النظام القضائي في الإسلام

المحامية / ورود فخري
ان من اروع ما جاء به الدين الاسلامي الذي قام على الحق ونصرة المظلوم و القصاص من الظالم ورد الحقوق الى اهلها و ازهاق الباطل هو النظام القضائي الذي ولد بميلاد الرسالة المحمدية منذ اكثر من الف و اربعمائة سنة وقد رسمت خطوطه وحدوده استنادا الى ما ورد في الايات القرانية المباركة و الاحاديث النبوية الشريفة التي عدت بحق دستورا للمسلمين لانها حددت مالهم وما عليهم بل انها دستورا للناس اجمعين من خلال تصديها لقضايا اصحاب الديانات السماوية الاخرى حيث كان من خصائص النظام القضائي في الاسلام انه كان صالح لاستيعاب اية قضية و ايجاد الحلول المناسبة لها والتي تحقق العدل و الانصاف وتلك منتهى غاية الدين الاسلامي ومقصده ..

وبحسب جمهور الفقهاء فان ولادة القضاء الاسلامي كنظام مستقل و مدون يزيد على الالف عام حيث جاء مضمنا في رسائل فقهية بعنوان كتاب القضاء او باب القضاء والتي هي بجملتها عرفت القضاء على انه ( فصل الخصومة بين المتخاصمين و الحكم بثبوت دعوى المدعي او بعدم وجود حق له على المدعى عليه ) . وهو بهذا المعنى يفترق كليا عن الفتوى التي هي عبارة عن ( بيان الاحكام الكلية من دون النظر الى تطبيقها على مواردها وهي لا تكون حجة الا على من يجب عليه تقليد المفتي بها ) فالقضاء هو الحكم بالقضايا الشخصية والجزئية التي هي سبب الخصومة .

واعتبر الفقهاء ان حكم القضاء يعتبر واجبا كفائيا اذا تولاه من هو اهل له سقط عن الاخرين والذي يتولى امر القضاء يسمى قاضيا وهو اما قاض منصوب ويكون امر تعيينه بيد المدعي أي ان يختار المدعي شخصا يتولى القضاء في القضية التي نصب من اجلها فقط ، او قاضي التحكيم ويتم تعيينه بان يقوم المتخاصمين باختياره ليتولى الحكم في قضيتهما فان اختلفا كان التعيين بالقرعة . لقد اعتبر القضاء منصبا خطيرا يتحمل صاحبه مسؤولية كبرى امام الله والناس ودليل ذلك حديث رسول الله (ص ) اذ قال : من جعل قاضياً فقد ذبح بغير سكين ! فقيل : يارسول الله ، وما الذبح ؟ قال : نار جهنم ) .

لذلك فقد شدد الفقهاء على ضرورة توافر شروط معينة في شخص من يسمح له بالقضاء ومن يصلح لأداء هذه المهمة كونه سيتسلط على دماء و اعراض و ممتلكات الناس وهو الذي سيكون له الكلمة الفصل فيها وقد ورد عن الامام علي (عليه السلام) قوله لقاض : (هل تعرف الناسخ من المنسوخ ؟ قال : لا ، قال : فهل أشرفت على مراد الله عز و جلّ في أمثال القرآن ؟ قال : لا ، قال : إذا هلكت ، وأهلكت ) . لذلك فان على القاضي ان يكون على معرفة عميقة بمعاني الايات ومقتضاها وحقائق السنن و مبتغاها و الاجماع والاختلاف والاتفاق كما عليه ان يحمل من الحكمة والتقوى الشيء الكثير الى جانب الشروط العامة التي يجب ان تتوفر في ذات متولي القضاء وهي : ( البلوغ والعقل والذكورة و طهارة المولد والرشد و الايمان ولا يعتبر البصر بل العبرة في البصيرة ) .

