اتفاقية التحكيم والنظرية التعاقدية

سعيد بن ناصر الحريسن
اتفاقية التحكيم، كما جاء تعريفها في المادة (7) من قانون اليونسترال للتحكيم، بأنها: اتفاق بين الطرفين على ان يحيلا الى التحكيم جميع او بعض المنازعات المحدودة التي نشأت او قد تنشأ بينهما علاقة قانونية محدودة، تعاقدية كانت او غير تعاقدية.

فيحدد من خلال هذا الاتفاق «هيئة للتحكيم» يعرض عليها النزاعات التي قد تنشأ على اثر تطبيق العقد.

ويمكن القول ان هيئة التحكيم هي: مجموعة افراد من ذوي الخبرة، او مركز تحكيمي معين، يتم تحديدهم في اتفاقية التحكيم او شرطه، بأن يعرض النزاع امامهم وفقاً للقانون المعتمد في مركز التحكيم.

وهنا تساؤل: هل يشترط لهيئة التحكيم عدد معين؟

ألمحت الفقرة (2) من المادة (10) من قانون اليونسترال للتحكيم، ان اقل عدد للمحكمين ثلاثة محكمين.

مع انه يجوز لأطراف النزاع ان يتفقوا على ان يكون التحكيم من قبل محكم واحد. فقد جاء في الفقرة (3/ب) من المادة (11) من نفس القانون ما يقرر جواز ذلك، وأنه اذا لم يستطع الطرفان الاتفاق عليه، فإنه يعين من قبل السلطة المختصة، بناء على طلب من احدهما.

وإذا شكلت هيئة التحكيم من ثلاثة محكمين، وجب على كلا الطرفين ان يقوم كل واحد منهما بتعيين محكم واحد من جهته. ثم يقوم هذان المحكمان بدورهما بتعيين محكم ثالث، وقد تناولت ذلك الفقرة (3/أ) من المادة السابقة، اضافة الى انها عالجت مسألة عدم قيام احد الاطراف او أحد المحكمين بتعيين المحكم الموكل اليه تعيينه، بنصها التالي: وإذا لم يقم احد الطرفين بتعيين المحكم خلال ثلاثين يوماً من تسلمه طلباً بذلك من الطرف الآخر، او اذا لم يتفق المحكمان على محكم ثالث خلال ثلاثين يوماً من تعيينهما، وجب ان تقوم المحكمة او السلطة المختصة بتعيينه بناء على طلب من احد الطرفين.

وأقول: انه من الملاحظ ان اغلب انظمة وقوانين التحكيم تستعمل مصطلح (هيئة التحكيم) ومعروف ان كلمة «هيئة» مشعرة على باجتماع اكثر من شخص وفق نظام معين للقيام بعمل محدد، مثل كلمة «لجنة»، وبذلك يكون الأصل في عدد للمحكمين هو أقل الجمع وهو (ثلاثة)، مع ملاحظة انه يجوز للأطراف مخالفة هذا الأصل، والاتفاق على محكم واحد، وقد اجاز القانون لهم ذلك، لكن اذا لم يتفقوا على تحديده كان عددهم ثلاثة استناداً لما حدده قانون اليونسترال للتحكيم، وهذا الذي اخذت به اغلب قوانين وأنظمة التحكيم العالمية، ولوائح العمل في مراكز التحكيم الدولية والإقليمية. ولكن الأقرب في نزاعات العقود الدولية والداخلية في الوقت الحاضر، ان تعرض على هيئة تحكيمية؛ لكون اطراف النزاع قد سلكوا بنزاعهم هذا الطريق البديل رغبة في حصولهم على قرار ملزم انعقد برضا الأطراف وبصورة بعيدة عن الروتينية والتطويل في الإجراءات القضائية. ولعل قرار هيئة تحكيمية في الغالب الأعم يكون له جانب كبير من الاطمئنان النفسي عن قرار المحكم الفرد.

ولما كان التحكيم «طريقاً قضائياً بديلاً» والمحكم فيه شخص عادي يقوم بتنفيذ عملية التحكيم (كبديل عن القاضي من غير اكتساب صفته)، ومن المعلوم بداهة انه ليس كل احد يستطيع القيام بهذا الدور، بل لابد ان تتوافر فيه شروط معينة هي الشروط التي حددها الفقهاء – رحمهم الله – فيمن يتولى القضاء، وزادوا شرطاً عليها في شروط المحكم، فقالوا: لابد ان يكون معلوماً لدى طرفي النزاع، فلا يكون معلوماً عند احدهما دون الآخر، والعلم مرتبط بالرضا به وقبوله للتحكيم.

لكن هنا تساؤل يثار من خلال العرض لشروط المحكم: فهل يمنع الشخص من اختياره كمحكم في نزاع معين بسبب جنسيته.

عالجت المادة (11/1) من القانون السابق هذه المسألة فنصت على انه: لا يمنع اي شخص من العمل كمحكم بسبب جنسيته، مالم يتفق الطرفان على خلاف ذلك.

