«البغي»… تعسف في استعمال الحق
عبدالله الشملاوي
محامٍ بحريني
يقول الحق سبحانه وتعالى: بسم الله الرحمن الرحيم «إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتائ ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون» صدق الله العلي العظيم – (النحل: 90).

والبغي هو الظلم: وهو دفع الشيء عن موضوعه، أو هو التعدي عن الحق إلى الباطل، والحيدة عن الغاية الاجتماعية للحق.

ولما كان التعسف في استعمال الحق ظلماً وبغياً؛ فإنه يستحق التجريم ولما كان التجريم وحده ليس رادعاً، وكان في معاقبة المتعسف الباغي قصاص يجعله يفيء إلى الحق عملاً بقوله تعالى: «وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِيْ الأَلْبَابِ» (البقرة: 179)، وكما يقول الشاعر:

أيا جارتا سفك الدما يحقن الدما

وبالقتل تنجو أنفس سامها القتل

وذلك لتطمين نفس المظلوم الذي تعرض للبغي والتعسف، ودفعاً له عن أخذ حق لنفسه بنفسه، فيسود من ثم الاضطراب ويختل الأمن المدني.

وإن المتعسف إنسان سيئ النية يريد التحايل على أحكام القانون، متخذاً وسيلة مشروعة، هي استعماله لحقه، لكن لغاية غير مشروعة؛ ولذا وجب أن يرد سوء قصده عليه بعقابه على مجرد بغيه وتعسفه في استعماله لحقه، وإخضاع فعله لقواعد التجريم بصورة مجردة عن اقترانها بظرف إباحة، أو أسباب تبرير، كما يسميها، بحق, بعض الفقه الجنائي. ومن ثم يكون المتعسف أو الباغي مسئولاً مسئولية تامة عن بغيه وتعسفه، ويحكم عليه القاضي بالعقوبة المقررة للفعل المؤثم، دون التخفيف الداخل في سلطة المحكمة؛ لأنه حاد بحقه عن الغاية الاجتماعية للحق وصدف عنها.

فاستعمال الحق لغير المصلحة أو الغاية التي شرع من أجلها قانوناً، يعد تعسفاً بتجاوز حدود الحق، ويكون ذلك في حالة ما إذا استعمل الشخص حقه على نحو يتعدى أو يتجاوز الحدود الخارجية التي رسمها القانون لممارسته.

فإذا ما استعمل الشخص حقه خارج الحدود المرسومة لذلك الحق صار متجاوزاً الغاية الاجتماعية من ممارسة الحق وعُدَّ متعسفاً. والغاية هنا هي استهداف المصلحة الاجتماعية التي لها ومن أجلها شُرع الحق. ويكون صاحب الحق سيئ النية متى حاد في استعماله لحقه عن تلك الغاية وتجاوزها. ومعيار التعسف هو الحيدة عن الغاية المبتغاة من استعمال الحق كسبب للإباحة أو للتبرير.

وتتحقق الحيدة في التعسف في صور ثلاث هي:

أ – قصد الإضرار بالغير.

ب – إذا كانت المصلحة التي يرمي لتحقيقها قليلة الأهمية لا تتناسب مع ما يصيب الغير من ضرر بسببها.

ج – إذا كانت المصالح التي يرمي لتحقيقها غير مشروعة.

وهي أمور ترشد القاضي الجنائي للتيقن من تحقق، أو انتفاء أسباب الإباحة أو التبرير؛ لأن هذا المعيار هو الذي يحدد الفارق بين الاستعمال المباح للحق، وبين التعسف في استعماله؛ ولهذه التفرقة أهمية كبيرة، فهي تفرقة بين ما لا عقاب عليه، وبين ما يقع تحت طائلة العقاب. فإذا حاد الشخص بسلوكه عن الغاية المبتغاة من استعمال الحق، كسبب للإباحة أو للتبرير، لم يعد هذا استعمالاً مباحاً، وإنما يدخل في نطاق عدم المشروعية. ويتحقق في جانبه ما يعرف بجريمة التعسف في استعمال الحق أو الحيدة عن الغاية الاجتماعية للحق، وهو البغي المجرم قانوناً. وتنبني هذه الجريمة على ركنين هما:

أ – الركن المادي، أي التعسف، والثاني وهو الركن المعنوي أي سوء نية المتعسف أو الباغي.

وتفصيل الركن الأول: وهو التعسف أو حيدة الفاعل عن الغاية الاجتماعية للحق المخول له استعماله، وينبغي أن يترتب على فعل التعسف أثر معين يسمى بالنتيجة، يتمثل في الإضرار الفعلي أو انتهاك مصلحة محل حماية جنائية. كإزهاق روح إنسان أو المساس بسلامة جسمه، أو الضرر وهو تعطيل أو انتقاص حق أو مصلحة يحميها القانون، أو هو إهدار مصلحة أو الحد منها أو بتهديد حق يحميه القانون، بما من شأنه أن يحدث اضطراباً في حياة الأفراد أو أن يسلبهم حقهم الطبيعي في حياة آمنة، دون استلزام الإضرار الفعلي بهم جراء صدوف المتعسف عن الغاية الاجتماعية للحق.

وقد ورد بقرار التعديل الخامس للعام 1791 – للدستور الأميركي، بأنه لا يجوز للحكومة أن تحرم أي شخص من حياته أو حرياته أو ممتلكاته دون مراعاة اتباع الوسائل القانونية. كما ورد بالتعديل الخامس عشر أنه لا يجوز أن يحرم أحد من حياته أو حرياته أو ممتلكاته دون اتباع الطريق الذي يوجبه القانون.

