النيابة العامة : من الاستقلال الى التبعية

ذ.عبد الكبير طبيح

يظهر في الكثير من الندوات أن التفكير في وضعية النيابة العامة يحسم في إشكالية الاستقلالية لصالح التبعية، معتقدين في ذلك أنهم غرفوا من منهل روح دستور 2011، وإن أبقوا على إشكالية الجهة التي ستكون معنية بهذه التبعية.
لكن، من المفيد لنجاح أي تحليل أو معالجة لأي إشكال، سواء كان فكريا أو قانونيا أو دستوريا، أن يوضع لهكذا منحى تأطير تفرضه قواعد المنهج وضوابط المنطق، حتى تكون المقدمات منسجمة مع النتائج و الخلاصات.
وإن كان هناك، من موضوع يستلزم الكثير من الحذر والهدوء فهو الموضوع الذي يحاول أن يجيب عن سؤال استقلالية النيابة العامة بالمغرب ومرد هذا الوضع الصعب راجع إلى ما يلي:

1-أن النيابة العامة في المغرب انتقلت من الاستقلالية المطلقة عن الجهاز التنفيذي إلى التبعية المضبوطة بالتعليمات الشفوية إلى التبعية المؤطرة بنصوص القانون لتنتهي إلى تبعية مؤسسة بمقتضى قواعد الدستور.
2-إن الحديث على القواعد القانونية التي تنظم الوضع القانوني والدستوري للنيابة العامة يختلف جدريا عن الحديث عن القوانين التي قد تنظم بعض المهن سواء تعلق الأمر بالمحاماة أو الموثقين أو حتى بالمؤسسات العمومية.
ذلك أن البحث عن الأدوار المجتمعية للنيابة العامة هو بحث في صلب بناء الدولة، وهو ما يفرض الخروج من منطق الدفاع عن مصالح فردية أو جماعية أو اتخاذ مواقف سياسية من هذا الاتجاه أو ذاك، للدخول في صلب المسؤولية الجماعية المؤسسة لبناء الدولة.
3-إن دستور 2011 والذي صادق عليه المغاربة بأغلبية جد كبيرة حسم في أكبر القضايا المركزية انطلاقا من مبادئ موجهة كان أولها تلك المنصوص عليها في الفصل الأول من الدستور وعلى الخصوص الفقرة الثانية التي ورد فيها فيما يلي:
«يقوم النظام الدستوري للمملكة على أساس فصل السلط وتوازنها وتعاونها «والديمقراطية المواطنة والتشاركية وعلى مبادئ الحكامة الجيدة وربط المسؤولية بالمحاسبة.
4-إن ما وقع في مدينة أكادير بين وزير العدل وممثل النيابة العامة ليس خلافا في الرأي الشخصي للمعني به وإنما هو تصادم السلطتين, إحداهما تنفيذية والأخرى قضائية حول مفهوم العلاقة التي ستجمع أو ستفرق بينهما.
بعد هذه المقدمات سنحاول تقديم أجوبة ، من بين أجوبة أخرى ، على هذا التساؤل المتعلق ب: أي استقلالية للنيابة العامة في ظل دستور الحالي.
لكل المجتمعات الإنسانية محطات تاريخية تؤثر في مسارها سلبا أو إيجابا بالقدر الذي تتملك فيه تلك المجتمعات تلك اللحظات التاريخية ومدى قدرتها على توجيهها في الاتجاه الأنسب من أجل تجاوز مراحل قد تكون صعبة في حركية تلك المجتمعات، مثل ما تعيشه اليوم بعض البلدان الشقيقة.
وبالنسبة للمغرب لم يكن استثناء التحولات التي عرفها العالم العربي، وإنما كان استثناء في كيفية التعامل مع تلك التحولات ساعده في ذلك تفتح الفكر والحس السياسي لقائد هذه البلاد، وكذا الوعي الكبير الذي حضر لدى قادة الأحزاب الوطنية و كل الفاعلين السياسيين وعموم المواطنين.

يمكن القول الآن، إذن، أن جهود المغاربة كانت فاعلة في التعامل مع وضع مستجد كالذي يعيشه العالم العربي.
إن الخطاب الملكي ل 9/3/2012 كان إعلانا أرخ للتحول المؤسساتي الذي سيعرفه المغرب، ذلك الخطاب الذي رسم معالم المرحلة الجديدة لإعادة تشكيل العلاقات بين السلط التي تتكون منها الدولة المغربية ليأتي دستور 2011 لكي يؤطر تلك العلاقات في نقلة نوعية للدولة والمجتمع.
منذ 2000 عرف المغرب 3 أنواع من التحكيم الملكي تدخل فيها جلالة الملك من أجل الحسم، بحكمة، لإرضاء أطراف المجتمع المعنية في ثلاث قضايا كبرى.

فكان التحكيم الأول بين الدولة والمجتمع وهو ما ترجم بتعيين هيأة الإنصاف و المصالحة وتخويلها الحق في فتح ملف من أعقد وأخطر ملفات سنوات الجمر, تلك اللجنة التي وقفت على الخروقات الكبيرة بحقوق الإنسان التي عرفها المغرب وتمكنت تلك اللجنة ،التي حرص جلالة الملك على أن يكون أعضاؤها ممن كانوا ضحايا لتلك الخروقات ، من تحديد مسؤولية الدولة وتحديد التعويض المستحق لكل المتضررين.

التحكيم الثاني كان بين المجتمع والمجتمع، وذلك عندما عرضت حكومة التناوب خطة لتحسين وضع المرأة، فوقع تصادم في المجتمع ترجم كما عرف آنذاك بمسيرة الدار البيضاء في مواجهة مسيرة الرباط، فكان لتدخل جلالة الملك وعرضه لمدونة الأسرة لأول مرة للبرلمان، بما تضمنه من قواعد قانونية حصنت حقوق المرأة ومنحتها حقوقا جديدة دون إخلال بالقواعد الإسلامية الكلية السمحة ، الأثر الكبير في تجاوز اصطدام أريد له أن يكون داخل المجتمع.
التحكيم الثالث وهو ما بين الدولة والدولة، وهو المتمثل في دستور 2011 الذي أحدث قطيعة دستورية وسياسية مع المرحلة السابقة له في بناء الدولة.

