علاقة الإرادة بالمسؤولية
لحضرة صاحب العزة فؤاد بك حسني
المستشار بمحكمة الاستئناف

ألقى حضرة صاحب العزة محمد فؤاد حسني بك المستشار بمحكمة استئناف مصر في القاعة الكبرى بمحكمة الاستئناف العليا بعد ظهر يوم 5 مايو سنة 1939 هذه المحاضرة القيمة التي عنوانها (علاقة الإرادة بالمسؤولية) على جمع عظيم من حضرات المحامين ورجال القانون من كل فرع وقد حازت إعجابًا عظيمًا لطرافة البحث الذي عرضت له وما يقترن من دقة في التحري فكانت محاضرة نافعة موفقة من كل ناحية تذكر لحضرة المحاضر الكبير مع الشكر على فضله وأفضاله أكثر الله من أمثاله في رجال العلم، قال حفظه الله.

اعتاد الباحثون في علم النفس من حيث ارتباطه بالمسؤولية الإجرامية أن يقولوا أن الأحكام الأدبية هي التي تتناول تقدير سلوك الناس وخلائقهم وهذا القول المجمل مفتقر إلى تفصيل يعرفون السلوك أحيانًا أنها الأفعال المتصلة بالغاية المقصودة أو المؤدية إليها (سبنسر Prnciples of Ethies).
ويقول ما كنزى في كتابه (Manual of Ethies. 1.85) أنها ليست الأفعال المتصلة بالغاية فحسب بل هي الأفعال المرادة بذاتها قطعًا وإطلاقًا الغاية كانت أم لغير غاية.

وكلا التعريفين لا يرضيان الباحث المنصف لأن الأول متسع النطاق غير مانع لأنه قد يتناول أمورًا لا علاقة لها بالحكم الأدبي ولأن الثاني ضيق النطاق لأنه يخرج من حيز السلوك ظواهر كثيرة يتناولها الحكم الأدبي كما سيأتي تفصيله فيما بعد.

على أنه وإن يكن من المحقق أنه ما من تعريف صحيح للسلوك يقتصر على الظواهر الفعلية التي تحرك المشاعر الأدبية وتلفتها فإنه من الراجح أن معنى كلمة (سلوك) تقترن لزومًا بمعنى احتمال التقدير المعنوي للأفعال البشرية ومن ثم فلا يمكن إطلاقها على الأفعال المرتبطة بالغايات الصادرة ممن لا إدراك لهم ولا مسؤولية قبلهم.

وهنا يجدر بنا أن ننظر في معنى الفعل وما هو.
يميز بنتام بين الأفعال الخارجية أو ما يسميه أفعال الجسم والأفعال الداخلية أو المتصلة بالنفس ذلك بأن الضرب مثلاً فعل خارجي أما نية الإيذاء ففعل نفسي داخلي

(Burtham. Principle de 1 – Morale etde Legislation P.73)

غير أني أعيب على هذا الاعتبار أنه غير مألوف ولا سائغ ذلك بأن الفعل يعني أمرًا يربي على النية ويجاوزها كما أنه يعني أكثر من تحرك العضلات منقبضة ومنبسطة فنية الضرب ليست فعلاً كما أن حركات المصروع العضلية ليست هي الأخرى أفعالاً بالمعنى وإنما يتعلق معنى الفعل في رأينا بحادث ظاهر وبالسبب النفسي الذي باشر وجوده والأمران مرتبطان كما هو بين.

وقد لا يتأتى تصور أحدهما دون تصور الآخر تلازمًا واجبًا على أن التعبير عن الأحداث بقولنا (أفعالاً خارجية) يستوجب أن يكون لهذه الأحداث وجه باطني لذلك قال Butler P. 336, analogy 9 of raligion (النية جزء من الفعل نفسه) والقصد بالنية التصميم على تنفيذ فكرة حادث معين وإذن فلا يمكن أن يقترن بحادث واحد أكثر من نية واحدة على أن بعض الباحثين فرقوا بين النوايا الحاضرة أو القريبة للحادث والنوايا الغائبة أو البعيدة

ويضربون لذلك مثل الطاغية الذي انتشل غريمه من اليم حين ألقى بنفسه فيه ليهرب من شره فأنقذه من الغرق ليعذبه من بعد وينكل به شر نكال ويقولون أن النية الحاضرة هي أنجاد الغريم من الغرق والنية الغائبة أو البعيدة استبقاؤه للعذاب والتنكيل (Strant Mill – utilitatarianisim. P. 271 note).

وفرقوا أيضًا بين النوايا المباشرة وغير المباشرة وضربوا مثل الفوضوي الذي حاول أن ينسف قطارًا ركبه أحد الحكام وفيه مسافرون كثيرون فقد تكون نيته المباشرة قتل الحاكم ونيته غير المباشرة إعدام المسافرين الآخرين قاطبة لأنه حين نوى الفتك بالحاكم لم يكن يجهل أن بالقطار مسافرين آخرين عديدين وأن موتهم جميعًا مرتبط بموت الحاكم وعندي أن هذه التفرقة إجهاد للفكر بلا مسوغ ولا فائدة إذ ما فائدة المتهم إذا جيء به أمام القضاء بعد فعلته أن يقول أنه لم يكن ينوي قتل راكبي القطار بل كان ينوي قل العاهل دون غيره فمثل هذا الدفاع إن كان القصد من إيراده التخفيف عنه لا غنى فيه ولا فائدة.

