بحث حول الانتهاكات الدستورية في ظل المادة (130) من الدستور العراقي

بعض النصوص القانونية والقرارات التشريعية لمجلس قيادة الثورة المنحل لا تزال نافذة رغم انتهاكها للدستور . فهل تبقى دون معالجة ؟

بعض مجالس المحافظات تطالب بتفعيل القرارات لا الامتناع عن تطبيقها !!؟

بقلم / مـكـي نـاجـي/ مدير عام المحكمة الاتحادية العليا / رئيس الفريق القانوني في اللجنة العراقية لدعم استقلال القضاء

كان انعقاد المؤتمر الثاني التي نظمته اللجنة العراقية لدعم استقلال القضاء تحت عنوان (( دور السلطات في دعم استقلال القضاء )) فرصة سانحة لأطرح موضوع الانتهاكات الدستورية في ظل المادة (130) من الدستور. لكن وعكة صحية حالت دون ذلك. لكن عزيمتي لم تهن نظرا ً لأهمية وخطورة الموضوع لأن من واجبي القانوني والأخلاقي طرح الموضوع لاطلاع كل من يهمه بناء دولة القانون وسمو الدستور .

والبحث الذي سأتناوله مترابط ومتمازج بين حقوق الإنسان ومبدأ الفصل بين السلطات واستقلال القضاء ولا أود أن يكون بحثا ً أكاديميا بقدر ما يكون معالجة تطبيقية لخلل كبير وخطير تنتهك فيه المبادئ الدستورية التي تحمي حقوق الإنسان وتحترم استقلالية القضاء في ظل نص دستوري وهو نص المادة (130) من الدستور التي نصت (( تبقى التشريعات النافذة ما لم تلغ أو تعدل وفقا ً لأحكام الدستور )) .

لقد تضمنت مبادئ الشريعة الإسلامية أسمى مبادئ وروح وقيم الإنسانية التي جسدت حقوق الإنسان بأسمى صورة ليس قولاً بل فعلا ً فهذا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب يجسد ذلك في إجابته لسائل عن حق غير المسلم فيقول ( أما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق ) وهذا خليفة المسلمين عمر بن الخطاب يقول (متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً)

و بعد قرون من الزمن تظافرت الجهود لحماية المبادئ التي عبر عنها الإسلام بأقوال قادته.

فانبثقت منظمات دولية كمنظمة العمل الدولية في عهد عصبة الأمم المتحدة ومن ثم ميثاق الأمم المتحدة الذي عزز و شجع احترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية للناس جميعاً بلا تمييز بسبب العنصر أو الجنس أو اللغة أو الدين وهكذا توالت المواثيق الدولية كالإعلان العالمي لحقوق الإنسان لضمان وحماية حقوق الإنسان واستقلال القضاء .

والضمانات القانونية للحريات العامة والحقوق الأساسية تنصرف إلى مجموعة الوسائل التي يقررها التنظيم القانوني في الدولة بتقرير مبادئها دستوريا ً من اجل كفالة الاحترام الواجب لهذه الحريات ووضعها موضع التطبيق ونظرا لأهمية الوثائق الدستورية وعلو منزلتها فان الشعوب تحرص على أن تسجل مكاسبها وحقوقها وحرياتها كثمرة من ثمرات كفاحها الطويل ضد السلطات المستبدة في الدول غير الديمقراطية .وبعد التغيير الحاصل في العراق وتبني النظام الديمقراطي ألتعددي فقد صوت الشعب العراقي على دستوره الذي كفل في مبادئه حرياته وحقوقه في الباب الثاني منه ونص في الباب الثالث منه على مبدأ الفصل بين السلطات واستقلال القضاء وعدم التدخل في شؤونه في الفصل الثالث منه .

إلا إن احترام تلك المبادئ والقواعد الدستورية يتمثل في حمايتها من الخروج عليها من جانب السلطة التشريعية فيما تصدره من تشريعات ومن السلطتين التنفيذية والقضائية عند التطبيق .

وفي مواد البحث أتطرق لبعض المبادئ الدستورية التي تضمنها الدستور العراقي و ما يقابلها من نص قانوني او قرار تشريعي لمجلس قيادة الثورة المنحل ينتهك هذا المبدأ او القاعدة الدستورية على سبيل المثال لا الحصر .

