العدول الاختياري عن الجريمة وأثره في العقاب – مقال قانوني .

العدول في نوعي الشروع:

الشروع نوعان: ناقص، وهو الجريمة الموقوفة، وتام، وهو الجريمة الخائبة. والعدول في صورتيه متصور في الشروع الناقص، وهو متصور كذلك في الشروع التام، فالجريمة قد تخيب لأسباب لا دخل لإرادة الفاعل فيها كما لو أطلق شخص الرصاص على عدوه فلم يصبه أو أصابه في مقتل ثم شفي من إصاباته؛ ولا يثير العقاب في هذه الحالة شكاً. ولكن هل يتصور العدول الاختياري في الشروع التام؟ أنكر ذلك بعض الفقهاء محتجين بأن الجاني قد أتى كل ما يلزم لتنفيذ الجريمة، ويعني ذلك أنه إذا كانت النتيجة لم تتحقق على الرغم من ذلك، فالمرجع إلى أسباب غير إرادية، فلا يكون للعدول الاختياري محل. وهذا الرأي معيب، فالعدول الاختياري متصور إذا أتى الجاني – بعد إتمام نشاطه الإجرامي – فعلاً أفسد به ذلك النشاط وحال دون تحقيق النتيجة، مثال ذلك أن يعطي شخص عدوه مادة سامة فيتناولها ثم يعدل عن مشروعه الإجرامي فيعطي المجني عليه ترياقاً يفسد أثر السم فلا تحدث الوفاة، أو أن يلقي به في الماء لإغراقه ثم يعدل عن ذلك فينتشله وينقذ حياته. فإن أفسد الجاني نشاطه على هذا النحو، فلا يقال أن خيبة الجريمة ترجع إلى أسباب “لا دخل لإرادة الجان فيها”، وإنما هي راجعة إلى أسباب إرادية، ومن ثم يخرج هذا الوضع من نطاق تعريف القانون للشروع، فلا يكون محل لتوقيع العقاب.

وعلى هذا النحو، فالفرق بين نوعي الشروع لا يقوم على أساس أن العدول الاختياري متصور في أحدهما دون الآخر، وإنما أساسه اختلاف صورته في كل نوع: فإذا كان الشروع ناقصاً فإن العدول الاختياري يتخذ صورة موقف سلبي يتخذه الجاني بدءاً من مرحلة معينة من مراحل تنفيذ الجريمة، إذ الفرض أنه بدأ في تنفيذها ولكنه لم يتم ذلك، ولذلك يتحقق العدول بكفه عن إتيان الأفعال التالية التي تلزم لإتمام الجريمة: فإذا رفع الجاني عصاه ليضرب المجني عليه بنية قتله فإنه يكفي للعدول الاختياري أن يمتنع عن إنزال ضربته به. أما إذا كان الشروع تاماً فإن العدول الاختياري يأخذ صورة فعل إيجابي يفسد به الجاني آثار عمله السابق ويحول بذلك دون أن يؤدي إلى تحقق النتيجة الإجرامية، إذ الفرض أنه قد قام من جانبه بكل الأفعال التي يسعه القيام بها لتنفيذ الجريمة وأن النتيجة توشك أن تتحقق كأثر لهذه الأفعال فيتعين أن يأتي فعلاً إيجابياً تالياً يحبط به علمه السابق، فإن عاق بإرادته تحقق النتيجة الإجرامية فلا عقاب عليه باعتباره شارعاً في جريمة. وقد سبق أن أتينا بأمثلة للعدول الاختياري في الشروع التام.