وأريد أن أستبق أي تساؤل قد يثار حول ما وصفته أعلاه بالتحكيم الثالث، للقول بأن دستور 2011 وإن أحدث مؤسسة جديدة، وهي المجلس الأعلى للسلطة القضائية، ونص على مقتضيات دستورية جديدة, إلا أن تفاصيل القواعد المؤسسة لهذه المؤسسة لازالت تنتظر آلية أخرى، هي المؤهلة للدخول في التفاصيل من أجل إعمال صحيح وسليم ومقبول وضامن لاستقرار المؤسسات والمعاملات، ألا وهي القانونين التنظيمين للمجلس الأعلى للسلطة القضائية وللنظام الأساسي للقضاة.
غير أن الفكر الذي يجب أن يؤطر عملية وضع وسن وهندسة القوانين التنظيمية يجب أن لا يكون خارجا ، فيما ينتجه من قواعد، عن المجتمع الذي يريد أن يؤسس له تلك القواعد، وإنما لابد أن يقرأ قراءة صحيحة للتطور الذي عرفته النيابة العامة في المنظومة القانونية منذ الاستقلال إلى اليوم.

إن الجواب عن هذا السؤال المفترض، هو جواب التأسيس أيضا، أي أن البحث في دور النيابة في دستور سنة 2011 ليس بحثا في حصر اختصاصات النيابة العامة القانونية انطلاقا من نصوص قائمة. وإنما هو البحث في الأدوار المجتمعية الجديدة للنيابة العامة في ظل الدستور لسنة 2011.

ومهمة التأسيس، كيف ما كانت، لا يمكن أن تكون ناجعة وجامعة و بالطبع موفقة، ما لم تحتكم بالفكر الذي يشكل الأرضية التي يقف عليها أي بحث، وبالتالي أي تأسيس للأدوار المجتمعية للنيابة العامة في ظل الدستور الجديد.
بعد هذه المقدمة، سنحاول ملامسة إشكالية الأدوار المجتمعية للنيابة العامة من خلال طرح القضايا التالية :
1-كيف انتقلت النيابة العامة من الاستقلالية إلى التبعية.
2-النيابة العامة في الأنظمة القانونية والسياسية الأجنبية.
3-العرض القانوني والسياسي الذي يقدمه دستور 2011 لفهم جديد لأدوار النيابة العامة.
4- الإشكالات الكبرى التي تطرحها صياغة القواعد المتعلقة بالقضاء في دستور 2011
سنحاول، إذن، أن نلامس أجوبة وليس كل الأجوبة، للأسئلة أو الإشكالات التي تطرحها القضايا المشار إليها أعلاه، علما أن على الجميع أن يساهم بآرائه و أفكاره، إذ أن هذه المرحلة التي تمر منها بلادنا في حاجة ماسة لتعدد الآراء و الأفكار حتى يمكن للجميع أن يستفيد ليس فقط من أحسنها، و إنما جميعها ، إذ أن الآراء التي يمكن أن توصف بكونها غير حسنة فإنها تصلح ، في جميع الأحوال ، كأداة للمقارنة.

كيف انتقلت النيابة العامة من الاستقلالية إلى التبعية

إن النقاش أو التداول حول الوضع القانوني للنيابة العامة أمر يتعلق بالخوض في القواعد والمنطلقات المبدئية التي تدخل فيما يمكن اعتباره ثابتا.
بينما المتحول هو كل ما يتعلق بالأدوار المجتمعية الموكولة للنيابة العامة في وضع أوسن أو تدبير أو تنفيذ، حسب الحالات، للسياسة الجنائية أو السياسية القضائية بصفة عامة.
ذلك أن وضع أو تدبير أو تنفيذ السياسة الجنائية أو السياسة القضائية هو الذي يقرر في تحديد مدى الأدوار الموكولة للنيابة العامة لأن هذه الأدوار ليست محصورة في محاربة الجريمة فقط, لكنها مقررة كذلك في سياسة التنمية الاقتصادية والاجتماعية أي في السياسات المرتبطة والمؤثرة في الحياة اليومية للمواطن و في التحولات التي يعرفها المجتمع.
ومرد هذا الدور الفاعل في كل ذلك يرجع إلى كون النيابة العامة تملك استعمال العنف وهو العنف الذي يجب على الأفراد والجماعات أن يقبلوا به دون أن يسمح لهم بمقاومته، وهو ما يعرف بالعنف الشرعي.

فتشخيص هذا الواقع هو الذي سيمكننا من البحث عن أجوبة وليس جواب، لأشكال الوضع القانوني والدستوري النيابة العامة في المستقبل.
نحن نعلم بحكم التجربة وما نعايشه يوميا منذ بداية الاستقلال، أن أدوار واختصاصات النيابة العامة تتغير بقدر التحولات التي يعرفها المجتمع سياسيا واقتصاديا واجتماعيا. فأدوار واختصاصات النيابة العامة هي مؤشر على التحولات التي يعرفها المجتمع، كما قد تكون في بعض الأحيان فاعلا مؤثرا في تلك التحولات و ذلك التطور.
ويكفي أن أشير، حتى لا يظهر هذا الكلام فيه تعظيم لدور النيابة العامة، إلى أن هذه الأخيرة، كمؤسسة ليست فقط موجودة وحاضرة وفاعلة في القضايا المرتبطة بمحاربة الجريمة كالاعتداءات على الأشخاص أو الأموال أو الجرائم المنظمة كالإرهاب وغيره، بل هي حاضره ومؤثرة، كذلك، في قضايا الشركات وفي القضايا العقارية وقضايا المرأة والبورصة وغيرها من مجالات الحياة اليومية بل إن لدى وكيل الملك تم التصريح بالجمعيات وإصدار الجرائد والأحزاب.
فالسؤال القوي الذي يجب أن يطرح بل والذي يجب أن لا يكتفى بطرحه وإنما يجب البحث عن أجوبة له هو هل هذه المؤسسة هي مستقلة أم تابعة وإذا كانت تابعة، فلمن هي تابعة.وهل لا بد أن تملكها جهة ما؟
هذه، في تقديري، هي بعض الأسئلة والقضايا المهيكلة لفهم سليم للوضع القانوني للنيابة العامة في مرحلة التأسيس التي فرضها دستور 2011، علما أن عدم تقديم أجوبة عن هذا النوع من الأسئلة أو عدم تقديم أجوبة واضحة يجعلنا في منطق الغموض.
لكن، من المفيد الإشارة إلى أن منطق الغموض ليس، دائما، أمرا غير مقبول مجتمعيا وسياسيا, بل إن منطق الغموض قد يكون منطقا مقبولا لتدبير، وليس لتسيير، وضع صعب ومعقد، سواء كان تدبيرا سياسيا أو مجتمعيا لدور النيابة العامة. وهو ما سنتطرق له فيما بعد.
لكن، وفي جميع الأحوال، سنجد أنفسنا أمام سؤال مؤسس ثالث وهو:

من هي الجهة التي تملك تدبير منطق الغموض ?

