إنتهاك خطر لمبدأ استقلالية القضاء

إعداد مبارك العبدالله

ربما تكون جلسة مجلس الأمة «المداولة الثانية» والمخصصة لإقرار قانون ضم الادارة العامة للتحقيقات الى النيابة العامة ليكوّنا جسدا واحدا، هو نوع من المغامرة بعد أن تم إقراره بشكل نهائي، وذلك لأن السلطة القضائية أوضحت أنه لا يجوز بأي شكل من الأشكال أن يتم ضم هذه الإدارة إلى النيابة التي تعتبر جزءاً من السلطة القضائية.
وتوضح السلطة القضائية ما معناه أنه لا يجوز ضم «الجمل بما حمل»، مشيرة في الوقت نفسه إلى أن الجميع يشهد على أن التحقيقات تعج بها المخالفات والأخطاء التي بحاجة إلى الإصلاح، فمن غير الملائم والمتفق عليه أن يكون ضمها مباشرة للسلطة القضائية التي هي أساسا رفضت العديد من موظفي إدارة التحقيقات سابقاً في الانضمام إليها، فكيف يلزمها القانون اليوم بضمها؟
ولأن الموضوع يعتبر في غاية الحساسية، خصوصا بعد وعود السلطة القضائية بتقديم اعضائها المعنيين في النيابة العامة مشروع دعاوى قضائية بعد إقرار القانون بشكل نهائي يطالبون بإلغاء هذا القانون لعدم دستوريته، حيث أكدت مصادر مطلعة أن البعض قد يفرح بولادة هذا القانون، لكننا نقول له إن الطلاق سيكون غدا.

مصادر قضائية رفيعة المستوى أكدت لــ القبس أننا نعيش في بلد يقوم على المؤسسات الدستورية المتمثلة في السلطات القائمة على شؤون البلاد، سواء كانت تشريعية أو قضائية أو تنفيذية، كل منها يعمل في مجال في ظل مبدأ الفصل بين السلطات، وفي ذات الوقت فهي ترتبط جميعا برباط التعاون الوثيق فيما يحقق المصلحة العليا للبلاد داخليا وخارجيا.
وقالت المصادر تعليقا على موضوع ضم ادارة التحقيقات الى النيابة العامة، «لعله من المناسب في هذا المقام ايضاح الأمر بأن القضاء مؤسسة دستورية بوصفها سلطة قضائية مرجعيتها المجلس الأعلى للقضاء وهو المهيمن على قبول وتعيين رجال القضاء واعضاء النيابة العامة عند تخرجهم من الجامعة وفق ضوابط وشروط محددة لضمان اختيار أفضل العناصر التي تصلح لتولي مسؤولية القضاء، وحمل رسالة العدل والانخراط في الأسرة القضائية والالتزام بتقاليدها الراسخة المتوارثة والالتزام بضوابط وسلوك يتناسب ويتلاءم مع هيبة القضاء».
واستطردت المصادر «فما يباح للآخرين لا يباح لأعضاء السلطة القضائية، وما يغفر للآخرين لا يغفر لهم بوصفهم الحكم الفصل في الخصومات بين الأفراد بعضهم البعض أو بين الأفراد والدولة، بيما يتعين أن يكونوا محل ثقة الجميع وضمير الأمة، فضلا عن انهم يلقون عناية خاصة لدراسة القانون قبل توليهم منصب القضاء، اذ يتم تأهيلهم ولمدة عامين في المعهد القضائي، يتلقون فيه الدراسة النظرية والعملية على أيدي أساتذة قانون وكبار المستشارين ويتدربون على دراسة القضايا المختلفة ليصبحوا قضاة المستقبل، ثم يلتحقون من بعد بالنيابة العامة ويباشرون العمل داخل الأسرة، ثم يتدرجون لتولي مهمة القضاء بالجلوس على منصته العالية لإرساء قواعد الحق والعدل بين الناس.
وأضافت المصادر قائلة،‍ وإذا كنا قد بدأنا بتعريف موجب عن ماهية القضاء والعمل فيه، فمن المناسب ان نتناول بالتعريف ماهية ادارة التحقيقات وطبيعة العمل فيها، وفي هذا المقام نقول ان ادارة التحقيقات قد ورد النص عليها بالمادة 167من الدستور بأنها جهة «الأمن العام» أي الشرطة، فهي تختص – على سبيل المثال – بتحقيق الجنح مراعاة لواقع البلاد وظروفها وفقا لما ورد بالمذكرة التفسيرية، وهي بطبيعة الحال تتبع السلطة التنفيذية ممثلة في وزارة الداخلية،
وهذا الاستثناء الدستوري استثناء دائم وليس مؤقتا وعلى فرض انه استثناء مؤقت فإن الاختصاص القضائي في قضايا الجنح يعود للنيابة العامة تدريجيا دون نقل الأفراد الذين يمثلون جهة الأمن العام (الشرطة).

