المسؤولية التأديبية في حالة الإدانة الجزائية للموظف

إن للحكم الجزائي البات والصادر بالإدانة بحق الموظف أثر مباشر على وضعه الوظيفي وأثر على الدعوى التأديبية التي تنظر في الأفعال المعاقب عليها العامل جزائيا من الوجهة التأديبية ليصار إلى فرض العقوبات التأديبية المناسبة بحقه.

والأصل أن الحكم الجزائي البات الذي حاز حجية الأمر المقضي به إنما يكون حجة بما فصل به فصلا ضروريا ولازما للأساس المشترك بين الدعويين المدنية والجزائية ويتقيد به القاضي المدني وهذه القاعدة إنما تقرر مبدأْ أساسياْ استقر الفقه والقضاء على إعماله في المجال الإداري والتأديبي منعا لتضارب الأحكام واحتراما لحجية الشيء المحكوم به، وعلى ذلك فان سلطة التأديب إنما تتقيد بالحكم الجزائي البات باعتباره متمتعا بحجية ملزمة للكافة تتعلق بالنظام العام، ومن ثم فمتى كان الحكم الجزائي قد فصل فصلا ضروريا ولازما في وقوع الفعل المكون للأساس المشترك بين الدعويين الجزائية والتأديبية وفي الوصف القانوني لهذا الفعل وفي إدانة المتهم بارتكابه فانه يمتنع عن الجهات التأديبية أن تعيد بحثها فلا تستطيع تبعا لذلك أن تنقض حجية الشيء المقضي به للحكم الجزائي بإنكار الوجود المادي للوقائع ونسبتها إلى العامل المتهم بل يتعين عليها أن تعتبرها وتلتزم بها، وذلك منعا لأن يأتي القرار التأديبي على خلاف الحكم الجزائي، إذ ليس من المقبول أن توقع المحكمة الجزائية العقاب على شخص من أجل جريمة وقعت منه ثم تأتي الجهات التأديبية فتقضي بأن الفعل المكون للجريمة لم يقع منه، في حين أن الشارع قد أحاط الإجراءات أمام المحاكم الجزائية – لتعلقها بأرواح الناس وحرياتهم– بضمانات اكبر تكفل إظهار الحقيقة مما مقتضاه أن الحكم متى صدر بالإدانة أصبح محل ثقة الناس لا يصح معها بأية حال إعادة النظر بموضوعه ثبوتا أو نفيا من قبل أي جهة أخرى.

أما إذا كان الحكم الجزائي صادرا مع وقف تنفيذ العقوبة الجزائية فإنه لا يمنع من محاكمة العامل تأديبيا وذلك لأن وقف التنفيذ يطبق على العقوبة الجزائية فقط دون العقوبات التأديبية التي توقعها الجهات التأديبية، وذلك انسجاما مع استقلال الجريمة التأديبية عن الجريمة الجزائية، مع تقيد القضاء التأديبي بما فصل به القضاء الجزائي وكان فصله لازما وضروريا، وبما أن الحكم الجزائي قضى بالإدانة بحق المتهم فان ذلك يقيد القضاء التأديبي ويحق له فرض العقوبات التي يرها مناسبة بغض النظر عن كون القضاء الجزائي أوقف تنفيذ العقوبة الجزائية أم لا، فوقف التنفيذ يفيد بوقف تنفيذ العقوبة الجزائية ولكنه لا يمتد إلى غيره من الآثار المدنية والتأديبيةوخاصة أن المشرع قد نص في قانون العقوبات أن وقف التنفيذ لا يعلّق تنفيذ العقوبات الفرعية أو الإضافية أو تدابير الاحتراز ومن أهم العقوبات الفرعية والإضافية التجريد المدني الذي يؤدي إلى طرد الموظف من عمله، وبالتالي فان وقف تنفيذ العقوبة الجزائية لا يقيد القضاء التأديبي ويحق له محاكمة الموظف واتخاذ الإجراءات المناسبة مع التقيد بالحكم الجزائي.

أما عن تأثير العفو على المسؤولية التأديبية فإن العفو عن الجريمة الجزائية من شأنه أن يمحي العقوبة الجزائية دون أن يزيل عن الفعل صفته الإجرامية، وبالتالي فإن العفو العام الصادر لا يؤثر على المسؤولية التأديبية للعامل ويجيز للجهة التأديبية أن تفرض على العامل العقوبة المناسبة وهذا ما استقر عليه اجتهاد المحكمة الإدارية العليا ومن ذلك قولها “إن مفاعيل قوانين العفو العام منحصر أثرها في العقوبة الجزائية والأفعال الجرميَه التي تقوم عليها دون أن يمتد هذا الأثر إلى المسؤولية المسلكية نظرا لاختلاف كلا المسؤوليتين من حيث الأركان والطبيعة والأهداف المنشودة كما أن قوانين العفو لا تطال المسؤولية المسلكية”، وكذلك الحال في مصر فان العفو لا أثر له في الجانب التأديبي.