ومن وجهة نظري: قد يكون الاتفاق من طرفي النزاع على جعل التحكيم وطنياً، لكون النزاع متعلقاً بعقد تجاري داخلي، واتفق اطرافه على تعيين محكم من نفس جنسيتهم، فإن اتفق اطراف النزاع على اسناد مهمة التحكيم لمركز تحكيمي معين، فليس لهم حق الاعتراض على جنسية احد افراد هيئة التحكيم المعينة من قبل المركز. ثم ان مسألة «جنسية المحكم» اذا لم يتفق عليها الطرفان، ليست من الأمور التي بموجبها يتم رد المحكم، فلا يجوز رده الا اذا وجدت ظروف تثير شكوكاً حول حيدته او استقلاله ووجد ما يبررها. وقد اشارت الى ذلك المادة (12) من نفس القانون.

وأدير دفة المقال وأبحر به الى مسألة مهمة قد استحوذت على نصف عنوانه، وهي: هل اتفاقية التحكيم لها طبيعة تعاقدية ام قضائية؟

ان المستعرض لنظرية العقد يجد في الغالب عرضاً خلافياً لمذهبين في مسألة: هل كل اتفاق يعتبر عقداً أم لا؟

فالمذهب الأول: لا يفرق بين العقد والاتفاق ويعتبر كل توافق بين ارادتين او اكثر على احداث اثر قانوني او غيره يعتبر عقداً، فالعقد اعم من الاتفاق، والاتفاق نوع متفرع عنه فالأولى له الاندراج تحته. ان الاتفاق بين طرفين على القيام بعمل ما، يكون المدين فيه ملتزماً بالوفاء به امام الدائن، وهذه الإلزامية تدل على كونه داخلاً في نطاق العقد، وهذا المذهب هو ما سار عليه بعض القوانين المدنية في العالم، وخلصوا الى تعريف العقد والاتفاق بأنهما: اتفاق شخصين او اكثر على انشاء رابطة قانونية او تعديلها او انهائها. وألغوا كل تفرقة بين العقد والاتفاق وجعلوهما كشيء واحد.

والمذهب الثاني: يرى ان هناك فرقاً بين العقد والاتفاق، فليس كل اتفاق عقد، ولم يعتبروه داخلاً في معنى العقد الا اذا وجد فيه اتفاق على احداث اثر قانوني، ويكون الاتفاق واقعاً في نطاق القانون الخاص ودائراً في دائرة المعاملات المالية. (فالمعاهدات الدولية، والتعيين على الوظيفة العامة مثلاً)، واقعة في نطاق القانون العام، وخارجة عن دائرة المعاملات المالية، فالأجدر تسميتها اتفاقاً وليس عقداً. فكل اتفاق واقع في نطاق القانون العام، او خارج عن دائرة المعاملات المالية (حتى لو وقع في نطاق القانون الخاص ولم يكن مالياً)، الأجدر بقاؤها بمعنى وتسمية الاتفاق وعدم تطبيق مسمى العقد عليها.

ولكن وبعد هذا العرض المختصر لهذين المذهبين، ما مصير اتفاقية التحكيم في ظلهما؟

ان اتخاذ التحكيم طريقاً قضائياً بديلاً لفض المنازعات في العقود التجارية خاصة، يكون في الغالب الأعم بناء على رغبة واختيار من قبل اطراف النزاع، فغالب المنازعات التي تنظر بطريق التحكيم تكون من قبيل (التحكيم الاختياري) فهو الأصل في التحكيم.

وأساس هذا النوع من الحكيم هو اتفاق الأطراف على الأخذ به، وهذا الاتفاق يعتبر عملاً من اعمال القانون الخاص يدور في دائرة المعاملات المالية؛ لكون غالبية النزاعات المنظورة عن طريق التحكيم هي نزاعات تجارية. (فهنا وقع الاتفاق في نطاق القانون الخاص، ودخل في دائرة المعاملات المالية) فيكون بذلك قد انتقل الاتفاق الى معنى العقد.

وأقول: ان مما يؤيد وقوع اتفاقية التحكيم ضمن النظرية التعاقدية اضافة الى ما تقدم، هو كون التحكيم في اصله يعتبر من العقود المسماة، وهو بذلك يكون خاضعاً للنظرية العامة للعقد، اضافة الى ذلك ان (المحكم) في اتفاقية التحكيم شخص عادي أوكل اليه القيام بتنفيذ عقد التحكيم، ولو كان خاضاً للنظرية القضائية لاعتبر المحكم قاضياً، له ميزات القاضي.

كما ان قرار التحكيم يستمد قوته الإلزامية ابتداءً من: قوة الملزمة للعقد، وتصديق السلطة القضائية عليه ليس معناه خضوعه للنظرية القضائية، وإنما هذا التصديق يضاف به الى الزامية القرار قوة الحكم القضائي لأجل التنفيذ وفي مواجهة الغير. والله أعلم.

إعادة نشر بواسطة محاماة نت