وعنده لا تٌسمع إلا بعد الحبس.
وتلخيصاً للرأيين المتقدمين جاء في الميزان : ( … ومن ذلك قول مالك والشافعي وأحمد أن البينة بالإعسار تٌسمع قبل الحبس مع الظاهر من مذهب أبي حنيفة أنها لا تسمع إلا بعد الحبس ، فالأول مخفف على المفلس ، والثاني عكسه ولكن يٌحمَل الأول على أهل الورع الخائفين من حقوق الخلائق ، ويٌحمَل الثاني على من كان بالضد من ذلك ، فرجع الأمر إلى مرتبتي الميزان).
ويستخلص من ذلك أن الجمهور اعتمدوا جواز سماع البينة قبل الحبس ، وخالفهم الإمام أبو حنيفة في عدم السماع قبل الحبس ، وهو الرأي الراجح ؛ لأن الغالب أن طلب حبس المدين يكون دائماً من الدائن ، وعند عجزه عن معرفة أحوال مدينه ، فيٌطلب حبسه اختباراً لحاله.

البينة على الإعسار:

إذا حٌبس المدين ، فيدفع الحبس عنه بسماع بينته على إعساره ، ولا يشترط أن يكون إثبات الإعسار بشهادة الشهود فقط ، وإنما كل ما يبين ذلك من طرق الإثبات ، ولكن تتبع جل ما ورد في شأن الإعسار وسماع البينة على الإعسار في الفقه ، يجدها تدور حول الشهادة مما يفهم منه أن الشهادة طريق أصيل لإثبات الإعسار.
وعليه تبعاً لذلك اشترطوا نصاباً للشهود ، وشرطوا شروطاً في ذات الشهادة.
اشترط الفقهاء أن يكون الشهود على الإعسار ثلاثة شهود ، وبنوا ذلك على احتجاجهم بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فيمن أصابته جائحة ، حيث طلب منه أن يأتي بثلاثة شهود.
أما في الشهادة نفسها ، اشترط في الشهود أن يكونوا من ذوي الخبرة الباطنة ، بمعنى أن لا تنصب الشهادة بمجرد الوقوف على ظاهر أحـوال المدين ، وإنما تتعداها إلى إلمام الشاهد بظاهر وباطن أحوال المدين ، ولا يتأتي ذلك إلا لمن كان ملازماً للمدين ومخالطاً له ، ويـدل على ذلك ما أورده الرافعي : ( فإن أقام البينة على إعساره سمع في الحال … ويشهد من يخبر باطن حاله).
إذا كانت الشهادة على الإعسار بتلف المال ، يجوز أن تسمع من غير ذوي الخبرة الباطنة ، بخلاف إن كانت على الإعسار ( فإن شهدت البينة بتلف ماله ، قبلت شهادتهم ، سواء كانت من أهل الخبرة الباطنة أو لم تكن ، وإن لم تشهد بالتلف ، وشهدت بالإعسار ، لم تقبل الشهادة إلا من ذي خبرة باطنة ؛ لأنه في الأمور الباطنة لا يطلع عليها في الغالب إلا أهل الخبرة والمخالطة).
وظاهر ذلك أن التلف يظهر لذوي الخبرة وغيرهم ، بخلاف الإعسار ، فهو شهادة على عدم المال ، ولا يتأتي ذلك إلا لمن كان ذا إلمام ببواطـن المدين ، وذا مخالطة له ، كأن يكون الشاهد من أهل التجارات المخالطين للمدين ، أو من شركائه ، أو من له جوار وخلطة بالمدين.
كما يستخلص مما سبق سرده إذا أقام البينة على إعساره حسب المعتبر في الشهادة والشهود ، أن يخلي سبيله بإطلاق سراحه من حبسه ، وتبعاً لذلك ، وقبل قبول إعساره ، اختلف الفقهاء في جواز إحلاف المدين.
فأجاز الإمام مالك والشافعي للغرماء طلب إحلاف المدين بتحليفه أنه لا مال له ظاهر ولا باطن ، وخلافاً لذلك منع الإمام أبو حنيفة وأحمد تحليفه بعد إثبات إعساره ، وعليه فإن أقام كلٌَ من الدائن ومدينه البينة ، فإن تكافأت بأن شهد قومٌ بالعدم ، وشهد قومٌ بالملاء ، وإذا شهدوا كلهم على ظاهر الحال ، ولم يقولوا لا نعلم مالاً أخفاه ، فقيل يقضى بأعدلهما ، فإن تكافأتا سقطتا وبقي محبوساً ، وقيل يخرج حتى يكشف حاله.

