المفهوم القانوني لبراءة الذمة

( الْمَادَّةُ 8 ) : الْأَصْلُ بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ .
يَعْنِي : الْأَصْلُ أَنْ تَكُونَ ذِمَّةُ كُلِّ شَخْصٍ بَرِيئَةً أَيْ غَيْرَ مَشْغُولَةٍ بِحَقٍّ آخَرَ ؛ لِأَنَّ كُلَّ شَخْصٍ يُولَدُ وَذِمَّتُهُ بَرِيئَةٌ وَشَغْلُهَا يَحْصُلُ بِالْمُعَامَلَاتِ الَّتِي يُجْرِيهَا فِيمَا بَعْدُ ، فَكُلُّ شَخْصٍ يَدَّعِي خِلَافَ هَذَا الْأَصْلِ يُطْلَبُ مِنْهُ أَنْ يُبَرْهِنَ عَلَى ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ حَسَبَ الْمَادَّةِ ( 77) تُطْلَبُ الْبَيِّنَةُ مِنْ مُدَّعِي خِلَافَ الظَّاهِرِ وَخِلَافَ الْأَصْلِ .
وَهَذِهِ الْقَاعِدَةُ مَأْخُوذَةٌ مِنْ الْأَشْبَاهِ .
الذِّمَّةُ تَعْرِيفُهَا : لُغَةً الْعَهْدُ وَالْأَمَانُ إذْ أَنَّ نَقْضَ الْعَهْدِ وَالْأَمَانِ مُوجِبٌ لِلذَّمِّ وَفِي الِاصْطِلَاحِ بِمَعْنَى النَّفْسِ وَالذَّاتِ وَلِهَذَا فَسَرَّتْ الْمَادَّةُ ( 612 ) الذِّمَّةَ بِالذَّاتِ .
وَالذِّمَّةُ فِي اصْطِلَاحِ عِلْمِ أُصُولِ الْفِقْهِ وَصْفٌ يَصِيرُ بِهِ الْإِنْسَانُ أَهْلًا لِمَا لَهُ وَمَا عَلَيْهِ .
مِثَالُ ذَلِكَ : إذَا اشْتَرَى شَخْصٌ مَالًا كَانَ أَهْلًا لِتَمَلُّكِ مَنْفَعَةِ ذَلِكَ الْمَالِ كَمَا أَنَّهُ يَكُونُ أَيْضًا أَهْلًا لِتَحَمُّلِ مَضَرَّةِ دَفْعِ ثَمَنِهِ الْمُجْبَرِ عَلَى أَدَائِهِ .
وَالذِّمَّةُ وَإِنْ لَمْ تَكُ هِيَ نَفْسُ عَقْلِ الْإِنْسَانِ فَلِلْعَقْلِ دَخْلٌ فِيهَا ، وَلِذَا فَالْحَيَوَانَاتُ الْعُجْمُ لَا تُوصَفُ بِالذِّمَّةِ .
وَإِنَّ الْقَوْلَ بِأَنَّ بَرَاءَةَ الذِّمَّةِ أَصْلٌ يُقْصَدُ بِهِ أَنَّ ذَاتَ الْإِنْسَانِ بِاعْتِبَارِ الْوَصْفِ الْمَذْكُورِ بَرِيءٌ ، فَعِنْدَمَا يُقَالُ تَرَتَّبَ فِي الذِّمَّةِ دَيْنٌ يَكُونُ مَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهُ تَرَتَّبَ عَلَى نَفْسِ الْإِنْسَانِ دَيْنٌ .
وَإِذَا تَعَارَضَتْ هَذِهِ الْقَاعِدَةُ بِقَاعِدَةِ ( الْأَصْلُ إضَافَةُ الْحَوَادِثِ إلَى أَقْرَبِ أَوْقَاتِهَا ) فَيَجِبُ الْعَمَلُ بِهَذِهِ الْقَاعِدَةِ ؛ لِأَنَّ هَذِهِ أَقْوَى مِنْ تِلْكَ .
