الفرق القانوني بين الوفاء و الحوالة

عبد الوهاب محمد المحامي

دعاني للكتابة في هذا الموضوع على بساطته ما ظنه بعضهم من أن بين المادتين (160) و (161) اللتين جاءتا في باب الوفاء والمادة (349) التي جاءت في باب الحوالة تناقضًا، إذ نصت الأولى: على أن المتعهد به إذا كان مبلغًا من النقود جاز وفاؤه من أي شخص أجنبي ولو على غير رغبة الدائن أو المدين.
ونصت الثانية على أن من دفع دين شخص كان له حق الرجوع عليه بقدر ما دفعه بناءً على ما حصل له من المنفعة لسداد دينه.
وجاء في الثالثة وهي المادة (349) أن ملكية الديون والحقوق المبيعة لا تنتقل ولا يعتبر بيعها صحيحًا إلا إذا رضى المدين بذلك كتابة.

وهذا الظن بلا شك وهم باطل، ولكنه خال على بعض المحاكم فتمثلته صحيحًا، والتمست في أحكامها للتوفيق بين هذه المواد الثلاث شروطًا قيدت بها نص المادتين (160) و (161) حيث قالت ما محصله (إن الوفاء من أجنبي بدون رضاء المدين غير جائز إلا في حالتين، إحداهما أن يكون ذا مصلحة في الوفاء، كأن يكون ضامنًا أو ذا صلة بالمدين، والثانية الرحمة بالمدين في حالة الحجز عليه وعجزه عن السداد) وهذا خطأ فظيع في تفسير القانون وتعطيل لنصوص صريحة فيه، وخلط بين الوفاء والحوالة مع وجود الفرق الشاسع بينهما ويدل على ذلك ما يأتي:

1 – إن القانون موضوع لتهتدي به الناس وتسير عليه في معاملاتها والقاضي منفذ له لا مشرع، ومن ثم لا يجوز له أن يغير من نصوصه ولا أن يقيدها بقيود لم تشر إليها، حتى ولو كانت العدالة تقتضي هذا التقييد لأن العدالة مسألة اعتبارية تختلف باختلاف النظر ولو أُبيح للقاضي تقييد نصوص القانون المطلقة بقيود من عنده لتعطل العمل به، وهو مأمور باتباعه كما هو (المادتين 1 – 28) من لائحة ترتيب المحاكم الأهلية.

وإذن يكون تقييد الوفاء من الأجنبي بشرط المصلحة أو بغير ذلك من الشروط خطأ محصنًا، لأن المادة (160) صريحة في أنها خاصة بحالة واحدة من حالات الوفاء المتعددة، وهي حالة ما إذا كان المتعهد به مبلغًا من النقود ولم يرد فيها أي قيد أو شرط لجواز الوفاء في هذه الحالة من الأجنبي، وقد علق المرحوم (فتحي باشا) على هذه المادة والمادة (161) بأنه يجب العمل بهما كما قلنا، نعم قال أن حكمة ذلك ظاهرة بالنسبة للدائن، لأنه لا يهمه سوى الحصول على دينه ولكنها غير ظاهرة بالنسبة للمدين الذي قد يهمه ستر مديونيته عن غير دائنه الأصلي، ولكن هذا مردود عليه بأن الحكمة بالنسبة للمدين ظاهرة أيضًا، وهي أنه متعهد ويجب عليه الوفاء، وأنه قد استفاد بسداد الدين عنه، ولا يجوز أن يثرى على حساب غيره ولذلك قد نبه الشارع نفسه إلى هذه الحكمة حيث قال في المادة (161) (بناءً على ما حصل له من المنفعة لسداد دينه).

2 – أنه مع تصريح الشارع في المادة (160) بجواز الوفاء من أي شخص أجنبي ولو على غير إرادة الدائن أو المدين لا يجوز بتاتًا تقييد هذا النص بأن يكون الموفي ذا مصلحة أو صلة بالمدين، ولا بقيد آخر لما في ذلك من العبث بنصوص القانون الصريحة والمخالفة للقاعدة الفقهية القائلة بأنه لا مساغ للاجتهاد في موضع النص ولأن نص المادة مطلق غير مقيد والمطلق يجب فقهًا أن يجري على إطلاقه.

3 – أما كون الدافع ضامنًا أو مسؤولاً عن الدين مع المدين فهذا مما لا شأن له بالمادة (160) التي أباحت الوفاء من الأجنبي (لأن الضامن والمسؤول مع المدين عن الدين لهما أحكام أخرى تكلفت بها المواد (505)، (115) مدني.

