إن القانون الداخلي للدولة – في حالة عدم وجود إتفاقية تقرر عكس ذلك – هو الذي يحدد الجهة المختصة في طلب تنفيذ الإنابة القضائية من الدولة الأجنبية، وبما أن هذا الأجراء يكون نتيجة دعوى منظورة من قبل القضاء، فإن المحكمة التي تنظر النزاع هي الجهة المختصة في إصدار قرار طلب الإنابة القضائية، ومن ثم لا يجوز لأية جهة أخرى تقديم هذا النوع من الطلبات لخروجه عن إختصاص هذه الجهات(1). وإذا كان طلب الإنابة صادراً من جهة أخرى غير قضائية في الدولة، مثل هيئة معينة أو وزارة إلى وزارة في الدولة الأجنبية فإن هذه الإنابة لا يمكن إطلاق تسمية الإنابة القضائية عليها لعدم صدورها من قبل القضاء، ولذلك تخرج عن نطاق بحثنا. إن القضاء هو السلطة الوحيدة التي يحق لها طلب الإنابة القضائية وهذا ما أشارت إليه المادة (16- أولاً) من قانون الإثبات العراقي النافذ رقم 177 لسنة 1979 بنصها على أنه: (يجوز للمحكمة بوساطة وزارة الخارجية أن تطلب من القنصل العراقي أو من يقوم مقامه إستجواب الخصم أو تحليفه اليمين، أو الأستماع إلى شهادة الشاهد إذا كان مقيماً في الخارج).

وهكذا فإن الإنابة القضائية تصدر دائماً من السلطة القضائية الوطنية وتوجه الى السلطات المختصة في دولة أجنبية، وعلى وفق نص المادة (733) من قانون المرافعات الفرنسي الحالي، فإن القاضي الفرنسي يمكنه بناء على طلب الأطراف أو من تلقاء نفسه بصدد أي إجراء من إجراءات التحقيق أو أي تصرف قضائي آخر ضروري مطلوب في دولة أجنبية أن يلجأ إلى طريق الإنابة القضائية(2)، كذلك تصدر الإنابة القضائية من المحاكم التي تنظر الدعوى، ويمكن أن تصدر عن المحاكم البدائية أو محاكم الإستئناف سواء كانت هذه المحاكم عادية أو خاصة، ففي حالة نظر الدعوى من قبل إحدى نوعي المحاكم أعلاه، يمكن أن تصدر الإنابة القضائية منها، كونها محكمة موضوع، يتصدى القاضي فيها لبحث مسائل الوقائع والقانون، وإن الأدلة التي يمكن الحصول عليها قانوناً في مرحلة الإستئناف بالقوة نفسها التي كانت ممكنة أمام محكمة البداءة (3). فالأستئناف لا ينحصر دوره في مراقبة صحة الحكم من الناحية القانونية بل يؤدي إلى أعادة نظر الدعوى للفصل فيها من جديد من حيث الواقع والقانون أمام محكمة الأستئناف وصولاً إلى فسخه، مع إصدار حكم جديد فيه أو تعديل الحكم البدائي وما ينطبق على محكمة الدرجة الأولى (البداءة) والاستئناف لا ينطبق على محكمة التمييز (النقض)(4) . وذلك لأن وظيفة هذه المحكمة تتمثل في مراقبة وتدقيق صحة تطبيق القانون في الدعوى المميزة وكذلك فهم الوقائع التي طرحت في تلك الدعوى بشكل قانوني، ولا تنظر هذه المحكمة في وقائع جديدة أمامها فلا يجوز الدفع بدفوع جديدة أمام محكمة التمييز غير تلك التي تم الدفع بها أمام محكمة البداءة أو محكمة الأستئناف(5) .