الجواب عن هذا السؤال يستدعى البحث عن كيف عالجته الدول الديمقراطية قبلنا أي من يضع السياسة الجنائي.
في المجتمعات الغربية المبينة على قيم الحداثة والديمقراطية، عالجت هذا الإشكال بسن ما يعرف بالسياسة الجنائية أو السياسة القضائية، وهو التوجه الذي تقدمه السلطة التنفيذية و السياسية ، باعتبارها ممثلة للرأي العام و المنتخبة ديمقراطيا، و المسؤولة أمام البرلمان على العملية القضائية أو العدلية، كما تفعل بخصوص باقي القطاعات الأخرى الاقتصادية و الاجتماعية المرتبطة بالحياة اليومية للمواطن الذي تمثله، فهي، إي السلطة التنفيذية، في جميع الأقطار الديموقراطية لا تتخلى عن قطاع مهم قطاع العدل.
ففي دول مثل الدول الأوروبية عرفت نقاشا صعبا من أجل الوصول إلى جواب عن سؤال من يضع و يتحكم في وضع السياسة الجنائية ?.
و اسمحوا لي بان أعيد نقل ما سبق لي أن نشرته بخصوص هذه الإشكالية في جريد الاتحاد الاشتراكي في العدد 9794 بتاريخ 27/5/2011 في مقال تحت عنوان «القضاء كسلطة في دستور 2011»
إن محاولة الجواب عن الإشكال المشار إليه أعلاه فرض على الفكر الحقوقي والسياسي الأوروبي أن يجيب عن سؤال الذي لابد منه ألا وهو الفصل في الخلاف العام حول دور النيابة العامة في تدبير السياسة العدلية والجنائية بالنظر إلى الوضع القانوني للنيابة العامة في علاقتها مع السلطات التنفيذية وبالأولوية في علاقتها مع وزير العدل حسب التسلسل التراتبي والقانوني الذي يوجد فيه هذا الاخير .
هذه الازدواجية هي التي وقف عليها السيد أندري فيتو ANDRE VITU وهو أستاذ بكلية الحقوق بنانسي، عندما خلص إلى أننا هنا أمام مفهومين متناقضين لدور النيابة العامة في فرنسا، وهي الخضوع للتسلسل الإداري من جهة والحرية في الحركة أي في تحريك المتابعة أو حفظها من جهة أخرى.
وبهذه الفقرة يلخص الأستاذ VITU جوهر الإشكال المؤسسي الذي تعرفه دولة من أعرق الدول في الممارسة الديموقراطية والقضائية وهو إشكال يلقي بظلاله على النقاش الدائر حول الجهة المؤهلة شرعيا لوضع السياسة الجنائية والعدلية وهو الأمر الذي أكده، كذلك، البروفسور فرانسوا جاكو FRANCOIS JAQUOT عندما ذهب إلى القول أنه من الناحية التقنية والقانونية والسياسية، فإن موضوع الاستقلالية يدفعنا إلى الإنكباب على دراسة تطور الأنظمة وعلى هياكل الديموقراطيات وعلى العلاقة ما بين القانوني والسياسي وكذا على وضع السؤال حول الخريطة الكلاسيكية لنظمنا الديموقراطية.
ويستمر في نفس النهج ليذهب إلى أن غناء تلك الثقافة يبدأ من التحليل التقني لمؤسسات العدالة الجنائية لينتهي بتصورات دستورية وسياسية.
وبهذا يربط البروفسور JAQUOT ما بين السياسي والقانوني في جدلية دائمة تكون متضاربة أحيانا ومتنافسة أحيانا أخرى.
ونذهب إلى الأستاذة ميشال لوفر راسات MICHELLE LAVRE RASSAT وهي أستاذة مبرزة في جامعة باريس سبق أن أنجزت تقريرا حول إصلاح قانون المسطرة الجنائية، إلى أن النيابة العامة هي جهاز الربط ما بين السلطة التنفيذية والسلطة القضائية مكلفة بإسماع صوت الأولى لدى الثانية .
وتستمر في القول أن هذه الوضعية الغريبة للنيابة العامة هي نتيجة لخطأ تاريخي لرجال الثورة الفرنسية الذين لم يفهموا آنذاك جسامة الخطأ الذي سيرتكبونه وأثره على التحولات السياسية التي أنجزوها عندما حددوا الوضع القانوني للنيابة العامة وقرروا بأن ضباط النيابة العامة هم أعوان السلطة التنفيذية لدى المحاكم (الفصل 1 من الكتاب 8 من المرسوم 24-16 غشت 1790). ولقد كان دافعهم إلى ذلك يرجع إلى أنه قبل الثورة كان لهؤلاء الضباط «لقب أعوان الملك لدى المحاكم»
وتعلق الأستاذة RASSAT على موقف رجال الثورة بأنهم هم من غير اسم ضباط النيابة العامة من أعوان الملك لدى المحاكم إلى أعوان للسلطة التنفيذية لدى المحاكم.
وتضيف السيدة RASSAT أنهم لو تنبهوا إلى أن مفهوم أعوان الملك كان يعني الممثلين للسلطة السيادية POUVOIR SOUVERAIN و أنهم لو دققوا في الأمر لأعطوهم اسم ممثلي الأمة وليس ممثل السلطة التنفيذية .
وتذهب RASSAT للقول أن هذه التسمية خلقت وضعا مزدوجا للنيابة العامة باعتبارها ممثلة للأمة, ذلك أن الأمة يعبر عنها بطريقتين: إما عن طريق التصويت على القوانين من طرف ممثلي الشعب من جهة, أو عند اختيار الحكومة من جهة أخرى.
وبهذا يصبح ضابط النيابة العامة «خادم لسيدين مختلفينSERVEURE DE DEUX MAITRES DIFDERENTS.
والخلاصة التي انتهت إليها الأستاذة RASSAT هي أن فصل السلط لا يعني تجاهل السلطE SEPARATION DU POUVOIR N›EST PAS L›INGNORANCE DU POUVOIR
وتضيف أنه إذا كانت للحكومة الحق أن تسمع صوتها في قلب البرلمان الذي يتكون من ممثل الأمة, فإن من حقها أن تسمع صوتها للسلطة القضائية.
ويظهر أن هذه الخلاصة الفكرية واضحة و مؤسسة في الكلمة التي افتتح بها رئيس اللجنة البرلمانية الفرنسية التي استمعت لقاضي التحقيق الفرنسي في قضية ما عرف بقضية «دوترو» عندما واجه ذلك الرئيس قاضي التحقيق قبل بداية الجلسة بالقول ما معناه، قد يتساءل البعض لماذا تتدخل السلطة التشريعية في السلطة القضائية، ويجيب رئيس اللجنة عن السؤال الذي وضعه وهو يتوجه إلى قاضي التحقيق، إذا كنت أنت بصفتك قاضيا تحكم باسم الشعب الفرنسي فأنا أمثل الشعب الفرنسي ….
وإذا كان هذا النقاش في فرنسا استطاع أن يصل إلى هذا النوع من التوافق في الرأي حول إشكالية دور النيابة العامة في علاقتها مع السلطة التنفيذية والسلطة القضائية, فإن الوضع في بلجيكا لم يختلف بشكل كبير.
ذلك أن الدستور البلجيكي في الباب المتعلق بالنيابة العامة كان مشروع الفصل 137 منه ينص على ما يلي:
«النيابة العامة تمثل الجهاز التنفيذي في المجال الترابي لمحكمة «الإستئناف …
وبعد النقاش الذي دار حول ذلك الفصل, تم التراجع عن الصيغة المشار إليها أعلاه وعوضت بصيغة عامة خضعت هي كذلك لمبدأ التوافق وعدم الحسم بل و تدبير الغموض وأصبح الفصل 137 من دستور 1830 يقول أن النيابة العامة تقوم بأدوار تلقائية في المجال الترابي لمحكمة الاستئناف والمحاكم، لكنه , أي الدستور احتفظ في الفصل 153 منه للملك بالحق في تعيين القضاة وعزلهم بشكل يحدده ، بشكل واضح، الوضع الدستوري للقاضي في بلجيكا.
وانطلاقا من هذا الوضع تقول السيدة كريستين دوربن جاكوب CRISTINE DERENNE JACOBS وهي محامية وأستاذة بكلية الحقوق بلييج ببلجيكا، أن وزير العدل لا يمكنه أن يحل محل النيابة العامة في تحريك الدعوى العمومية، وأن تقاليد الاستقلالية هذه وصلت إلى حد منازعة وزير العدل في حقه في وضع خطوط للسياسة العدلية على اعتبار أنها سياسة قضائية تدخل في اختصاص السلطة القضائية وليس السلطة التنفيذية.
غير أن التحولات التي عرفها العالم بعد سقوط الإتحاد السوفياتي ونظرا لتحكم قطب وحيد في السياسة الدولية وكذا بروز ظاهرة الإرهاب كعنف جديد سيؤثر في إعادة صياغة نسق قانوني ومؤسساتي مختلف في اتجاه الحد من مجال تدخل السلطات القضائية لفائدة تدعيم تدخل السلطات التنفيذية.