تشريعات حديثة
واشار المصدر الى ان الدليل على ذلك ان كثيرا من التشريعات الحديثة التي تنطوي على مواد عقابية يسند الاختصاص بقضايا الجنح فيها إلى النيابة العامة، ومن هذه التشريعات على سبيل المثال «قانون غسل الأموال – قانون الحماية الفكرية- قانون المطبوعات والنشر- قانون هيئة سوق المال وغيرها من القوانين المماثلة».
واكملت المصادر انه تبقى ادارة التحقيقات تختص بالجنح التقليدية البسيطة، ومع ذلك فان ادارة التحقيقات تضم اكثر من ألف محقق من بينهم إناث، ومن بينهم ايضا محققون كانوا اصلا رجال امن لم يتم تعيينهم ابتداء محققين.
واوضحت المصادر ان الكل اجمع على ان ادارة التحقيقات تعاني من علل كثيرة وفق ما اظهره التقرير النموذجي الذي اعدته اللجنة المشتركة من الداخلية والقضاء التي قامت ببحث اوضاع تلك الادارة كافة وشخصت الداء فيها والدواء، فهل يكون العلاج حينئذ بنقلها الى القضاء وهي على هذه الصورة المعتلة؟.. بل نحاول علاج تلك العلل داخل الادارة ذاتها خاصة ان من شأن ضم تلك الادارة الى النيابة العامة مما سيؤدي حتما الى خلخلة المراكز القانونية لاعضاء النيابة واقدمياتهم، وهو ما لا يجوز وفقا للدستور، فضلا عن ان ظروف العمل بالنيابة العامة لا تحتمل حاليا اضافة اعباء جديدة خاصة ان اعضاء النيابة العامة لا يزيد عددهم عن 270 هذا من ناحية.
وزدات المصادر: من ناحية أخرى، فان من أبسط المبادئ المستقرة في العرف الإداري ان مسألة النقل او الضم من جهة الى جهة أخرى، لا تتم الا بموافقة الجهتين الإداريتين المعنيتين في النقل او الضم معا، هذا على فرض تبعية الجهتين المذكورتين لسلطة واحدة، فكيف اذا كانت كل من الجهتين تتبع سلطة مستقلة عن الأخرى؟ بالطبع لا يستويان.

قانون كارثي
وعقبت المصادر على ما قيل من أن قانون ضم ادارة الفتوى للنيابة العامة قانون اصلاحي، فاننا نقول ان هذا القانون ليس كذلك بل هو قانون «كارثي»، وقد وصلت خطورته لأكثر من عشر درجات على مقياس «ريختر» للزلزال، ويعد في ذاته «للخلف در».
وقالت المصادر ان اهل مكة ادرى بشعابها، ونحن أهل الدار وساكنوها وانتم تنظرون من شقوق الباب، واذا كنتم قد عرفتم شيئا فقد غابت عنكم اشياء كثيرة اهم، متسائلة: كيف يتم هذا الامر رغم عدم موافقة السلطة القضائية ممثلة بمرجعيتها الشرعية (المجلس الاعلى للقضاء)، واعتراضها الصريح على هذا الامر الخطير وغير الملائم؟ وهل هذه المحطة المفصلية من تاريخنا تجسد المبدأ العريق الذي بشر به الدستور، واستبشرنا خيرا بتوجيهات الرواد الأوائل المؤسسين، الا وهو مبدأ «روح التعاون بين السلطات»، ام اننا ننظر الى الأمور نظرة غير موضوعية على مبدأ «هذا لكم وهذا أُهدي إلي».
واكدت المصادر ان هذا الامر يجعلنا نقول وبصراحة، ومؤكدين ان هناك محاذير كثيرة، بل وخطيرة ستترتب على الضم ان صدر قانونه، ابسطها اقامة دعاوى ادارية من اعضاء النيابة العامة طعنا على عدم مشروعيته، لما سيحدثه من خلل في مراكزهم القانونية المستقرة، وأقدمياتهم المتسلسلة وسيتم الدفع بعدم دستورية هذا القانون الذي ولد ميتاً لفقدانه الأسس الصحيحة والمعايير الموضوعية التي يستلزمها اصدار أي قانون، ولعل أصدق قول في هذا الشأن هو قول اخواننا الأفاضل وأحبابنا من أبناء القبائل الكرام في مثل معبر يقول «لا تفرحين بالعرس، ترى الطلاق باجر».
ودعت المصادر الى القول إن حقيقة الأمر والقصد الخاص من وراء هذا القانون لا يتمثل في الرغبة بالانضمام للأسرة القضائية للمشاركة في حمل رسالتها السامية، لكنه يهدف فقط الى الحصول على الميزات المالية والأدبية لأعضاء النيابة العامة، ولا وسيلة لذلك الا الضم والالحاق ولو على حساب السلطة القضائية.

الورقة الأخيرة

وأشارت المصادر الى أن الاخوة المحققين قد طالبوا من قبل بمنحهم العلاوة الأخيرة التي منحت لأعضاء السلطة القضائية، ولما أخفقوا في ذلك اضطروا لرفع دعاوى قضائية للمطالبة بمساواتهم بالمزايا المادية والأدبية لأعضاء النيابة العامة، واذ رفضت دعواهم فلم يجدوا أمامهم الا الورقة الأخيرة، فتوجهوا الى مجلس الأمة متقدمين بأربعة مشاريع متماثلة تدور جميعها حول نقلهم الى النيابة العامة، ليصبحوا من بين أعضائها وجزءا من السلطة القضائية بعد مرور أكثر من قرن من الزمان على انشاء هذه الادارة التي تتبع جهة الأمن التي تديرها الشرطة احدى جهات السلطة التنفيذية.
وطرحت المصادر تساؤلات: هل من الجائز أو من الممكن في ظل الحقائق السابقة وبما ينطوي عليه الأمر – في حال صدور القانون – من انتهاك خطر لمبدأ استقلال القضاء وخرق واضح وصريح لمبدأ الفصل بين السلطات، ان يتم ضم الادارة المشار اليها الى النيابة العامة؟
واوضحت المصادر ان الاجابة عن هذا السؤال، انه لا يتأتى الضم بأي حال من الاحوال ولكن يمكن حل المشكلة بجعل ادارة التحقيقات جهة مستقلة يشرف عليها النائب العام وتتبع وزير العدل، كما هو شأن ادارة الفتوى والتشريع (محامي الدولة ومستشارها والمدافع عن قضايا المال العام).
وختمت المصادر تصريحها بالقول: ألا هل بلغت، اللهم فاشهد.