العملات الرقمية .. هل هي واقع أم تهديد؟
د.صلاح بن فهد الشلهوب
بمجرد إعلان “فيسبوك” عزمها على إطلاق عملتها ليبرا “libra” أصبح هناك حديث عن مخاطر تتعلق بهذه العملة الرقمية، وفي الوقت الذي يتحدث البعض عن خطورة مثل هذه الخطوة، إلا أن بعض المسؤولين في الولايات المتحدة تحدثوا عن تأخير هذه الخطوة، بغرض الحد من آثارها السلبية المتعلقة باستخدامها في غسل الأموال، وتسهيل العمليات غير المشروعة في العالم، إلا أن الأمر فيما يظهر أنه أعمق من هذا التهديد أو المخاطر.

الحديث عن العملات الرقمية، وأنها يمكن أن تكون مستقبل العملات في العالم، حديث يكتسب مع الوقت أهمية أكبر، وهو كالحديث عن قضايا مثل التوسع الحاصل حاليا في عمليات البيع والشراء إلكترونيا، والحديث عن دور الروبوت أو الذكاء الاصطناعي في المستقبل، وكيف أن شكل الحياة مستقبلا سيكون مختلفا، ولعل أحد هذه التطورات، يمكن أن يكون من خلال العملات الرقمية، التي بدأت منذ فترة تأخذ زخما، خصوصا بعد الانتشار الواسع لتداول عملة بيتكوين، وأصبحت المؤسسات الإعلامية المهتمة بالاقتصاد تتابع تداولاتها، كما تتابع تداولات الأسواق الأمريكية أو العملات أو حتى أسعار النفط، وهذا يدل على أن مسألة القبول بفكرة التعامل بمثل هذه العملة أو غيرها، أصبح منتشرا عالميا، وإن لم يكن ذلك بشكل رسمي في كثير من دول العالم.

القلق عالميا من الاعتماد على هذه العملات الرقمية لا يقتصر على جانب الاستخدام غير المشروع لتلك العملات، بل الأمر أكبر من ذلك، فهو قد يؤدي إلى اتجاه عام يتجاهل دور البنوك المركزية في مسألة إدارة السيولة، ودورها فيما يتعلق بإصدار العملات، كما أن خطورتها تأتي من أن التعامل بها قد لا يخضع إلى معايير مرتبطة بعوامل اقتصادية تختص بالبلد المصدر للعملة، وإنما بحالة من العرض والطلب غير المنطقية، التي يمكن أن تحدث مضاربات لا تعود إلى أساس منطقي، وهذا ما يحصل اليوم في عملة مثل “بيتكوين”، كما أنه لا يمكن النظر إليها مثل النظر إلى مجموعة من التحولات والثورة التقنية، التي يشهدها العالم اليوم، كما أن الشركات يمكن أن تكون لاعبا رئيسا في هذا التحول، حيث إن شركة فيسبوك هي من ستتبنى مشروع عملة ليبرا، وهذا امتداد لتزايد نفوذ الشركات، خصوصا بعد النظام الجديد لمنظمة التجارة العالمية، الذي عزز من نفوذها وامتدادها الجغرافي، حتى يرى البعض أنها أصبحت بعض الشركات متعددة الجنسيات، وهذا تحد لسلطة وسيادة الدول في المستقبل، إذ إن العملات جزء رئيس من دور الدولة، والدول لا تتهاون في هذا الأمر، فهي تفرض التعامل بعملاتها، كما أنها تسعى لتحقيق قبول عالمي لها بما يمكن اقتصاد الدولة.

الصراع المتوقع في المستقبل فيما يتعلق بالعملات الرقمية، فيما يظهر أنه سيكون بين الشركات العملاقة والدول، حيث تعتمد الدول فيما يتعلق بالعملة وإصدارها وقبولها على اقتصاد الدولة، في حين أن الشركات العملاقة ستعتمد على قدراتها الإنتاجية، حيث ستمثل العملة التي يمكن أن تصدرها إنتاجيتها فهي أشبه بالإيصالات التي تمثل قيمة ما تنتجه تلك الشركات من سلع وخدمات، إضافة إلى مركزها المالي وكفاءتها في تحقيق النمو في أعمالها، وهذا التحدي الذي يشهده العالم لا يعلم كيف سينتهي بحال العملات التي يتداولها الناس؟، فلو نجحت شركة فيسبوك مع شركائها في مشروع عملة ليبرا، فإن ذلك سيشجع شركات أخرى تقنية وغير تقنية على تشكيل تكتلات مشابهة، لإصدار عملة رقمية مثل شركة أبل، أو شركة ألفابت، التي تمتلك محرك البحث “جوجل” وغيره من المواقع، التي يمكن أن يكون لعملاتها قبول عالمي أكبر من كثير من العملات المهمة المتداولة حاليا، نظرا لقوة ونجاح الشركات التي يمكن أن تصدرها، ويبقى التحدي الأكبر للاقتصاد العالمي أنه كيف يمكن له أن يتعامل مع مثل هذه المتغيرات؟ خصوصا أن هناك رفضا قاطعا من قبل كثير من دول العالم لمثل هذا التحول، ولكن هذا الرفض هو مؤقت إلى أن تأخذ هذه العملات وضعها الطبيعي عالميا، أم أنه يمكن أن يحمل ردة فعل تأخذ منحى آخر قد يؤدي إلى تجريم إصدار عملات من قبل الشركات، وهو أمر مستبعد -والله أعلم- عطفا على الحالة العامة المتعلقة بعملة مثل “بيتكوين”.

فالخلاصة أن العملات الرقمية لا يمكن النظر إليها فيما يتعلق بالتطور التقني والرقمي حاليا في المعاملات الإلكترونية وتقنية الذكاء الاصطناعي، فهو تحد قد يؤدي إلى سلب جزء رئيس من وظائف البنوك المركزية في الدول، كما أنه قد يوسع من نفوذ الشركات العملاقة في العالم، إضافة إلى تحديات تتعلق بتسهيل حركة الأموال من المصادر غير المشروعة.

إعادة نشر بواسطة محاماة نت