على أن الحكم المعنوي قد يمتد إلى النية بمفردها دون النظر إلى تنفيذها وفي الواقع أن التقدير الأدبي الذي نوجهه إلى فعل بذاته يعنى لا بالحادث نفسه بل بالنية المبيتة التي اقترنت به أو سبقته وعلى هذا الاعتبار إجماع علماء النفس ومن بينهم ستوارت ميل (Stwart Mill)

الذي يفرق في مذهبه بين الفعل وعدالته في ذاته وبين الفاعل وقصده الصحيح لكنه يسلم بأن الحكم بعدالة الفعل يتبع تبين النية التي باشرته ذلك بأن الحادث لا أهمية له من الوجهة الأخلاقية إلا إذا دل على قصد نهائي فمن هذه الناحية تجد بين نية إتيان حادث بذاته في أجل بعيد وبين إتيانه حالاً بون شاسع فمهما انعقدت النية على عمل ضار قد يكون لاعتبار القيام به فورًا أثر قوي في صرف الإرادة عن إحداثه إذ يتسع للتفكير في العاقبة المجال.

من هذه المبادئ الأولية ينتج أن كل حدث مستقل عن إرادة محدثه لا يكون محل مؤاخذة مع التسليم في هذا المقام بقول من يقول أن الشهوة الصادرة عن التفكير والروية قد يكون شأنها شأن النية المنشئة في استيجاب الثواب أو العقاب والعلة في ذلك أن كليهما مردودان إلى حالة نفسية تقوم بالإنسان فإما وقفت عند حدها السلبي وإما برزت إلى الوجود بواسطة الأفعال التي تقتضيها.

وإذا سلمنا بأن تقدير الأفعال من الوجهة الأدبية منوط بتقدير الطابع الإرادي الذي يصحبها وجب علينا أن نسلم أن التقدير الذي نشير إليه يمتد بالضرورة إلى استظهار الأسباب التي حدت بالفاعل إلى إحداث فعله وأريد بالسبب ذلك الباعث النفسي الذي يبعث الإرادة إلى الأحداث ويحملها عليه

ومن هنا يتبين لكم أن النية والسبب أمران مختلفان فإذا نظرتم مثلاً إلى بعض الجرائم السياسية تجدون أن نية الفاعل القتل والباعث عليه قيام العقيدة في نفسه بأن فعله يفيد وطنه وكلا الأمرين واجبًا الاعتبار كلما دعت ظروف الحال إلى استظهار مسؤولية الفاعل لتقرير مداها وغايتها وقد تمتزج إليه أحيانًا بالباعث حتى يكون من العسير استجلاء أمرهما وفصلهما عن بعضهما البعض لكن إذا كانت نية الفعل داخلة في تكوين الفعل نفسه وكان الباعث فيه هو السبب في قيام النية وجب تقديرهما ووزنهما منفصلين لا متصلين كلما كان ذلك ميسورًا.

خذ مثلاً الرجل الذي أخذه السغب فأراد أن يعالج جوعه بتناول طعام لا يملكه فإن فعل فإن السبب الباعث على الفعل وهو الجوع بعيد عن إرادته وما وجدت نية الاستيلاء على ما لا يملك من الطعام إلا بعد أن أحدث الجوع فيه أثره ومن ثم يتعين لكي يكون الحكم الأدبي على فعل هذا الرجل صحيحًا تقدير هذين العنصرين منفصلين لا متصلين.

كذلك إذا ارتكب امرؤ جريمة بدافع الغضب الشديد خفت مسؤوليته عما لو كان ارتكبها وهو مجرد عن المؤثر النفسي دون أن يقوم ما يعفيه من المؤاخذة إلا بمقدار مقاومته إياه لأن من الناس من يستسلم للعوامل النفسية دون مقاومة ومنهم من يصدونها بقدر استطاعتهم وإن غلبتهم في النهاية ودفعت بهم إلى الاقتراف والمؤاخذة في الحالين مختلفة لا محالة.

