الملاحظات القانونية على الفقه الجنائي السعودي حول حالات إعادة النظر

أ* محمود الرفاعي

تعتبر إعادة المحاكمة أو -إعادة النظر- كما يسميها المنظم السعودي ، من أهم القواعد الإجرائية والتي جاءت بها قوانين أصول المحاكمات الجزائية بهدف تقرير مصلحة الخصوم في تدارك الخطأ القضائي في الحكم النهائي وسوف يكون الحديث عن حالات إعادة النظر في النظام الإجرائي السعودي منصباً حول موقف بعض الفقه السعودي من هذه الحالات (أولا) وحالات أخرى لإعادة النظر في الأحكام الجزائية في النظام السعودي(ثانياً) ، مع التنبيه إلى أن هذه الملاحظات تمثل وجهة نظري القانونية ، دون طعناً في علم الأساتذة محل الملاحظات ، كما أود التنبيه أيضا إلى كون هذا المقال القانوني تعمدت فيه عدم التقيّد بالشكلية كأسلوب من أساليب البحث العلمي ، حيث أنني لا أراه إلا مقالاً قانونياً يهدف إلى استدراك ما فات الفقه حول حالات إعادة النظر في الأحكام الجزائية.

أولا : موقف بعض الفقه السعودي من حالات إعادة النظر
يتجلى هذا الموقف في بحثين علميين ، أحداهما رسالة ماجستير بعنوان ” إعادة المحاكمة في نظام الإجراءات الجزائية السعودي” وتمثل الموقف الأول ، والأخرى رسالة دكتوراه بعنوان”إعادة النظر في الأحكام الجزائية في النظام السعودي” وتمثل الموقف الثاني .

الموقف الأول :هذا الموقف يمثل رأي الباحث عبد الله العويس في رسالته المقدمة إلى جامعة الأمير نايف للعلوم الأمنية في عام 2007 م ، والملاحظ على هذه الرسالة بشكل عام أن الباحث يقدم القوانين العربية والأجنبية على النظام السعودي محل الدراسة ثم يقوم بعمل المقارنة ، وهذا يتناقض مع عنوان الرسالة ” إعادة المحاكمة في نظام الإجراءات الجزائية السعودي” إذ أنه من الأسلم أن يكون عنوان البحث متطابقاً مع مضمونه ، وهذا يعني أنه كان من المفروض أن يقدم ما تناوله المنظم السعودي من أحكام تخص إعادة النظر ثم يعرض ويحلل ويقيس موقف القوانين الأخرى من موضوع الدراسة ومدى التشابه والتباين بين النظامين ، وهذا واضح وجليّ لمن يقرأ هذه الرسالة إذ أن أحكام النظام السعودي لا تشكل 30 % من عمل الباحث .
أما عن موقفه من إعادة النظر فقد كان متناقضاً ويفتقر للدقة، إذ أنه يذكر في الصفحة 94 ما نصه “يرفع طلب إعادة النظر إلى محكمة التمييز ..وتنظر محكمة التمييز بطلب إعادة النظر وتفصل أولاً في قبول الطلب من حيث الشكل ” ا.هـــ ، ولا شك أن هذا الرأي يخالف نص المادة 207 والتي تنص على أن طلب إعادة النظر يقدم إلى المحكمة مصدره الحكم ، وكذلك نص المادة 208 والذي عقد اختصاص الفصل في موضوع طلب إعادة النظر إلى المحكمة مصدرة الحكم مع ملاحظة أن اختصاص محكمة التمييز في طلب إعادة النظر يقتصر على جواز الاعتراض لديها على موضوع الدعوى في حالة قبول طلب إعادة النظر من المحكمة المصدر له إلا إذ صدر الحكم موضوع الدعوى من قبل محكمة التمييز ففي هذه الحالة يجب التقيد بما نصت عليه المادة 205 وهذا بدلالة نص المادة 212 إجراءات.
وقد استدرك الباحث الخطأ والتناقض الذي جاء به ، إذ ذكر في الصفحة ذاتها أن المحكمة مصدره الحكم هي من ينعقد لها الاختصاص بالفصل في موضوع طلب الإعادة .

