الصكوك العقارية تبحث عن حماية
محمد بن سعود الجذلاني
في الوقت ِ الذي يُعلـِّقُ فيه الاقتصادُ الوطنيُ آمالـه على سوقِ العقارِ في المملكة ليسهم في حفظ توازن الاقتصاد السعودي ووقايته من الخطر الذي دهم كثيراً من اقتصادات العالم بأسره، وذلك لما تختص به السوق العقارية في المملكة من خصائص إيجابية كبيرة أبرزها عدم تورطها في أزمات تشابه أزمة الرهن العقاري الأمريكي، كما أن المواطنين والمستثمرين – خصوصاً مَن كانوا ضحية ما حدث في سوق الأسهم السعودية من نكسةٍ خطيرةٍ – ينظرون ببعض الأمل إلى سوق العقار في المملكة أن يكون منقذاً لهم أو مخففاً من آثار الخسارة في سوق الأسهم التي قادت إلى كثيرٍ من الآثار السيئة اجتماعياً واقتصادياً وتهدمت لأجلها بيوت عامرة، كما وصل الحال بكثيرٍٍ من أفراد الطبقة الوسطى إلى الإفلاس والعوز والحاجة بعد حالة الكفاف التي كانوا يعيشونها، أقول في هذا الوقت الذي ينتظر من الاستثمار العقاري أن يرمم بعض ما تهدم ويحفظ توازن المجتمع واقتصاد الدولة أطلت علينا بوادر أزمةٍ جديدةٍ لم تتكشف بعد عن كامل صورتها وأبقت الجميع في حال ترقب لما تسفر عنه من بوادر، إنها أزمة صكوك الملكية العقارية التي بدأت في إيقاف كثيرٍ من الصكوك والإعلان عن إعادة النظر فيها والتشكيك في صحتها والإلماح إلى ما تنطوي عليه من مخالفات وتجاوزات لبعض الأنظمة والمراسيم والتعليمات الواجبة، بل يوصف بعضها بالتزوير وأنه لا أساس له أصلاً.

إن هذه الأزمة الخطيرة تجعل وزير العدل الجديد فضيلة الدكتور محمد بن عبد الكريم العيسى أمام منعطفٍ خطيرٍ واختبارٍ صعب يحتاج إلى الكثير من الحكمة والاتزان والواقعية مع مراعاة المصالح الشرعية المعتبرة والنظر في المالآت والعواقب قبل وأثناء وبعد بحث موضوع هذه الصكوك على اختلاف مواقعها وأنواعها والمخالفات المنسوبة إليها، ولكوني ممن تشرف بالعمل مع الوزير زميلاً ثم أصبح نائباً للرئيس إبان عملي قاضياً في ديوان المظالم فقد عرفت عنه – وفقه الله – الحكمة والتروي وبُعد النظر والعمق في معالجة الأمور،

وذلك ما جعله يحظى بثقة خادم الحرمين الشريفين والتي انتهت لتعيينه وزيراً للعدل في هذا الوقت الحرج تحديداً، حيث يؤمل منه القيام بكثيرٍ من الإنجازات ومواجهة عقبات كبيرة تقف أمام النهوض بمرفق العدل والقضاء بحيث أصبحت محل اهتمام ومتابعة وحرص خادم الحرمين الشريفين حتى انتدب لتحقيقها خيرة الرجال الذين عرف عنهم الكفاءة والقوة والأمانة لحمل المسؤولية في المجلس الأعلى للقضاء ووزارة العدل وديوان المظالم بحيث لا يتخلف أي من هذه القطاعات العدلية القضائية عن الآخر، ولتدخل جميعها في سباق مع الزمن في تحقيق الغايات الشريفة المنوطة بها والمنتظر منها تحقيقها على جميع المستويات، مستمدين العون من الله – عز وجل – بعد أن تفضل خادم الحرمين الشريفين فهيأ لهم جميع الوسائل والسبل وسخر لهم الإمكانات الجبارة التي لم تكن متوافرة من قبل وبذل – حفظه الله – الغالي والنفيس، ومن ذلك مشروع الملك عبد الله لتطوير القضاء الذي دعمه بمليارات الريالات، وذلك حتى لا يكون لأحدٍ عذر في التقصير أو التأخر في القيام بالخطوات الواجبة التي تمليها علينا ظروف هذه المرحلة للنهوض بمرفق القضاء ومعالجة الأمراض المزمنة التي يعانيها لمزاولة دوره الرائد في تحقيق العدل والأمن في ربوع هذه الدولة – حرسها الله من كل سوء.