وهنا ينبغي التمييز بين إرادة عدم إحداث فعل وبين عدم إرادة إحداثه – تقول أريد أن لا أسرق وتقول لا أريد أن أسرق والنية في الحالتين مختلفة المرمى فقولك أريد أن لا أسرق إعلان عن عزمك المستمر أن لا ترتكب أبدًا تلك الرذيلة أما قولك لا أريد أن أسرق يقتضي احتمال انبعاث شهوة السرقة في نفسك ثم قيام نية مغالبتها في نفسك فالقول الأول إرادة إيجابية

والثاني إرادة سلبية وهنا يقوم التمييز بين الفعل والامتناع عن الفعل لتعلق الإرادة بالإحداث الموجب أو بالإمساك السلبي وقد يتساوى الإحداث والامتناع لموجب في المسؤولية أحيانًا وتكون المؤاخذة فيهما واحدة وكذلك النواب يقول لوك Philosophical Mork P. 218 إن طلب إليك إنسان أن تسير برفقته أو أن تحادثه فجلست أو صمت كنت ممتنعًا ولما كان امتناعك هذا يستوجب من ناحيتك قيام إرادتك على رفض الطلب وهذا الرفض قد يحدث آثارًا لا تقل في خطرها عن الفعل الإيجابي فهو ملحق به ويشبه أن يكون فعلاً وإن لم يكن كذلك في الواقع وإذن يكون التمييز الذي وضعه بنتام بين ما سماعه الأفعال الإيجابية وبين ما سماه الأفعال الامتناعية غير مرضي لاستحالة تسمية الامتناع السلبي فعلاً.

إذا صح هذا وهو في نظرنا صحيح فماذا يكون الحكم فيما ليس فعلاً إيجابيًا ولا امتناعًا سلبيًا ولكنه إهمال أو قلة عناية أو رعونة وقلة احتياط والجواب واضح إذ أن المسؤولية في ذلك كله قائمة وقد عرض لها القانون وقررها وإن كانت مظاهرها لا تتصل بالإرادة بوجه من الوجوه على أن هذا الاعتبار لا يحول دون القاضي ودون تقدير الظروف الملابسة إذ أن ما هو منقطع الاتصال من الأفعال بالإرادة الموجبة غير موجب للمؤاخذة الكاملة القاسية بل مسوغ للتخفيف بل التجاوز.

والخلاصة مما سقناه تفصيلاً فيما تقدم أن العمدة في الحكم على أفعال البشر ضارة كانت أم نافعة راجع إلى تمييز الإرادة الصادرة عنها تلك الأفعال غير أن هذا الاعتبار لا يصلح أن يكون قاعدة مطلقة إذ أن من المشاهد أن تقدير أفعال الناس قد يرتبط أحيانًا لا باستجلاء الإرادة الموجبة فحسب بل بتأثير بعض الأحداث الخارجية التي تتصل بمسلك الناس أو تكون علة فيه وسببًا.

يروى أن في العالم أمم لا تحد فرقًا في المسؤولية بين الجروح المحدثة عن قصد والأخرى العارضية وأن قومًا آخرين يسرفون مثلاً في الثأر حتى لقد تفنى القبيلة عن بكرة أبيها ومثلها القبيلة الأخرى بسبب الثأر عن اعتداء وقع بغير قصد ولكن صدفة وعرضًا كما ينقل عن هنود الجويان (Guyane) أنهم يقولون الجرح بالجرح ولو كان عفوًا وبلا قصد يقابل ذلك اختلاف الحكم عند قبائل متوحشة أخرى باختلاف السبب المحدث للقتل

فإن كان القتل صادرًا عن قصد وجب القصاص الكامل وإن كان عارضًا فالقصاص أدنى وأخف ومن القبائل أيضًا من لا ترى القصاص في الجروح العارضة مطلقًا وتكتفي تلقاءها بالدية أو العوض ومثل هؤلاء الصينيون، ويقول من يرون منهم مؤاخذة القاتل في الحالتين أنه إذا وجب عقاب الفاعل عن قصد والفاعل عن غير قصد فإنما مناط ذلك أن يحترس الناس كافة وأن يتقوا الإهمال في أفعالهم وأن يحكموا الاحتياط حتى لا يصاب غيرهم بمغبة تفريطهم.

وعلى كل حال فإن اعتبار الإرادة في تقدير أفعال البشر أمر لا يختلف فيه الفقهاء وإن يكن النظر للحادث في ذاته وظروفه وآثاره قد يغني في كثير من الأحيان عن البحث عن القصد أو عن النية ولذا يقول آدم سميث (إن الناس يحكمون تبعًا لظاهر الحدث لا للنية المتعلقة به).

وبالإجمال فإنه إذا صح مؤاخذة الفاعل عن نيته وعن كل الملابسات المعلومة المتصلة بفعله والملابسات المجهولة المنتسبة إلى إهماله أو رعونته أو قلة احتياطه وتبصره فلا تصح مؤاخذته عما لا يدركه وما لا يعلمه وإذن فلا تجوز مؤاخذة بعض الطبقات الدنيا عن أفعالها كالحيوان والأطفال المعتوهين والمجانين فإلا ليست جميعًا معفون من الجزاء كله أو بعضه.