وتقول الأستاذةASSAT في هذا الصدد أن تقرير لجنة التحقيق البرلمانية المؤرخ في30-04-1990 المتعلق بالإرهاب والجريمة قد قدم نظرة جديدة ونقدية بصفة خاصة للوضعية الحالية معلنا انعدام وجود سياسة جنائية حقيقية وغياب المراقبة على النيابة العامة.
كما خلصت اللجنة إلى أن السياسات العامة المتعلقة بالأبحاث والمتابعات هي من مسؤولية الحكومة وعلى الخصوص وزير العدل، والتي يجب أن تكون مراقبة من قبل البرلمان, وعلى وزير العدل انطلاقا من توجهات عامة أن يحدد للنيابة العامة الخطوط الموجهة للسياسة الجنائية، وأنه يتحمل المسؤولية السياسية لذلك أمام البرلمان, بينما تطبيق هذه الخطوط الموجهة يرجع إلى النيابة التي أعطاها القانون مهمة تحريك المتابعات, بينما وزير العدل يراقب حسن تطبيق تلك التوجهات .
وعندما تنتقل إلى ألمانيا سنلاحظ أن نفس النقاش, بل وحتى الخلاصات التي انتهى اليها الفكر السياسي هي متشابهة مع النقاش و الخلاصات المشار إليها أعلاه, إذ يقول البروفسور هايك جانك HEIKE JUNG وهو أستاذ للقانون الجنائي في كلية الحقوق في ألمانيا، أن النيابة العامة يمكن أن تتوصل بتعليمات تتعلق بالتعامل الخاص مع قضية، وكذا السياسة الجنائية العامة, هذه التعليمات يمكن أن تكون داخلية كما يمكن أن تكون خارجية صادرة عن وزير العدل.
وعندما نطالع التقرير الذي أنجزه المجلس الوطني الفرنسي «البرلمان» المؤرخ في 18-06-1999 نلاحظ أنه أشار إلى أن لجنة TRUCHE قدمت توصيات إلى وزير العدل تدور حول الإشكالية التي نحن بصددها إذ جاء في تلك التوجهات، أن وزير العدل هو الذي يحدد علنيا التوجهات العامة لسياسة الدعوى العمومية , و لكن لا يمكنه إعطاء تعليمات للوكلاء العامين في قضايا خاصة، لكنه يمكنه التحاور DIALOGUER معهم بخصوص هذه الملفات كما يمكنه اللجوء إلى جميع الأجهزة القضائية وأن يبلغها ملاحظاته عن طريق قاضي أم محام عام.
كما نقرأ في تقرير لجنة القوانين، أنه من المشروع والضروري أن الحكومة تحت مراقبة البرلمان تحدد المبادئ الموجهة للسياسة الجنائية, وأن وزير العدل يخبر النيابة العامة بهذه التوجيهات قبل العمل على تطبيقها.
وان هذه الفكر القانوني و السياسي سنجد أنه هو الذي حكم التعديل الأخير للدستور الفرنسي الذي قدمه الرئيس ساركوزي سنة 2008 والذي أبقى على وزير العدل ضمن أعضاء المجلس الأعلى للقضاء.
هكذا نلاحظ أن النقاش حول من هي الجهة المؤهلة لوضع السياسة العدلية والجنائية, هل هي السلطة التنفيذية, أم السلطة القضائية, أنه قد حسم لفائدة الأولى. أن هذا التوجه نجح بفضل استناده إلى مصدر الشرعية و السلطة أي إلى مصدر السيادة الذي هو للأمة.
وبما أن الحكومات في الدول المشار إليها أعلاه هي الممثلة للأغلبية البرلمانية، وبما أن البرلمان هو الممثل الشرعي لأفراد المجتمع، فإنه من المنطق الدستوري أن تتحمل السلطة التنفيذية مسؤولية وضع السياسة المناسبة والعدلية لتحاسب عليها أمام البرلمان. أي أمام ممثلي الأمة .
ويتبين من هذا النقاش أن التوجه انتهى إلى كون السلطة التنفيذية هي المكلفة و المسؤولة على وضع السياسة الجنائية لأنها هي التي ستسأل عنها أمام ممثلي الأمة.