أعود للحديث عن أزمة الصكوك وأجدد القول بأنه ينتظر من الوزير – وفقه الله – أن يكون لهذه الأزمة الخطيرة معالجة ٌ شاملة ودقيقة تحقق المصالح وتدرأ المفاسد. وقد حداني لكتابة هذه السطور ما رأيته يلوح في الأفق من مخاطر محدقة وأضرارٍ جسيمة قد تحدث – لا سمح الله – تلحق الأذى بالجميع وأخطر ما فيها أنها لا تقتصر على صعيد الاستثمار العقاري فقط ولا ينحصر الضرر فيها بمن تمسهم مباشرةً ممن يملكون العقارات التي تشملها هذه الصكوك الموقوفة فقط، إنما الأمر أخطر وأشمل وأعمق من ذلك كله، إنها نذارة سوءٍ بمقدرات الدولة وأمنها واقتصادها وثقة الناس بأنظمتها، إن حركة التشكيك الكبيرة التي أصبحت تتفاقم ويتسع مداها في صكوك كثيرٍ من الأراضي والمخططات، بل والأحياء السكنية القائمة، بدعوى ما بنيت عليه هذه الصكوك من مخالفات وتجاوزات فيها أو في الصكوك المتفرعة عنها، ما نتج عنه اتساع دائرة القلق والانزعاج الشديد الذي أصاب المواطنين على اختلاف درجاتهم تجاراً كانوا أو أفراداً تملكوا هذه العقارات بطرقٍ شرعية ووضعوا فيها أموالهم واستثماراتهم دون أدنى شكٍ في شرعيتها، كونهم استندوا في توثيق هذه الملكيات إلى كتابات العدل التي أناط بها النظام توثيق عقود الناس وألزم الناس بالرجوع إليها وحذرهم من أي بيعٍ أو عقدٍ لا يكون مستنداً إلى صكوك صادرة من هذه الإدارات العدلية القضائية.

ولكل متابعٍ أن يتصور مدى الخطر والضرر الذي يلحق بشرائح واسعة من المواطنين أكثرهم من ذوي الدخل المحدود ممن عانوا كثيراً وعملوا بكدٍ وجهدٍ شطراً من أعمارهم منتظرين فيها اللحظة التي ينعمون فيها بامتلاك أرض يقيمون عليها سكناً لهم أو امتلاك بيتٍ يلم شملهم ويستر عوراتهم، وحين يتحقق الحلم يتسامعون أن ما بأيديهم من صكوك ملكية أنها محل نظر وبحث وأنه يشك في صحتها وسلامتها، وقد يقال لهم يوماً لا مقام لكم فارحلوا عن بيوتكم وأراضيكم ولا ينفعكم ما بأيديكم من صكوك موثقة من كتابات العدل فابحثوا عمن باعكم وطالبوه بإعادة أموالكم.

إن هذه صورة واحدة من صور ما قد يؤول إليه الحال في حال مضت وزارة العدل في طريق إلغاء صكوك بعض العقارات التي تناقلتها الأيدي وتم تداولها بيعاً وشراءً ورهناً واستثماراً ووقفاً إلى غير ذلك، وكل هذه التصرفات التي تمت على هذه العقارات كانت عبر كتابات العدل المنوط بها توثيق ذلك. ولعل هذه الصورة لا تكون أبداً – بإذن الله – لكن مجرد فتح الملفات القديمة لصكوكٍ صدر بعضها من سنواتٍ طويلة والتحقق من نظامية وشرعية إصدار هذه الصكوك، فإن ذلك سيؤدي بلا شك إلى عواقب لا تحمد على جميع المستويات كما أشرت.