وعند الحنفية الأمر في ذلك لا يعدو عن حالين:

الأول: أن يقول الطالب هو موسر ، وقال المطلوب أنه معسر ، فإن قامت لأحدهما بينةٌ قٌبلت ، فإن أقاما البينة ، فالبينة للطالب ؛ لأنها تٌثبت زيادة ، وهو اليسار.
الثاني : أن لم تكن لهما بينة ، فذهب محمد إلـى أن الدين إن ثبت بمعاقدة ، كالبيع والنكاح ، فالقول قول الطالب ، وإن ثبت بغير ذلك ، كالقتل الذي لا يوجب القصاص ويوجب المال في مال الجاني دون الخطأ ، فالقول قول المطلوب.
ورأي الإمام محمد هـو ظاهر الرواية في مذهب الحنفية ، وهو الأصوب ؛ لأن الظاهر شاهد للطالب لما في إقدامه ( المدين ) على المعاقدة دليل القدرة ، إذ الظاهر أن الإنسان لا يقدم على ذلك إلا عند القدرة ، وكان الظاهر شاهداًَ للطالب ؛ لأنه ثبتت قدرة المطلوب لسلامة المال ، وهو رأي راجح.
واختلف الفقهاء في جواز ملازمة الغرماء للمدين إذا تمّ إحلافه بعد إثبات إعساره.
الإمام أبو حنيفة وصاحباه يرون أنه لا يمنع الغرماء من ملازمته إذا قضى القاضي بالانتظار لاحتمال أن يرزقه الله تعالى ، وعند الحنابلة وزفر لا يلازمونه.
والأرجح الملازمة بعد إثبات الإعسار ، يعني النظرة ، وهي التأخير إلى أن يتحسن حال المدين ويقدر على الأداء. اتفق الفقهاء على عدم جواز منع المدين من السفر ، ولا حق التصرف في أمواله.
فإذا كانت البينة على الإعسار رٌفضت ، فهل يبقى المدين في الحبس حتى الأداء حتى يخلد في حبسه؟ والظاهر أن نظرة الفقهاء متأرجحة في ذلك ، وغالب ما نصوا عليه أن المدين بعد حبسه يٌطلق سراحه إذا بقي فترة ثلاثة أو أربعة أشهر ، فيخرج ليكشف عن حاله ؛ لأن الحبس ليس مقصوداً في ذاته ، وإنما شرع لكي يجبر المدين على إخراج المال المشتبه في إخفائه. والحبس شرع للتوسل لقضاء الدين لا لعينه . وبالتالي هذا يتوقف على تقدير قاضي التنفيذ من حيث تقدير المدة وشروط الإفراج عن المدين.

المبحث الثالث بينة الإعسار في القانون السوداني:

تناولت المواد 243/244 إ.ج مدنية لسنة 1983م أحكام قبض المدين وحبسه تنفيذاً للحكم ، كما بينت الأحوال التي يطلق فيها سراح المدين . تنص المادة 243/أ: ( مع مراعاة أحكام المادة 244 ، ودون المساس بأية طريقة أخرى من طرق تنفيذ الأحكام متى كان الحكم متعلقاً بالوفاء بدين أو يقضي بسداد مال ، فيجب القبض على المدين وحبسه حتى تمام الوفاء ، إلا إذا كانت المحكمة قد قضت بذلك عند النطق بالحكم) وبالتالي أوجبت المادة المذكورة إذا كان الأمر متعلقاً بتنفيذ سداد مال أو دين مالي ، القبض على المدين وحبسه حتى تمام الوفاء ، ولا حاجة لإنذار المدين أو إعذاره ، إضافة إلى أن دلالة الحرف (حتى) تفيد انتهاء الغاية ، فيحمل الأمر عند حبس المدين تنفيذاً للحكم حبسه حتى تمام الوفاء بسداده لمبلغ التنفيذ ، ولكن بالنظر إلى ما جرى عليه العمل ، فإن الذي يتم غالباً عند تصريح التنفيذ أن تبدأ المحكمة بإصدار إعلان للمدين مع إنذاره بصورة من عريضة التنفيذ للسداد ، ثم يلجأ الدائن للقبص والحبس بعد ذلك ، وإذا تمّ حبس المدين ، فقد نصت المادة 244أج مدنية لسنة 1983م على الأحوال التي يمكن فيها إطلاق سراح المدين.