وما يهمنا أن هذا البحث خرج من دون إشارة تذكر إلى حالات أخرى لإعادة النظر في النظام السعودي غير التي جاءت بها المادة 206 وهذا ما سوف نتطرق له بشيء من التفصيل لاحقاً.

الموقف الثاني :هذا الموقف يمثل رأي الباحث خميّس الغامدي في أطروحة الدكتوراه المعنونة بـ” إعادة النظر في الأحكام الجزائية في النظام السعودي” والمقدمة إلى جامعة الأمير نايف في العام 2007 الميلادي والحق أن الباحث في رسالته قد قام بجهد جبار وعمل علمي يستحق الثناء والتقدير إذ تضمنت الأطروحة كم هائل من المعلومات وتناول الباحث موضوع الدراسة من جميع جوانبها لولا أنها كانت خالية وبكل أسف من ذكر بعض الحالات الأخرى من حالات إعادة النظر في الأحكام الجزائية ، على الرغم من أن الباحث كان قاب قوسين أو أدنى من فكرة الحالات الأخرى بالإضافة إلى أنه قد اجتهد في مواضع كان من الأجدر أن لا تكون محل اجتهاد إذ أنها تصطدم بمبادئ قانونية ، أما ما يخص ذكر الحالات الأخرى فسوف يكون الحديث عنها لاحقاً في هذه المقالة ، أما بخصوص الاجتهاد فقد طرح الباحث في الصفحة رقم 103 سؤالاً حول جواز الاستناد على الحالة الأولى من نص المادة 206 وهي حالة –وجود المدعى قتله حياً- على جرائم مشابهه كجريمة إتلاف مال معين إذا وجد هذا المال سليماً دون تلف أو في جريمة إحداث عاهة مستديمة إذا تبين أن المجني عليه لا توجد لديه عاهة ؟ بمعنى هل يمكن أن تكون حالة من حالات إعادة النظر ؟ الجواب من قبل الباحث كان بالنفي إذ يقول ما نصه “حيث أنه من المقرر أنه لا يجوز القياس في النصوص القانونية ، ولا عبرة بمفهوم الموافقة أو المخالفة لها فإنه لا يجوز اعتبار هذه الوقائع مسوغاً لطلب إعادة النظر ولو توافرت شروطها بشكل مطابق لحالة وجود المزعوم قتلة حياً) ا.هــ
والحق أنني أخالف اجتهاد الباحث وأرى بجواز إعادة المحاكمة في حالة وجود المال سليماً أو وجود المجني عليه معافى من العاهة المستديمة قياساً على الحالة الأولى ، وذلك لأن إعادة النظر أو إعادة المحاكمة قررت لمصلحة المحكوم عليه وهذا يتوافق مع العدالة لأنه لا يعقل أن يعاقب شخص بجرم لم تتحقق نتيجته هذا من جهة و من جهة أخرى فإن قول الباحث بأنه لا يجوز القياس في النصوص القانونية هو قولٌ ليس على إطلاقه في مثالنا هذا للأسباب التالية :
1-هذا النص ليس من النصوص القانونية المتعلقة بالتجريم والعقاب حتى نقول بعدم جواز القياس على اعتبار القياس سوف يصطدم بمبدأ الشرعية –لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص-.
2-هذا النص جاء تقريراً لمصلحة المحكوم عليه ، وعليه إذا كان الشك يفسر لمصلحة المتهم كما هو معلوم فما بالك إذا كان هذا الشك أصبح يقيناً ، فمن باب أولى أن يفسر لمصلحته وبتالي جواز القياس متحقق.
3-هذه النصوص التي تحكم إعادة النظر في الحكم الجزائي النهائي ، هي نصوص إجرائية والنصوص الإجرائية تقبل القياس مُطلقاًُ ، على خلاف نصوص التجريم والعقاب بل أن هناك بعض النصوص في قوانين العقاب تقبل القياس مثل نصوص أسباب التبرير وحالاته .
وعليه يمكن لمن حوكم بجريمة أتلاف مال سليم أو بإحداث عاهة مستديمة في شخص اتضح أنه سليماً ومعافى أن يستند على الحالة الأولى من نص المادة 206 ، بالإضافة إلى حالة ثانية وهي حالة الوقائع الجديدة التي جاءت بها الفقرة الخامسة من نص المادة 206 وإن كان يرى الباحث قيامها في مثالنا السابق وهو رأي صحيح على اعتبارها من الوقائع الجديدة.
ثانياً : حالات أخرى لإعادة النظر في الأحكام الجزائية في النظام السعودي
تناول كلا البحثين ، الحديث عن المادة 206 من نظام الإجراءات الجزائية ، وهي المادة التي عددت حالات إعادة النظر إذ جاء فيها ” يجوز لأي من الخصوم أن يطلب إعادة النظر في الأحكام النهائية الصادرة بالعقوبة في الأحوال الآتية :
1-إذا حكم على المتهم في جريمة قتل ثم وجد المُدعى قتله حياً.
2-إذا صدر حكم على شخص من أجل واقعة ، ثم صدر حكم على شخص آخر من أجل الواقعة ذاتها، وكان بين الحكمين تناقض يُفهم منه عدم إدانته أحد المحكوم عليهما.
3-إذا كان الحكم قد بُني على أوراق ظهر بعد الحكم تزويرها، أو بني على شهادة ظهر بعد الحكم أنها شهادة زور.
4-إذا كان الحكم بني على حكم صادر من إحدى المحاكم ثم ألغي هذا الحكم.
5-إذا ظهر بعد الحكم بيّنات أو وقائع لم تكن معلومة وقت المحاكمة، وكان من شأن هذه البيّنات أو الوقائع عدم إدانة المحكوم عليه ، أو تخفيف العقوبة.