فقد نصت المادة (14) من الدستور تحت باب الحقوق المدنية والسياسية :

(( العراقيون متساوون أمام القانون دون تمييز بسبب الجنس أو العرق أو القومية أو الأصل أو اللون أو الدين أو المعتقد أو الرأي أو الوضع الاقتصادي أو الاجتماعي )) .

وبدلاً من أن يكون هذا المبدأ الدستوري محترماً فإنه ينتهك من قبل أجهزة السلطة الأجهزة التنفيذية انتهاكاً صارخاً في ظل بقاء القرارات التشريعية لمجلس قيادة الثورة المنحل نافذة.

وأصدق مثال على ذلك هو قرار مجلس قيادة الثورة المنحل رقم (120) لسنة 1992 وتعديله القرار رقم (124) لسنة 1993 الذي يدعو إلى التمييز وعدم المساواة أمام القانون بين العراقيين والذي نص (( يمنع من التعيين في الوظائف التعليمية والقبول في كليات التربية كل عراقي من أصول أجنبية)) والقرار رقم (41) لسنة 1995 البند ثانياً (( تسري أحكام القرار رقم (120) لسنة 1992 على المتقدم المقبول في الدورات التربوية )) .كذلك قانون المعهد القضائي رقم (33) لسنة 1976 م/سابعاً/أولاً والتي نصت (( يشترط فيمن يقبل للدراسة في المعهد أن يكون عراقياً بالولادة ومن أبوين عراقيين بالولادة ومن أصل غير أجنبي)) ومن الطريف وأثناء كتابتي لهذا الموضوع قرأت خبراً نشرته صحيفة البينة في عددها الصادر يوم 11/أيار/2008 مفاده أن وزارة التعليم العالي والبحث العلمي وبأمر من المفتش العام أصدرت قرارات بفصل بعض الطلبة العراقيين من الجامعات العراقية بحجة تبعيتهم وأنهم من أصول أجنبية. وإذا صدق ذلك فإنه لن يثير الدهشة أو الاستغراب أن إتخذت مثل هذه القرارات من قبل الأجهزة التنفيذية، طالما أن قرارات مجلس قيادة الثورة المنحل ما زالت نافذة وسندها في النفاذ المادة (130) من الدستور.

وقرار مجلس قيادة الثورة المنحل رقم (120) لسنة 1992 لم يكن القرار الوحيد الذي ينتهك الدستور بل هنالك العشرات من القرارات ما زالت نافذة وتطبق على ارض الواقع رغم ما فيها من انتهاك صارخ لحقوق الإنسان وللمبادئ الدستورية .

لقد تضمن الدستور العراقي المبادئ الدستورية الآتية و هي ترتبط بين حقوق الإنسان واستقلال القضاء . سأتطرق لذكرها :

المادة (19/خامسا ً ) المتهم برئ حتى تثبت إدانته في محاكمة قانونية عادلة .
المادة (19/ ثاني عشر/ أ ) يحظر الحجز .
المادة (37 / أولاً/ ب ) لا يجوز توقيف احد أو التحقيق معه إلا بموجب أمر قضائي.
المادة (88 ) القضاة مستقلون لا سلطان عليهم في قضائهم لغير القانون ولا يجوز لأي سلطة التدخل في شؤون العدالة .
يقابل المبادئ الدستورية أعلاه القرارات الصادرة من مجلس قيادة الثورة المنحل والتي تنتهك المبادئ أعلاه وكما يلي :