إطلاق سراح المديـن :

تناولت المادة 244 الأحوال التي يتم فيها إطلاق سراح المدين إذا تمّ حبسه تنفيذاً للحكم وفقاً للمادة 243 والمادة 160 أج مدنية لسنة 1983م ، وذلك في الفقرات أ –د ويتعلق البحث بالفقرة (د) والتي تختص بإطلاق سراح المدين إذا ( ثبت إعساره ببينة كافية ) ، ويستخلص من هذه الفقرة الآتي:
أولاً: جواز حبس المدين.
ثانياً : جواز سماع البينة على إعسار المدين.
ثالثاً : لإطلاق سراح المدين ، لا بد أن يثبت إعساره ببينة كافية.
وعليه فمن ظاهر الفقرة (د) لا بد أن يتم سماع البينة على الإعسار بعد حبس المدين ، وفقاً للمادة 243 ، وبناءً على طلب الدائن للحبس ، فلا يجوز للمحكمة من تلقاء نفسها حبس المدين ، وغالباً ما يطلب الدائن الحبس حين يٌشكل عليه حال المدين ، ويكون الحبس من قبيل الإكراه البدني لإجبار المدين على السداد وإظهار أية أموال أخفاها. وقد وافق القانون السوداني مسلك بعض التشريعات الأخرى التي أبقت على فكرة الإكراه البدني مع ملاحظة أن المشرع السوداني قد أحاط تطبيق فكرة الإكراه البدني ببعض الضمانات. وقد سلك شٌراح القانون السوداني مسلكاً مؤيداً للإبقاء على فكرة الإكراه البدني ، وذلك باعتبار أنها تسهم في استقرار المعاملات عند عدم قصر العلاقة بين الدائن والمدين على ذمتهما المالية ، فقد ذهب البعض إلى الآتي:
(( إن الإبقاء على فكرة الإكراه البدني كضرورة تستلزمها استقرار المعاملات ، فالقول باقتصار العلاقة بين الدائن والمدين في نطاق حسن النية لا في سوئها ، وحسن النية يعني عدم توافر نية الإضرار بالغير )).