وهذا يعني أن من يقرأ آراء الفقه السعودي والمتمثل في البحثين ، سيعتقد أن النظام الجنائي السعودي وفي تناوله لأحكام إعادة النظر لا يخرج عن الحالات التي جاءت بها المادة 206 على اعتبارها حالات جاءت على سبيل الحصر لا على سبيل المثال ، والحق أن المنظم السعودي كان أكثر مرونة ودقة مقارنة بالقوانين العربية التي جاءت بحالات إعادة المحاكمة إذ تنص المادة 221 من نظام الإجراءات الجزائية على ” تطبق الأحكام الواردة في نظام المرافعات الشرعية فيما لم يرد له حكم في هذا النظام وفيما لا يتعارض مع طبيعة الدعوى الجزائية” وبالعودة إلى نظام المرافعات الشرعية وعلى وجه الخصوص المادة 192 والتي جاء فيها “يجوز لأي من الخصوم أن يلتمس إعادة النظر في الأحكام النهائية في الأحوال الآتية :
أ-إذا كان الحكم قد بني على أوراق ظهر بعد الحكم تزويرها،أو بُني على شهادة قضى من الجهة المختصة بعد الحكم أنها مزورة.
ب-إذا حصل الملتمس بعد الحكم على أوراق قاطعة في الدعوى كان قد تعذر عليه إبرازها قبل الحكم.
ج-إذا وقع من الخصم غش من ِأنه التأثير في الحكم.
د-إذا قضى الحكم بشيء لم يطلبه الخصوم أو قضى بأكثر مما طلبوه.
هـ- إذا كان منطوق الحكم يناقض بعضه بعضاً.
و-إذا كان الحكم غيابياً.
ز-إذا صدر الحكم على من لم يكن ممثلاً تمثيلاً صحيحاً في الدعوى.
فإنه يتضح لنا مما تقدم أن حالات إعادة النظر في الأحكام الجزائية يتجاذبها ثلاثة نصوص وهي نص المادتين 206 و221 –إجراءات جزائية- ونص المادة 192-مرافعات شرعية- ، وهذا يعني أننا سوف نقوم بإعمال أهم القواعد التي تحكم النصوص القانونية حتى نتعرف على مدى إمكانية الاستفادة من الحالات الأخرى لإعادة النظر والتي جاء بها نظام المرافعات الشرعية على النحو التالي :

1-قاعدة الخاص يقيّد العام
ومفاد هذه القاعدة وبشكل مختصر إنه في حالة تعارض النص الخاص-إجراءات جزائية- مع النص العام –مرافعات شرعية- فإنه يقدم النص الخاص في التطبيق على النص العام .