وحتى لا يأخذ الحديث منحىً عاطفياً خاليا من التأصيل الشرعي والنظامي، ولئلا أكون بالغت في التعميم أو ابتعدت كثيراً عن حقيقة ما يحدث الآن من بحثٍ لبعض الصكوك فقد يقال: إن هذه الصكوك صدرت بالمخالفة لأوامر سامية وأنظمةٍ وتعليماتٍ بلغت لكتابات العدل بعضها قديماً وبعضها حديثاً، بل إن بعض هذه الصكوك قد توصف بالتزوير، وأنه ليس لها أساس شرعي ولا نظامي تستند إليه وإذا ما ثبت شيءٌ من ذلك فإن القاعدة الشرعية تنص على أن (ما بني على باطلٍ فهو باطل) وأنه (ليس لعرق ظالم حق) بل قد يقول قائلٌ: إن كثيراً من هذه الأراضي أخذت بغير حق وحازها أفرادٌ من الناس بمساحات كبيرةٍ جداً مما ضيق على الناس ورفع أسعار العقارات دون حق، بل وأسهم في عرقلة مشاريع التنمية بحيث قد يحتاج إلى تخصيص أراض لمشاريع حكومية ومرافق تخدم الناس فلا تتوافر هذه الأراضي مما يُلجئ الدولة إلى نزع ملكيات وتعويض أصحابها من خزينة المال العام.

فأقول: كل ذلك قد يكون صحيحاً وله وجهٌ، إلا أنه يجب لمعالجة مثل هذه التجاوزات أن ينظر إلى الموضوع من جميع جوانبه. وحتى لا يتم حمل الكلام على محامل بعيدة ولا يساء فهم حديثي هذا، فإني أؤكد أن الجهات المنوط بها بحث هذا الموضوع والبت فيه والقائمين عليها، وفي مقدمهم وزير العدل كلهم محل ثقتنا وظننا بهم أحسن مما نظن في رأينا وعلمنا، ولا أدعي هنا أني أهديهم إلى ما يخفى عليهم، بل أعلم يقيناً أنهم ينظرون لهذا الموضوع ويعالجونه بعد إطلاعهم على دقائقه وتفاصيله التي قد يغيب عني كثير منها. إلا أن حديثي هذا ليس إلا مساهمة في الإصلاح ودعوة للتريث والحكمة، وتذكيرا ببعض الجوانب التي قد لا يتنبه لها أثناء المراجعة والبحث، والله تعالى يقول (وذكّر فإن الذكرى تنفع المؤمنين).

وأحب التأكيد ابتداءً على أنه ينتظر بعد البدء في تطبيق نظام التسجيل العيني للعقار أن يتم القضاء على هذه الإشكالات جميعها وتحقيق الثقة بالملكية العقارية لمن هي بيده بعد حصوله على صك وتسجيله وفقاً لهذا النظام، من هذا المنطلق أنتقل مع القارئ الكريم إلى بيان عدة نقاط لها مساسٌ مباشر ببحث هذا الموضوع فأقول:

أولاً: إن من الأسس التي نتفق عليها جميعاً أن أحكام الشريعة الإسلامية، إنما جاءت لتحقيق مصالح العباد ودفع المفاسد عنهم في جميع المجالات حالاً ومآلاً في الدنيا والآخرة في دينهم ودنياهم، وأن هذه الشريعة من الله – عز وجل – اشتملت من الأحكام على ما يحفظ للناس الضرورات الخمس المعروفة التي قررها العلماء وفقهاء الشريعة، وهي ضرورات (الدين – النفس – العقل – النسل – المال)، وهي التي تسمى بمقاصد الشرع، وهذه المقاصد باتفاق المسلمين تعد ضوابط لصحة التصرفات الخاصة والعامة ومشروعيتها، فهي ضوابط وأهداف لكل فعلٍ إنساني ولكل تشريعٍ أو فتوى أو قضاء أو بحث اجتهادي. يقول العز بن عبد السلام – رحمه الله: “إن الله تعالى شرع في كل تصرفٍ من التصرفات ما يُحصِّـل مقاصده ويُـوفـر مصالحه، فشرع في كل بابٍ ما يُحصِّـل مصالحه العامة والخاصة، فإن عمَّتْ المصلحةُ جميع التصرفات شُرعت تلك المصلحة في كل تصرف، وإن اختصت ببعض التصرفات شرعت فيما اختصت به دون ما لم تختص به..” (قواعد الأحكام 2/143).

