النظام القانوني لمفاوضات العقود الدولية

الدكتور/ أحمد عبد الكريم سلامة*

إستهـلال

1. العقد قانون الأطراف التعاقدي: إستقر الفكر القانوني على أن العقد، عموما، هو توافق إرادتين أو أكثر على إحداث أثر قانوني معين. وهذا الأثر القانوني effet Juridique هو جوهر أو ثمرة التراضي أو الإتفاق بين أطراف العقد، وهو لا يكون كذلك إلا بمقتضى ما وضعه هؤلاء من محددات وضوابط، التي من غيرها لا يمكن الركون إليه، ويظل هملا تتلاطمه أهواء من تصوروه.

خذ مثلا، لو باع شخص سلعة لآخر، فإن التراضي وتبادل الإرادات، أي الإيجاب والقبول بين الطرفين، يرتب أثرا هو نقل ملكية وحيازة المبيع من البائع إلى المشتري، وهذا الأثر لا يتصور بغير أن يكون التراضي سليما صادرا عن شخص ذي أهلية للتصرف، ويتم الإفتاق حول ماهية المبيع ومواصفاته، ووقت ومكان تسليمه، وثمنه، ووقت ومكان وكيفية الوفاء به، وحكم تأخير الوفاء….

إن ما يتصوره أطراف العقد ويضعوه، حول كل تلك المسائل، يعتبر في الواقع قواعد سلوكية إتفاقية تضبط علاقاتهم ، وهي قواعد قانونية خاصة Lex privata تشبه القواعد القانونية الصادرة من السلطة التشريعية المختصة .

2. القانون التعاقدي له سمات القانون الرسمي: وليس في ذلك مغالاة، فتلك القواعد القانونية الإتفاقية تحقق الهدفين الذين يطمح إليهما أي تشريع وضعي رسمي: العدالة والأمان.

من ناحية العدالة la justice، فقد قيل إن كل ما هو تعاقدي يكون عادلا فالشخص لا يرتضي إلا ما يكون في صالحه، أي ما يكون عادلا، وكما يقول KANT “عندما يقرر أحد شيئا في مواجهة آخر، فمن الممكن أن ينطوي على بعض عدم العدالة، ولكن عدم العدالة يكون مستحيلا حينما يقرر الشخص لنفسه” . كما هو الحال في العقد، فإذا كان العقد يخلق قواعد سلوكية قانونية، فإن تلك القواعد هي الأكثر عدالة، لأنها القواعد المتأيتة من الإرادة والمقبولة من صانعها .

ومن ناحية الأمان La Securte، فإن القواعد المنظمة للعلاقة العقدية لا تتأتى من مصدر خارجي، بل المتعاقدون هم صناعها، ليست غريبة عنهم، وتتوافق مع تطلعاتهم، وتطبيقها، أو الدعوة إلى الإلتزام بها، لا يشكل إخلالا بتوقعات من تخاطبه. فكما أن القاعدة القانونية العادية هي نتاج إرادة المجتمع المجسدة في السلطة التشريعية، فهي تتأتى من داخل المجتمع .

فإن القاعدة الإتفاقية نتاج إرادة المتعاقدين، فهي تتأتى من داخل هؤلاء، وبالتالي فهي لا تخل بتوقعاتهم، بل تعمل على إحترام حقوقهم المتولدة من العقد، وتحقيق التعاون بينهم.

وليس غريبا هنا أن يعترف المشرع الوضعي ذاته بأن العقد هو قانون أو شريعة المتعاقدين. وهو قانون خاص تتغيا قواعده الغايتان المشار إليهما.

3. العقد الدولي وإعداد القانون التعاقدي الدولي: ومع التحفظ الواجب بخصوص فكر المدرسة الإجتماعية، والضوابط الواجبة على مبدأ سلطان الإرادة ، والعقد شريعة المتعاقدين حماية للطرف الضعيف في العقد عموما، فإن الفقه ما زال يردد، بخصوص العقود الدولية مبدأ السيادة القاعدية Souverainete normative للمتعاقدين، أي مقدرتهم على خلق قواعد اتفاقية خاصة، تضبط وتحكم علاقاتهم التعاقدية . فالعقد خلاق لقواعد قانونية، ومصدر مستقل للحقوق والإلتزامات.

ويصل الفقه المشار اليه إلى القول إن العقد الدولي يعتبر “القانون التعاقدي الدولي” أو “القانون الدولي للأطراف المتعاقدة” ، النابع من الحرية الدولية للإتفاقات ، أو الحرية التعاقدية الدولية .

ومبدأ الحرية التعاقدية الدولية قد إعترف به وأقره المعهد الدولي لتوحيد القانون الخاص UNIDROIT في مجموعة المبادئ المتعلقة بعقود التجارة الدولية التي تبناها عام 1994، حيث نصت المادة 1/1 على أن “يكون الأطراف أحرارا في إبرام العقد وفي تحديد مضمونه” .