وقد يقول قائل من المتعسفين بأننا إنما نطبق القانون؛ وذلك كغطاء للشرطة خصوصاً أو الموظفين العموميين بشكل عام وهم يؤدون واجباتهم الوظيفية. وهنا تبرز رقابة القضاء على مدى ملاءمة ذلك القانون الذي يستعصم به المتعسف وهو يبغي على الناس، وذلك من خلال دراسة مبدأ الوسائل القانونية الصحيحة. وقد قضت المحكمة العليا الأميركية بأن الوسائل القانونية السليمة لا تعني الإجراء المطابق للقانون فحسب، وإنما تعني كذلك أي إجراء يحمي الحقوق التي يجب على القانون أن يهدف إلى حمايتها؛ وللتحقق من أن المشرع قد راعى تماماً هذه الحدود التي يقررها ضمان صدور القانون من المشرع متبعاً الوسائل القانونية السليمة؛ فإنه يجب على القاضي أن يبحث مضمون هذا القانون وأهدافه؛ مستهدياً في ذلك بالحقوق الطبيعية. فالشعب لم يفوض السلطة التشريعية سلطة إصدار التشريعات إلا ليهدف لتحقق الحقوق الطبيعية، ولكي يمكن مراقبة المشرع في متابعة مهمته هذه يجب على القاضي أن يرجع لهذه الحقوق الطبيعية ليستخلص منها مدى صحة القانون المعروض عليه أو عدم صحته من حيث كونه ماسّاً بحق طبيعي من عدمه، ومدى ملاءمة ذلك القانون لتلك الحقوق ومواءمته مع الدستور وما إذا كانت الوسائل المستعملة مناسبة أم غير مناسبة، فإذا كان الدستور لا يتضمن تلك المبادئ العليا أو يضمنها، فهو وسيط بين تلك المبادئ والحياة الاجتماعية، شأنه شأن القانون العادي، فإذا قرر القضاء عدم دستورية قانون ما، فهو لا يحكم بذلك استناداً لمخالفة ذلك القانون لنص دستوري فقط، بل لعدم مطابقته لمبادئ وقيم قانونية واجتماعية هي في الواقع أعلى من الدستور؛ لأنه ليس سوى صدى لها.

ب – الركن المعنوي: وهو سوء النية، فالتعسف في استعمال الحق أو البغي أو تجاوز الحدود المرسومة للحق، أو الشطط بالحق كما يقال أحياناً، لا يكون إلا بفعل عمدي، يقترن بسوء نية الجاني الذي يريد أن يُلبس الحق بالباطل، أي أن يتخذ من وسيلة مشروعة، هي استعمال الحق، لغاية غير مشروعة، أي أنه يرتكب الفعل المجرم من خلال وسيلة أو إطار مشروع هو استعمال الحق، وهنا تكمن خطورة المتعسف المتجاوز لحدود الحق، وهو ما ينبغي أخذه في الاعتبار عند توقيع العقاب. والضابط في ذلك هو الحيدة عن الغاية الاجتماعية التي شرع الحق من أجلها.

وإن مسئولية من يرتكب جريمة التعسف أو الحيدة عن الغاية الاجتماعية للحق إذا توافرت الأركان السابقة تكون مسئولية كاملةً؛ فيسأل الجاني عن جريمته في التعسف أو الحيدة عن الغاية الاجتماعية للحق، ويعاقب على تعسفه وبغيه، ومن ثم يصير القضاء لإخضاع فعل ذلك المتعسف المؤثم لقواعد التجريم العادية دون التفات لاقترانها أو تلبُّسها بأسباب تبرير أو إباحة.

لم يرد في النظم الرومانية الفرنسية، ومن تبعها من النظم القانونية العربية، تعريف تشريعي للمجني عليه وترك أمره للفقه والقضاء، وقد عرفته محكمة النقض المصرية، رائد القضاء العربي، بأنه: «من يقع عليه الفعل أو يتناوله الترك المؤثم قانوناً بحيث يكون هـذا الشخص نفسه محلاً للحماية القانونية التي يهدف إليها الشارع». وقد عرفته القوانين الأنجلوسكسونية مثل القانون الاسترالي والنيوزيلندي بأنه: الشخص الذي أصيب بأضرار شخصية بسبب فعل جنائي صادر من شخص آخر.

لكن يمكن تعريف المجني عليه بما يناسب المقام بأنه: من وقع عليه التعسف في استعمال الحق، كسبب للإباحة، وأضر بمصلحة من مصالحه المحمية قانوناً، أو عرضت تلك المصلحة للخطر.

الأصل أنه ما دام القانون يقرر حقوقاً للأفراد فإن اللزوم المنطقي والفعلي يقرر السماح بمباشرة السلطات التي تخولها تلك الحقوق الاجتماعية، فلا يعقل أن يقرر المشرع حقاً لشخص ثم يعاقبه على الأفعال التي يأتيها استعمالاً لذلك الحق، على أساس قاعدة أن الرخصة تنافي الضمان، لكن على القاضي ألا يكتفي بوجود الحق، وإنما من خلو استعماله من شبهة البغي أو التعسف، والحيدة عن الغاية الاجتماعية للحق.

وكم يحسن بالمشرع الجنائي ممثلاً في المجلس النيابي أن يضيف لقانون العقوبات النص المقترح التالي:

كل من حاد عن الغاية الاجتماعية للحق المخول له استعماله، يُعَدُّ متعسفاً ويعاقب بالعقوبات المقررة لتلك الأفعال أصلاً؛ بوصفها جرائم عمدية مجردة عن أسباب الإباحة أو التبرير.

إعادة نشر بواسطة محاماة نت