فالحيوان وإن يكن قادرًا على الفعل فلا يمكن اعتباره مخطئًا إذا فعل أو مؤاخذًا بما فعل وكله العلة في هذا الاعتبار أن الحيوان لا يدرك عاقبة فعله فحسب إذ لو صح ذلك العذر لكان موجبًا لبعض المسؤولية لأن للحيوان إدراكًا ضعيفًا قد يرجع أحيانًا إلى الغريزة وأحيانًا إلى الرياض والتقويم الست تضرب كلبك إذا رأيته يهر أو ينبح أضيافك أو يحدث فوق بساطك غير أن مسؤولية الحيوان مرفوعة عنه إطلاقًا لعلة أنه لا يدرك معنى الإصابة أو الخطأ بالنسبة لأعماله

وأنه وإن كان من المشاهد المسلم به استطاعة تربية الحيوان وحمله على سلوك مسلك خاص فلا يعني هذا أننا قد أثرنا في نفسه شعورًا بصالح الأعمال وطالحها وما هو مباح منها وما هو محظور ومن يقول أن لبعض الحيوان كالكلب والقرد نفسًا مدركة إنما يبني حكمه على بعض المشاهد الظاهرة ويفوته أن إدراك الحيوان من هذه الوجهة نتيجة اجتماع ذكرى العقوبة المؤلمة التي سببها إحداث فعل معين وسنوح الفرصة لإتيانه مرة أخرى فيترتب على اجتماع هذين العنصريين في ذهنه إحجامه وامتناعه بسبب ذكرى الألم الذي صاحب العقوبة،

والغريب أن مؤاخذة الحيوان عن فعله الضار لم تكن محظورة في جميع العصور ولدى جميع الأمم فالقبائل التي لا تزال على فطرتها تؤذي الحيوان إذا أذى وتقتله إذا قتل فالزنجي الذي يلتهم الحشرة التي لسعته يزعم أنه إنما يفعل ذلك انتقامًا منها لأنها البادئة بإيذائه وعند بعض القبائل الهندية إذا قتل النمر فردًا من أفرادها هرعت القبيلة كلها إلى قتاله فلا تعود حتى تكون قد أدركت الحيوان المفترس ونكلت به ويزعم Perham أن أهل مدغشقر لا يقتلون التمساح إلا إذا افترس واحدًا منهم لاعتقادهم أن من قتل تمساحًا في غير جريرة قتل هو أو أحد ذويه في عامه.

وتوجه قبيلة تقيم على ضفاف بحيرة أتياسى في مستهل كل سنة إنذار إلى التماسيح بأن من اعتدى منها على أحد من القبيلة قتل.
وبعضهم يعاقب بعض الدواب إذا دخل بيوت العبادة بالضرب المبرح.

وتنص شريعة موسى على رجم الثور الذي ينطح آدميًا فيقتله وكذلك الحيوان الذي يشترك مع الآدمي في علاقة جنسية (سفر الخروج وسفر اللاوسيين) كما أورد أفلاطون في شريعته وجوب معاقبة الحيوان الذي يعتدي على حيوان آخر في غير مصارعة عامة أو منازلة ويورد (Chamkers) في كتابه (سفر الأيام) – Book of days قصص حيوانات قدمت إلى المحاكم في سالف الأزمان وحوكمت من أجل جرائم اقترفتها وحكم عليها والظاهر أن هذه المحاكمات كانت مألوفة فيما بين القرنين الثالث عشر والسابع عشر وآخر العهد بها كان في فرنسا خلال عام 1845

وأذكر لكم في هذا المقام على سبيل الفكاهة أنه في سنة 1565 شكى الأرليزيون (سكان مدينة أرل بفرنسا جماعة الصراصير إلى محكمة الكنيسة فانعقدت المحكمة وندب للدفاع عن الصراصير المحامي ماران (Marin) فدفع عنها التهمة الموجهة إليها بما أوتى من زلاقة في اللسان وقوة في الحجة فكان مما قال أن المتهمين قد خلقهم الله ليعيشوا لا ليفنوا وإلا لما خلقهم ولذلك حق لهم أن يقتاتوا مما يقدرون عليه فرد عليه محامي المدعين،. وأورد في حجته ذكر ثعبان الجنة وإقصائه عنها بعد أن أضل آدم وحواء وذكر حيوانات أخرى حكت عنها التوراة أنها فسقت عن الخير واعتدت منحتها عذاب شديد.

وكانت حجة الصراصير والمحامي عنها دون حجة خصومهم في الإقناع فقضت المحكمة على الصراصير بالرحيل من المدينة وإلا توجهت إليها اللعنة من فوق المنابر حتى تبيد عن آخرها.

وكان من عادات الآربين الأقدمين من إغريق ورومانيين وغيرهم تسليم الحيوان الذي اعتدى عن آدمي إليه أو إلى ذويه ليقتصوا منه.

وقد اختلف الباحثون في استنباط الفكرة التي كانت تحدو بهؤلاء الأقوام إلى مؤاخذة الحيوان الأعجم بصنيعه فقال بعضهم ومنهم Leibnitz أنها تقوم على التمثيل الزاجر الرادع وفات هؤلاء أن النظارة من الحيوان لا تفقه ولا تدرك فلا يحدث العذاب الواقع بأمثالها في أذهانها وإن شئت فقل في مداركها أو غرائزها أثرًا.