وعليه متى تحققت المحكمة من توافر سوء نية المدين ، فلا مجال لحمايته وذلك بدخوله في نطاق فكرة الإكراه البدني ، وإذا أوقعت المحكمة الحبس على المدين بناءً على طلب الدائن وطلب المدين قبول سماع بينته على الإعسار ، يجب أن تستجيب المحكمة لطلبه ، وطالما أن المادة 244 أج مدنية لسنة 1983م لم تبين وقتاً محدداً لسماع بينة الإعسار ، وسكت النص ، فبالتالي يجوز أن تسمع في الحال بعد الحبس ، ويجوز أن يحدث تراخٍ بعد حبس المدين لحين السداد وبين قبول سماع بينة إعساره ، وهو الأنسب في تقديري تحقيقاً لعدة مصالح ، منها أن ذلك يتيح للدائن الوقوف على أية أموال أخذها المدين وغيبها ؛ لأن الأمر في شأن الأموال من الأحوال الباطنة لا يٌطلع عليها بسهولة إلا ما كشف ظاهر الحال عنه ، كمن عرف حاله بالإقلاع إبتداءً ، ومنها أن إعمال الحبس على المدين وتقييد حريته يجبره على إخراج أي مال أخفاه ، ولكن في كل الأحوال يجب ألا يحدث التراخي في سماع بينة الإعسار ، الإضرار بالمدين ، كأن يكون في شأن ذلك إحداث مشقة عليه في إحضار الشهود بسبب السفر أو المرض الذي يخشى فيه الهلاك ، ويمكن للمحكمة في هذه الحالة سماع البينة في الحال وفقاً لسلطتها التقديرية ، ويلاحظ أن البعض يرى أنه يجوز سماع البينة على الإعسار في الحال قبل الحبس ، إن طلب المدين سماعها ، وعليه فإذا تمّ الحبس على المدين ، ودفع وفقاً للمادة 244(د) بالإعسار وسمعت بينته على إعساره ، يجوز أن يتقدم الدائن ببينة تدحض ما دفع به المدين ، ومن ثمّ ، لإثبات الإعسار اشترطت المادة 244(د) أن يتم إثباته ببينة كافية ، تاركة الأمر لمحكمة الموضوع ، ولم تشترط وصفاً معيناً للبينة ، فيجوز إثبات الإعسار بشهادة الشهود ، وهو الغالب ، ولم تحدد نصاباً معيناً لعدد الشهود ويجوز تبعاً لذلك بعد سماع أقوال المدين على إعساره الإثبات بشهادة شاهد واحد فصاعداً ، ويمكن الإثبات بأية بينة أخرى ؛ لأن لفظ البينة ، وفقاً لما عرفته المادة (4) من قانون الإثبات لسنة 1994م ( يقصد به أية وسيلة يتم بها إثبات أو نفـي أية واقعة متعلقة بدعوى أو نزاع أمام المحكمين والموفقين ) وبالتالي يمكن إثبات الإعسار بسائر طـرق الإثبات ، بخلاف الشهادة ، وطالما لم ينص النص على عدد معين للشهود ، يجوز القياس على ما جاء في الفقه الإسلامي من سماع الإعسار بشهادة ثلاثة شهود ، قياساً على حديث من أصابته جائحة ، حيث أمره الرسول الكريم بأن يحضر ثلاثة من ذوي الحجى ، وفي كل الأحوال يجب ألاّ تقف الشهادة على ظاهر أحوال المدين ، ويجب أن تكشف عن باطـن أحوال المدين ، ويمكن أن تستشف أحوال المدين ، ومدى إلمام الشاهد بها بمناقشته إن كان ذا دراية وإلمام بأحواله ، فقد يكون مخالطاً للمدين جواراً أو شراكة معه في أسواق التجارة ولما كان مدى تقدير كفاية البينة المقدمة على إعسار المدين متروكة لتقدير محكمة الموضوع ، يراعى أن لكل واقعة ظروفها.

الموازنة بين الفقه والقانون:

عند الموازنة بين الفقه والقانون فيما يتعلق بجواز حبس المدين مدعي الإعسار ، أتفق الفقه والقانون في ذلك ، فيجوز للدائن طلب حبس مدينه إذا أشكل عليه معرفة أحواله. واختلف الفقهاء في جواز سماع البينة على الإعسار قبل الحبس أم بعده. وقدمنا أن الإمام أبو حنيفة يرى عدم سماع البينة قبل الحبس ، وخالفه في ذلك جمهور الفقهاء ، وأخذ القانون برأي الإمام أبي حنيفة، كما اشترط الفقهاء في الشهادة على الإعسار أن يشهد من يعرف ظاهر وباطن المدين ، أما في القانون السوداني فقد نص المشرع في المادة 244(د) إ ج مدنية لسنة 1983م ضرورة إثبات الإعسار ببينة كافية ، وترك ذلك لتقدير محكمة الموضوع واجتهادها ، وفي تقدير مدى كفاية البينة . وفي جواز تحليف المدين بعد سماع بينة إعساره وقبولها أنه لا مال له ظاهر ولا باطن ، وأجازوا كذلك للدائن جواز ملازمة مدينه ليعرف أحواله ، أما في القانون ، فقد سكت النص ويحمل على ذلك جواز تحليف المدين على عدم المال الظاهر أو الباطن ، وجواز ملازمة الدائن لمدينه ؛ لأن الإعسار كونه يثبت ببينة كافية يدخل فيها الإثبات بالشهادة أو بتوجيه اليمين.

