المجلس الأعلى للقضاء .. ربان حكيم وإنجاز عظيم

من الصعوبة بمكان أن يكتب الواحد منا ما قد يساء تفسيره، خصوصاً حينما يكون في سياق إبراز منجزات تعود لمرجع الكاتب، ولكن حسبنا أن الواجب الشرعي والحق الوطني يقتضيان المبادرة بذكر الإيجابيات للشكر عليها، كما هي الحال حينما تذكر السلبيات في سياق النصيحة بنقد موضوعي بنّاء ليتم تجاوزها، في حين أن هناك أجهزة في الدولة نالت الكثير من تسليط الأضواء على منجزاتها مع أن بعضها وربما الكثير منها في حكم المنجزات الورقية والاستهلاك الإعلامي، ولذا فلا أبرأ للذمة من أن نقول للمصيب أصبت، وللمخطئ أخطأت، فلا نجامل المصيب وإنما نحفزه، ولا نزايد على المخطئ وإنما ننصحه.

ومن الجهات الكبرى التي لم تنل الحق العادل في إبراز منجزاتها “المجلس الأعلى للقضاء”، حيث إنه يمثل السلطة القضائية والضامن لاستقلاليتها وحياديتها، وما قام به المجلس خلال العامين الماضيين من عمره القصير لأمر يوجب الرصد والنشر والشكر والتقدير، وحسبنا أنه يأتي على رأس الجهاز ربانه الحكيم وعالمه الجليل صاحب السماحة والمعالي الوالد الشيخ الدكتور صالح بن عبدالله بن حميد، الذي قاد السفينة بحكمة وسار بها بحنكة، وليس هذا بغريب على سماحته وهو ابن سماحة الرئيس الأسبق لمجلس القضاء الأعلى الوالد الشيخ عبدالله بن حميد طيب الله ثراه حيث كنا نحضر دروسه في صحن المطاف ونلتقي به في غرفته بالمسجد الحرام مع والدي رحمه الله، فضلاً عن أن معاليه في جميع مراحل خدمته الشرعية والوطنية كان هو المبرز في أخلاقه وسمته ووقاره وهيبته، وذلك منذ العمل الأكاديمي في جامعة أم القرى ومروراً برئاسة الحرمين فمجلس الشورى وحتى مجلس القضاء، فضلاً عن حفظه للقرآن الكريم وإمامته وخطابته للمسجد الحرام، وعضويته لهيئة كبار العلماء ورئاسته لمجمع الفقه الإسلامي الدولي، وحسبنا أن خلق الله هم شهداؤه في أرضه، ولم يزده كل ذلك إلا تواضعاً للعباد وخدمة للبلاد.

والمجلس الأعلى للقضاء سار خلال العامين المنصرمين على خطى ثابتة ومنجزات مشاهدة على صعيديْ القضاء والقضاة، حيث عقد أربعة عشر اجتماعاً، وأصدر فيها عشرات القرارات في شتى مجالات المجلس واختصاصاته، تحقيقاً لما صدر به المرسوم الملكي رقم (م/78) وتاريخ 19/9/1428ه بالموافقة على نظام القضاء، المتضمن تحقيق استقلالية القضاء والقضاة وذلك من خلال إشراف المجلس على المحاكم، وعلى شؤون القضاة، مع توسيع للاختصاص الإداري للمجلس، وتحويل الاختصاص القضائي إلى المحكمة العليا، وتخصيص ميزانية للمجلس تساعده على القيام باختصاصاته، كما رأينا بأن المجلس قد قام بتنظيم أعماله وفق لوائح وقواعد ترتب سير العمل وتحقق الاستقلالية المقصودة في النظام، وتكفل الشفافية في الأعمال..

