الامتثال، الانحراف والجريمة

الدكتور عمر عبد الجبار

مقدمة

دراسة الامتثال والانحراف أساسية في علم الاجتماع لأنها تكشف كيفية تفاعل الأفراد مع الضوابط والقيود الاجتماعية. يتناول هذا الفصل كيفية دراسة علم الاجتماع للانحراف كما أنه يعرّف العديد من مفاهيم الانحراف والضبط الاجتماعي. بعد ذلك يعرض الفصل النظريات البيولوجية والنفسية حول الجريمة والانحراف، ثم يتبعها بالنظريات التي ساهم بها علماء الاجتماع. ثم نناقش الجريمة والطرق التي تقاس بها وكذلك أنواع الجرائم والمجرمين. بعد ذلك ينظر الفصل في موضوع السجون والوسائل المغايرة لمنع الجريمة والمعاقبة عليها. في الختام يناقش الفصل الجريمة والانحراف في النظام الاجتماعي.

7/1 دراسة السلوك المنحرف

الانحراف مصطلح يشير إلى عدم الامتثال إلى قاعدة معينة أو حزمة من القواعد التي يقبلها معظم أفراد المجتمع. وما يعتبر انحرافاً يمكن أن يتغير من زمان لآخر ومكان لآخر. الجريمة هي انتهاك القوانين وخرقها، وتدل القوانين على القواعد التي عرّفت وحددت بواسطة الحكومات.

ترى نظرية الضبط الاجتماعي أن الأفراد يتعلمون الالتزام بالقواعد الاجتماعية من خلال تفاعلهم مع الأفراد الذين يطيعون القوانين.

يقر المجتمع مجموعة من الجزاءات ويقوم بتطبيقها لتعزيز القواعد والمعايير الاجتماعية. ويمكن أن تكون الجزاءات سلبية أو إيجابية كما يمكن أن تكون رسمية أو غير رسمية.

7/2 النظريات البيولوجية والنفسية عن الجريمة والانحراف

* النظريات البيولوجية

تحاول النظريات البيولوجية تحديد صفات الناس التي تجعلهم ميالين لحياة الجريمة. يرى عالم الإجرام الإيطالي سيزر لمبروزو أن معظم المجرمين منحلون وقاصرون بيولوجياً. الأفراد ذوو التكوين الجسماني العضلي النشيط أقرب احتمالاً لإن ينحرفوا مقارنة مع أصحاب التكوين الجسماني الرفيع. وقد ظلت النظريات البيولوجية عرضة لانتقادات واسعة.* النظريات النفسية

تربط النظريات النفسية الجريمة بأنماط معينة للشخصية. ويرى البعض أن قلة من الأفراد تنمو فيهم أنماط من الشخصيات لا أخلاقية ومضطربة عقلياً تتميز بالعزلة والانطواء وانعدام العواطف والابتهاج بالعنف. لكن أفضل ما يمكن أن تقوم به النظريات النفسية عن الجريمة هو توضيح بعض وليس كل جوانبها.

أهم الانتقادات التي وجهت إلى النظريات النفسية هو أن الأفراد المضطربون عقلياً ليس بالضرورة أن يكونوا منحرفين.

7/3 الجريمة والمجتمع: النظريات الاجتماعية

تنظر النظريات الاجتماعية إلى الجريمة من خلال الارتباط بين الامتثال والانحراف في أطر اجتماعية مختلفة. العوامل والأطر الاجتماعية مثل الثروة، السلطة، السلالة، الإثنية والنوع تعمل على تشكيل تعريف الانحراف وتحديده.

النظريات الاجتماعية الأساسية:

* نظرية الاختلاط التفاضلي لادوين سذرلاند: ترى أن الأفراد يصبحون جانحين من خلال اختلاطهم مع أفراد حاملين للقيم الإجرامية. في مناطق الثقافات الفرعية، تشجع بعض البيئات السلوك غير القانوني بينما لا تشجعه بيئات أخرى. الأنشطة الإجرامية يتم تعلمها بنفس الطريقة التي يتعلم بها تلك الأنشطة المطيعة للقانون وهى موجهة بصورة عامة نحو نفس الاحتياجات والقيم.

* نظرية اللامعيارية: من أبرز إسهامات عالم الاجتماع الفرنسي إميل دوركايم، وتعنى انعدام قواعد ومعايير السلوك الواضحة. قام روبرت ميرتون بتعديلها لتشير إلى التوتر الذي يوضع على سلوك الفرد عندما تتناقض القواعد الاجتماعية (أن تصير غنياً مثلاً) مع الواقع الاجتماعي (كون أنك فقيراً). حدد ميرتون خمسة أنواع من ردود الفعل نحو هذا التناقض هي: الامتثال، الاختراع، الطقوسية، الانسحاب والثورة.