تطبيقات السوابق القضائية للدفع بالإعسار:

تباينت تطبيقات المحاكم لبينة الإعسار وجل السوابق التي تناولت الإعسار غير منشورة ومنها على سبيل المثال محاكمة :
مبارك محمد الأمين //ضد// الشيخ الطيب المجذوب
م ع/ط ج/774/1999م
حيث جاء فيها قرار المحكمة العليا مؤيداً لقرار محكمة الموضوع برفض الدفع بالإعسار في دعوى إعطاء الصك المردود وبينت أن لمحرر الصك المردود أن يدفع بدفوع محددة إما بسقوط المقابل أو بالغش أو بالتدليس وأن الدفع بالإعسار يرفض إذا كان المدين سيئ النية وتوافرت له نية الإضرار. ونفس ما جاء في السابقة الماضية قررته محاكمة : حامد عنتر م ع/ ط ج/ 177/1999م ومحاكمة : وليد الشيخ خوجلي حيث جاءت مؤكدة رفض الدفع بالإعسار إذا كان سلوك المدين ينم عن نية الإضرار بالدائنين لسوء النية ، ويلاحظ أن هذا المسلك مؤيد من بعض الشراح لقانون الإجراءات المدنية لسنة 1983م ويعاب عليه أن سوء النية إستصحبته المحكمة في الدلالة على توافر الفعل الجنائي ولا يصلح سبباً لرفض الدفع بالإعسار لأن المعيار هو مدى غنى وفقر المدين عند سماع البينة ، ويمكن اعتبار سوء النية سبباً لرفض الإعسار إذا ثبت تصرف المدين في ممتلكاته من عقارات أو منقولات بعد إقامة الدعوى الجنائية أو الحكم فيها وفي كل الأحوال الدائن هو الذي يثبت ذلك.
أما القول برفض الدفع بالإعسار في جريمة إعطاء الصك المردود فلا يصلح سبباً لرفض الإعسار لأن المبلغ الذي تحكم به المحكمة بعد ثبوت المسئولية الجنائية يصبح مبلغاً ثابتاً في الذمة ولا يخرج عن نطاق المعاملات والديون.
وقـد جــاءت السابقــة غير المنشـورة : م ع/ ط م / 770/1999م ( علي العوض محمد علي //ضد// مجدي محمد خير ) في الرأي الأول مقررة لرفض الدفع بالإعسار وقد تلخص في أن الإعسار لا يثور في حالة الحكم بالتعويض جنائياً لاختلاف معنى الدين والمال المشار إليهما في المادة 243 إ ج مدنية لسنة 1983م عنه في حالة التعويض خاصة إذا تقرر بحكم جنائي.
والرأي المذكور يتماشى مع الآراء التي منعت الدفع بالإعسار في دعاوى إعطاء صكوك مردودة ولكن لابد من الإشارة إلى أن الحكم الجنائي وفقاً للمادة 198 أ ج جنائية لسنة 1991م ينفذ بالطريق المدني ويصير هذا الحكم باتاً ويصبح المبلغ الذي تحكم به المحكمة ثابتاً في الذمة ويدخل في نطاق الديون والمعاملات ، وبالتالي فمعيار أن الدفع بالإعسار لا يثور في حالة الحكم بالتعويض جنائياً ليس راجحاً وهذا ما قرره الرأي الثاني فـي الطعن المذكـور ووافقه صاحب الـرأي الثالث حيث ذكر : ( المحكمة الجنائية عندما أصدرت حكمها بالتعويض على الطاعن صار هذا المبلغ ديناً في ذمته كسائر الديون الأخرى وحددت استيفاءه بالطريق المدني للتنفيذ والذي تحكمه نصوص الباب العاشر من قانون الإجراءات المدنية لسنة 1983م بما فيها نص المادتين (243/244).
أما محاكمة عبد الله علي نجدي / م ع/ ط ج/219/1999م وتتلخص في أن محكمة الموضوع استمعت إلى بينة الإعسار المقدمة من المدين وكانت المحكمة عند الحكم ألزمته بدفع مبلغ عشرة مليون جنيه للشاكي تحصل وفقاً للمادة 198 إ. ج .ج لسنة 1991م وبعد سماع البينة قضت برفض الدفع بالإعسار وبحبسه حتى السداد وقد استأنف المدين لدى محكمة الاستئناف والتي بدورها أيدت قرار محكمة الموضوع ثم كان هذا الطعن وكانت خلاصة الرأي الأول (الذي لم يخالفه صراحة كل من الرأي الثاني والثالث) كالآتي:
1- إذا ثبت الإعسار بشهادة الشهود الذين خبروا باطن أحوال المدين فيجب قبول الإعسار وإطلاق سراح المدين لأن ما اتفقت عليه المذاهب الإسلامية هو حبس المدين الموسر.
2- على القاضي التحقق من بينة إعسار المدين دون المساس بمبدأ النظرة إلى الميسرة.
3- يجوز تحليف المدين بعد سماع البينة وقبل قبول إعساره على البت بعدم المال الظاهر والباطن ويجب أن يقدم كفيلاً لاطلاق سراحه.

