الخطبة بين مدونة الأسرة والقانون الجنائي

لم يكن ميلاد مدونة الأسرة وليد الصدفة أو الحظ ،بل هو نتاج تراكمات وتضافر عدة عوامل منها ما هو اقتصادي واجتماعي وثقافي إضافة للإرادة المولوية في هذا المجال من خلال الحرص على التكريس الفعلي لمفهوم المساواة بين الرجل والمرأة في شتى مناخ الحياة وخاصة في الميدان الأسري.

إن مدونة الأسرة والتي جاءت بعدة مستجدات من خلال الحفاظ على المرجعية الدينية واحترام المواثيق الدولية 1/.صبت روح التغيير على مجموعة من المفاهيم والتي كانت وفي الأمس القريب يصعب النبش فيها كالمفهوم الجديد للخطبة باعتبارها مؤسسة أصبحت تضاهي مؤسسة الزواج سواء من حيث التعريف أو الآثار.

ولعل الوعي بأهمية التطبيق السليم لمواد هذه المدونة كان هو الدافع إلى إحداث أقسام قضاء أسرة متخصصة بالنظر في القضايا الأسرية2/
لكن بالرغم من هذه الإصلاحات التشريعية والقضائية يبقى التساؤل مشروعا حول مدى المقاربة الشمولية للمشرع المغربي عند إقدامه على أي إصلاح تشريعي ،أو بمعنى آخر هل الثورة المفاهيمية التي عرفتها مدونة الأسرة قد استوعبتها نصوص القانون الجنائي ،وأخص بالذكر هنا مفهوم الخطبة.

المطلب الأول: المفهوم الجديد للخطبة على ضوء مدونة الأسرة

إن تحديد مفهوم الخطبة يقتضي الوقوف على تعريفها تم بعد ذلك تحديد آثارها

الفقرة الأولى: تعريف الخطبة

يعتبر الزواج من بين أهم العقود المقدسة التي خصها الشارع الحكيم بأحكام خاصة باعتباره من العقود الأبدية ،لذلك كان لهذا العقد مقدمات تخصه وتعتبر بمثابة التمهيد له وهي عبارة عن فترة زمنية من أجل التفكير والتروي والتأكد من الرغبة الحقيقية على الإقدام على هذا الترابط الأبدي.3/
ومقدمات عقد الزواج هي ما يسمى بالخطبة والتي عرفها الأستاذ أحمد الخمليشي :
” طلب الر جل يد امرأة للتزوج بها وعدم رفض هذه الأخيرة لهذا الطلب وتواعدهما على إبرام عقد الزواج الرسمي.”4/

وقد جاءت مدونة الأسرة بطفرة مفاهمية فيما يخص مفهوم الخطبة الذي كان إبان مدونة الأحوال الشخصية ،فلم يعد الالتزام المسؤول حكرا على مؤسسة الزواج بل أصبح معترفا به على مستوى مؤسسة الخطبة.

فبالرجوع إلى مقتضيات المادة 5 من مدونة الأسرة نجدها تنص على أن :

“الخطبة تواعد رجل وامرأة على الزواج.

تتحقق الخطبة بتعبير طرفيها بأي وسيلة متعارف عليها تفيد التواعد على الزواج ،ويدخل في حكمها قراءة الفاتحة وما جرت به العادة والعرف من تبادل الهدايا”

ومن هذا المنطلق أصبحت الخطبة تواعد بين رجل وامرأة على الزواج، فمن جهة تم استبدال عبارة وعد بالزواج التي كانت في المدونة القديمة بعبارة “تواعد” وهو أمر ذو بعد غاية في العمق.

فالتواعد هو توافق إٍرادتين على إحداث أثر معين بخلاف الوعد الذي يصدر عن الإرادة المنفردة 5/،وبالتالي ينفي أو يهمش دور المخطوبة في تقرير مصير الخطبة.

ومن جهة أخرى تم حذف عبارة “وليس بزواج” التي كانت في ظل المدونة القديمة والسبب في ذلك هو كون الآثار المترتبة عن الخطبة تغيرت رأسا على عقب إذ لم تعد الخطبة مجرد إجراء بسيط أو مقدمة شكلية لا تأثير لها ولو أن المدونة تضمن لكلا الطرفين الحق في فسخها باعتبارها فترة اختيار6/ .