أما تقدير إتخاذ الإنابة القضائية وأهمية الدليل الذي يمكن الحصول عليه من جراء تنفيذها فهو من إختصاص المحكمة التي تنظر الدعوى، فللقاضي الذي ينظر الدعوى سلطة تقدير ما سيعود على الدعوى وسرعة الفصل فيها، أو عدم اللجوء إليها إذا رأى أنها ستؤدي إلى إطالة الإجراءات وتأخير صدور القرار القضائي أو أن الأجراء الذي سيتم إتخاذه سيكون قاصراً غير وافٍ أو سينفذ على غير النحو الذي أراده لتكوين قناعاته(6). ومما يجدر ذكره، أن القاضي يتخذ قراره بطلب تنفيذ الإنابة القضائية بناء على تقديره لأهمية هذا الأجراء ومدى تأثيره في الدعوى التي ينظرها، وكذلك الوقت الذي يستلزمه تنفيذ هذا الأجراء في الخارج ومدى تأثير ذلك على سير الدعوى والفصل فيها، سواء أتخذ هذا القرار من تلقاء نفسه أو بناء على طلب أحد الخصوم، وبعد أن يقتنع القاضي بجدوى أتخاذ مثل هذا القرار في الدعوى، وبإمكان القاضي أن يمتنع أو يرفض طلب هذا الخصم لأجراء الإنابة القضائية إذا وجد أي -القاضي- في تنفيذ الإنابة القضائية للحصول على دليل في الدعوى أن هذا الدليل ذاته قد يكون غير منتج في هذه الدعوى أو أن الوقت الذي سيستلزمه هذا التنفيذ يضيع حق الطرف الآخر في الدعوى، ولكن تبقى سلطة تقدير هذه الأهمية يحددها قاضي المحكمة(7)، وأن هذا القرار سواء أكان طلب التنفيذ أو عدمه- غير قطعي، يمكن للقاضي الرجوع عنه وعليه أن يذكر الأسباب لذلك الرجوع، وذلك عملاً بأحكام القانون الذي يلزم القاضي بتسبيب قراراته(8).

وبعد أن يقرر القاضي طلب أجراء الإنابة القضائية في الخارج، فأنه يرسل هذا الطلب بالطريق الذي يحدده القانون الوطني، إذا كان هذا القانون ينظم أحكام الإنابة القضائية، وإذا لم توجد معاهدة نافذة في دولته تلتزم بها دولياً تحدد طريقاً معيناً لهذا الأجراء مع مراعاة أن السلطات الأقليمية هي التي تتولى أصدار وتوثيق المحررات المثبتة لوقائع تقع على الأقليم الوطني(9).وقد أشارت عدة أتفاقيات دولية على أن السلطة القضائية هي التي تقرر طلب أجراء الإنابة القضائية لدى الدولة المتعاقدة الأخرى، (والفقرة (ج) من المادة 8 من الأتفاقية الفرنسية-المصرية نصت على أن تلقى الإنابات القضائية الصادرة عن سلطة قضائية)(10). ولهذه السلطة القضائية أن تقرر إرسال أكثر من إنابة قضائية، بخصوص دعوى واحدة لأكثر من دولة واحدة إذا كان تحقيق العدالة يتطلب ذلك، فإذا ما قررت المحكمة سماع شهادة شاهد في دولة أخرى بمناسبة دعوى منظورة أمامها ثم بعد ذلك من خلال جلسات المرافعة تبين للمحكمة ضرورة أجراء كشف في تلك الدولة الأجنبية وبخصوص نفس هذه الدعوى، فيمكن لهذه المحكمة أن تقرر طلب أجراء الإنابة القضائية للمرة الثانية وفي نفس تلك الدولة الأجنبية، أو لأية دولة أخرى أستلزم الأمر أتخاذ أحدى الأجراءات على أقليمها وصولاً للحقيقة وتحقيقاً للعدالة. وكل ذلك يرجع لتقدير القاضي لأهمية الأدلة في الخارج والتي يمكن الحصول عليها من خلال الإنابة القضائية وتأثيرها في الدعوى. وبعد أن يقرر القاضي طلب إجراء الإنابة القضائية في الخارج فيجب توافر عدة شروط(11)، لغرض تنفيذها أو عدم التعذر لهذا التنفيذ أو صعوبته، ذلك لأن قرار أتخاذ الإنابة القضائية في الخارج يختلف عن قرار قبول تنفيذها في الدولة الأجنبية.