القرار رقم (27) في 4/2/1992 منح وزير الداخلية صلاحيات فرض الغرامات وحجز المخالفين وهذا القرار يمثل سلب لولاية القضاء وإخلال بمبدأ الفصل بين السلطات وخرق لحقوق الإنسان.
القرار رقم (55) في 28/3/1992 البند ( 1- أ و ب ) تخويل أمين بغداد حجز الأشخاص لمدة من (15) يوم إلى شهر يمثل سلب لولاية القضاء وإخلال بمبدأ الفصل بين السلطات وخرق لحقوق الإنسان.
القرار ( 160) في 1/11/1993 وتعديله القرار (73) في 22/6/1994 منح وزير التجارة صلاحية فرض الغرامات ووضع اليد على الأموال يمثل سلب لولاية القضاء وخرق لحقوق الإنسان.
القرار (160) في 26/10/1997 وتعديله القرار رقم (5) في 10/1/2002 منح وزير المواصلات حجز الأشخاص يمثل سلب لولاية القضاء وإخلال بمبدأ الفصل بين السلطات وخرق لحقوق الإنسان.
القرار (494) منح أمين بغداد صلاحية حجز المركبات و سائقيها 15 يوم يمثل سلب لولاية القضاء وخرق لحقوق الإنسان.
القرار (1333) لسنة 1984 منح الوزراء ومن هم بدرجتهم والمحافظون كل ضمن اختصاصه صلاحية حجز المقاولين العراقيين لمدة لا تزيد عن أسبوعين يمثل سلب لولاية القضاء وخرق لحقوق الإنسان.
القرار (215) في 20/2/1979 منح سلطة قاضي جنح لمعاون أمين بغداد و مدراء الوحدات في أمانة بغداد يمثل تدخل في شؤون العدالة وإخلال بمبدأ إستقلالية القضاء.
القرار (515) في 5/5/1985 منح قائمقام القضاء صلاحية قاضي جنح للنظر في الجرائم المنصوص عليها في الفقرة (1) من المادة (388) عقوبات / ف 2 يمثل إخلال بمبدأ إستقلالية القضاء.
قانون الكمارك رقم 23 لسنة 1984 – المادة ( 237/ ثانيا ً /1 ) التي تمنح مدير عام الكمارك صلاحية توقيف المتهمين في قضايا الكمارك يمثل إخلال بمبدأ استقلالية القضاء.
قانون الري رقم (6) لسنة 1963.
قانون زراعة الرز رقم (135) لسنة 1968 وكثير من القوانين الأخرى.
إن المبادئ الدستورية التي تكفل وتضمن حقوق الإنسان في الحقوق والحريات وممارسة القضاء ولايته دون تدخل من السلطات استنادا ً لاستقلاليته و لمبدأ استقلال القضاء تنتهك يوميا في ظل نفاذ تلك القرارات.

وهنا يقع واجب الإلغاء أو التعديل على السلطة التشريعية ( مجلس النواب) فعليها أن تقدم مشروعات القوانين بالإلغاء والتعديل وفقا ً لأحكام ومبادئ الدستور إلا أن السلطة التشريعية لم تتخذ من جانبها الإجراءات السريعة في عدم استمرار نفاذ القرارات المخالفة للدستور .

وهكذا تبقى القرارات نافذة طبقا للمادة (130) من الدستور .

ولكن التساؤل يطرح نفسه ؟ في حال استمرار عدم التعديل أو الإلغاء من قبل السلطة التشريعية , ألا يمكن ونحن ننادي وبصوت عال بسيادة القانون وسمو الدستور أن نحترم المبادئ الدستورية و نمتنع عن تطبيق ما يخالفه . وإذا تمسكنا بتطبيق النص المخالف للدستور لأنه نص نافذ . ألا توجد معالجة قانونية ؟ !

في رأي الشخصي واجتهادي أن طريق المعالجة القانونية في الإلغاء و التعديل موجودة ويمكن إتباعه في إلغاء القرارات المخالفة للدستور – عن طريق المحكمة الاتحادية العليا في ممارستها للرقابة الدستورية. ولكن هذه الرقابة لا يمكن للمحكمة الاتحادية العليا ممارستها من ذاتها بل يستوجب أن تحرك الرقابة من الغير كالمحاكم والدوائر الرسمية والأفراد ممن لهم مصلحة و تضرروا من النص أو القرار التشريعي .

فقد نصت المادة (4) من قانون المحكمة الاتحادية العليا الفقرة ثانيا ً على (( الفصل في المنازعات المتعلقة بشرعية القوانين والأنظمة والتعليمات والأوامر الصادرة من أي جهة تملك حق إصدارها وإلغاء التي تتعارض منها مع أحكام قانون إدارة الدولة العراقية للمرحلة الانتقالية ويكون ذلك بناءاً على طلب من محكمة أو جهة رسمية أو مدع بمصلحة )).

و في ضوء المادة (9) من قانون المحكمة الاتحادية العليا صدر النظام الداخلي رقم (1) لسنة 2005 والذي بين نوع الرقابة التي تمارسها وهي رقابة الإلغاء .

إذن كيف تتم المعا لجة لإلغاء النصوص القانونية والقرارات التشريعية المخالفة للدستور و التي تنتهك حقوق الإنسان في التمييز والحرمان وتقييد الحرية وسلب ولاية القضاء والتدخل في شؤونه .