ويقول آخرون أن مناط عقاب الحيوان تخفيف وتهوين للأثر الذي أحدثته جريمته ومن هؤلاء Saint Augustin ويقول الفقيه أورتولان Ortolan إنما كان القصد من عقاب الحيوان معنى رمزيًا يبعث إلى حمل الناس على استقبال الجريمة والخشية من عواقبها فقد كان الأتينيون يضربون الحيوان الذي يقتل آدميًا ضربًا مبرحًا حتى يجفل الأهلون من إراقة الدماء ويخافون المغبة ويهابون القصاص ويروى هذا الحديث تونيسن Thonissen في كتابه عن القانون الجنائي في جمهورية أثينا ص (414) ويروي Menabrea في كتابه (مؤاخذة الحيوان في القرون الوسطى) أن خنزيرة وصغارها افترست طفلاً بناحية Savigny وكان ذلك عام 1457 فقدمت الخنزيرة وخنانيصها للمحاكمة فحكم بقتلها وبراءة صغارها لصغر سنها وأثر سوء صنيع أمها فيها.

وفي القرآن الكريم قصة الخيل التي استعرضها سليمان فألهاه النظر إليها عن الصلاة حتى فاتته فجازاها ببتر سيقانها ورقابها، يقول الله تعالى (إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَن ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالأَعْنَاقِ) وإلى هذه القصة يشير أبو العلاء المعري فيمن يؤخذ بجريرة غيره ويؤذي في غير وزر جناه حين يقول:

مثلما فاتت الصلاة سليما ن فأنحى على رقاب الجياد
ومثله في القرآن حكاية سليمان مع الهدهد وتوعده إياه بالعذاب حين طلبه بين الطيور فلم يجده، يقول تعالى حكاية عن سليمان (مَا لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ لأعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لأذْبَحَنَّهُ. الخ الآية (سورة النمل) فكان يرى سليمان عقاب الهدهد لأنه تخلف عن مجلسه بغير إذن وعندي أن العلة في ذاك التوجيه عند الأقدمين اعتقادهم على الأرجح بأن للحيوان نصيبًا من التمييز يوجب عندهم سؤاله ومؤاخذته عما يقترفه من المحذورات.

إنما الأغرب من هذا ما هو مأثور عن بعض الأمم السابقة من عقاب الجمادات فكانوا مثلاً يجتثون الشجرة من فوق الأرض إذا سقط منها إنسان فمات وكانوا يحرقون الرمح إذا أصاب إنسانًا خطأ فجرحه أو قتله (انظر داوسون).

ويحكى روبرتسون أن حمر أمريكا الشمالية كانوا إذا أصاب أحدهم سهم من معتد نزعه من الجرح ثم عضه وحطمه وألقى أربه في الأرض ويحكى هيرودوت في تاريخه أن كسرى أمر بجلد البحر الأسود ثلاثمائة سوط حين هاجت أمواجه تلقاء سفنه وأن كورش عاقب نهر السند حين طغى بأن وزع ماءه على ثلاثمائة وستين نهيرًا وفي القرآن حديث موسى حين ضرب بعصاه الحجر ليتفجر منه الماء وقص بوزانياس عن تياجين المصارع الكبير أنه لما مات اعتاد أحد أعدائه أن يقصد إلى بعض تماثيله فيضربه نكاية وما زال كذلك حتى ثار التمثال وانتقم منه فارتمى فوقه فقتله فاختصمه ابنه متهمًا إياه بالقتل فقضت المحكمة بإلقاء التمثال في البحر عملاً بقانون دراكون الذي سنه للآتينيين والذي ينص على إبادة الجمادات إذا سببت قتل الآدميين.

ومن هنا تبدو فكرة استحالة مؤاخذة الإنسان في طفولته عن أفعاله الضارة لعدم إدراكه الخير والشر ولعدم استطاعته التمييز بينهما شأن الطفل في ذلك شأن الحيوان الذي لا إدراك له ولا تمييز وملكه الإدراك تنمو في الطفل مع نموه الجسماني فلا يلبث أن يعلم أن من الأفعال ما هو مباح ومنها ما هو محظور وأن منها ما هو مشروع ومنها ما هو خاطئ آثم ومن ثم قام وجه درء المسؤولية كلها أو بعضها عن الطفل وعن المراهق ففي إنجلترا وفي أيكوسيا وفي الولايات المتحدة لا يؤاخذ الأطفال الذين سنهم دون السابعة مطلقًا وفي إيطاليا والنمسا الذين هم دون التاسعة وفي السويد الذين هم دون الرابعة عشرة وفي بلاد أخرى كفرنسا وبلجيكا وتركيا يتقرر في كل حادثة تتعلق بصغير جنى إن كان الصغير مميزًا أو غير مميز فقانون العقوبات الفرنسي ينص على أن المجرم الذي يقل سنه عن ثماني عشرة سنة يعفى من العقاب إذا تبين أنه جنى بلا تمييز (Sans discernemient)

