لجان المناصحة في المملكة العربية السعودية

في هذه الأيام التي يعيش الوطن أجمل أيامه ، ويباهي العالم بأقوى لحمة ولاء وحب تشهدها دولة في العصر الحديث بين شعب وولاة أمره ، منبع هذا التلاحم وأساسه المتين تحكيم شرع الله عز وجل في كل شؤون الحياة ، وبعد أن شهد وطني الحبيب بالأمس القريب مظاهرةً جماهيرية شعبية تشابه ما خرج من مظاهرات في تونس ومصر وغيرها ، لكنها ليست مظاهرة للانقلاب على النظام بل لتأكيد الحب والولاء من شعب إلى ملك يعلمون جميعاً صدقه وصفاء قلبه وحبه التام لهم فضلا عن حنكته وحسن سياسته وقوته في الحق.
في هذه الأيام ذاتها أعلنت وزارة الداخلية أنه تم بتاريخ 12 صفر المنصرم إطلاق سراح المجموعة ال (17) من المستفيدين من مركز الأمير محمد بن نايف للمناصحة والرعاية وعددهم (10) مستفيدين، وذلك بعد استكمالهم برامج المركز وظهور المؤشرات الإيجابية الدالة على استفادتهم من الدورات العلمية والتدريبية المتنوعة؛ حيث تم إلحاقهم ببرنامج الرعاية اللاحقة الذي يهدف إلى تحقيق التوافق النفسي والاجتماعي لهم
وليس يخفى عن أحد أن الفضل في ابتكار وقيام ونجاح فكرة المناصحة وإعادة التأهيل للمتورطين في قضايا الإرهاب هو صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن نايف بن عبدالعزيز – وفقه الله – الذي قدم للناس أنموذجاً حياً يؤكد فيه أن الوطن يحب أبناءه ويكن ّ لهم الخير ، حتى لمن أساء منهم إليه وسعى في خرابه يوماً من الأيام . إذ كان بإمكان المملكة أن تواجه الإرهاب بنفس الطريقة التي تعامل بها الإرهابيون مع بلدهم عندما خانوا الأمانة ودنسوا الأرض المباركة بدماء رجال الأمن الطاهرة والأبرياء من المسلمين مستترين خلف شعار الجهاد المزعوم، لكنها قابلت الإساءة بالإحسان وقدمت العفو عند المقدرة بدلا من إيقاع الجزاء والعقاب عليهم.
ولعل الرؤية الثاقبة للمهندس الحقيقي لفكرة المناصحة مساعد وزير الداخلية المواطن الأمين الأمير محمد بن نايف بدعم من صاحب السمو الملكي الأمير نايف بن عبدالعزيز النائب الثاني لرئيس مجلس الوزراء وزير الداخلية، كانت هي الغالبة في هذا الأمر .
ولا أخفي أنني حين تعرض الأمير محمد بن نايف لمحاولة الاغتيال الآثمة الفاشلة التي حفظه الله منها ، غلب على ظني أن سموه سيعيد النظر في اتباع هذه الاستراتيجية وأن الطبيعة البشرية ستغلبه فيخف حماسه ودعمه لتطبيق برنامج المناصحة ، إلا أن ذلك لم يحدث مطلقاً بل استمر سموه يرعى هذا المشروع الخيّر ويسهر على نجاحه فأسأل الله ألا يخيب سعيه ، ولا حسن ظنه بربه .

لقد كان تطبيق المملكة لسياسة المناصحة والرعاية وإعادة التأهيل لمعتنقي هذا الفكر الضال في وقت مبكر منذ عام 2006م منطلقاً فقط من حب الوطن لأبنائه وحرصه على احتوائهم ومنحهم كامل الفرصة للعودة إلى صوابهم والاندماج في مجتمعهم والتفاعل إيجابياً معه ، فلم يكن تطبيق المملكة لهذه السياسة تحت تأثير أي ضغط أو من منطلق ضعف أو سعي لكسب رضا أحد سوى رضا الله عز وجل حيث طبقت هذه السياسة الرحيمة في وقت أوج قوتها وعزتها وقدرتها على التعامل بحزم وصرامة مع من يستوجب هذا الحزم ، وما تزال وستبقى دولتنا – بإذن الله – عزيزةً شامخة قادرة على العفو والعقوبة لا يحكمها في ذلك سوى مقتضيات المصلحة .

لقد أدركت وزارة الداخلية (أنه متى ما اطمأن الناس على أنفسهم ومجتمعهم وعلى ما يعتقدون به من قيم وثوابت عقائدية ووطنية، وآمنوا بما لديهم من مثل ومبادئ سامية فقد تحقق لهم الأمن الشامل في أسمى صوره ، أما إذا تلوثت أفكارهم بمبادئ خاطئة، ومناهج دخيلة ، وأفكار منحرفة وثقافات سلبية مستوردة فقد حل بينهم ذلك التطرف الفكري الذي يهدد مجتمعهم واستقرارهم ، لأن الأمن كلّ لا يتجزأ ، فكل محاولة للإخلال بالأمن الحسي يسبقها إخلال بالأمن الفكري ، والفكر هو مناط السلوك، فإذا صلح الفكر أصلح الطوية والتعامل الحسن ، وإذا فسد أو انحرف نتج عنه أعمال مخلة بالأمن والاستقرار) – منقول من كلمة مدير إدارة الأمن الفكري في موقع وزارة الداخلية الالكتروني .

لقد أنفقت الدولة بسخاء كبير جداً على برامج المناصحة والتأهيل ، وسخرت لها كافة الإمكانات البشرية والمادية ، وجندت لها رجالاً من حملة الفكر والعلم ، ليقاتلوا جيوش الظلام والضلال بعلمهم ونصحهم وفكرهم المستنير فيكونوا كما قال الله عز وجل : كم من فئة قليلة غلبت فئةً كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين .

ولم يقف دعم الأمير محمد بن نايف لهذه البرامج والمشمولين بها عند حد إطلاق سراح الواحد منهم ، بل تجاوزه إلى أبهى وأزكى وأعطر صور الحب والاحتواء والدعم وإظهار حسن النوايا وصدق المشاعر ، بتزويج بعضهم وحضور حفل زواجه ، ومشاركتهم في مناسباتهم الاجتماعية ، والسؤال عنهم بنفسه ، إلى غير ذلك من الأعمال التي لا يخفى على أحد مدى ما فيها من إرهاق جسم وإتعاب فكر وإشغال وقت ، لكن ذلك كله في سبيل الله أولاً ثم في سبيل وحدة واستقرار وسلامة هذا الوطن الحبيب .
وقد أذهلت هذه التجربة السعودية دول العالم في نتائجها وأسلوبها الذي انتهجته مع فئة يصنفها القانون الدولي ضمن أخطر فئات المجرمين ، فكيف تعامل بأكثر الأساليب رحمة وهدوءاً وسكينة ؟! لكن النتائج التي حققتها هذه الخطة أثبتت أن الرحمة التي تتعامل بها المملكة في هذا الباب إنما هي قوة عظمى لأنها رحمة من يمتلك كامل السلطة في البطش والمعاقبة والقسوة ، لا رحمة الضعيف .

فهنيئاً لنا بحب وطننا ، وحب ولاة أمرنا ، وأسأل الله عز وجل بمنّه وكرمه أن يديم علينا هذه النعمة ، وأن يوفقنا لشكرها ، وأن يجعلنا خير رعية لهم ، ويجعلهم خير ولاة أمر لنا آمين..