تعد شرعية الإجراءات الجنائية إحدى صور الشرعية الجنائية بوجه عام، فهي الحلقة الثانية من حلقات الشرعية الجنائية المتكونة من شرعية الجرائم والعقوبات (الشرعية الموضوعية) وشرعية الإجراءات (الشرعية الإجرائية)، فشرعية الإجراءات الجنائية تشكل مبدءاً يكفل احترام الحرية الشخصية في مواجهة السلطة ويضمن التمتع بالكرامة الإنسانية، فيوجب أن تخضع جميع الأعمال الإجرائية لتنظيم القانون من حيث شروط صحتها وآثارها فلا يعد الإجراء صحيحاً إلا إذا جاء مطابقاً لأحكام القانون، ويقابل في أهميته مبدأ شرعية الجرائم والعقوبات، فإذا كان هذا المبدأ الأخير هو أساس قانون العقوبات، فإن مبدأ الشرعية الإجرائية يحدد الطريق الذي يجب أن ينتهجه المشرع الإجرائي ويضع الإطار الذي يجب أن يلتزمه المخاطبون بالقواعد الإجرائية(1).

فالشرعية الإجرائية هي امتداد طبيعي لشرعية الجرائم والعقوبات، بل هي في الواقع أكثر خطورة منها وأعظم شأناً، فهي بمثابة الإطار الخارجي الذي لا يمكن تطبيق القاعدة الموضوعية تطبيقاً صحيحاً إلا عن طريقها(2).لذلك تتطلب هذه الشرعية الاستقلال والحياد في الأجهزة التي تشرف على التحري والتحقيق والمحاكمة وتتطلب ألا تتعارض القواعد الإجرائية التي تحكم نشاط تلك الأجهزة والهيئات مع نصوص الدستور وبالتالي تعد ضمانة فعالة لسلامة تطبيق المبادئ الأساسية لنصوص قانون الإجراءات الجنائية(3).

وقد عرفت الشرعية الإجرائية بأنها “الأصل في المتهم البراءة، ولا يجوز اتخاذ إجراء جنائي على المتهم إلا بناء على قانون وتحت إشراف القضاء في حدود الضمانات المقررة بناء على قرينة البراءة(4)”.

يتضح من ذلك أن الشرعية الإجرائية تقوم على عناصر ثلاثة تتمثل بما يأتي:

العنصر الأول: الأصل في المتهم البراءة، حيث يقوم هذا العنصر على أساس أن كل إجراء يتخذ قبل المتهم لتقييد حريته أو لمحاكمته يجب أن يبني على افتراض براءته وأن تتم معاملته وفقاً لذلك، والقول بعكس ذلك يؤدي إلى قصور الحماية التي يوفرها مبدأ شرعية الجرائم والعقوبات ما دام من الممكن المساس بحرية الفرد بغير طريق القانون أو كان من الممكن إسناد الجرائم للأفراد ولم يثبت ارتكابهم لها عن طريق افتراض إدانتهم(5).

وقد نادى بيكاريا بذلك وذهب إلى أن إصلاح القضاء لا يأتي إلا عن طريقين، أولهما تحديد الجرائم وعقوباتها في قانون مكتوب، وثانيهما عدم جواز وصف شخص بأنه مذنب قبل صدور حكم القضاء(6). وهذا ما أكدته المادة (19/خامساً) من الدستور العراقي لعام 2005 حيث نصت بأن “المتهم بريء حتى تثبت إدانته في محاكمة قانونية عادلة”، كما يتفق ذلك مع أصول الشريعة الإسلامية، فقد ورد في الحديث الشريف “ادرءوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم فإن وجدتم للمسلم مخرجاً فخلوا سبيله فإن للإمام أن يخطئ في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة”(7).

فافتراض براءة المتهم ذو مضمونين، الأول هو ضمان الحرية الشخصية للمتهم، فإذا كانت مصلحة المجتمع تقتضي معاقبة المجرمين فإنه لا يكون ذلك على حساب المساس بحرية الأبرياء، وعليه فالبراءة المفترضة يصاحبها حتماً التمتع بالحرية الشخصية، والثاني هو وجوب إعفاء المتهم من إثبات براءته، وهذا تحصيل حاصل(8)، فما دام المبدأ المعول عليه هو البراءة المفترضة فمن غير المعقول أن يطلب من المتهم إثبات هذه البراءة.

أما العنصر الثاني: قانونية الإجراءات الجنائية، حيث يفترض هذا العنصر أن تصدر كافة القواعد التي تحدد هذه الإجراءات عن المشرع كونها تمس الحرية الشخصية، فخطورة الإجراءات الجنائية على الحرية الشخصية تقتضي أن لا تنظم هذه الإجراءات منذ اللحظة التي تقع فيها الجريمة وحتى صدور الحكم وتنفيذه بأداة أخرى غير القانون(9).