إذا كان الأمر كذلك، وحتى تأتي القواعد القانونية الإتفاقية، التي يتكون منها هذا القانون التعاقدي Iex contractualis الدولي مناسبة وكاملة، وحتى يمكنها تحييد وإقصاء القوانين الوطنية، التي أضحت لا تتلاءم مع خصوصيات المعاملات التجارية الدولية ،

فإن على الأطراف، التي ترغب في إبرام العقود الدولية، أن تبذل قصارى جهدها في إعداد عقد جيد، محبوك الصياغة القانونية. وهذا يقتضي الدخول مبكرا في مفاوضات ومناقشات تمهد لإبرام العقد النهائي، وكذلك بذل الجهد في تحرير وصياغة العقد الدولي، حتى يكون كافيا بذاته مغنيا عن اللجوء إلى القوانين الوطنية.

4. تقسيم: تعتبر المفاوضات Negociations – Pourparlers من المقدمات الأولية اللازمة، على الأقل في ظل الأوضاع المعاصرة للمعاملات والمبادلات الإقتصادية للسلع والخدمات عبر الحدود، لإبرام العقود الدولية، فتلك العقود تستتبع، بالضرورة إنتقال القيم الإقتصادية بين الدول المختلفة، وتتأثر بها، من ثم، المصالح الحيوية للأفراد أطراف التعامل الدولي، بل وتلك الدول ذاتها.

وقد أرسي الواقع العملي، وممارسات رجال الأعمال وشركاء العمليات التجارية الدولية، بعض القواعد والتطبيقات التي تحكم بدء وسير وإنتهاء مفاوضات العقود الدولية، وهي قواعد تبدو أساسية في ظل فراغ تشريعي حقيقي في مختلف التشريعات المقارنة.

والتعرف على تلك القواعد المنظمة لمفاوضات العقودالدولية يستلزم منا أن نعرض في:

مبحث أول: الأعداد للمفاوضات وخطابات النوايا.
مبحث ثان: تنظيم مفاوضات العقد الدولي.

المبحث الأول
الإعداد للمفاوضات وخطابات النوايا

5. تقديم: إن الإعداد للمفاوضات، التي تسبق إبرام العقد الدولي، هو من العمليات الشاقة التي تستغرق وقتا وجهدا ونفقات، بل يمكن القول إن المفاوضات التي يعد لها جيدا تنتهي، غالبا، بإبرام عقد ناجح، يتم الإتفاق عليه، وتنفيذه، بطريقة سليمة هادئة ويحقق كل طرف ما يبتغيه من ورائه.

ومن بين ما يتم الإعداد له للمفاوضات التعاقدية، الإتصال بين الأطراف ودعوة أحدهم الآخر للتحاور وتبادل الآراء حول العملية التعاقدية المزمع الدخول فيها بينهم، ومن بين أهم وسائل الإتصال ما يسمى بخطابات النوايا، والتي نعرض لها فيما يلي في مطلبين.

المطلب الأول
ماهية خطابات النوايا

أولا: تعريف خطاب النوايا وغاياته:

6. خطابات النوايا والعقود الدولية المعاصرة: المتأمل في العقود الدولية المعاصرة، كعقود إنشاء البنية التحتية، إقامة المطارات ومحطات الطاقة بنظام الـ B.O.T ، وعقود إنشاء المصانع بنظام المفتاح في اليد cle en main أو الإنتاج في اليد Produit en main وعقود نقل التكنولوجيا وعقود خدمات المعلومات contral informatique وعقود الإئتمان التأجيري الدولي …… .

يدرك أنها، على خلاف العقود الدولية اليومية البسيطة كالبيع أو النقل أو غيرها ، تنطوي على العديد من المسائل الفنية الدقيقة، التي لا يمكن حسمها في جلسة أو جلستين، بل يستلزم الأمر إجتياز مراحل متعاقبة ومستمرة صوب العقد النهائي ، يتم فيها إتفاقيات تمهيدية Preliminary agreemenis تحرر في مستندات تحضيرية documents preparatoires تبادل فيها الأطراف الرؤية والمفاهيم حول أمور تتصل بالمفاوضات حول العقد النهائي، ولعل من أهمها ما يسمى بخطاب النوايا أو التفاهم .

7. تعريف خطاب النية: وخطاب النية Lettre dintention ، أو خطاب التفاهم Letter of understanding ، أو مذكرة التفاهم Memorandum of understanding أو مذكرة أساسيات الإتفاق heads of agreement ليس من السهل وضع تعريف محدد له، وبالتالي تحديد وضعه القانوني، وذلك لأن الواقع العملي يدل على أن لخطابات النوايا أشكالا مختلفة، وتتناول موضوعات شتى يتعذر الربط بينها لإستخلاص محور تتمركز حوله كما سنتبين من خلال عرض غايات وأهداف تلك الخطابات.