لقد أوردت في مؤلـفي الذي طبع تحت عنوان ((المحكمة الاتحادية العليا في العراق )) المعالجة بطريقين :

أولاً : نصت المادة (3) من النظام الداخلي رقم (1) لسنة 2005 على ما يلي :

(( إذا طلبت إحدى المحاكم من تلقاء نفسها أثناء نظرها دعوى البت في شرعية نص في قانون أو قرار تشريعي أو نظام أو تعليمات تتعلق بتلك الدعوى ترسل الطلب معللا إلى المحكمة الاتحادية العليا للبت فيه و لا يخضع هذا القرار إلى الرسم )) .

في ضوء النص المتقدم يحق لجميع المحاكم سواء كانت مدنية أو جزائية في حال نظرها دعوى فيها خرق لمبدأ دستوري أن تتصدى لهذا الخرق و ترسل طلبها إلى المحكمة الاتحادية العليا للبت في دستورية ذلك النص في القانون أو القرار التشريعي .

مثال ذلك أن النص القانوني أو القرار التشريعي يقضي على قاضي التحقيق أن يحيل الأوراق التحقيقية على رئيس الوحدة الإدارية ليمارس صلاحيته بموجب القرار تشريعي للفصل في القضية بصفته قاضي جنح .

فعلى محكمة التحقيق أن تمتنع عن الإحالة. وترسل طلبها إلى المحكمة الاتحادية العليا للفصل في شرعية القرار التشريعي. وهنا يأتي دور المحكمة الاتحادية لممارسة اختصاصها في الرقابة الدستورية . فإذا ما تحقق للمحكمة أن القرار التشريعي مخالف لنص من نصوص الدستور فتصدر قرارها بإلغائه .

ثانيا ً : نصت المادة (5) من النظام الداخلي على الآتي :

(( إذا طلبت إحدى الجهات الرسمية بمناسبة منازعة قائمة بينها وبين جهة أخرى الفصل في شرعية نص في قانون أو قرار تشريعي أو نظام أو تعليمات أو أمر فترسل الطلب بدعوى إلى المحكمة الاتحادية العليا معللاً مع أسانيده وذلك بكتاب بتوقيع الوزير المختص أو رئيس الجهة غير المرتبطة بوزارة )).

في ضوء النص المتقدم يبرز دور وزارة حقوق الإنسان في تصديها للخروقات التي تمارس من قبل أجهزة السلطة التنفيذية لان أكثر الخروقات والانتهاكات الدستورية متعلقة بالحقوق العامة والحريات وهذا هو من صميم واجبات وزارة حقوق الإنسان . ومثالا ً على ذلك ما حصل في منازعة بين وزارة حقوق الإنسان ومديرية الكمارك العامة بشان قرارات التوقيف التي يصدرها مدير عام الكمارك استنادا ً لصلاحيته الممنوحة له بموجب المادة (237/ ب ) من قانون الكمارك . وكان الطريق للمعالجة سالكا إلا انه رغم المنازعة لم ترفع الدعوى بإلغاء النص القانوني المخالف للنص الدستوري والوارد في المادة (37/أولا ً /ب) من الدستور, (( لا يجوز توقيف احد أو التحقيق معه إلا بموجب أمر قضائي )) .

أما بالنسبة للأفراد فلكل شخص طبيعي أو معنوي أن يطلب البت في شرعية أي نص في قانون أو قرار تشريعي إذا كانت له مصلحة حالة و مباشرة و مؤثرة في مركزه القانوني أو المالي أو الاجتماعي و انه قد أصابه ضرر من جراء التشريع المطلوب إلغاؤه وقد طبق على المدعي أو يراد تطبيقه عليه .

و خير مثال على ذلك إذا ما صدق أن ما أصدرته وزارة التعليم العالي والبحث العلمي بفصل الطلبة من بعض الكليات بحجة التبعية صحيح. ففي ضوء الشروط التي ذكرناها أعلاه يحق لهؤلاء الطلبة المتضررين أن يقيموا الدعوى أمام المحكمة الاتحادية العليا للبت في شرعية نص القرار (120) لسنة 1992 وتعديله القرارين (124) لسنة 1994 و (41) لسنة 1995 .

إن ضمان الدستور هو تطبيق مبادئه على ارض الواقع لا أن يكون نصوصا ً معطلة و هذا الأمر يحتاج إلى تضافر الجميع و عن قناعات بان احترام الدستور وحمايته ضمان للجميع .

إعادة نشر بواسطة محاماة نت