الفقرة الثانية : آثار الخطبة

إن من بين أهم الآثار التي تنتج عن الخطبة ثبوت النسب للشبهة 7/،
والشبهة هي من المسائل المادية التي يبقى تقديرها خاضعا للسلطة التقديرية للقاضي ،وقد ذهب المجلس الأعلى إلى “كون الشبهة تثير الكثير من المشاكل في إثباتها كمحاولة الزاني التستر على ما فعله.. ” 8/
ولثبوت نسب الحمل الناتج في فترة الخطوبة لامناص من توفر مجموعة من الشروط هي تلك التي عددتها المادة 156 من مدونة الأسرة وفق
الأتي:

-الإيجاب والقبول
– إشهار الخطبة بين أسرتيهما ،وموافقة ولي الزوجة عند الاقتضاء
– أن يكون الحمل خلال فترة الخطوبة
– إقرار الخطيبين بأن الحمل منهما
وهذه الشروط التي تتطلبها مدونة الأسرة تجعل الزواج قائما حكما من الناحية الفقهية دون الإشهاد عليه من عدلين وإن كان الأمر من الناحية القانونية يطرح تساؤلا حولا ما إذا كان يجب إبرام عقد زواج وفق شكلياته أمرا ضروريا أم لا في حالة لحوق نسب الطفل؟.9/

وثبوت النسب للشبهة تطبيق لقاعدة فقهية أخرى نصت عليها المادة 151 من مدونة الأسرة ،وهي أن النسب يثبت بالنفي ولا ينتفي إلا بحكم قضائي يفيد اليقين ،إذ المقرر فقها أن أحكام النسب تطبق عليه القواعد التي تعتبر من قبيل الناذر.10/

من هذا المنطلق إذا فإن الخطبة أصبحت مؤسسة توازن مؤسسة الزواج على مستوى نصوص مدونة الأسرة وبالتالي هل استوعبت نصوص القانون الجنائي هذا النوع من المساواة القانونية بين المؤسستين خاصة مع اصطدام قواعد القانون الجنائي بمبدأ التفسير الضيق للنص ؟

المطلب الثاني : مؤسسة الخطبة والمفهوم الضيق للنص الجنائي

إن سلطة الدولة في العقاب هي حلقة من الحلقات التي عرفها الفكر البشري، والتي مرت من شخصية سلطة العقاب والانتقام إلى وضعه بيد الدولة نتيجة لنظرية العقد الاجتماعي11/
ولعل من أهم المبادئ المؤطرة للعقوبة هي المساواة باعتبارها حجر الزاوية في إعمال القواعد القانونية وخاصة النص الجنائي إحقاقا للعدل والإنصاف

ومن ضمن نتائج هذا المبدأ الإعمال الجامد لمفهوم الشرعية الجنائية والتي تقيد سلطة القاضي الجنائي في حدود القراءة الضيقة للنص الجنائي.
ولإبراز هذا التصور سنتطرق لمفهوم الخطبة ضمن النصوص الجنائية في علاقتها بمؤسسة الزواج ،وعلى وجه التحديد حالة القتل أو الضرب أو الجرح الناتج عن الخيانة الزوجية نموذجا.

الفقرة الأولى:مكانة مؤسسة الخطبة في حالة القتل أو الضرب أو الجرح بين الخطيبين
في حالة الخيانة الجنسية بين أحدهما وشخص آخر.

تعتبر جريمة القتل العمد من أخطر الجرائم التي توجه ضد الأشخاص والماسة بالحق في الحياة باعتباره أسمى الحقوق الإنسانية.