وأهم تلك الشروط اللغة التي يرسل بها طلب الإنابة القضائية والمعلومات التي يجب أن يحتويها ذلك الطلب(12). وقد نصت الفقرة خامساً من المادة (16) من قانون الأثبات العراقي النافذ ما يأتي (على المحكمة التي تنظر الدعوى أن تثبت البيانات الخاصة التي يتطلب الأستجواب عنها أو صيغة اليمين التي يراد تحليفها أو الأسئلة التي توجه إلى الشاهد على أن يكون باللغة العربية أو بلغة البلد المرسل إليه)، فإذا كانت الدولتان المعنيتان تتكلمان اللغة نفسها فلا صعوبة في هذه المسألة إذ يقدم الطلب بهذه اللغة كما في حالة الدول العربية أو بين المملكة المتحدة والولايات المتحدة مثلاًَ إذ أن اللغة الإنكليزية هي اللغة الرسمية للدولتين. كذلك إذا تم إرسال طلب تنفيذ الإنابة القضائية إلى الممثل الدبلوماسي أو القنصلي للدولة في الخارج إذ يرسل بلغة هذه الدولة. أما إذا كانت الدولتان تتكلمان لغتين مختلفتين فهنا يرسل الطلب بلغة الدولة الطالبة مصحوباً بترجمة إلى لغة الدولة المطلوب منها التنفيذ، وفي حالة وجود أتفاقية بين الطرفين فأنها تنظم هذه المسألة.

__________________________

1- د. حسن عبد الباسط جميعي، مصدر سبق ذكره، ص 260.

2- د. أبو العلا علي أبو العلا النمر، مصدر سبق ذكره، ص 59 وكذلك Hute، op. Cit، P. 361. .

3- د. أحمد السيد صاوي ، مصدر سبق ذكره ،ص376.

4- د. محمد نوري شحاتة، نطاق النزاع في الأستئناف في المواد المدنية، القاهرة، دار النهضة العربية، بدون سنة طبع، ص18.

5- نصت المادة (203) من قانون المرافعات العراقي النافذ رقم 83 لسنة 1969 على أنه ( للخصوم أن يطعنوا تمييزاً، لدى محكمة التمييز في الأحكام الصادرة من محاكم الأستئناف أو محاكم البداءة أو محاكم الاحوال الشخصية، ولدى محكمة أستئناف المنطقة في الأحكام الصادرة من محاكم البداءة كافة وذلك في الأحوال التالية:-

1- إذا كان الحكم قد بني على مخالفة للقانون أو خطأ في تطبيقه أو عيب في تأويله.

2- إذا كان الحكم قد صدر على خلاف قواعد الأختصاص.

3- إذا وقع في الإجراءات الأصولية التي أتبعت عند رؤية الدعوى خطأ مؤثر في صحة الحكم.

4- إذا أصدر حكم يناقض حكماً سابقاً صدر في الدعوى نفسها بين الخصوم أنفسهم أومن قام مقامهم وحاز درجة البتات.

5- إذا وقع في الحكم خطأ جوهري، ويعد الخطأ جوهرياً إذا أخطأ في فهم الوقائع أو أغفل الفصل في جهة من جهات الدعوى أو فصل في شيء لم يدع به الخصوم أو قضى بأكثر مما طلبوه أو قضى على خلاف ما هو ثابت في محضر الدعوى أو على خلاف دلالة الأوراق أو السندات المقدمة من الخصوم أو كان منطوق الحكم مناقضاً بعضه لبعض أو كان الحكم غير جامع لشروطه القانونية .

6- محمد علي رشدي، قاضي الأمور المستعجلة، القاهرة، 1998، ص798.

-7Bertrand Ancel and Yves lequette، op، cit; p. 553.

8- نصت الفقرة الثانية من المادة (17) من قانون الأثبات العراقي النافذ على أن (للمحكمة أن تعدل عما أمرت به من إجراءات الأثبات، بشرط أن تبين أسباب ذلك في محضر الجلسة)

9- د. حسام الدين فتحي ناصف، تنازع السلطات بشأن توثيق المحررات، دراسة مقارنة، مجلة العلوم القانونية والأقتصادية، تصدر عن كلية الحقوق، جامعة عين شمس، القاهرة، العدد الأول، 1997، ص292.

10- د. أحمد عبد الكريم سلامة، مسائل الأجراءات… مصدر سبق ذكره، ص117

-11Bernard Audit، o p. cit.، p. 346

-12Yvon Loussouarn and Pierre Bourel، Droit international prive، edition 1988، P. 683.

المؤلف : عبد المطلب حسين عباس الموسوي
الكتاب أو المصدر : الانابة القضائية في القانون الدولي الخاص
الجزء والصفحة : ص44-49

اعادة نشر بواسطة محاماة نت