فإن تبين تمييزه عوقب عقابًا مخففًا (المادة (66)) وبالجملة فإن أثر القوانين العصرية تجعل بين المسؤولية التامة وارتفاع المسؤولية التامة فترة انتقال فقانون العقوبات الإنجليزي مثلاً يقيم تشريعه في هذا الصدد على المذهب الذي يقضي بأن الصبي بين السابعة والرابعة عشرة من عمره غير حاصل على العلم بالإجرام ووجوهه علمًا كافيًا كذلك في ألمانيا يبرئون الصبي بين الثانية عشرة والثامنة عشرة من عمره إذا نهض الدليل على أنه اقترف جرمه وليس عنده الإدراك الكافي لوجه الإجرام فيه والهولانديون يعتبرون سن السادسة عشرة والإسبانيون سن الثامنة عشرة والنمساويون سن العشرين ظرفًا مخففًا للمسؤولية وعند الأتراك يعفي من العقوبة الصبي الذي لم يبلغ سن الحلم (مادة 40) أما القانون المصري فإنه يعفي الصبي المجرم الذي لم يبلغ من العمر سبع سنين كاملة ويخفف عن الصبي الذي يزيد سنه عن سبع سنين ويقل عن خمس عشرة سنة (مواد (59) و (60) و (61) عقوبات)، وقد كانت العادة في الأزمان الغابرة تقضي بمؤاخذة الصبي المعتدي بمثل ما اعتدى به فتجدون مثلاً في قصص الأيلاذة أن الصبي الذي يقتل ينفى إلى الأبد وعند أمم أخرى كان الصبي غير مسؤول عن جرمه وكان أبواه مسؤولين عنه ملزمين بتعويض المصاب أو ذويه تعويضًا ماليًا.

وبديهي أن يلحق المخبولون والمجانين بالصبيان في المسؤولية – يقول Kraft Eling أنه وإن يكن المخبول كفؤًا لأن يدرك بعض القواعد الأخلاقية إلا أنه إدراك ضئيل يمتنع عليه معه تطبيقها كما أنه يتعذر عليه قطعًا إدراك عاقبة أفعاله وكذلك الحال بالنسبة للمجانين ولو أن سبب إعفاء هؤلاء وهؤلاء من المسؤولية مختلف كما سترون فيما يلي.

ولقد أجمعت الشرائع الحديثة كلها على عدم مؤاخذة المخبولين والمجانين في كثير من الأحوال إن لم يكن في جميعها وقد كان الأقدمون يعطفون على ضعاف الأحلام والمجانين ومنهم من كانوا يجلونهم ويتبركون بهم ويظنون أن لوثتهم إلهام وإغراق في الوجد بذات الله وكان هذا الاعتقاد شائعًا لدى هنود أمريكا وقبائل أفريقيا وينسب Lane للمصريين في كتابه Maniéres et Coutumes des Egyptien Modernes (أطوار المصريين العصريين وعاداتهم)

إنهم يقولون أن أذهان المعتوهين في السماء وأجسامهم في الأرض فهم مقربون من الله ومصطفون عنده ومهما ارتكبوا من الآثام فلا جناح عليهم ولا تثريب لأنهم متجردون عن المشاعر الآدمية لتعلق نفوسهم بالرفيق الأعلى وتواجدهم في حبه وذهولهم عما سواه فالتكاليف الدينية مرفوعة عنهم كذلك التكاليف الأدبية.

هذا ما يزعمه (لان) وربما كان فيه شيء من الصحة لما نشاهده كثيرًا في القرى وفي بعض الأحياء الوطنية من عقيدة الناس في المجانين الذين الفوا أن يسموهم مجذوبين أو مجاذيب وهو تعبير له معناه في عرفهم كما لا يخفى.

وبالعكس من ذلك ترون سكان جزيرة فيكتوريا في أفريقيا يقتلون المعتوهين والمجانين.

أما في أوربا في القرون الوسطى فقد كان اعتقاد العامة في المجانين أنهم مكروهون من الله وأن الشيطان قد مسهم بل تلبس فيهم على أن الأفكار الفقهية في أوربا ما لبثت أن اتجهت بالنسبة للمجانين والأغبياء اتجاهًا آخر أكثر جنوحًا إلى الرحمة والنصفة فكانوا يزنون مدى العته أو الجنون ويقدرون مشاعر المتهم المصاب بالخبل ويبحثون عن نوع خبله وهل هو مطبق في جنونه أم يفيق أحيانًا ثم يقيمون مسؤوليته على هذا الميزان وهذا التقدير.

ولستم تجهلون أن هناك حالات نفسية وقتية قد تطرأ على الإنسان فلا يدري أثناءها حقيقة ما يفعل شأنه في ذلك عندها شأن المخبولين والمجانين مثال ذلك ما يسمونه اليقظة النومية أو البعثة النومية Somnabulisme والتخدير (Narcose) والهياج (fuireur) ولا بد في هذه الحالات من الأخذ بالقاعدة التي تقضي بأنه لا مسؤولية على من يجهل ما يفعل ولو أن للغضب والهياج والغيبوبة المفتعلة عن سكر أو تخدير حكمًا خاصًا فالسكران مسؤول عما يأتيه أثناء سكره مسؤولية أما مطلقة وأما مقيدة ولا يفوتكم في هذا المقام وجوب التمييز بين حالتي الإجرام بسبب السكر الشديد الذي طرأ عفوًا ولم يكن مقصودًا وبين حالة السكر التي أرادها الجاني ليرتكب جرمه فهو في هذا الفرض الأخير مجرم عن قصد لا مجرم بالصدفة فحالة السكر وإن تكن لدى القضاء ظرفًا مخففًا للمسؤولية فهي لا تصلح لذلك إذا بينت الظروف قصد السكران ووجه سكره.