فما هو الوضع اليوم بالمغرب ?
إن المغرب، من جانبه، وإعمالا لمنطق الغموض المتحدث عليه سابقا، أو تدبير الغموض كآلية من آليات التدبير السياسي والمجتمعي بصفة عامة نص في المادة 51 من قانون المسطرة الجنائية على أن وزير العدل يشرف على تنفيذ السياسة الجنائية، بينما لا يوجد أي نص يتكلم عن من يضع هذه السياسة الجنائية.
فهذه المادة أتت لتؤشر على التحول الذي ستعرفه النيابة العامة من وضع الاستقلال إلى وضع التبعية لكن بدون أن يعلن عن ذلك صراحة، أي باستعمال آلية الغموض المتحدث عنها سابقا.
ومن أجل توضيح أكثر للتحول الذي عرفته النيابة العامة في علاقتها مع الاستقلالية، لابد من الرجوع إلى قانون المسطرة الجنائية لسنة 1959.
ذلك أن قواعد المسطرة الجنائية في الجانب المتعلق بالوضع القانوني للنيابة العامة أن هذه الأخيرة كانت بالفعل من الناحية القانونية ، مستقلة عن السلطة التنفيذية.
وتبين ذلك الاستقلال القانوني من كون أعلى سلطة ترأس النيابة العامة كانت هي وكيل الملك بصفته ضابط سامي للشرطة القضائية.
وفي قانون المسطرة الجنائية لسنة 1959 لم يكن وكيل الملك الذي كان يتمتع وحده بصفة ضابط الشرطة رئيسا تسلسليا لنوابه الذين كانوا يتمتعون هم بنفس الاستقلال القانوني، الذي كان للقضاء الأحكام.
هذا الوضع القانوني سيتغير بمقتضى المسطرة الجنائية لسنة 2002 ومؤشر ذلك التغير هو أمرين :
1- ان هذا القانون يعطي للوكيل العام صفة ضابط سامي للشرطة القضائية لأول مرة في تاريخ المغرب طبقا للمادة 19 من قانون المسطرة الجنائية .
2- أن الوكيل العام سيصبح سلطة تسلسلية و رئاسية لكل قضاة النيابة العامة بمن فيهم وكيل الملك طبقا للمادة 49 من قانون المسطرة الجنائية.
3- أن وكيل الملك سيصبح هو كذلك سلطة تسلسلية رئاسية بالنسبة لنوابه طبقا للمادة 39 من قانون المسطرة الجنائية .
هذه التعديلات في الوضع القانوني لوكلاء الملك التي ادخلها قانون المسطرة الجنائية لسنة 2002 ستتوج بسن القاعدة المذكورة في المادة 51 التي ستتكلم بصفة صريحة عن العلاقة بين النيابة العامة والسلطة التنفيذية وسيذكر دور وزير العدل كحلقة وصل بين السلطة التنفيذية والنيابة العامة.
الانتقال النوعي الآخر الذي سيعرفه الوضع القانوني للنيابة العامة هو ما أتى به دستور 2011 الذي تحول نوعيا ومؤسسيا للوضع القانوني للنيابة العامة وذلك من خلال 3 فصول وهي الفصل 108 والفصل 110 والفصل 116.
ذلك أنه بالإضافة إلى أن الفصل 110 و 116 تحدثا عن سلطة ستتبعها النيابة العامة، إلا أن انعدام استقلال النيابة العامة سيظهر أكثر في الفصل 108 الذي سمح بعزل ونقل في قضاة النيابة العامة خلافا لقضاة الأحكام فقط. وهو ما يعني أن المشرع الدستوري ميز بين قضاة الأحكام و أعطاهم حصانة ضد العزل و الانتقال بينما لم يمدد تلك الحصانة الى قضاة النيابة العامة.
ومن المعلوم، وفي جميع القوانين في الدول الديموقراطية، إن المؤشر على استقلال القضاء، هو حصانتهم ضد العزل و الانتقال، فعندما يحصر دستور 2011 هذا الحق في قضاة الحكم, فإنه بذلك يقصد أن قضاة النيابة العامة قابلون للعزل وللنقل وليست لديهم أية حصانة من ذلك.
هذا الوضع القانوني والدستوري أصبح واضحا اليوم، وهو نهاية لمسار أو لتطور أو لتحول الوضع القانوني للنيابة العامة في بنيان الدولة والذي انتقل، كما سبق بيانه، من الاستقلالية إلى التبعية.
لكن السؤال الذي يحتاج اليوم إلى جواب هو من هي السلطة التي تتبع لها النيابة العامة؟.
إن محاولة الجواب عن هذا السؤال ترجعنا إلى التصادم الذي وقع بين وزير العدل ووكيل الملك، والذي من المفيد وضع التساؤل التالي حوله هل هو تصادم فكري، أي تصادم في وجهات، أم أنه تصادم مؤسساتي.
في تقديري أن الأمر لا يخرج عن كونه تصادم فكري أي تصادم في وجهات نظر قد ننتصر لهذا أو ذاك حسب المنطق الذي قد ينخرط فيه.
لكن، قبل الجواب عن هذا التساؤل لابد أن نستحضر ما أشير إليه أعلاه من كون الحديث عن النيابة العامة هو حديث في صلب بناء الدولة وهنا توزعت الآراء حول من هي «السلطة» المتحدث عنها في الفصل 110 و 116 من الدستور هل هي السلطة التنفيذية، أم هي السلطة القضائية.
ذلك أن الأدوار الموكولة للنيابة العامة هي التي ستحدد لنا السلطة التي ستتبع لها.
وكما هو معلوم فإن الدول الديمقراطية تعرف نوعين من أنظمة الاتهام: أمام نظام الاتهام المبني على الملاءمة، أو نظام الاتهام المبني على الشرعية.
علما أن النظام الأول يتيح للنيابة العامة أن تقرر عدم فتح المتابعة ضد شخص معين حتى ولو ارتكب فعلا مخالفا للقانون الجنائي لاعتبارات سياسية او اجتماعية أو دولية.
بينما نظام الاتهام المبني على الشرعية أو قانونية المتابعة, فهو يلزم النيابة العامة بأن تفتح المتابعة ضد كل من يخالف القانون بغض النظر صفة المعني بالأمر أو هويته أو الجهة التي ينتمي إليها.