إن اشتراط تحليف المدين بعد سماع بينته وقبل قبول إعساره وتقديمه كفيلاً حسبما جاء في الرأي الأول ، يتعارض وصريح نص المادة 244إ ج مدنية لسنة 1983م الذي لم ينص على تحليف المدين ولا تقديم كفيل. ولا اجتهاد مع النص.
كما أنه في تقديري – لا يتماشى مع قانون أصول الأحكام القضائية سنة 1983م في المادة (3) منه. هذا من ناحية ؛ ومن ناحية أخرى فإن تقديم كفيل فيه معنى الوفاء وتنفيذ الالتزام عن المدين حسبما نصت عليه المادة 484 من قانون المعاملات المدنية لسنة 1984م.
ولما كانت جل الآراء في قبول الإعسار مبنية على مبدأ ( النظرة ) المستمدة من قوله تعالى: [ وإن كان ذو عسرةٍ فنظرةٌٌ إلى ميسرةٍ ] فلا بد من بيان ما جاء في كتب التفسير تفسيراً لهذه الآية ، وموقف الفقهـاء بناءً على ذلك حيث جـاء فــي التفسير الكبير: ( فنظرةٌٌ إلى ميسرةٍ)… واختلفوا في حكم الانظار مختص بالربا أم عام في الكل فقال ابن عباس وشريح والضحاك والسدي ، الآية في الربا وذكر عن شريح القاضي أنه أمر بحبس أحد الخصمين فقيل أنه معسـر ، فقال شريح إن ذلك في الربا ، ونفس الأمـر أورده القرطبي ( فنظرة إلى ميسرة ) عامة في جميع الناس ، فكل من أعسر أنظر ، وهذا قول أبي هريرة والحسن وعامة الفقهاء. وقال ابن عباس وشريح ذلك في الربا خاصة فأما الديون وسائر المعاملات ، فليس فيها نظرة ، بل تؤدى إلى أهلها. أو يحبس فيها حتى يوفيها.
واستدل الفريق الأول بأن الآية جاءت مثبتة النظرة في الإعسار عملاً بظاهر الآية ، وأنها لا تختص بدين الربا فقط بناء على أن القراءة وردت عن نافع في ( ميسرة ) بضم السين ، فيكون المعنى ( وإن وقع ذو عسرة من الناس أجمعين) ولو كان في الربا خاصة لكان النصب أوْجَه، فيصير حكمها حكماً لغيرها ، عملاً بالقاعدة الأصولية ( العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب)، ويٌلاحظ أنّ مقتضى القراءة بضم السين في ( ميسرة ) أنها مأخوذة من اليسر وهو السهولة كما تقدم بيانه ، كما أن (كان) فعل تامّ بمعنى حصل ووقع ، و (ذو) فاعل.
أما الفريق الثاني فاستدلوا بأن الآية خاصة في الربا ولا تثبت حكم الإنظار في سائر الديون والمعاملات بموجبها ، واستدلوا بقراءة النص بفتح السين في (ميسرة) وبقوله تعالى : [ إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها..] ومقتضى القراءة بالنصب أن تكون (ميسرة) مأخوذة من اليسار ، وهو الربا عند العرب ، فتقتصر النظرة على دين الربا لذلك.
وبالموازنة بين الرأيين ، فإن كل رأي له حجته في الاستدلال فيما ذهب إليه ، فالأول مخفف على مدعي الفلس ، والثاني مشـدد عليه مخفف على الدائن ، والاستدلال بالقراءة بناءً على اختلاف القراء فيها حيث جاء : (ميسرة) قرأ نافع بضم السين ، وفتح الباقون ، وهما لغتان ، إلا أن الفتح هو الأشهر. وبالفتح قرأ علي بن أبي طالب وابن عمرو الأعرج وأبو جعفر وابن جندب والحسن وقتاده ، والفتح هو الاختيار لإجماع القراء عليه ، ولأنه الأكثر في الاستعمال بالهاء وبغيرها.