وقد أجمعت كل التشريعات على أهميتها من خلال العقوبات المخصصة للقاتل،وبالنسبة المشرع المغربي تطرق لتعريف هذه الجريمة وتحديد عقوباتها من خلال الفصل 392 من القانون الجنائي .
غير أن هذه الجريمة قد تطرأ عليها تغييرات سواء منها الزمنية أو المكانية أو الشخصية …. تؤثر سلبا أو إيجابا في تغير العقوبة ،ولعل شخص الجاني في دراستنا هته يلعب دورا محوريا ،والنموذج الأمثل لإبراز هذا التصور هو حالة القتل أوالضرب أو الجرح المرتكب من طرف أحد الزوجين

فبالرجوع إلى مقتضيات المادة 418 من القانون الجنائي12/ نجدها تنص على :
“يتوفر عذر مخفض للعقوبة في جرائم القتل أو الضرب أو الجرح إذا ارتكبها أحد الزوجين ضد الزوج الأخر وشريكه عند مفاجأتهما متلبسين بجريمة الخيانة الزوجية “

فمن خلال هذا النص يظهر أن المشرع المغربي حصر الاستفادة من العذر المخفض للعقوبة على الزوجين فقط دون غيرهما ،أو بمعنى آخر أن النص لا ينطبق على أي رابطة بين رجل وامرأة خارج نطاق الزوجية ،كحالة القتل أو الضرب أو الجرح الناتجين بين الخطيبين في حالة وجود خيانة جنسية مع شخص آخر،الأمر الذي لا يستقيم مع روح مدونة الأسرة التي سوت بين المؤسستين (الزواج و الخطبة) وإن كانت الثانية لا ترقى إلى الأولى من حيث الشكليات القانونية المتطلبة في انعقادها ،الأمر الذي أصبح معه تدخل المشرع في هذا المجال أمرا لامناص منه تفعيلا لمفهوم الحماية الجنائية للأسرة بمفهومها الواسع

الفقرة الثانية: حول إمكانية تدخل تشريعي لتعديل الفصلين 418 و491من القانون الجنائي

إنه وبالتمعن فيما سبق رصده من تعريف للخطبة وتحديد أهم آثارها سيظهر بجلاء أن هذه المؤسسة ومن دون شك أصبحت تضاهي مؤسسة الزواج ،سواء من حيث تعريف الرابطة القانونية بين الخطيبين والتي تستلزم من حيث المبدأ وجود تواعد بالزواج ،أي التزام ملزم لجانبين .أو من حيث الآثار خاصة فيما يتعلق بثبوت النسب في حالة وجود حمل بين الخطيبين في فترة الخطوبة.

فإذا انطلقنا من قدسية عقد الزواج لتبرير استفادة الزوجين من العذر المخفض للعقوبة فهل من المعقول أن نستبعد الخطبة كمرحلة ممهدة للزواج لإضفاء نفس القدسية عليها خاصة في الحالة التي يوجد فيها حمل وتوفرت جميع الشروط لإلحاق نسبه، مما يجعل الزواج كما سبق ذكره منعقدا حكما ،وإن كانت باقي الشكليات القانونية المفروضة في الزواج غير متوفرة

وبالتالي فإن توفير الحماية الجنائية للخطيبين في فترة الخطوبة من خلال منحهما الغذر المخفض للعقوبة في حالة وجود قتل أو ضرب أو جره ناتج عن خيانة أصبحت ضرورة تشريعية
هذه الضرورة التشريعية التي تقتضي ومن باب الانسجام أن تجر وراءها تعديل الفصل 491 من القانون الجنائي13 وذلك بجعل الخيانة بين الخطيبين من الجرائم الشكلية التي تتوقف على شكاية الخطيب أو المخطوبة درءا للفضيحة .

لكن وبالمقابل فإن الخطيب أو المخطوبة الذي وقع في خيانة وقدمت في مواجهته شكاية من الطرف الآخر يجب أن يتابع بنفس العقوبة المخصصة للخيانة الزوجية لا بالعقوبة المقررة في جريمة الفساد (الفصل 490 من القانون الجنائي)لمحاولة الموازنة بين الامتيازات الممنوحة للخطبين والواجبات الملقاة على عاتقهما

إن أي إصلاح تشريعي ،ولكي يكون في العمق لا يجب أن يتم بمنأى عن باقي النسق القانوني ،أي أن النظام القانوني في شموليته تتقاطع جميع مكوناته ، وبالتالي فإن أي تدخل إصلاحي تشريعي يستلزم وجود رؤية ذات بعد شمولي تأخد بعين الاعتبار جميع مكونات المنظومة التشريعية .تفاديا للوقوع في عدم الانسجام بين النصوص قانونية .