والمغرب اختار ، إلى حدود اليوم، إعمال نظام الاتهام المبني على الملاءمة وهو النظام الذي يتيح للنيابة العامة إمكانيات واسعة لتحريك الدعوى العمومية أو عدم تحريكها، وهو ما يترجمه الفصل 40 من قانون المسطرة الجنائية التي تعطي لوكيل الملك أن تتخذ في الشكايات ما تراه ملائما والذي يعطيه الحق في حفظ الشكاية والتراجع عن قرار الحفظ، دون أن يكون قراره مراقبا من جهة ما أو قابلا للطعن.
فالنتيجة القانونية والملزمة هي أن سلطات وكيل الملك في إقامته وممارسته للدعوى أو العمومية أو عند اتخاذ أي قرار بشأنها هي سلطة غير خاضعة لأي مراقبة وغير قابلة لأي طعن وهو ما يتأكد من نص الفصل 38 من قانون المسطرة الجنائية الصادر سنة 1959 الذي يعطي لوكيل الملك الحق في المتابعة أو عدمها، بدون أن يكون ملزما بتعليل ذلك وبدون أن يكون ذلك القرار قابل للطعن.
بل إن الفصل 36 من نفس القانون أكد على نظام الاتهام المبني على الملاءمة عندما أعطى للنيابة العامة بالرغم من توصلها بتعليمات وزير العدل الحق في بسط ملاحظاتها بكل حرية لما تراه مفيدا للعدالة.
وحيث أن وضع الاستقلالية التي كانت عليه النيابة العامة في قانون المسطرة الجنائية لسنة 1959 سيتقلص مع التطور السياسي الذي سيعرفه المغرب وسيبدأ مسلسل التقليص من إحداث مبدأ التسلسل الرئاسي بين إعطاء النيابة العامة، أي سيصبح وكيل الملك يمارس سلطة عن نوابه كما تنص على ذلك الفقرة الثانية من المادة 39 التي لم تكن موجودة في الفصل 37 من قانون المسطرة الجنائية لسنة 1959 كما فصلناه اعلاه.
وهكذا ستخرج النيابة العامة من حالة الاستقلالية التي عرفتها في إطار قانون المسطرة لسنة 1959 لتنتقل إلى نظام التسلسل الرئاسي الذي يوجد في أعلى هرمه الوكيل العام للملك في قانون المسطرة الجنائية الحالي.
وليس غريبا أن التعديلات التي أدخلها قانون المسطرة الجنائية لسنة 2002 على الوضع القانوني للنيابة وذلك بنقلها من وضع الاستقلالية إلى وضع التسلسل الرئاسي ستتوج بسن القاعدة المنصوص عليها في الفصل 51 من قانون المسطرة.
ومن المفيد، من أجل فهم أعمق للوضع القانوني للنيابة العامة أن نقف عند صياغة ومضمون المادة 51 من قانون المسطرة الجنائية لسنة 2002 ومقارنتها مع الفصل 48 من قانون المسطرة الجنائية لسنة 1959.
ذلك أن الفصل 48 من قانون المسطرة الجنائية لسنة 1959 ينص على ما يلي:
«يمكن لوزير العدل أن يبلغ إلى رئيس النيابة العامة ما يصل إلى علمه من مخالفات «للقانون الجنائي وتأمره أن يتابع أو يكلف من يتابع مرتكبيها أو يأمره بأن يرفع «كتابة إلى المحكمة المختصة ما يراه الوزير ملائما من التماسات.
بينما تنص المادة 51 من قانون المسطرة الجنائية لسنة 2002، على ما يلي:
«يتشرف وزير العدل على تنفيذ السياسة الجنائية ويبلغها إلى الوكلاء العامين للملك «الذي يسهرون على تطبيقها وله أن يبلغ إلى الوكيل العام ما يصل إلى علمه من «مخالفات للقانون الجنائي وأن يأمر كتابة بمتابعة مرتكبيها أو يكلف من يقوم بذلك «أو أن يرفع إلى المحكمة المختصة ما يراه الوزير ملائما من ملتمسات كتابة.
ويظهر بكل وضوح أن الفرق بين الفصلين هو الفقرة الأولى المضافة في المادة 51 من قانون المسطرة الجنائية لسنة 2002 والتي أوضح بواسطتها المشرع لأول مرة، أن هناك سياسة جنائية وأن من يشرف على تنفيذها هو وزير العدل الذي يبلغها للوكيل العام قصد تطبيقها.
لكن، الفرق بين الفصلين لا يظهر فقط في الفقرة المضافة ولكن يظهر في بروز بذور التسلسل الرئاسي بين وزير العدل والوكيل العام المتجلي في أن الوكيل العام مهمته هي تطبيق السياسة الجنائية و لم ينص الفصل على أي إمكانية لعدم تطبيقها وهكذا يظهر أن قانون المسطرة الجنائية لسنة 2002 أقر نظاما رئاسيا يوجد على رأسه وزير العدل وأسفل الهرم يوجد الوكيل العام وبعده يوجد وكيل الملك كرئيس لنوابه.
عندما نقف عند هذا المعطى, أي أن النظام القانوني للنيابة العامة كما سنه وأقره قانون المسطرة الجنائية، هو نظام تسلسلي و رئاسي فإن النيابة العامة تكون قد فقدت استقلاليتها التي كانت لها في قانون المسطرة الجنائية لسنة 1959.
هذا الوضع القانوني يدفعنا الى وضع السؤال التالي, هل نظام التسلسل الرئاسي هذا موجود في نص آخر غير قانون المسطرة الجنائية أم لا.
عندما نعود إلى الفصل 110 و الفصل 116 من الدستور نجد أن كلمة التسلسل الرئاسي مذكورة فيهما معا، لكن باللغة الفرنسية وليست بالصيغة العربية. إذ تنص الفقرة الثانية من الفصل 110 من الدستور بالفرنسية على ما يلي:
Les magistrats du parquet sont tenus à l›application de la loi et doivent se conformer aux l›instruction écrites, conforme à la loi de l›autorité émanant de l?autorité hiérarchique.
وتنص الفقرة الثانية من الفصل 116 من الدستور بالفرنسية على ما يلي:
Dans les affaires concernant les magistrats du parquet, le Conseil supérieure du pouvoir judiciaire prend en considérations les rapports d›évaluation établis par l›autorité hiérarchique dont ils relèvent.