ومما سبق فقراءة الفتح ترجح مسلك شريح وابن عباس ، أما الخلاف في القـراءات فقـد ثبت لعـدة اعتبارات نشـأ عنهـا اختلاف الفقهاء حتى قيل: ( اختلاف القراء من اختلاف الفقهاء ، وإن اختلاف القراء كله حق وصواب نزل من عند الله ، وهو كلامه لا شك فيه ، واختلاف الفقهاء اختلاف اجتهادي ، والحق في نفس الأمر فيه واحد ، فكل مذهب بالنسبة للآخر صواب يحتمل الخطأ وكلّ قراءة بالنسبة إلى الأخرى حق وصواب في نفس الأمر).
ووجه الدلالة في أن قراءة (ميسرة) تارةً بالرفع وتارةً بالفتح ، مما يقطع بأن القراءة سٌنّة ، فيجوز الاحتجاج بالأوجه الإعرابية بما جاء في مرسوم المصاحف في عهد أبي بكر وعمر ؛ لأنها موثقة بالرواية الصحيحة والسند المتصل ، مع أن شذوذها مخالف المصاحف العثمانية ، وقد فعل ذلك سيبويه وكان على شريعة من الأمر. ولم يقرأ القراء إلاّ بوجهٍ واحدٍ ، والاختلاف في (ميسرة) في الشكل فقط.
وتبعاً لما تقدم فإن كل قراءة حق وصواب يحتج بها ، فالأمر جوازي في وجه الاستدلال ، وفقاً لما يراه كل فريق رجاحة من جهة الدليل وقوته ، ومن ثم لا يتأتى القول بمنع الإعسار مطلقاً، ولا يصح القول بقبوله مطلقاً ، فلا بد من الموازنة والتمحيص الدقيق للبينة ، ويجب ألا تكتفي المحكمة بالشهادة التي تقف على ظاهر أحوال المدين ، وإنما تتعداها إلى التي تفصح عن ظاهر أحوال المدين وباطنه. وأرى أنه قلما تتوافر في الشهود هذه الشروط ، وبالتالي عندي مسلك بن عباس وشريح حيث إن استقرار المعاملات والحفاظ على مصالح الناس كافة تطبيقاً لقاعدة “جلب المصالح مقدم على درء المفاسد ” وقبول الإعسار على إطلاقه فيه جلب لها ، ومن ناحية أخرى فبالنظر إلى جريمة إعطاء الصك المردود والتي لا يكون فيها التجريم كافياً ، ولا بد للشاكي من جبر ضرره بتعويضـه ، ومن ثم فإن جٌلّ الأحكام تكون برد قيمة الصك له ، فهو قد بذل المقابل ، وحٌرِمَ مقابل صكه من النقود ، وبالتالي يكون بذل مرتين رأس ماله المتمثل في المقابل الذي استلمه المتهم على أي نحوٍ كان ، وحرمانه من المقابل جراء إقدامه على المعاقدة ، والرأي المتقدم يتفق مع مسلك محمد بن الحنفية في أن الدين إن ثبت بمعاقدة وعن عوض ، فالقول قول الطالب ؛ لأن الظاهر شاهد له.
ويتفق مسلك بن عباس وشريح القاضي أيضاً مع ما نقل عن الإمام مالك في حبسه في الإعسار حتى الأداء ، عملاً منه بالمصلحة المرسلة . وقد يٌجاب عن ذلك بأن الفقهاء أنكروا العمل بالمصالح المرسلة ، ولكن بتتبع فقه الأئمة واجتهادهم ” أبو حنيفة والشافعي وأحمد ” يتبين ما يدل على أنهم جميعاً كانوا يبنون أحكامهـم الاجتهادية وفقاً للمصالح المرسلة. ولخص القرافـي ذلك بقوله ” وأما المصلحة المرسلة ، فغيرنا يصرح بإنكارها ، لكن تجدهم عند التفريع يعللون بمطلق المصلحة ، ولا يطالبون أنفسهم عند الفروق والجوامع بإبداء الشواهد لها بالاعتبار ، بل يعتمدون على مجرد المناسبة ، وهذا هو المصلحة المرسلة “.
وخلاصة ذلك حبس مدعي الفلس حتى يتبين صدقه ، وفي ذلك جلب مصلحة بعدم تمكين الغرماء من أكل أموال الناس بالباطل.