وفي جانب التعليمات والأنظمة والأوامر التي تصدر عن ولي الأمر فلا يجادل أحدٌ أن الغاية لا تخرج عن تحقيق وحفظ مصالح الناس ودرء المفاسد عنهم وتبعاً لذلك فقد قرر فقهاء الشريعة أن (تصرف الإمام على الرعية منوط ٌ بالمصلحة). وهذه المقدمة مع أنها متقررة معلومة لدى الجميع، إلا أني أجدها لازمة للتأكيد على أن بحث موضوع الصكوك إنما جاء بدعوى مخالفاتها لبعض الأنظمة والتعليمات الواجبة الاتباع، وبما أن هذه الأنظمة التي قد تكون الصكوك صدرت بالمخالفة لها إنما تهدف في غاية الأمر إلى تحقيق المصلحة العامة وحفظ الأموال العامة أو الخاصة من التعدي والضياع، فإنه إذا ما تبين وجود صكوك صدرت بالمخالفة لها فإن بحث هذه الصكوك وتقرير ما يجب بشأنها يجب ألا يتم بمعزلٍ عن المصالح العامة التي قد تفوت أو المفاسد الكبيرة التي قد تحدث في حال تقرر إلغاء الصكوك بحيث تكون المصالح الفائتة أو المفاسد الواقعة أكبر بكثيرٍ من المصالح التي صدرت الأنظمة لتحقيقها أو المفاسد التي صدرت لدرئها، وهذا موضع يحتاج لما أكدت عليه من بُعد ِ النظر والحكمة والتروي وقد قال ابن الجوزي – رحمه الله: “مَن عاينَ بعين بصيرته تناهيَ الأمورِ في بداياتها، نالَ خيرَها ونجا من شرِّها، ومَن لـم يهتمَ بالعواقب؛ غلبَ عليه الحسُ فيأتيه العطب ُمن حيث ُرجا السلامة”.

ثانياً: إن من القواعد المتقررة شرعاً في باب مقاصد الشريعة أنه يندرج تحت المقصد الأساسي الكلي (حفظ المال) أحكام ٌ ومقاصد فرعية كفيلة بحفظ الأموال وجوداً وعدماً، ففي جانب الوجود تقصد ُ الشريعةُ إلى وضوح ِالأموالِ، أي استقرارها وتميزها عن غيرها وظهورها بالتوثيق، ومن ثمَّ ثباتُـها وإقرارُ ملكيتها لأصحابها وحماية هذه الملكية من أي اعتراض إذا ثبتت بطريق صحيح. وفي جانب العدم شرعت من الأحكام ما فيه إبعاد ُالضرر عن الأموال وحسم مادته وجبر الضرر الحاصل فيها. كما أن من مقاصد الشريعة في ذلك تحقيق أمن الأموال وقطع مادة الخصومات والنزاعات فيها.

ولا ينبغي إغفالُ هذه المقاصد الجليلة عند بحث موضوع الصكوك، بحيث ينبغي مراعاةُ جانب مهم ٍ فيها وهو أن نسبةً كبيرة منها أصبحت تحت أيدي أناسٍ آلت إليهم بطريقٍ شرعي نظامي وليست أيديهم عليها يد عدوان، بل هي يدٌ محقةٌ أقل ما توصف به أنهم حازوها بشبهة حق، وإن من العدل الواجب ومن المصلحة الظاهرة المعتبرة شرعاً أن يوفر لهم الحماية الشرعية والنظامية لأملاكهم وألا يحاسبوا على تقصير غيرهم ولا يعاقبوا بذنب سواهم.