كما اشترط الاسلام شرطا اخر في القاضي وهو ان يكون عادلا لذلك لا يجوز الاحتكام الى حاكم جائر فعن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام) : في قولـه تعالى :ألم تر إلى الّذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت فقال : (يا أبا محمّد ، أنّه لو كان لك على رجل حق فدعوته إلى حكام أهل العدل ، فأبى عليك إلاّ أن يرافعك إلى حكام أهل الجور ليقضوا له ، كان ممن حاكم إلى الطاغوت) . فاذا كان القاضي يحكم بكتاب الله وسنة نبيه الاكرم وبالروايات الصحيحة المنقولة عن طريق ال البيت والصحابة فهو قاض شرعي حكمه نافذ وصحيح .

وقد تفرد الدين الاسلامي بالنظام القضائي الذي جاء به من خلال حرية اختيار المتخاصمين للقاضي الذي سينظر في خصومتهم اذ ليس للسلطة اجبار المتخاصمين او احدهما على الاحتكام الى قاض معين كما هو حاصل في غالبية دول العالم وبهذا يعتبر النظام القضائي فريدا ومتطورا في الوقت عينه كما ان للقضاة استقلاليتهم في ممارسة القضاء الى جانب تميز احكامهم بالحجية تجاه المتخاصمين وتجاه القضاة الاخرين وهذا ما نلاحظه من خلال مدونات الفقهاء في هذا الشأن والتي نصت على انه : لا يجوز الترافع إلى حاكم آخر بعد حكم الحاكم الأول ، ولا يجوز للآخر نقض حكم الأول إلاّ إذا لم يكن الحاكم الأول واجداً للشرائط ، أو كان حكمه مخالفاً لما ثبت قطعاً من الكتاب و السنة ) .

والقضاء الاسلامي شأنه في ذلك شان القضاء الحديث اجاز للخصوم في دعوى ما تمييز الاحكام التي يصدرها الامام او الفقيه امام محكمة التمييز التي تتمثل بالرسول – صلى الله عليه وسلم – وذلك عند توفر احد الاسباب الاتية : صدور حكم مخالف لكتاب الله وسنة نبيه او الثوابت الاسلامية في الكتاب او السنة او في حالة صدور حكم من قاض لا تتوفر فيه الشروط التي يقتضي توافرها في القاضي لكي يتولى القضاء مثل العدل و العقل والبلوغ او الشروط الموضوعية المتمثلة بعدالة القاضي و استقلاله وهذه هي ابرز الحالات التي يكون للمتخاصمين فيها حق تمييز الاحكام ورفعها الى النبي – ص- لكي يمارس فيها دوره الذي يماثل دور محاكم التمييز في الوقت الحاضر ..

وكذلك فقد كان النظام القضائي في الاسلام سباقا بابتداع نظام الكفالة والضمان فللمدعى عليه حق استئناف الحكم الغيابي الصادر بحقه وعلى المدعي الذي صدر الحكم الغيابي لصالحه ان يقدم كفلاء ضامنون للمال العائد الى المدعى عليه والذي اخذه المدعي بموجب الحكم الغيابي الصادر حتى ان عاد المدعى عليه يكون ماله مضمونا . ونظرا لما يتمتع به القاضي من سمو المرتبة التي تداني في سموها رتبة الامام وولي الامر فقد وضعت له امتيازات كثيرة يتمتع بها كي لا تلجاه الحاجة الى تعاطي الرشا من المتخاصمين .

وبذلك ينحرف عن جادة العدل ويحكم بهواه او بما تمليه عليه مصالحه الشخصية كما انه لا يجوز له التقرب من الوزراء او القادة حتى لا يصبح اداة طيعة بايديهم يحكم لصالحهم فيهلك بذلك العباد والبلاد لذلك كان القاضي مقدم على هؤلاء لا يحتاج اليهم في التقرب من شخص الامام او ولي الامر بل هو اقرب منهم اليه و هذا كان له اثر كبير في استقلال القضاء و نزاهته وعظمته لذلك عد من اهم الانظمة التي استقت منها الامم الاخرى مبادئها الاساسية التي قامت عليها الانظمة القضائية الحديثة .