الخاتمــــة

تقدم تناول البحث بالإعسار في الفقه والقانون ،والموازنة بينهما من حيث تطبيقات السوابق للدفع بالإعسار ، وتناول البحث بعض النماذج لتلك السوابق القضائية “غير المنشورة “.

وخلص البحث إلى الآتي:

أولاً: تتفق معاجم اللغة مع أراء الفقهاء في بيان ماهية الإعسار ، وأن الإعسار ضد اليسر.
ثانياً: البينة على الإعسار في الفقه بينة على النفي قبلت للحاجة ، واختلف الفقهاء في وقت سماعها.
فذهب الجمهور إلى سماعها قبل الحبس ، ويرى أبو حنيفة سماعها بعد الحبس ، واتفق القانون مع مسلك الحنفية ، ويشترط الفقهاء أن يكون الحبس بطلب الدائن.
ثالثاً: اشترط الفقهاء في شهود الإعسار أن لا تقف شهادتهم على مجرد ظاهر أحوال المدين ، واشترطوا الخبرة الباطنة ، واشترط القانون لقبول الإعسار أن يثبت ببينة كافية ، تاركاً الأمر لاجتهاد القاضي.
رابعاً: إذا قٌبلَ الإعسار يجوز في الفقه تحليف المدين على البينة أنه لا مال ظاهر له ولا باطن ، مع إحضار كفيل بالمال ليتمكن الدائن من ملازمة مدينه لمعرفة أحواله . وترك القانون ذلك أيضاً لاجتهاد القاضي في جواز إثبات الإعسار ببينة كافية فقط ، ويدخل في البينة توجيه اليمين.
خامساً: إذا ثبت الدين بمعاقدة الدين ، وادعى المدين الإعسار ، وادعى الدائن اليسار ، فعند الإمام محمد بن الحسن من الحنفية القول قول الطالب (الدائن) لأن الشاهد ظاهر له سلامة المال ، والإنسان لا يقدم على المعاقدة إلا إذا كان قادراً.
سادساً: يشترط في الفقه ثلاث شهود لإثبات الإعسار قياساً علـى حديث “من أصابته جائحة ” بخلاف القانون الذي أشار إلى إثبات الإعسار ببينة كافية ، وترك كفاية البينة لتقدير قاضي الموضوع.
سابعاً: يعتمـد من يـرى جواز قبول الدفع بالإعسار على قوله تعالى : [ فَإن كَانَ ذٌو عٌسرةٍ فَنَظِرَةٌ إلى مَيْسَرَةٍ ] البقرة الآية 280
فلا يقتصر الأمر على دين الربا ، ويتعداه إلى سائر الديون ، وخالف ذلك بن عباس وشريح وجماعة من الفقهاء ، ويرون الآية خاصة بالربا.
ثامناً: اعتمد الفقهاء الذين رجحوا النظرة والتأخير عملاً بالآية 280 من سورة البقرة على وجه القراءة بالرفع في ” ميسرة” وبها قرأ نافع.
واعتمد الفريق الثاني على قراءة “ميسرة” بالنصب ، وبالرجوع إلى كتب التفسير والقراءات ، فالاختلاف في ضبط الشكل ، وكل قراءة حق وصواب ، ويحتج بها ، مما يقطع بجواز الأخذ بكل رأي من الآراء المتقدمة.
تاسعاً: لا يجوز القطع بقبول الإعسار مطلقاً ، ولا رفضه ، وإنما مدار القبول والرفض على تمحيص البينة وعدم الوقوف على ظاهر البينات ، وإنما يشترط الخبرة الباطنة ، عملاً بما انتهجه الفقهاء والراجح عندي أنه عند عدم توافر البينة الكافية ، تغليب رأي بن عباس وشريح في الحبس حتى الوفاء ، وعملاً برأي الإمام مالك في العمل بالمصالح المرسلة.
عاشراً: إن تطبيقات السوابق وبالأخص سابقة عبد الله علي نجدي أبانت ما يجب اتباعه عند سماع بينة الإعسار بالركون إلى شروط الفقهاء المشترطة في قبول الإعسار والشهادة عليه ، وعدم الوقوف على ظاهر الشهادة .

منقول