مِثَالُ ذَلِكَ : إذَا أَتْلَفَ رَجُلٌ مَالَ آخَرَ وَاخْتَلَفَ فِي مِقْدَارِهِ يَكُونُ الْقَوْلُ لِلْمُتْلِفِ ، وَالْبَيِّنَةُ عَلَى صَاحِبِ الْمَالِ لِإِثْبَاتِ الزِّيَادَةِ .
مِثَالٌ آخَرُ : إذَا ادَّعَى شَخْصٌ عَلَى آخَرَ بِقَرْضٍ وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَنْكَرَ ذَلِكَ الْقَرْضَ فَالْقَوْلُ لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ مَعَ الْيَمِينِ ، وَالْمُدَّعِي مُكَلَّفٌ بِإِثْبَاتِ خِلَافِ الْأَصْلِ أَيْ إثْبَاتِ شَغْلِ ذِمَّةِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ، فَإِذَا أَقَامَ الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةَ فَيَكُونُ قَدْ وُجِدَ دَلِيلٌ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ حُكِمَ حِينَئِذٍ بِالْبَيِّنَةِ ، كَذَلِكَ فِي مَوَادِّ الْغَصْبِ ، وَالسَّرِقَةِ ، الْوَدِيعَةِ الَّتِي يَجُوزُ فِيهَا الْإِقْرَارُ بِالْمَجْهُولِ ، كَأَنْ يُقِرَّ شَخْصٌ مَثَلًا بِقَوْلِهِ : إنَّ فُلَانًا لَهُ عِنْدِي أَمَانَةٌ بِدُونِ ذِكْرِ مِقْدَارِهَا فَيُجْبَرُ الْمُقِرُّ عَلَى أَنْ يُبَيِّنَ مَا هِيَ الْأَمَانَةُ وَمَا مِقْدَارُهَا ، فَإِذَا بَيَّنَ الْمُقِرُّ أَنَّ تِلْكَ الْأَمَانَةَ فَرَسٌ أَوْ عَشَرَةُ قُرُوشٍ مَثَلًا ، وَالْمُقَرُّ لَهُ ادَّعَى أَنَّهَا فَرَسَانِ أَوْ مِائَتَا قِرْشٍ فَالْقَوْلُ لِلْمُقِرِّ مَعَ الْيَمِينِ وَالْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُقَرِّ لَهُ لِإِثْبَاتِ الزِّيَادَةِ .
وَيُمْكِنُ تَوْجِيهُ اعْتِرَاضٍ عَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ ، وَهُوَ أَنَّ الْمَدِينَ إذَا ادَّعَى أَنَّ الدَّائِنَ أَبْرَأَهُ أَوْ أَنَّهُ أَوْفَى الدَّيْنَ ، فَالْقَوْلُ لِلدَّائِنِ مَعَ الْيَمِينِ مَعَ أَنَّ الدَّائِنَ يَدَّعِي شَغْلَ ذِمَّةِ الْمَدِينِ ، وَالْمَدِينُ يَدَّعِي بَرَاءَةَ ذِمَّتِهِ فَكَانَ الْوَاجِبُ حَسَبَ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ لِلْمَدِينِ .
وَالْجَوَابُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ الدَّائِنَ وَالْمَدِينَ هُنَا مُتَّفِقَانِ عَلَى ثُبُوتِ الدَّيْنِ فَبِاتِّفَاقِهِمَا عَلَى ذَلِكَ أَصْبَحَ شَغْلُ الذِّمَّةِ أَصْلًا وَالْبَرَاءَةُ خِلَافَ الْأَصْلِ ، فَالْمَدِينُ يَدَّعِي الْإِيفَاءَ وَالْإِبْرَاءَ الَّذِي هُوَ خِلَافُ الْأَصْلِ ، وَالدَّائِنُ يُنْكِرُ ذَلِكَ فَعَلَى هَذَا أَصْبَحَ الْقَوْلُ لِلدَّائِنِ وَلَا مَجَالَ لِلِاعْتِرَاضِ عَلَى ذَلِكَ رَاجِعْ الْمَادَّةَ ( 77 )