2-قاعدة الرجوع إلى القواعد العامة في حال غياب النص الخاص
من المعلوم أن نظام المرافعات الشرعية هو بمثابة القواعد العامة في الإجراءات والتي يلجأ إليها في حالة غياب نص خاص ينظم حكم مسألة ما في نظام الإجراءات الجزائية وهذا ما نصت عليه المادة 221 –إجراءات جزائية- ” تطبق الأحكام الواردة في نظام المرافعات الشرعية فيما لم يرد له حكم في هذا النظام”.

بالإضافة إلى إعمال القيود الواردة في نص المادة 221 وهي :
1-حالة وجود نص في نظام الإجراءات الجزائية
2-عدم التعارض مع طبيعة الدعوى الجزائية .

ويمكن لنا أن نقوم بتطبيق مثالاً على إحدى الحالات التي جاء بها نص المادة 192 –مرافعات شرعية- في الفقرة –ز- وهي حالة ” عدم التمثيل الصحيح في الدعوى” فلو فرضنا بأن المتهم القاصر”سين” قد قام بارتكاب جريمة متلبس بها ، وقامت محاكمته بالشكل الذي يستلزمه القانون ، وحُكم عليه بعقوبة ، واكتسب هذا الحكم القطعية ، إلا أنه طول عمر المحاكمة لم يكن ممثلاً تمثيلاً صحيحاً في الدعوى إذ لم يقم وليه أو وصيه والذي له سلطة تمثيلية بتمثيله ، ففي هذه الحالة إن استعنا بأقوال الفقه محل الملاحظات فهذا يعني أن ولي “سين” ليس له إلا تلك الحالات التي نصت عليها المادة 206 –إجراءات- ولو فرضنا أن جميع تلك الحالات غير متوافرة بحقه فهل هذا يعني ضياع فرصة “سين” في إعادة النظر ؟أم أن الأمل لازال قائماً في النظام الجزائي السعودي ؟، إن الجواب على هذا السؤال يستلزم منا العودة إلى تلك القواعد التي تحكم النصوص القانونية السابق ذكرها وهي :

1-قاعدة الخاص يقيّد العام
لا يوجد نص خاص في نظام الإجراءات الجزائية يحكم أو ينظم مسألة “عدم التمثيل الصحيح في الدعوى” وهذا يعني عدم وجود تعارض إذا علمنا أن نظام المرافعات الشرعية قد تناول حكم هذا المسألة وعليه نستبعد هذه القاعدة من حساباتنا القانونية.

2-قاعدة الرجوع إلى القواعد العامة في حال غياب النص الخاص
بعد الرجوع إلى نظام المرافعات الشرعية وجدنا نص المادة 192 /ز قد أوجد حقاً في إعادة المحاكمة في حالة عدم التمثيل الصحيح في الدعوى ، وهذا يعني إعمال هذا النص فيما يخص الدعوى الجزائية ، وخصوصاً أن لفظ الدعوى كما جاءت به المادة سالفة الذكر كان لفظاً مطلقاً والمطلق يجري على إطلاقه ما لم يقيد بنص ، وعليه فإنه يشمل الدعوى المدنية والدعوى الجزائية.

3-القيود التي جاء بها نص المادة 221 –إجراءات جزائية- وهي قيود تحكم مسألة الإحالة إلى نظام المرافعات الشرعية :

القيد الأول : حالة وجود نص في نظام الإجراءات الجزائية
لا يوجد نص يحكم مسألة عدم التمثيل الصحيح في الدعوى وهذا يعني سقوط هذا القيد من قيود الإحالة إلى القواعد العامة .

القيد الثاني : عدم التعارض مع طبيعة الدعوى الجزائية
ليس في عدم التمثيل الصحيح تعارض مع الدعوى الجزائية ، إذ ما علمنا أن التمثيل الصحيح وخصوصاً في الدعوى الجزائية هو ضمانة من ضمانات التقاضي ، ويكرس هذه الضمانة مبدأ العدالة المفترضة في المحاكمات الجزائية ، وعليه ينتفي هذه القيد وهو قيد التعارض .
وعليه فإن المحكوم عليه في مثالنا “سين” يحق له إعادة النظر في المحاكمة سنداً لأحكام المادة 211 إجراءات جزائية والمادة 192 /ز –مرافعات شرعية-.