ومع ذلك حاول البعض تقديم تعريف له، بالقول إنه “وثيقة مكتوبة قبل العقد النهائي تعكس الإتفاقات أو الفهم المبدئي لطرف أو أكثر من أطراف التعاقد التجاري بغية الدخول في عقد مستقبلي” .

غير أننا نرى أن خطاب النوايا يجب أن يعرف بما يتفق مع مسماه، فنقول إنه مستند مكتوب يوجه من طرف يرغب في التعاقد على أمر معين إلى الطرف الآخر يعرب فيه عن رغبته تلك، ويطرح فيه الخطوط العريضة للعقد المستقبل المزمع إبرامه ويدعوه إلى التفاوض والدخول في محادثات حوله .

ونعتقد أن أي مستند لا ينطوي على إبداء الرغبة في التعاقد، ولا يتضمن بيانا للنقاط الرئيسة والخطوط العريضة للعملية التعاقدية المستقبلية، ولا يشتمل على دعوة الطرف الآخر للإلتفاء والجلوس سويا للتفاوض حولها، لا يعتبر ذلك المستند خطابا للنوايا، بل يعد مستندا آخر يجب ان يسمى بإسمه.

8. الأصل أن خطاب النوايا غير ملزم لمن أصدره: الملاحظ أن لفظ “نيه” – Intent – intention يفيد أمرا مستقبليا لم يطرح بعد أن يكشف عنه، وهو لفظ لا يفيد الإلزام ، وغالبا ما يقصد محرر خطابات النوايا عدم الإلتزام بأي شيء لمجرد صدروها عنهم ، لا سيما وأن مقصدهم هو رسم الخطوط العامة ووضع الإطار المبدئي للمفاوضات المستقبلية تمهيدا لإبرام العقد النهائي.

وحتى يظل خطاب النوايا خارج دائرة الإلزام فيجب أن يراعى في صياغته عدة أمور: منها الحرص على عدم إستخدام أي جملة تعبيرية أو لفظ يفيد الإلتزام، مثل يقبل، يرتضي، يوافق، ويحسن اللجوء الى الفاظ أخرى مثل، يقدر الطرف او يبدو ملائما او من المستحب أن…. ومنها النص على حرية كل طرف في إجراء مفاوضات موازية مع طرف آخر، أي عدم القبول بشرط أو بتعهد التعامل القصري أو المانع Engagement d’exclusivite . وحبذا لو تم تضمين الخطاب عبارة تفيد أنه ليس له أية قوة ملزمة No binding . وعلى كل حال، فإن البادي في الواقع العملي، أن جانبا هاما من خطابات النوايا لا يكون كذلك، ولا يدل على أنه دعوة لبدء مرحلة المفاوضات الموصلة إلى إتفاق أو عدمه.

9. إمكانية إرتضاء الطابع الملزم لخطاب النوايا: من خطابات النوايا ما يتضمن اتفاقا بين الأطراف، حيث تدل عبارات الخطاب عن إبرام العقد فعلا، وذلك إذا ما كان يعبر عن قبول أحد الطرفين لإيجاب وعرض الطرف الآخر، من ذلك مثلا تأكيد الخطاب على أنه “نتشرف بإبلاغكم أننا قد علمنا مضمون العرض المقدم منكم بخصوص عقد إنشاء وتوريد وتركيب وتجربه مصنع…. و وافقنا على شروطه، وإننا نقبل ذلك العرض…. مع الرجاء إبلاغنا خلال مدة عشرة أيام بخطاب مسجل بعلم وصول موقع ومعتمد تاريخه، بالرد على قبولنا لعرضكم المشار اليه.

ومن خطابات النوايا ما يتضمن الإعلان عن الإلتزام الفعلي بما تم التفاوض عليه، ويحدد الصيغة النهائية المقترحة للعقد الأصلي. من خطابات النوايا ما يعتبر فعلا عقدا غير أنه معلق على شرط أو أكثر، كموافقة السلطة المختصة، مجلس الإدارة أو الوزير المختص، أو الحصول على إئتمان مصرفي، أو ترخيص جمركي…. وهنا إذا تحقق الشرط أنتج العقد آثاره بأثر رجعي من يوم توقيع الخطاب الذي يحتويه، فإن لم يتحقق زال كل أثر له.

ومن خطابات النوايا ما يتضمن التزاما قطعيا بعدم إجراء مفاوضات موازية – negocia tion parallele مع الغير خلال مدة محددة. وهذا النوع من الخطابات إذا كان لا يتضمن شيئا عن العقد النهائي، إلا أنه في حد ذاته ينطوي على التزام رضائي إنفرادي او تبادلي، يمكن ان يرتب مسؤولية من تحمل به إذا خالفه .