* نظرية الوصم: واحدة من أهم النظريات في فهم الإجرام أوجدها هوارد بيكر. ترى النظرية أنه لا يوجد فعل منحرف وآخر طبيعي وإنما يحدد الناس الذين هم في مواقع القوة والسلطة ماهو منحرف وما هو غير ذلك. عندما يوصم الشخص بأنه منحرف بعد انحراف أولي، فإنه سيقبل الوصمة، وهو ما سيقود إلى انحراف ثانوي.

* النظريات التفاعلية: تركز النظريات التفاعلية على الانحراف كظاهرة تنشأ اجتماعياً. يتساءل التفاعليون عن الطريق التي يعرّف بها سلوك ما كسلوك منحرف، ولماذا أن جماعات بعينها وليس كل جماعات المجتمع هي التي توصم بالانحراف. ترى نظرية “النوافذ المهشمة” مثلاً، أن أي علامة صغيرة عن الفوضى والاضطراب الاجتماعي ستشجع جرائم أخرى أكثر خطورة.

* نظرية علم الإجرام الحديث: عبارة عن تحليل للانحراف والجريمة في إطار بنية المجتمع ومحاولات الاحتفاظ بالسلطة من قبل الطبقات الحاكمة.

* النظرية الواقعية: نظرية ترى أن علم الإجرام بحاجة إلى الانشغال بالقضايا الواقعية والسياسة الاجتماعية من أجل السيطرة على الجريمة بدلاً عن الجدل المجرد حول تلك القضايا. تنظر هذه النظرية إلى الجريمة كمشكلة حقيقية خاصة في المناطق الهامشية وقاع المدينة.

* نظرية الضبط: تفترض هذه النظرية أن الجريمة تحدث نتيجة لعدم التوازن بين الدوافع نحو النشاط الإجرامي والضوابط الاجتماعية أو المادية التي تعمل على ردع تلك الدوافع. يرى ترافس هيرش أن هناك أربعة أنواع من الروابط التي تربط الناس بالمجتمع والسلوك الممتثل للقانون وهى: الانتماء، الاعتقاد، الالتزام والمشاركة.

يرى منظرو الضبط أنه بدلاً من تغيير المجرم فإن السياسة الأفضل هي اتباع إجراءات عملية للحد من مقدرة المجرم على ارتكاب الجريمة. أحد هذه الإجراءات أو التقنيات ما يعرف بـ “تصعيب الهدف” أي جعله صعب المنال للمجرم. تعمل هذه التقنية على جعل حدوث الجريمة أمراً صعباً من خلال التدخل المباشر في”مواضع الجريمة”.

7/4 ربط عوامل المستويين الأكبر والأصغر

أوضحت دراسة وليام شامبليس بعنوان “القديسون والأفظاظ” أهمية ربط عوامل التحليل ذات المستوى الأكبر بتلك ذات المستوى الأصغر. القديسون هم أبناء الطبقة الوسطى العليا في حين أن الأفظاظ يأتون من خلفيات اجتماعية واقتصادية متدنية. وجد شامبليس أنه لا توجد فئة من الفئتين أكثر جنوحاً من الأخرى لكن الأفظاظ لهم مشاكل مع الشرطة باستمرار.

أوضح شامبليس أن المعاملة التفاضلية للفئتين من قبل الشرطة ترتبط بالطريقة التي يصف بها الوالدان أطفالهم الجانحين. الآباء من القديسين يرون أن أولادهم يشاركون في مزاح غير مؤذ في حين أن الآباء من الأفظاظ يصفون سلوك أبنائهم كسلوك إجرامي. لذلك يواصل الأفظاظ حياتهم بالوصمات السلبية وتستمر مشاكلهم مع القانون.

من دراسة شامبليس يتضح أن الخلفية الطبقية للفرد تحدد كيفية وصم المجتمع له، ويصعب الانفصال من الوصمة بعد إلصاقها. لذلك فإن فصل العوامل الكبرى من الصغرى في عملية النشوء الاجتماعي للانحراف تبدو صعبة.

7/5 الجريمة وإحصاءات الجريمة

العديد من الجرائم لا يبلّغ عنها أبداً لدى الشرطة لأسباب قد تتعلق بالجاني أو المجني عليه أو الجناية نفسها وملابساتها. يرى علماء الإجرام أن حوالي نصف الجرائم الخطيرة مثل السرقة والعنف لا يبلّغ عنها.

* الجريمة والنوع

تشير الإحصاءات إلى أن النسبة الأكبر من الجرائم يرتكبها الرجال ونادراً ما تتضمن مخالفات النساء عنفاً. من الجرائم النموذجية وسط النساء سرقات المتاجر.

* الشباب والجريمة

تعكس الإحصاءات الرسمية معدلات عالية من الجريمة وسط الشباب، لكن الهلع الأخلاقي حول إجرام الشباب قد لا يعكس بصدق الواقع الاجتماعي وذلك لأن إجرام الشباب يرتبط بنشاطات ليست جرائم بالمعنى الدقيق للكلمة.