غير أن الصيغة التي استعملت في الدستور باللغة العربية لم تستعمل كلمة السلطة الرئاسية كترجمة لكلمة «›autorité hiérarchique.» وإنما استعملت كلمة أخرى و هي كلمة « السلطة التي تتبع لها».
إن الجواب عن سؤال أي استقلالية للنيابة العامة هو قابع في ثنايا :
1-النظام الرئاسي الذي سنته قواعد المسطرة الجنائية و الذي أضفى عليه الدستور صفة القاعدة الدستورية الملزمة للجميع وفقا للفقرة 3 من الفصل 6 من الدستور التي تنص على أن القواعد القانونية و تراتبيتها تعتبر دستورية و هي ملزمة للجميع.
2-الصياغة التي اختارها المشرع الدستوري للفصل 110 و 116 وعلى الخصوص الصيغة بالفرنسية.
3- نظام الاتهام المختار و المطبق في المغرب.

الخلاصة:

ليكتمل هذا العرض لابد من الإشارة إلى المعطيات التالية:
1-إن القوانين التي ستنظم السلطة القضائية وتنظم النظام الأساسي للقضاء ليست قوانين عادية وإنما هي قوانين تنظيمية علما أن القوانين التنظيمية هي مكملة للدستور.
2-إن القواعد الدستورية لا تخضع ولا يجب أن تتحكم فيها أغلبية برلمانية كيف ما كانت، وإنما القواعد الدستورية هي نتاج لتوافق مجتمعي يؤخذ فيها رأي الجميع إعمالا لمبدأ التشاركية المنصوص عليه في الفصل 1 من الدستور.
3-إن القوانين التنظيمية هي من الالتزامات التي تقع على الحكومة وعلى البرلمان في نهاية المطاف مما يلزمها أن لا تتجاهل ما اشرنا إليه في الفقرة 1و2 أعلاه .
4-إن الدستور 2001 ، وهو غير دستور 1996 فيما يخص علاقة سلطات الملك مع القضاة، ذلك أن الملك كان في دستور 1996 هو من يعين القضاة بظهير وهو من يعزلهم بظهير. لكن دستور 2001 أعطى للمجلس الأعلى السلطة القضائية احتكار تعيين القضاة بينما سلطات جلالة الملك حصرها المشرع الدستوري في الموافقة على ذلك التعيين كما إن العزل هو كذلك أصبح من اختصاص المجلس الأعلى للسلطة القضائية كدرجة أولى ومحكمة النقض، كدرجة ثانية.
إنه لا يوجد في نص دستور 2011 ما يجعل تعيين رئيس محكمة النقض أو تعيين الوكيل للملك بها خارج اختصاص المجلس الأعلى للسلطة القضائية و خارج ما ينص عليه الفصل 113 من الدستور التي حصرت سلطات الملك في الموافقة على التعيين.
وأعتقد أنه إذا كان الأمر يتعلق بفراغ, فلابد من تداركه عن طريق تدبير حكيم يتناوله القانون التنظيمي المنتظر و إذا كان الأمر إرادة واعية للمشرع الدستوري فإن القواعد المشار اليها أعلاه هي إذن واضحة
5- ان نفس الدستور الذي أعطى اختصاص تعيين كل القضاة من كل الدرجات للمجلس الأعلى للسلطة القضائية وفقا للفصل 113 منه هو نفسه ، أي الدستور، الذي أسند بصفة حصرية لجلالة الملك سلطة تعيين كل الوزراء ومنهم وزير العدل ، بعدما سجل تطورا تاريخيا بالتخلي عن الوصف الذي كان يلصق بوزارات السيادة، و ذلك وفقا للفصل 47 من الدستور, علما ، وهذا آمر مهم أن ظهائر تعيين الوزراء لا توقع بالعطف وفقا للفقرة الأخيرة من الفصل 42 من الدستور. و هذا يعني أن تعيين الوزراء هو اختصاص حصري لجلالة الملك لا يشاركه فيه أي سلطة أخرى.
6- إن القانون التنظيمي الذي سيحدد السلطة التي ستتبع لها النيابة العامة لا بد أن يحترم، باعتباره نصا مكملا للدستور، الفقرة الثانية من الفصل 1 من الدستور التي أقرت و سنت المبدأ الدستوري القائل بربط المسؤولية بالمحاسبة في تحديد السلطة التي ستتبع لها النيابة العامة. أي أن تؤسس لهذه السلطة التي سيتم تحديدها ، كيفية محاسبتها و الجهة المؤهلة دستوريا و قانونا لذلك ، حتى يحافظ على مبدأ توازن السلط و وتعاونها المنصوص عليه في نفس الفصل.
7- إن القانونين التنظيميين اللذين على الحكومة إخراجهما للوجود ، علما أنها تأخرت في ذلك ، يجب أن يقدما أجوبة عن عدة إشكالات طرحها إما صياغة الدستور أو المشرع الدستوري نفسه و منها :

السؤال الأول:
يتعلق بالصيغة التي أتى بها الفصل 115 من دستور2011 الذي يتكلم على أن الملك يترأس المجلس الأعلى للسلطة القضائية من جهة ويتكلم عن تأليف ذلك المجلس من جهة أخرى بدون أن يشير إلى أن الملك جزء من ذلك التأليف، خلافا لما كان عليه الفصل 86 من دستور 1996 الذي كان ينص على ما يلي:
«يترأس الملك المجلس الأعلى للقضاء ويتألف هذا المجلس، بالإضافة «إلى رئيسه من………
فصيغة «بالإضافة إلى رئيسه» تخلى عنها دستور 2011 فهل الأمر يتعلق بسهو أو خطأ في الطباعة ، وهو أمر جد مستبعد بالنظر إلى المبدأ، أن لا يتصور في المشرع الدستوري مثل ذلك، وبالنظر، لواقع وهو أن اللجنة المكلفة بصياغة دستور 2011 كانت من خيرة أبناء هذا الوطن.
فهذا الوضع الدستوري الذي خلقته المقابلة بين صياغة الفصل 86 من دستور 1996 وصياغة الفصل 115 من دستور 2011 يطرح على واضعي القانون التنظيمي للمجلس الأعلى للسلطة القضائية مسؤولة توضيح إرادة المشرع الدستوري باعتبار، كما هو معلوم، أن القوانين المنظمة هي تكمل الدستور.