ثالثاً: إنه إذا كانت القاعدة الشرعية المحكّمة أن (مَن سعى في نقض ما تم على يديه فسعيه مردودٌ عليه)، فإن مجال تطبيق هذه القاعدة يجب أن يتسع ليشمل من باب أولى إلزام جهات الحكومة بقبول وإنفاذ ما صدر على يد موظفيها من قضاة وكتاب عدل من حجج استحكام وصكوك ملكية أصدروها بصفتهم النظامية، وعبر ما منحتهم الحكومة من سلطات وما عهدت إليهم من تخصص وألزمت الناس بسلوك هذا السبيل لتوثيق أملاكهم وعقودهم ومبايعاتهم، فإذا ثبت تجاوز أحدهم صلاحياته ومخالفته لما بُلَّغ إليه من أنظمة وتعليمات فليس للحكومة ولا لمرفق من مرافقها ولا للقضاء الحق في توجيه أي سؤال لصاحب صك التملك بشأن نقص أو عيب إجراء من إجراءات الوثيقة بعد تسلمها من المحكمة، ما دام الإجراء الوحيد الذي يقوم به طالب الوثيقة هو فقط طلب الوثيقة، وليس له أي صفة ولا يقع عليه أي عبءٍ للتحقق من نظامية الصك وسلامة إجراءاته وموافقته، لما لدى القضاة وكتاب العدل من أنظمة وتعليمات التي لا يسأل عنها غيرهم، ويفترض أن تتحمل الحكومة أي خطأ في هذا الصدد كالدول المتحضرة، التي تتحمل أخطاء قضاتها وكتاب عدلها وموظفيها، تطبيقاً للقاعدة المتقررة في الشريعة والقانون وهي (مسؤولية المتبوع عن أعمال تابعه).

رابعاً: إن من المتقرر أن المستندات الرسمية كافة، بل حتى العرفية، تحظى بالحماية من قبل النظام كما هو الحال عند كل دول العالم، وذلك لأهميتها العظيمة للأفراد والسلطات معاً. والاستعمال الرسمي والفردي للأوراق الصادرة من الجهات الحكومية له أهمية كبرى في عصرنا الحاضر، لذا سنَّتِ الدولة الأنظمة التي تدعم الثقة بتلك المحررات الرسمية، من صكوك ووثائق حكومية ومستندات، حتى يتسنى لكل فرد التعامل والاحتجاج بها، دون شك أو ريب في سلامتها وحجيتها.

ومن ذلك ما نص عليه نظام التزوير من تجريم ومعاقبة مَن يثبت ارتكابه جريمة التزوير في الصكوك أو المستندات أو الوثائق أو استعمالها مع علمه بتزويرها، وحين يتعامل الناس وتجري العقود بينهم بموجب الصكوك الشرعية المشمولة بالحماية من الدولة والصادرة من جهات الاختصاص، ويتتابع على هذه الصكوك تصرفات وتتناقلها الأيدي مع توثيق كل تصرف عبر كتابات العدل التي لا يخفى على أحد أنها لا تُجري أي إفراغ أو توثيق مبايعة أو غيرها إلا بعد التحقق من صحة وسلامة الصك الأصلي وسريان مفعوله ومطابقته لسجله، وبعد كل ذلك يقال لمن بيده الصك إنه لا صحة للصك الذي بيدك وإنه مخالف للأنظمة والتعليمات أو حتى مزوّر وعليك الرجوع على من باعك ومن باعك يرجع على من باعه، وهكذا في سلسلة طويلةٍ أو قصيرة من الإلغاء والإبطال تؤدي إلى إشعال نار الفتنة والفوضى وإشغال الناس بالخصومات وتأجيجها بينهم مع ما يصاحب ذلك من مشاعر القهر والإحساس بالغبن والظلم وخسارةٍ عظيمة للأموال وإهدار حقوق كان يجب صيانتها، وما يقود إليه ذلك من إخلالٍ بالأمن خطير جداً – لا سمح الله – ولا يخفى أن الشارع الحكيم لعلمه سبحانه بمكانة المال في نفوس البشر قضى على لسان رسوله – صلى الله عليه وسلم: (أن من قتل دون ماله فهو شهيد)، وأنه – صلى الله عليه وسلم – قال في الرجل يريد أخذ المال، قال: (لا تعطه، قال: يا رسول الله، أرأيت إن قاتلني؟ قال: إن قاتلك فقاتله.