* جرائم الياقات البيضاء

هي الجرائم التي يرتكبها أفراد في القطاعات الغنية من المجتمع، وتشمل جرائم الاحتيال الضريبي، جرائم الاختلاس وممارسات البيع غير القانونية. هذا النوع من الجرائم يمضى دون أن يعاقب عليه.

* جرائم المؤسسات

أكثر الناس تأثراً بجرائم المؤسسات هم أولئك الذين يعانون من أنواع من التمييز الاقتصادي الاجتماعي. النتائج المترتبة على جرائم المؤسسات يمكن أن تكون أكثر خطورة من جرائم العنف. وغالباً ما يتجاوز عدد الوفيات من مخاطر العمل عدد جرائم القتل في المجتمع.

* الجريمة المنظمة

هي أشكال من النشاط لها صفات الأعمال التجارية المألوفة لكنها غير قانونية. ويرى بعض الباحثين أن نشاطات الجماعات المنظمة أصبحت أكثر عالمية. وقد أقامت الجماعات الإجرامية التحالفات فيما بينها متمثلة في التجارة العالمية في المخدرات، الأسلحة، المواد النووية وغسيل الأموال التي أصبحت مترابطة عبر الحدود وبين الجماعات الإجرامية. في الوقت الراهن صارت الجريمة المنظمة أكثر سهولة ويسراً بسبب التطور في تقنية المعلومات.

* الجرائم الالكترونية

الجرائم الالكترونية مصطلح يشير إلى الجرائم التي ترتكب بواسطة تقنية المعلومات. ومن المؤكد أن التطورات الأخيرة في تقنية المعلومات ستغير من وجه الجريمة بطريقة جوهرية.

أشارت بعض الدراسات إلى أنواع متعددة من الجريمة التي تقوم على تقنية المعلومات مثل الاعتراض والتصنت غير القانوني للمكالمات، التخريب والإرهاب الالكتروني، سرقة خدمات الاتصالات، الاحتيال الالكتروني، جرائم تحويل المال الكترونياً وغسيل المال الالكتروني. في التسعينيات من القرن الماضي كان الاحتيال الالكتروني احد أكثر أنواع الجرائم نمواً في الولايات المتحدة. ويشكل انتشار الجرائم الالكترونية على مستوى العالم تحدياً لتطبيق القوانين.

7/6 إستراتجيات خفض الجريمة في مجتمع المخاطر

منع الجريمة الموضعي مثل (تصعيب الهدف) ـ جعل حدوث الجريمة أكثر صعوبة بالتدخل المباشر في مواقف الجريمة الممكنة ـ ونظم المراقبة أصبحت من الوسائل المفضلة لإدارة مخاطر الجريمة. لكن هذه التقنيات لا تتعامل مع الأسباب الأساسية للجريمة مثل التفاوت الاجتماعي، البطالة والفقر. كما أنه لا توجد علاقة واضحة بين عدد ضباط الشرطة في الشوارع ومعدلات الجريمة.

* الشرطة ومجتمع المخاطر

يرى بعض علماء الاجتماع أن معظم وقت الشرطة موجه نحو نشاطات مثل تصنيف المعلومات، كتابة التقارير أو تبادل البيانات. التركيز على جمع البيانات وتحليلها يمكن أن يكون مثيراً للضجر بالنسبة للشرطة. لذلك فان نمو رقابة المجتمع وجماعات ملاحظة الجوار من الممكن أن تمثل تعزيزاً أساسياً للشرطة في مجتمع المخاطر.

7/7 الجريمة، الانحراف والنظام الاجتماعي

تعتبر عقوبة السجن من الحلول العامة والشائعة لردع الجريمة. لكن العديد من الدراسات الاجتماعية أظهرت أن السجون يمكن أن تصبح وبكل سهولة مدارس للجريمة، لذلك فإن رقابة الشرطة للمجتمع والخوف من العار يمكن أن تكون من الوسائل المغايرة لردع الجريمة.

المجتمع الذي يتسامح تجاه السلوك المنحرف ليس بالضرورة أن يعانى التمزق الاجتماعي. وقد أظهرت العديد من الدراسات أن معدلات جرائم العنف العالية توجد في المجتمعات التي تتميز بالانقسامات الاجتماعية الكبرى وعدم المساواة الاقتصادي.

الولايات المتحدة الأمريكية مثلاً، بها أعلى نسبة من نزلاء السجون من السكان مقارنة بالبلدان الأخرى، ويرى العديد من الباحثين أن السجون المعاصرة غالباً ما تنمى القيم الإجرامية وتعززها أكثر من أن تصححها.

اعادة نشر بواسطة محاماة نت