مرحلة الجريمة التي ينتج العدول الاختياري فيها أثره:

لا ينتج العدول الاختياري أثره فيحول دون العقاب إلا إذا كان سابقاً على لحظة تمام الجريمة وسابقاً كذلك على لحظة توافر أركان الشروع بوقوف التنفيذ أو خيبة أثره لأسباب لا ترجع إلى إرادة الجاني. فإذا تمت الجريمة استحق مرتكبها العقاب فلا يجديه بعد ذلك ندم أو إصلاح الضرر الذي ترتب على الجريمة، فالتوبة الإيجابية، أي اللاحقة لا أثر لها في القانون المصري. وتعليل ذلك أن الأهمية القانونية للعدول مقتصرة على الشروع دون الجريمة التامة. وإذا توافرت أركان الشروع فوقف التنفيذ أو خاب لأسباب غير راجعة إلى إرادة الجاني، فقد استحق العقاب فلا يجديه بعد ذلك أنه عدل اختياراً عن تكرار فعله على الرغم من أنه كان يستطيع ذلك، فمن أطلق النار على عدوه بنية قتله فلم يصبه فقد توافرت أركان الشروع وتعين العقاب، وانقضت بذلك المرحلة التي كان متصوراً أن يكون للعدول فيها تأثير، فلا يجدي الجاني القول بأنه كان يستطيع أن يطلق عياراً ثانياً، ومع ذلك فقد أحجم بإرادته عن ذلك.

أثر العدول الاختياري:

يترتب على العدول الاختياري عدم توقيع العقاب من أجل الشروع، سواء في ذلك أقلنا أنه مانع عقاب أم اعتبرناه نافياً أحد أركان الشروع، وهو “إيقاف تنفيذ الفعل أو خيبة أثره لأسباب لا دخل لإرادة الفاعل فيها”. وعدم العقاب ينصرف إلى تكييف الفعل بأنه شروع، ولكن إذا كان القانون يكيفه في الوقت نفسه بأنه جريمة تامة وقع العقاب من أجله، فالفعل يحتمل في القانون تكييفين: ولا عقاب عليه طبقاً لأحدهما في حين يعاقب عليه وفقاً للآخر، ويدعم هذا الحكم أنه ليس مقبولاً أن يتخلص الجاني من عقاب جريمة لمجرد أنه فشل في ارتكاب جريمة أخرى أشد منها. فإذا بدأ الجاني في تنفيذ القتل ثم عدل باختياره عن إتمامه فلا عقاب عليه باعتباره شارعاً فيه، ولكن يعاقب باعتباره مرتكباً جريمة جرح أو ضرب إذا ترتب على فعله مساس بسلامة جسم المجني عليه؛ وإذا بدأ الجاني في تنفيذ جريمة تسميم ثم خيب اختياراً أثر فعله بإعطاء المجني عليه ترياقاً فلا عقاب عليه باعتباره شارعاً في تسميم، ولكنه يعاقب باعتباره مرتكباً جريمة إعطاء مواد ضارة؛ وإذا حاول الجاني ارتكاب جريمة وقاع أنثى بغير رضائها ثم عدل عنها باختياره فلا عقاب عليه باعتباره شارعاً فيها، ولكنه قد يعاقب باعتباره مرتكباً جريمة هتك عرض بالقوة أو التهديد.

سلطة القضاء في إثبات إيقاف تنفيذ الفعل أو خيبة أثره:

القول بأن تنفيذ الجريمة قد أوقف أو خاب أثره وتحديد ما إذا كان مرجع ذلك إلى إرادة الجاني فينتفي الشروع المعاقب عليه أم إلى أسباب غير إرادية على نحو يتوافر به الشروع، كل ذلك يدخل في سلطة قاضي الموضوع يستخلصه من وقائع الدعوى دون رقابة عليه من محكمة النقض. ولكن يلتزم القاضي – إذا أدان المتهم بالشروع – بأن يثبت في حكمه أن إيقاف التنفيذ أو خيبة أثره ترجع إلى أسباب غير إرادية، فإن لم يفعل فحكمه قاصر التسبيب، إذ أغفل بيان ركن يقوم عليه الشروع. ولما كان القانون يضع بواعث العدول الاختياري على قدم المساواة ويقرر كذلك حكماً واحداً لكل حالات الإيقاف أو الخيبة التي لا ترجع إلى إرادة الجاني، فإن قاضي الموضوع لا يلزم ببيان ذلك ولا يقبل فيه جدال أمام محكمة النقض.

اعادة نشر بواسطة محاماة نت .