قال: أرأيت إن قتلني؟ قال: فأنت شهيد. قال: أرأيت إن قتلته؟ قال: هو في النار(. وما ذلك إلا لمكانة المال في النفوس وما فطرها الله عليه من حبه والتمسك به. خامساً: إن مما قد يثار في هذه المسألة أن الصكوك التي بأيدي الناس حالياً لا تفيد الملكية قطعاً وإنما لها حجية نسبية وأن نظام المرافعات الشرعية نص على أن الدعوى تقام على مَن بيده العين، وأن وجود صكٍ في يده لا يمنع سماع دعوى الملكية عليه ولا يمنع الحكم بخلاف ما هو مثبت في الصك من الملكية، وفي هذا الجانب أحب توضيح عدة أمور:

أ – إنه ينبغي التفريق بين ما يقضي به هذا الحكم وما هو حادث الآن في إيقاف ومراجعة كثيرٍ من الصكوك التي تم إيقافها، ويجري بحثها دون وجود دعوى من أحدٍ يدعي ملكية العقارات التي تتضمنها أو جزءاً من هذه العقارات ولا يخفى فرق ما بين المسألتين، ما يجعل إيقاف هذه الصكوك وإعادة بحثها وبحث ما تفرعت عنه مما يمكن وصفه بـ (الاحتساب غير المشروع).

ب – إن كثيراً من الصكوك الموقوفة حالياً تتفرع عن صكٍ أصله منحة غير مطابقة للأوضاع النظامية، وبذلك فإن الأرض في الغالب أصلها مملوكة للدولة وفي كثيرٍ من الحالات تم بيع هذه المنح وتناقلتها عشرات، بل مئات الأيدي وآلت إلى من هي بيده بطرقٍ شرعية صحيحة بحيث اشتروها من أموالهم، وتم توثيق هذا البيع عبر كتابات العدل التي لا تجري الإفراغ قبل التحقق من سلامة الصك وسريان مفعوله ومطابقته لسجله، وفي هذه الحال فليس من المصلحة الشرعية ولا العدل الواجب أن يرجع على الناس بإلغاء صكوكهم ويقال لهم: ارجعوا على مَن باعكم.

بل إن المصلحة تقضي والحال هذه أن يحاسب المقصر ويعاقب المخطئ، وأن تتحمل الحكومة أخطاء قضاتها وكتاب عدلها ويتم إقرار الناس على ما في أيديهم من أملاك اشتروها وهم حسنو النية وليسوا طرفاً في مخالفة ولم يكن منهم أي تواطؤ ولا ينسب لهم أي تقصير.

ج – أنه في الحالات التي يوجد فيها دعاوى خاصة أقيمت على من بيدهم الصكوك سواءً كانت هذه الصكوك حجج استحكام أو صكوك منح بحيث يخاصمهم غيرهم ممن يدعي ملكية الأرض المشمولة بالصك فإن هذه المسألة مما ينبغي فيها مراعاة التفريق بين حالات:

1 – أن يكون من بيده العين معتدياً كمن استخرج عليها حجة استحكامٍ مدعياً تملكه لها بطريق الإحياء أو غيره وهو كاذب، وهذا لا شك أنه لا اعتداد بما معه من صك والحق لمن بيده البينة على الملك.