وللحكم الجزائي الصادر بالإدانة آثار مباشرة على الموظف العام تترتب كعقوبات تكميلية أو فرعية تتبع الحكم الجزائي ولقد أوضح قانون العقوبات وقانون العاملين أثر الحكم الجزائي الصادر بالإدانة على الوضع الوظيفي للعامل فلقد نصت المادة (63) من قانون العقوبات السوري على التجريد المدني كعقوبة تبعية للعقوبة الجزائية المحكوم بها على الموظف وذلك بقولها ” الحكم بالأشغال الشاقة مؤبدا أو بالاعتقال المؤبد يوجب التجريد المدني مدى الحياة، الحكم بالأشغال الشاقة المؤقتة أو الاعتقال المؤقت أو بالإبعاد أو بالإقامة الجبرية في الجنايات يوجب التجريد المدني” ومقتضى التجريد المدني العزل والإقصاء عن جميع الوظائف والخدمات العامة ومن كل معاش تجريه الدولة، كما نص قانون العقوبات على عقوبة التجريد المدني في حال تأثير الموظف العام على اقتراع السوريين أو عند إقدامه على عرقلة سير العمل في المرافق العامة عن طريق الإضراب أو الاستقالة في وقت غير مناسب.

من هذه النصوص يتضح أن المشرع في قانون العقوبات قد استوجب عزل الموظف من وظيفته اثر صدور حكم ضده بجناية أما إذا كان الحكم صادرا في غير جناية فإنه حدد عل سبيل الحصر بعض الجرائم التي يترتب على صدور أحكام الإدانة فيها أن يعزل مرتكبها من الوظيفة ولقد أيدت المحكمة الإدارية العليا السورية ذلك وطبقته في أحكامها ومن ذلك قولها ” إن الجرم الذي أدين به المحال هو جرم جنائي الوصف وناشئ عن العمل وقد عوقب بالأشغال الشاقة مع حجره وتجريده مما يجعل الحكم الصادر بتسريحه تأديبيا يتناسب مع نتيجة المحاكمة الجزائية الصادرة بحقه “.

وفي قانون العاملين الأساسي في الدولة فقد نصت المادة (68) منه على انه ” …لا يجوز تطبيق هذه العقوبة إلا إذا كان قد حكم على العامل بجناية أو بجنحة شائنة أو مخلة بالثقة العامة” والمقصود هنا عقوبة الطرد من الوظيفة العامة وإعمالا لهذا النص تنتهي خدمة العامل في الوظيفة إذا حكم عليه بعقوبة جنائية عن الجرائم التي حددها قانون العقوبات ليس هذا فحسب بل يجوز إنهاء خدمة العامل إذا حكم عليه بعقوبة جنحيه ولكن بشرط أن تكون الجنحة التي ارتكبها شائنة أو مخلة بالثقة العامة، وإن كان يصعب وضع معيار لما يعد من الجرائم الشائنة والمخلة بالثقة العامة فقد حاول مجلس الدولة السوري وضع معيار لذلك بقوله ” إن المقصود بصفة عامة من الجرم الشائن هو أن يأت الموظف أفعالا تنم عن سوء سلوكه وضعفه أمام نفسه وتكشف عن استهتاره وعدم تقديره للمثل العليا والأخلاق الحميدة وارتياده مواطن الرذيلة والشبهات إذ ينبغي أن يتحلى الموظف بقدر واجب من استقامة الخلق وحسن السيرة واتقاء مواطن الريب كما يجب عليه أن ينأى بنفسه عما يمس كرامة الوظيفة والحط من قدرها وفقدان الثقة فيمن يشغلها “، وكذلك الحال في مصر فقد نصت المادة 94 من قانون العاملين المدنيين بالدولة على انتهاء خدمة العامل المحكوم بعقوبة جنائية أو بعقوبة مقيدة للحرية في جريمة مخلة بالشرف والأمانة، ولكن المشرع المصري تقديرا منه لوضع العامل فلم يرتب انتهاء الخدمة للعامل المحكوم بعقوبة جنائية مخلة بالشرف إذا كان هذا الحكم قد صدر عليه لأول مرة ولم يكن من معتاد الإجرام إلا إذا قدرت لجنة شؤون العاملين بقرار مسبب غير ذلك بسبب مقتضيات الوظيفة أو طبيعة العمل.

بمطالعة ما سبق يتضح أن المشرع استوجب عزل الموظف من وظيفته على أثر صدور حكم ضده في جناية، أما إذا كان الحكم صادرا في غير جناية فانه قد حدد على سبيل الحصر بعض الجرائم التي يترتب على صدور أحكام الإدانة فيها أن يعزل مرتكبها من الوظيفة، وحسنا فعل المشرع المصري عندما منح العامل استثناء على ذلك إذا لم يكن من معتاد الإجرام، لأن الإنسان في بعض الأحيان يرتكب جرائم بمحض الصدفة أو نتيجة لاندفاعاته العاطفية، فمن غير المعقول تحميله أسباب ذلك ونبذه من المجتمع بطرده من وظيفته.