والمتصفح لموقع المجلس على شبكة الإنترنت يرى في جلساته الماضية تلك القرارات والمخرجات المتوالية التي حققت الكثير من الخطط المرسومة والأهداف المرجوة، كإصدار لائحة التفتيش القضائي ومعايير القياس والأداء للقضاة والتحقق من تطبيق الأنظمة واللوائح والتعليمات، والتحقق من حسن سير العدالة وسرعة الإنجاز للقضايا، وجولات تفتيشية مركزة وغير مسبوقة نحو المزيد من التقييم والتقويم، وقواعد اختصاصات وصلاحيات رؤساء المحاكم ومساعديهم، والقواعد المؤقتة لنقل القضاة، وتنظيم أعمال الملازمين القضائيين، وقواعد ترشيح قضاة المحاكم العامة والجزئية للالتحاق ببرامج التدريب للقضاء المتخصص، ومعايير استرشادية لاختيار رؤساء المحاكم ومساعديهم، وضوابط التفرغ المؤقتة للدراسات العليا، وقواعد عدول القضاة عن النقل، وضوابط اختيار المفتشين القضائيين، ولائحة عمل دوائر الحج والعمرة، إضافة لشؤون تدريب القضاة وبرامجه المعتمدة خلال العام الحالي والتي استوعبت قرابة نصف القضاة عبر جهد مقدر ومشكور من إدارة التخطيط والتطوير، حتى جمع المجلس بين هيبة الشكل الخارجي للمقر على أهم طرق العاصمة، ووقار المضمون الداخلي حيث الهيكلة التنظيمية والعمل الدؤوب على قدم وساق لتحقيق توجيهات القيادة الحكيمة في تطوير مرفق القضاء، حيث تم عقد ورش العمل وحلقات النقاش، وإنشاء الإدارات المتخصصة في المجلس كإدارة الشؤون الوظيفية للقضاة، وإدارة القضايا والاستشارات، وإدارة شؤون المحاكم لاستقبال طلبات فتح المحاكم وتعزيزها وشغلها واستكمال مايلزمها، مع دراسة قواعد افتتاح المحاكم الجديدة، وتفعيل الرقابة القضائية وتطوير أداء التفتيش القضائي، والأنظمة والبرامج الإلكترونية، إضافة لموقع المجلس على الإنترنت ورسائل الجوال لأعضاء السلك القضائي والتواصل اليسير عبر البريد الإلكتروني والفاكس المباشر، مع سهولة الاتصالات والتجاوب الإيجابي مع المراجعين بعيداً عن المركزية والروتين، مع إصدار موسوعة من النماذج والإجراءات التي تيسر إنجاز العمل، وتنمية البيئة الإدارية للمجلس، وما وضعُ الخطة المستقبلية لمدة أربع سنوات إلا دليل عن الجدية والحزم نحو العمل المثمر بإذن الله تعالى، حيث إنشاء محاكم الاستئناف والمحاكم الخمس المتخصصة ودعمها بالقضاة، إضافة لدوائر التنفيذ في المحاكم العامة، وحوسبة أعمال المجلس نحو الحكومة الإلكترونية.

كما وُفِّق المجلس بأعضائه العشرة الكرام حيث المستوى العلمي الرفيع والخبرة العملية الكبيرة مع تنوع الاختصاصات، فظهر هذا على حسن أداء المجلس ومداولاته ونوعية مخرجات اجتماعاته ولجانه العاملة ودوائره المتخصصة، إضافة لقيادات المجلس ذوي الخبرة والكفاءة وعلى رأسهم معالي الأمين العام الشيخ عبدالله بن محمد اليحيى، ومعالي رئيس التفتيش القضائي الشيخ الدكتور ناصر بن إبراهيم المحيميد، اللذان قادا المهمة بقوة وأمانة، مع ثلة مباركة من مفتشين وقضاة وإداريين نراهم في مقر المجلس وقد أحيوا جنباته وأداروا مهماته بروح إيجابية بارزة وخدمة للجميع متفانية، فكتب الله أجرهم وأعانهم وجزاهم عن الوطن والمواطنين كل خير.

ومما ينبغي الإشارة إليه أن السلطة القضائية والمنظومة العدلية بمؤسساتها الثلاث (المجلس والوزارة والديوان) لا يتحملون مسؤولية تأخير إقامة المحاكم المتخصصة الخمس المنصوص عليها في نظام القضاء وكذلك ممارسة عمل الاستئناف في محاكم الدرجة الثانية، لأن الأنظمة الإجرائية الحالية وهي نظام المرافعات الشرعية، ونظام الإجراءات الجزائية لا يزالا غير معدَّلين وفقاً لنظام القضاء الجديد، وبالتالي يتعذر تطبيق ذلك التطوير التخصصي والاستئنافي؛ حيث كان من المفترض أن يتزامن صدور نظام القضاء مع صدور النظامين المعدلين ليمكن حينها الشروع في تطبيقه وفق الآلية التنفيذية لنظاميْ القضاء وديوان المظالم، ومع ذلك فقد قام المجلس الأعلى للقضاء ووزارة العدل وديوان المظالم بجهود كبيرة ومقدرة خلال العامين الماضيين، ومن الحق والعدل أن يشكر كل من عمل وأخلص، مع أننا كنا ولا نزال نطمح في المزيد من الإسراع في تطبيق التطوير القضائي والتعاون على نجاح الخطط المشتركة بما يكفل صالح العباد والبلاد، وإنه مما يؤسِف المنصف أنه يلحظ بأن هناك ضعفاً في النظرة المعتدلة للواقع العملي لأجهزة الدولة، بحيث نجد من يبرز الإنجازات ويبالغ فيها ويتعامى عن السلبيات ويتجاهل النصيحة بشأنها، وفي المقابل نجد بأن هناك من يبرز التقصيرات ويهول فيها ويتعامى عن الإيجابيات، ويناكف بشأنها، مع أن الواجب الشرعي والأخلاقي يقتضيان النظرة العادلة لما فيه تحقيق المصلحة العامة، بلا رغبة في جلب مصلحة خاصة أو درء مفسدة شخصية، فالدنيا قصيرة والعمر يفنى ولا يبقى إلا ما يبرئ الذمة ويريح الضمير، فهذا الوطن ومواطنوه يستحقون منا الكثير، فلنتواصَ بالحق ولنتواصَ بالصبر تحت توجيهات خادم الحرمين الشريفين وسمو ولي عهده الأمين وسمو النائب الثاني – حفظهم الله – لمزيد من التنمية والتطوير لمرفق القضاء.

والله تعالى ولي التوفيق وسبحانه من وراء القصد.