فكل إجراء يتخذ في أية مرحلة من المراحل قبل مرتكب الجريمة يجب أن يكون محكوماً بالقانون، ولا يجوز لأي شخص سواء كان القاضي أم الادعاء العام أن يبتدع إجراءات معينة لتطبق في أي مرحلة منها، فالقانون وحده هو الذي يجب أن يحكم هذه الإجراءات، لأن الحريات الشخصية مصونة بموجب أحكام الدستور وبهذا لا يجوز تنظيمها إلا بموجب قانون(10).

وهذا ما نصت عليه المادة (15) والمادة (17/ثانياً) من الدستور العراقي لسنة 2005، وكذلك ما نصت عليه المادة (22) أو المادة (23) من الدستور العراقي (الملغى) لعام 1970، والمادة (41) والمادة (44) من الدستور المصري لعام 1971(11).

أما العنصر الثالث: هو الإشراف القضائي على الإجراءات الجنائية، فلا يكفي لتحقيق مبدأ الشرعية الإجرائية افترض براءة المتهم مع قانونية الإجراءات التي تتخذ في مواجهته، بل لا بد أن يتم ذلك تحت إشراف جهة رقابية مختصة، فيتم ذلك عادة بنوعين من الرقابة: هما الرقابة غير القضائية والرقابة القضائية(12)، فالأولى تتم بواسطة أجهزة تتبع سلطات الدولة الأخرى، كالرقابة عن طريق المفوض البرلماني أو ما يسمى بنظام (الامبودسمان)(13)، أو الرقابة عن طريق ما يسمى بالمدعي العام الاشتراكي(14)، وهناك من أخذ بما يسمى بـ(البروكيراتورا)(15) أي المدعي العام.

وما يهمنا في هذا الموضع هو الرقابة القضائية أي الإشراف القضائي على الإجراءات الجنائية على أساس أن القضاء هو الحارس الحقيقي للحقوق والحريات الفردية، وهو الذي يضمن حسن تطبيق القانون وتأكيد سيادته، فهو الضمان الفعال لتطبيق القانون والسياج الواقي للحريات من الاعتداء عليها عن طريق إشرافه على جميع الإجراءات الجنائية(16). من ذلك يتبين بأن عناصر الشرعية الإجرائية مترابطة متساندة يكمل بعضها البعض الآخر، فإذا كان الأصل في المتهم البراءة ووجوب التعامل معه على أساس ذلك في كل إجراء يتخذ تجاهه ويمس بحريته الشخصية، وأن يكون هذا الإجراء قانونياً، فإن ما يكمل ذلك هو أن يتم تطبيق هذا الإجراء تحت إشراف سلطة قضائية قادرة على الوقوف بوجه أي إجراء من شأنه المساس بالحرية الشخصية دون أن يكون هناك تصريحاً قانونياً بذلك.

_______________

1- ينظر: حسن يوسف مقابلة، الشرعية في الإجراءات الجنائية، الدار العلمية الدولية للنشر والتوزيع، عمان 2003، ص47، وعدي سليمان المزوري، الجزاءات الإجرائية (دراسة مقارنة)، رسالة ماجستير، كلية القانون/جامعة بغداد 2000، ص34.

2- ينظر: د. عصام عفيفي، مبدأ الشرعية الجنائية (دراسة مقارنة في القانون الوضعي والفقه الجنائي الإسلامي)، دار النهضة العربية، القاهرة 2003، ص16.

3- ينظر: حسن يوسف مقابلة، الشرعية في الإجراءات الجنائية، الدار العلمية الدولية للنشر والتوزيع، عمان 2003، ص47-48.

4- ينظر: د. أحمد فتحي سرور، الشرعية والاجراءات الجنائية ، دار النهضة العربية، القاهرة 1977، ص16. كما عرفها الأستاذ جواد الرهيمي تعريفاً مطابقاً لتعريف الدكتور أحمد فتحي سرور، ينظر: جواد الرهيمي، أحكام البطلان في قانون أصول المحاكمات الجزائية، منشورات المكتبة الوطنية، بغداد 2003، ص15.

5- ينظر: د. أحمد فتحي سرور، الشرعية والإجراءات الجنائية، المرجع السابق، ص105.

6- ينظر: تشيرازي بيكاريا، ص34.

7- ينظر: د. أحمد عبيد الكبيسي، د. محمد شلال حبيب، المختصر في الفقه الجنائي الإسلامي، ج1،
دار القادسية للطباعة، بغداد 1989، ص65.

8- حيث جاء في التوصية الخامسة لحلقة فينا سنة 1978 ما يلي

1- ((No person shall be required to prove his innocence)).