4 – المادتان (160) و (161) صريحتان ولا لبس فيهما ولا غموض.
ومن واجب القضاء الأخذ بهما كما هما، وإذا كان الأمر قد التبس على بعضهم بسبب وجود مادة الحوالة في نفس القانون والشبه الدقيق من بعض الوجوه بينهما وبين الوفاء مع الحلول، فقد كان الواجب على هذا البعض أن يرجع إلى مصدر المادتين المذكورتين ومأخذهما وأن يتعرف المراد بالحوالة ليبين له الفرق بين النوعين وبيان ذلك هو أن المادتين المذكورتين مأخوذتان عن أصلهما من القانون المختلط وهما المادتان (223) و (224) وهاتان مأخوذتان عن، أصلهما الفرنسي وهو الفقرة الثانية من المادة (1236) ونصها (بل يجوز أن يوفيه آخر لا مصلحة له في الوفاء بشرط أن يكون باسم الملتزم، وإذا وفاه باسم نفسه فلا يكون القصد الحوالة على المدين ليكون له عليه حقوق الدائن)، فأنت ترى من هذا أن الشارع الفرنسي كان أحكم من الشارع المصري في التنبيه بصيغة النفي، على أنه في حالة ما إذا كان الموفي أجنبيًا وكان الوفاء باسم نفسه لا يكون القصد الحوالة، وما صنع الشارع الفرنسي هذا الصنيع إلا ليبعد عن الذهن ما قد يعلق به من وجوب قبول المدين أو إعلانه كما في الحوالة.
هذا هو نص الفقرة الثانية من المادة (1236) الفرنسية، أما الفقرة الأولى من هذه المادة فمتعلقة بحالة الدفع من الضامن أو المسؤول عن الدين مع المدين، وهذه حالة أخرى كما بينا وهي الحالة التي أراد البعض الخاطئ جعلها قيدًا في المادتين (160) و (161) أما المراد بالحوالة فهو ما سنبينه في الفقرة الآتية:

5 – أما الحوالة فليس المراد بها أن يدفع إنسان عن إنسان آخر مبلغًا من النقود ويحل محل الدائن فيه بل المراد بها البيع أي أن الدائن يبيع دينه على مدينه بأي مبلغ كان بأن يبيع المائة بعشرة مثلاً مما يدخل في باب المضاربة، ويدل على هذا أن الحوالة عرفها الشارع الفرنسي بأنها بيع الديون والمزاعم، ويدل على ذلك أيضًا من قانوننا نفسه ما قالته المادة (348) (من أنه يتبع في بيع الديون ومجرد الحقوق الخ) وما قالته المادة (349) من أن ملكية الديون والحقوق المبيعة لا تنتقل ولا يعتبر بيعها صحيحًا.. الخ)، فأنت ترى من هذا التعبير أن المراد بالحوالة إنما هو البيع لا الدفع من أجنبي مع حلوله بقدر ما دفعه وإذن يكون الفرق بين الحالتين واضحًا، ومن آثاره أن الوفاء من الأجنبي لا يبيح له سوى الرجوع على المدين بقدر ما دفعه فقط لا الدين كله ولا ملحقاته ولا تنتقل إليه مزاياه بخلاف الحوالة فإن ذلك كله ينتقل للمحتال لمجرد قبول المدين وهذا هو أحد الفروق بين الحوالة والوفاء من أجنبي، وقد شرح هذا الموضوع شرحًا وافيًا فقهاء المصريين مثل المرحوم فتحي باشا والأستاذ ذهني بك والأستاذ السنهوري بك والهلالي بك، إذ قالوا جميعًا بأن المراد بالحوالة إنما هو البيع وأن ليس معناها الوفاء من أجنبي مع حلوله بقدر ما دفعه ثم بينوا فروقًا خمسة بين الحالتين فعليك بما كتبوه، غير أنهم قالوا إن اشتراط قبول المدين للحوالة نقله الشارع المصري عن الشريعة الإسلامية وهذا صحيح، ولا يفوتني هنا التنويه بأن المراد بالحوالة في الشريعة الإسلامية إنما هي أعمال الكمبيالات من سحب وقبول على الوديع أو المدين للمحيل مع حالة واحدة من حالات الاستبدال التي أشارت إليها المادة (187) مدني، وهي حالة استبدال الدائن.

6 – أن تحتيم الوفاء من شخص المتعهد لا يكون إلا إذا كان يتضح من حالة التعهد أن مصلحة المتعهد له تقضي ذلك كأن يكون المتعهد خطاطًا أو مثالاً أو ممثلاً، وهذه حالة غير حالة الموفي الأجنبي لدين من النقود.
أن في تقييد المادتين (160) و (161) بتلك القيود الخاطئة تعطيل لهما مع أن في أعمالهما خيرًا للمدين، لأن الأجنبي يمكنه أن يضمن الدين بلا علم المدين ثم يوفيه فتنتقل إليه كل حقوق الدائن ومزاياه وهذه حالة أشد على المدين من حالة ما إذا وَفَّى عنه الأجنبي بدون أن يكون ضامنًا هذا ما عنَّ لي في هذا الموضوع،