تنص المادة (57) من قانون العقوبات القديم على أن لا عقاب على من يكون فاقد الشعور أو الاختيار في عمله وقت ارتكاب الفعل إما لجنون أو عاهة في العقل وإما لغيبوبة ناشئة عن عقاقير مخدرة أيًا كان نوعها إذا أخذها قهرًا عنه أو على غير علم منه بها – ويقابل هذا الحكم حكم المادة (64) من القانون الفرنسي.

أما الإنجليز والايكوسيين وأمريكا والولايات المتحدة فإنهم لا يجعلون السكر البين مخليًا من المسؤولية ويؤاخذون السكران الذي سكر برضاه ويعتبرونه مسؤولاً عن جريمته مسؤولية تامة شأنه في ذلك شأن المفيق المدرك، يقول (هال) إن قوانين إنجلترا لا تمنح السكران المجرم امتيازًا عن سواه لسكره ولا تعتبر جنونه الذي أحدثه بنفسه لنفسه مانعًا من مؤاخذته عن جريرته، على أن الإنكليز لا ينكرون على المحلفين jury أخذهم بموجب الإرادة لدى الفاعل إن كانت ركنًا أساسيًا للإجرام وتقدير ظرف السكر واستخراج ملابساته وأثره في الفعل المطروح أمره لحكمهم والواقع أنه لا يجوز للقاضي أن يعتبر حكمه على الواقعة كاملاً إلا إذا استطاع أن يستخرج من ظروف الحادثة الذي هو بصددها جميع العوامل والبواعث التي حملت الجاني على ارتكاب جرمه.

ولو أن الواقع أن الناس حين أرادوا ويريدون إباحة بعض الأعمال وحظر البعض الآخر لا يهمهم والأمر كذلك أن ينظروا إلى الدواعي والأسباب التي يغلب استتارها في النفوس ويصعب استجلاؤها وتبينها وهذا صحيح إذا كانت طبيعة الدواعي والدوافع نفسية محضًا لا يمكن تمحيصها ولا دلالة عليها ولكن هناك ظروفًا وملابسات قد يمكن تبينها واستظهارها وقد يكون لها الأثر الفعال الدافع على ارتكاب الفعل المحظور فتلك البواعث واجبة الاعتبار ولا مناص من النظر فيها وتقدير فعلها ومقدار انصياع الفاعل لها أو مغالبته إياها

فالإكراه مثلاً الذي يقع على الفاعل معتبر في نظر القانون ظرفًا مخففًا للمسؤولية ولو فكرنا بعض الشيء لتعذر علينا أن نعتبر الإكراه موجبًا للفعل الإجرامي لدى الجاني غير أنه من المسلم به أن الإرادة البشرية تتضاءل وتتلاشي تلقاء الخوف والرهبة أو التهديد بالعذاب مثلاً يقول أرسطاليس (يجب التجاوز عن سيئة اقترفت إذا كان جانيها قد فعلها تحت حكم الخشية من عذاب لا يحتمله إنسان ولا تقوى على مواجهته إرادة بشرية) ولكنه يعقب على ذلك قائلاً: (على أن من الأفعال ما لا يرضى إنسان أن يكره على إتيانه ويؤثر الموت والعذاب دون اقترافه).

وتقضي الشريعة الموسوية القديمة في التلمود أن كل اعتداء يقع عن إكراه أو خشية الموت يقول له العذر إلا القتل والزنا فلا عذر فيهما ولا يغني عن المجرم فيهما شيء وقد يكون السبب في ارتكاب الفعل المحظور ما يسمونه دافع الضرورة ويضربون لذلك مثل الغرقى الذين آووا إلى قارب صغير لا يتسع لهم جميعًا ولا يحتملهم فألقى بعضهم ببعض في البحر قالوا لا جناح على الأحياء منهم أن أدركوا الشاطئ وعلم لذوي الشأن أمرهم وأمر رفاقهم ومع ذلك فقد تقررت المسؤولية في مثل هذه الظروف في سنة 1884 فقد لجأ ثلاثة بحارة وصبي ملاح إلى صندل صغير حين أشرفت سفينتهم على الغرق وضلوا في البحر ثمانية أيام بلا قوت فلما أضناهم الجوع وكاد أن يهلكهم ذبحوا الصبي وأكلوا لحمه وأدركتهم سفينة أخرى بعد أربعة أيام فالتقطتهم ثم لما رست في إنجلترا حوكم الملاحون بتهمة القتل فدفع عنهم التهمة محاميهم بقوله إنما الجأتهم الضرورة وأكرهتهم غريزة البقاء التي لا تقاوم ولا تغالب على التضحية بالغلام فقالت محكمة القضايا الخاصة بالتاج أن هذه الضرورة لا تبرر الاعتداء على النفس البريئة وإنهم إنما اختاروا الغلام دون واحد منهم لأنهم استضعفوه وأنه لا حول له على مقاومتهم ولا على درء الشر عن نفسه فقضت من ثم بإعدامهم. لكن مجلس الملك استبدل حبسهم ستة شهور بعقوبة الإعدام.