وتعني بأن: ((لا يجبر شخص على إثبات براءته))، أشار إليه د. محمود محمود مصطفى، حماية حقوق الإنسان في الإجراءات الجنائية، بحث منشور في مجلة المحامون السورية، ع12، س43، 1978، ص320 هامش رقم 13، كما ينظر: د. عصام عفيفي حسيني، تجزئة القاعدة الجنائية في القانون الوضعي والفقه الجنائي الإسلامي (دراسة مقارنة)، دار النهضة العربية، القاهرة 2003، ص175.

9- ينظر: د. حسن يوسف مقابلة، المرجع السابق، ص87.

10- ينظر: د. أحمد فتحي سرور، الشرعية والإجراءات الجنائية، المرجع السابق، ص34.

11- فقد نصت المادة (15) من الدستور العراقي لعام 2005 على أن: “لكل فرد الحق في الحياة والأمن والحرية ولا يجوز الحرمان من هذه الحقوق أو تقييدها إلا وفقاً للقانون، وبناءاً على قرار صادر عن جهة قضائية مختصة” وقد نصت المادة (17/ثانياً) من ذات القانون على أن: “حرمة المساكن مصونة ولا يجوز دخولها أو تفتيشها أو التعرض لها إلا بقرار قضائي ووفقاً للقانون”، وكذلك نصت المادة (22) من الدستور العراقي الملغى لعام 1970 على أن: “1- كرامة الإنسان مصونة وتحرم ممارسة أي نوع من أنواع التعذيب الجسدي أو النفسي، ب- لا يجوز القبض على أحد أو توقيفه أو حبسه أو تفتيشه إلا وفق أحكام القانون، جـ- للمنازل حرمة لا يجوز دخولها أو تفتيشها إلا وفق الأصول المحددة بالقانون”. ونصت المادة (23) من ذات الدستور على أن: “سرية المراسلات البريدية والبرقية والهاتفية مكفولة ولا يجوز كشفها إلا لضرورات العدالة والأمن وفق الحدود والأصول التي يقررها القانون”، ونصت المادة (41) من الدستور المصري الصادر عام 1971 على أن: “الحرية الشخصية حق طبيعي وهي مصونة لا تمس فيما عدا حالة التلبس ولا يجوز القبض على أحد أو تفتيشه إلا بأمر تستلزمه ضرورة التحقيق وصيانة أمن المجتمع، ويصدر هذا الأمر من القاضي المختص أو النيابة العامة وذلك وفقاً لأحكام القانون، ويحدد القانون مدة الحبس الاحتياطي”، كما نصت المادة (44) من ذات الدستور على أنه “للمساكن حرمة فلا يجوز دخولها ولا تفتيشها إلا بأمر قضائي مسبب وفقاً لأحكام القانون”.

12- ينظر: جواد الرهيمي، أحكام البطلان في قانون أصول المحاكمات الجزائية، المرجع السابق،
ص19-20.

13- ويرجع تأصيل هذا النظام إلى الدستور السويدي الصادر سنة 1809م ومقتضاه أن تختار السلطة التشريعية مندوباً عنها يطلق عليه (الامبودسمان)، يمارس وظيفة الإشراف على المحاكم بصورة غيرمباشرة، وقد أخذت بهذا النظام كل من فنلندا في دستورها الصادر سنة 1919، وإنكلترا في دستورها الصادر 1967، لمزيد من التفصيل ينظر حسن يوسف مقابلة، المرجع السابق، ص322، ص325.

14-حيث أخذت بهذا النظام من الرقابة جمهورية مصر، فيكون المدعي العام الاشتراكي جزءاً من السلطة التنفيذية، وتنحصر مهمته في فرض الحراسة على الإجراءات التي تمس الحريات والمحافظة على الحقوق، ينظر في ذلك وعدي سليمان المزوري، الجزاءات الإجرائية (دراسة مقارنة)، رسالة ماجستير، كلية القانون/جامعة بغداد، 2000، ص42.

15- وهذا النظام قد أخذ به الاتحاد السوفيتي سابقاً، فيعد المدعي العام إحدى أدوات السلطة السياسية وجهاز من أجهزة الحكومة، ويختص بالإشراف على مدى تطبيق القوانين المتعلقة بحقوق المواطنين وحرياتهم وإذا ما تبين له وجود مخالفة للقانون في هذا الصدد فيجب عليه أن يتخذ الخطوات المناسبة لتقرير عدم شرعية هذا العمل، لمزيد من التفصيل ينظر حسن يوسف مقابلة، المرجع السابق، ص229-233.

16- ينظر: وَعدي سليمان المزوري، المرجع السابق، ص43.

المؤلف : فاضل عواد محميد الدليمي
الكتاب أو المصدر : ذاتية القانون الجنائي

اعادة نشر بواسطة محاماة نت .