2 – أن تكون العين بيد مَن آلت إليه بطريقٍ محقّة كمن اشتراها من غيره وهو لا يعلم بحق أحدٍ فيها ثم تبين له أنها أخذت بطريقٍ غير مشروع، فهذا مما اختلف فيه الفقهاء بين ثلاثة أقوال مشهورة، منهم من قال: إن صاحبها الأصلي يستحقها على مَن هي بيده مطلقاً، ومنهم مَن قال: لا يستحقها مطلقاً بل يرجع بالتعويض على مَن غصبها، وممن قال به عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب – رضي الله عنهما – ومنهم مَن قال: يستحقها مع دفع الثمن لمن هي بيده. وهذا يبين أن المسألة ليست حاسمة بالقول على أن مَن بيده العين يرجع على من باعه ويتخلى عن العقار مطلقاً، وأنه ينبغي في هذه المسألة مراعاة الأصلح والأرفق بحال الناس.

3 – أما الحال الثالثة فهي أن يكون العقار مما تناقلته أيد عديدة وتغيرت حاله عما كانت عليه، إما بغلاء سعره أو بما أحدثه الملاك أو أحدهم عليه من بناءٍ وتشييد، فليس من المصلحة ولا مما يتوافق مع مقاصد الشريعة أن تنقض كل هذه المبايعات والعقود ويضرب الناس ببعضهم في دعاوى لا تنتهي ليعود كل أحدٍ على من باعه ولا يدري أيحصِّـل منه ما دفعه له من مالٍ أم لا؟ ثم هل يعود المالك الأخير بالتعويض عن الأضرار والخسائر التي لحقته على مَن باعه مع أنه مثله حسن النية؟ وفي هذه الصورة إشكالاتٌ كثيرة ومفاسد يجب درؤها والحذر منها. سادساً: إنه لا يخفى مدى ما ستحدثه هذه الأزمة من التشكيك في الصكوك العقارية من آثار سيئة وعواقب وخيمة على الاستثمارات العقارية، خاصةً في هذه المرحلة التي بدأت السوق العقارية تنشط فيها على شكل شركات عقارية ضخمة تشترك فيها تحالفات استثمارية محلية ودولية، وتستهدف القيام بمشاريع كبيرة تعود على الاقتصاد الوطني وعلى المواطن بالخير.

وفي ظل زعزعة الثقة في صكوك الملكية العقارية في المملكة حتى ما كان منها صادراً من سنواتٍ طويلة، فلا شك أن هذا سيلقي بظلاله السيئة على هذه الاستثمارات ويشكل عامل طردٍ لها.

سابعاً: إنه ينبغي عند بحث موضوع الصكوك وقبل الإقدام على أي إجراء يخصها مراعاة ما يطول أصحاب الحقوق الذين يمسهم هذا الإجراء مباشرةً، وما قد يلحقه بهم من أضرارٍ وخسائر كبيرة دون خطأٍ منهم، والتأكيد على أن مثل هذه القضايا لو حدثت في الدول التي تطبق القوانين الوضعية لجاز لمن يتضرر بنقص أو ضياع ماله أو فوات أرباحٍ عليه أو وقوع أي ضرر مادي أو معنوي عليه بسبب مثل هذه الإجراءات أن يقيم دعوى تعويض ضد الحكومة يطالبها بتعويضه عما لحقه من خسارةٍ جراء أخطاء وتجاوزات موظفيها التابعين لها تطبيقاً للقاعدة المتقررة (مسؤولية المتبوع عن أعمال تابعه)، لذا فإن الشريعة الإسلامية التي هي مصدر الحكم والنظام في بلدنا – أعزها الله – أولى بحفظ هذه الحقوق وصيانتها من العبث والضياع وأولى بدرء المفاسد، ومنع وقوع الضرر والضرار من أي جهة كانت. لذا يجب على كل معالجةٍ وإجراءٍ وحكم أن يراعي هذه المسألة حتى لا توصم َ الشريعةُ بالنقص والقصور بسبب سوء تطبيق الأحكام الشرعية وقلة الفقه. هذا والله تعالى أسأل أن يوفق الجميع لمرضاته، وأن يمد القائمين على هذا الأمر وغيره من أمور المسلمين العامة بالتوفيق والسداد والله المستعان.

إعادة نشر بواسطة محاماة نت