وذكر الفيلسوف بيكون (Bacon) حالة الرجل الذي يسرق قوته حين يعضه الجوع ويعوزه الطعام وقال أن فعله لا يعتبر سرقة ولا اختلاسًا غير أن رأيه هذا غير وجيه اليوم ولا يقوم به أحد.

ويدخل في نطاق غريزة البقاء لدى الإنسان ما يسمونه الدفاع عن النفس ويشترك في تبرير الفعل الصادر دفاعًا عن النفس عنصران أحدهما أثر الغريزة المذكورة لدى الفاعل والثاني إجرام الطرف الآخر فإرادة اتقاء الأذى ودفع الشر استبقاء للنفس هي إذن السبب الدافع إلى الاعتداء لا نية الإيذاء بالذات لذلك ارتفعت المسؤولية في بعض الأحوال وخف قدرها في البعض الآخر.

وليست نظرية الدفاع عن النفس وأثرها في تقرير المسؤولية حديثة أوجدها الفقه الجنائي العصري بل كانت مقررة منذ القدم حتى لدى الأمم المتوحشة كالهدثنشوت مثلاً وكانت العادة المتبعة لدى الجرمان القدماء أن من يقتل دفاعًا عن نفسه يعفى من القصاص وتلزمه الدية.

ويعتبر الخوف من الموت في مقدمة الأسباب الموجبة للعذر دفاعًا عن النفس وقد ألحقت به القوانين الحديثة أحوالاً عديدة ورد النص بها في قوانين العقوبات العصرية فلا حاجة إلى ذكرها ونكتفي في هذا المقام بالإشارة إلى ما كان الرومان يقولونه عن قتل السارق إذا فوجئ أثناء السرقة ليلاً فإنهم يرون عدم جواز إصابة السارق الذي يولي مدبرًا إذا كان أعزل ولا يخشى جانبه،

وعند كثير من الأمم التي تحرم على الناس عقاب المعتدين عليهم بأنفسهم يجوز قتل الزوج امرأته الزانية والزاني بها إذا فاجأهما متلبسين وليس ألامر في هذه الحالة بسبيل الدفاع عن النفس ولكنه العذر القائم على انفعال الشعور وثورته نظرًا لما هو مألوف في الطبع من أثرة الرجل بأنثاه وغيرته عليها لذلك كان ركن العذر وقيامه بالنسبة للزوج القاتل منوطًا بفجائية الحادثة واقتران رؤيا الجريمة بوقوع الاعتداء.

وكان الآتنيون والرومان المتقدمون يبسطون العذر على قاتل الزاني بالزوجة وبالأم وبالأخت وبالبنت وبالسرية إن كانت متخذة للاستيلاد وكانت قوانين القرون الوسطى في بعض البلاد لا تبيح للزوج قتل الزاني بزوجته عند المفاجأة وتبيح له خصاؤه وأنتم تعلمون دون الحاجة إلى الإفاضة حكم القانون المصري في الزوج الذي يفاجئ زوجته وخليلها متلبسين فيقتلهما فالقانون لا يعفيه من المؤاخذة إعفاءً كليًا ولكنه يخفف عنه الجزاء وحكمة التفريق بين الدفاع عن النفس وبين حالة المفاجأة في الزنا ظاهرة وهي في الثانية أشبه أن تكون انتقام الزوج لعرضه أو لشهوة الأثرة بالأنثى كما أسلفنا بيانه.

وما دامت الحالة النفسية لها أثرها في تقدير المسؤولية تعين ملاحظتها كلما اقترف إنسان جرمًا وهو مدفوع بعامل الهياج والثورة النفسية والغضب أو الاستفذاذ وكلها غالبة على التروي والتعقل والصبر والأناة ولا بد في هذا المقام من اعتبار الشخص الذي أثار الغضب واستفز الفاعل وحركه مسؤولاً عن عواقب فعله ومن هذه الجهة قام عذر المتهم بالتعدي.

والخلاصة أن أفعال البشر مردودة إلى مصادر مختلفة متنوعة قد يعرض لتحليلها وتبين طبيعتها علماء النفس والباحثون في الطبائع وهي في مجموعها متصلة بالتقدير الجنائي اتصالاً وثيقًا لا غنى للقاضي الكامل عن تمحيصها وتحليلها ليستطيع إقامة الحدود على الوجه العادل الذي يرضاه ضميره ويرضاه الناس.