10. كيفية تلافي مشكلات تباين مضمون خطاب النوايا: وهكذا تتنوع صيغ خطابات النوايا، وبالتالي يصير من الصعب القول إن كل الخطابات تعتبر دعوى للدخول في مفاوضات مستقبلية حول إبرام أحد العقود الدولية، وهذا على خلاف ما ينبغي أن يكون.

وهذا التنوع والتباين في الصياغة، وبالتالي في مضمون الخطابات، يرجع في عمق أساسه، إلى أن من يقوم بصياغتها هم عادة المسؤولون القانونيين، كالمهندسين والمديرين، الذين لا يدركون المعاني الخفية والبعد القانوني الكامن وراء هذا اللفظ أو تلك العبارة.

وهنا يحسن أن نسدي النصيحة للقائمين على شؤون المؤسسات والشركات بأن يراعوا تطعيم الوفد التفاوضي أو الهيئة التي تتولى مخاطبة الغير، بشأن عمليات العقود الدولية بعناصر قانونية مدربة لها سابق خبرة في التفاوض وصياغة المستندات والوثائق ذات الصلة بالعقود الدولية.

وعلى كل حال، فإن تحديد مقاصد وأهداف خطاب النوايا يمكن ان تعين على تحديد طبيعته كما نرى فيما يلي:

ثانيا: مقاصد خطاب النوايا وأنواعه:

11. مقاصد خطاب النوايا: لا خلاف في أن خطاب النوايا وثيقة هامة يبدأ بها، بحسب الأصل، أطراف العملية التعاقدية طريقهم، وبها يعطي من أصدره إشارة البدء في خوض غمار التحضير للمفاوضات التعاقدية، حيث يفصح عن رغبته وتوجهه نحو التعامل الجديد لانجاز العقد المزمع إبرامه. ومن هنا يمكن أن نرصد بعض الأهداف والمقاصد التي يرمي إليها خطاب النوايا في المعاملات الإقتصادية والتجارية الدولية، منها:

أولا: إعلان مبدئي للرغبة في الدخول في محادثات حول عملية تعاقدية، وليس ما يمنع هنا، من تضمين الخطاب بعض المسائل الخاصة بنوع العملية التعاقدية، من ناحية موضوع العقد، السعر او الثمن، التاريخ المرتقب لإبرامه، مكان تسليم محل العقد أو وقت إنجاز الأعمال المتفق عليها…

ثانيا: وضع الإطار المستقبلي المتعلق بتنظيم المفاوضات ذاتها، ومن ذلك تحديد وقت ومكان إفتتاح جلسات المفاوضات، من سيمثل الأطراف وعدد فريق التفاوض وتخصصاتهم، اللغة التي تستعمل في الحوارات والمناقشات، المدة التقريبية التي ستستغرقها المفاوضات، نفقات ومن سيتحملها .

ولا خلاف في أن هذا المقصد يعد جوهريا، حيث يعمل على الإقتصاد في الوقت، وعدم إضاعته في مسائل إجرائية لا تتصل بصميم ما ترمي إليه المفاوضات .

ثالثا: وضع الشروط العامة Les conditions generales للعقود المزمع إبرامها في المستقبل، وذلك في الفروض التي تكرر فيها المعاملات بين الطرفين، كما في حالات عقود التوريد والإئتمان وغيرها، بحيث تترسخ القواعد العامة لأي عقد يبرم مستقبلا بينهما، فلا تنصب المفاوضات الخاصة لكل عقد على حدة إلا على الشروط الخاصة والمسائل التفصيلية النوعية، دون الشروط العامة، هو ما يحقق للطرفين إقتصادا في الوقت والنفقات .

رابعا: إظهار النية الجادة في التعامل، والرغبة الحقيقية في التعاقد، وإرساء عوامل التعاون مع أطراف العملية في حالة الوصول إلى عقد نهائي . وبالتالي طمأنتهم، وتبديد عوامل الشك والخشية المتبادلة من عدم الوصول إلى إتفاق وانجاز الصفقة .

بيد أن هذا المقصد الرابع، له أهمية في تفعيل إمكانية الوصول الى إتفاق مبدئي حول العقد النهائي ذلك أن الإقتناع الذي سيتسرب إلى نفس الطرف المفاوض سيدفعه إلى إتخاذ التدابير التحضيرية اللازمة كي يوقع العقد النهائي فور توافق الأطراف عليه، من ذلك الحصول على الموافقة المبدئية من الجهات الحكومية المختصة أو المؤسسات المصرفية لتمويل المشروع، أو ترتيب المتعاقدين من الباطن، أو الإتفاق مع الموردين للبدء في تصنيع او تصميم المعدات والآلات… ، وهذا المقصد