السؤال الثاني:
ما هو مفهوم وحدود وامتدادات سلطة الرئيس الأول لمحكمة النقض كرئيس منتدب، أي ماذا تعني كلمة رئيس منتدب، علما أننا نحن أمام انتداب نص عليه الدستور، فهو انتداب دستوري، ليس لا قانوني ولا نابع من تعيين من جهة معينة وهو ما أراده الدستور.
علما أن وزير العدل في دستور 1996 لم يكن له صفة رئيس منتدب، وإنما كان نائبا للرئيس الذي كان هو الملك حسب ما كان ينص عليه الفصل 86.
فالقانون التنظيمي المنتظر عليه أن يفسر المقصود بالرئيس منتدب و تحديد اختصاصاته وعلاقته مع الرئيس الدستوري للمجلس الأعلى للسلطة القضائية الذي هو الملك، من جهة، وفي علاقته مع باقي أعضاء المجلس من جهة أخرى.

السؤال الثالث:
كما سبق تفصيله أعلاه بخصوص المسافة التي أحدثها دستور 2011 بين سلطات جلالة الملك، وسلطات المجلس الأعلى للسلطة القضائية يبرز سؤال له أهمية تتمثل في تعيين رئيس الأول لمحكمة النقض الذي يصبح بقوة الدستور هو الرئيس المنتدب للمجلس الأعلى للسلطة القضائية.
إن مبرر طرح هذا السؤال هو التحويل الذي حمله صياغة الفصل 113 من دستور 2011 بالمقارنة مع صياغة الفصل 87 من دستور 1996.
ذلك أن الفصل 87 من دستور 1996 حصر مهمة المجلس الأعلى للقضاء في الترقية والتأديب، ولم يعطه صلاحية تعيين القضاة التي احتفظ بها داخل المجال الخاص للملك.
بينما التحول الذي أحدثه صياغة الفصل 57 هو المتمثل في كون:
-أن الفصل 57 أصبح ينص على أن الملك لم يعد يعين القضاة بظهير وإنما أصبح يوافق « Approuve» على تعيينهم بظهير.
ب-أن صياغة الفصل 113 نصت بكل وضوح أن المجلس الأعلى للسلطة القضائية هو الذي يعين القضاء بالإضافة إلى باقي المهام الأخرى.
فإذا كان اختصاص تعيين القضاة، بدون أي استثناء، يعود إلى المجلس الأعلى للسلطة القضائية، فإن ذلك يعني أن هذا المجلس هو الذي سيعين الرئيس الأول لمحكمة النقض، وبالتالي هو الذي سيعين الرئيس المنتدب للمجلس الأعلى للسلطة القضائية، مما يطرح السؤال حول كيف ستكون العلاقة بين الرئيس المنتدب دستوريا، للمجلس الأعلى للسلطة القضائية مع الرئيس الدستوري للمجلس الأعلى للسلطة القضائية الذي هو جلالة الملك وفقا للفصل 59 من الدستور.

السؤال الرابع:
يطرح المقابلة بين صياغة 108 باللغة العربية وصياغتها باللغة الفرنسية. ذلك أن الفصل 108 باللغة العربية تنص على ما يلي:
لا يعزل قضاة الأحكام ولا يتنقلون إلا بمقتضى القانون.
بينما النص الفرنسي لنفس الفصل ينص فقط على أن قضاة الأحكام لا يمكن نقلهم.
Les juges du siège sont inamovibles.
أي لا وجود لأي إمكانية لنقله ، بينما أضيف في الصياغة العربية إمكانية عزله و نقله بمقتضى القانون، وهي إضافة غير مفهومة, أي كيف يعزل القضاة ويتنقلون بمقتضى القانون، هل ذلك يعني أنه عندما نريد عزل أو نقل قاضي يجب أن يصدر قانونا بذلك ؟
قد يظهر أن هذا التساؤل مثير للاستغراب, لكن عندما نعلم أن النظام الأساسي للقضاة سيتم سنه ليس بقانون، وإنما بقانون تنظيمي. فإن كلمة « قانون» الواردة في ذلك الفصل تصبح بدون معنى.

السؤال الخامس:
وهو كذلك مرتبط بمفهوم استقلال القضاء في دستور 2011، وهو سؤال تطرحه صياغة الفقرة الأخيرة من الفصل 115 التي تنص على:
«خمس شخصيات يعينها الملك مشهود لها بالكفاءة والتجرد والنزاهة والعطاء «المتميز في سبيل استقلال وسيادة القانون من بينهم عضو يقترحه الأمين العام «للمجلس الأعلى.
وإذا كان معلوما أن الملك يمارس اختصاصات يخولها له الدستور بمقتضى ظهائر وفقا للفقرة 3 من الفصل 42 من الدستور، فإن ذلك يعني أن الشخصيات التي سيعينها جلالة الملك سيتم بواسطة ظهير.
لكن، بالرجوع إلى الفقرة الأخيرة من الفصل 42 سيلاحظ أن الظهائر التي يصدرها جلالة الملك، والتي لا توقع بالعطف من قبل رئيس الحكومة لا يوجد من بينها الفصل 115، وهو ما يعني أن الظهائر التي سيعين بها الملك الشخصيات الخمس المكونة للمجلس الأعلى للسلطة القضائية ستوقع بالعطف من طرف رئيس الحكومة. و هذا التوقيع بالعطف يطرح سؤال استقلال السلطة القضائية عن السلطة التنفيذية.
إن نجاح الحوار الجاري اليوم حول القضاء موقوف على قدرة الحكومة الحالية على تقديم قوانين تنظيمية محكمة من أجل تطبيق سليم لدستور 2011. و على قدرة البرلمان على العمل و الاجتهاد لمساعدتها على ذلك و الجواب عن الإشكالات الدستورية المشار إليها أعلاه و غيرها .
عرض قدم في الندوة الرابعة المنظمة بإشراف عبد الكبير طبيح بمحكمة الاسيناف بالبيضاء في 22-02-2013