التشريح القانوني والسياسي للفصل التاسع عشر (19)
من الدستور المراجع 1996

عبد الرحيم خالص
باحث متخصص في القانون الدستوري وعلم السياسة
كلية الحقوق، جامعة القاضي عياض، مراكش – المغرب

يشهد التاريخ السياسي، منذ اثنتي عشر قرنا (12) مضت، بأن “المؤسسة الملكية” بالمغرب لها جذور عريقة وصلبة، تستمد من خلالها شرعيتها الاجتماعية والسياسية والتاريخية، والتي يصونها ويحفظها النص الدستوري من الزوال. وهو الأمر الذي يسمح لنا بالقول: إن الدستور المغربي، يعطي للملك حق لقب “الملك الدستوري”، لأنه ينهل جل سلطاته من عمق عبارات فصوله. ونص الفصل الأول من الدستور المراجع لسنة 1996، يؤكد ذلك بصريح العبارة: “نظام الحكم بالمغرب نظام ملكية دستورية (…)”.
غير أن الدستور كوثيقة مكتوبة، لا تسمح للملك دائما بالمراقبة الفعلية لجل المؤسسات السياسية الأخرى (الحكومة والبرلمان والقضاء)، مما يدفع به إلى البحت خارج الدستور عن آليات أخرى للمراقبة، وبخاصة تلك التي تُخوّل له اتخاذ العديد من القرارات، ومباشرة العديد من الإجراءات، تحت مقولة: “إمارة المؤمنين”.
تعتمد هذه المقولة على فكرة “التأويل” للنص المكتوب، وتحويله إلى آلية غير محددة بدقة. وهو الأمر الذي يُعرض الدستور كوثيقة مكتوبة لعدة تفسيرات متباينة.
وحتى إذا ما تحدثنا عن خلو الدستور من فصول قانونية تَحُدّ من المراقبة الملكية، فإن الفراغ الذي يجعل من المراقبة الملكية ناقصة، يتم ملؤها عبر تأويل للنصوص، وبخاصة الفصل 19 من النص الدستوري، الذي يؤكد أن “الملك أمير المؤمنين…”، والذي يُعد بحسب أستاذة القانون الدستوري، رقية المصدق، بمثابة دستور (ضمني) داخل الدستور (الصريح).

«««
هكذا، يُحَمّل العديد من الباحثين، الفصل 19 من الدستور، ما لا يتحمله من الأوجه على المستوى الشكلي، وبخاصة عند القراءة السطحية والمباشرة لعباراته. لكن، حين نتعمق على مستوى المضمون، نجده حَمّال أوجه ومستويات عديدة بالفعل. ولتوضيح ذلك، نستحضر –هنا- مضمون الفصل 19 كاملا، كما وَرَدَ في الدستور المُراجع لسنة 1996:

“الملك أمير المؤمنين والممثل الأسمى للأمة ورمز وحدتها وضمان دوام الدولة واستمرارها، وهو حامي حمى الدين والساهر على احترام الدستور، وله صيانة حقوق وحريات المواطنين والجماعات والهيئات. وهو الضامن لاستقلال البلاد وحوزة المملكة في دائرة حدودها الحقة”.

ولتبيين مختلف الأوجه التي يطرحها هذا الفصل، سنحاول تفكيكه، تفكيكا تحليليا، انطلاقا من سبع مستويات، يتضمنها الفصل بصريح العبارات، التي ينص عليها من خلال مضمونه.

المستوى الأول: إمارة المؤمنين أو المشروعية الدينية، التي تنص عليها العبارة الأولى من الفصل 19: “الملك أمير المؤمنين (…) وحامي حمى الدين”. هذه العبارة، تفيد أن لا مرجعية في الأمور المتعلقة بالشؤون الدينية للمغاربة سوى الملك كأمير لكل المسلمين. وبالتالي، يتجاوز لقب “أمير المؤمنين” الصفة الرمزية، إلى الصفة التمثيلية والوصائية في مجال الدين، إلى درجة التشريع بمنصوص نفس العبارة في عدة شؤون غير دينية، مثل السياسية خصوصا. ونذكر، على سبيل المثال لا الحصر، إحداث المجلس الوطني لحقوق الإنسان المعلن عنه في شهر مارس 2011، طبقا لمنصوص الفصل 19 من دستور 1996، وذلك باعتبار جلالة الملك “أميرا للمؤمنين”.

المستوى الثاني: التمثيلية السياسية، التي تنص عليها عبارة: “الممثل الأسمى للأمة”. في هذا المستوى، تُطرح إشكالية التمثيلية السياسية أو السيادة عموما. فإذا كانت السيادة للشعب أو للأمة، تمارسها بطريقة مباشرة عبر الاستفتاء، وبطريقة غير مباشرة عن طريق المؤسسات التمثيلية السياسية، فأين يمكن موقعة الملك باعتباره الممثل الأسمى للأمة؟ هل هي تمثيلية سياسية أيضا أم مجرد تمثيلية رمزية؟ أكيد سياسية لكن بصفات رمزية ! وإنْ ما يهمنا، هو الطابع الشمولي للفصل، ومحاصرته لكل فصول الدستور بطريقة ضمنية، لا يمكن -سوى للضليع في الفقه الدستوري- ملاحظتها واكتشافها.

المستوى الثالث: سمو الدستور، وتحدده العبارة التالية: “الساهر على احترام الدستور”. وفي هذه النقطة أيضا، يُموضع الفصل 19، الملك في مكانة القضاء الدستور، بحيث أن احترام الدستور، يسهر عليه الملك وكأنه المجلس الدستوري الذي يرجع إليه حسب منصوص الدستور -بصريح العبارة- السهر على احترام الدستور من خلال مراقبة مدى دستورية باقي القوانين، سواء التنظيمية أو التشريعية التي تُصدرها باقي مختلف السلطات. وبدل ذلك، يضع هذا الفصل الفريد من نوعه، جميع الاختصاصات في يد الملك، دون أن يُلفت ذلك خبراء القانون الدستوري أو يُثير ولو أدنى تساءل حول طبيعته العادية ظاهريا، والخطيرة ضمنيا. وهو الأمر الذي فطن إليه جلالة المغفور له، الحسن الثاني، حين استبق الأمر، وأورد في جواب له عن سؤال، يقول: “أنا متيقن أن الكثيرين قالوا إن سلطات الملك ضخمة. ولكن، أيها السادة، ليعلموا بكل بساطة أن الملك لم يأخذ إلا ما يلزمه ليتمكن من التدخل إذا تعثر سير الأمور، أو للمساعدة على سيره، وسأقول لهم أخيرا، وكمثال بسيط، تخيلوا فرقتين لكرة القدم في ملعب، وانزعوا من الحكم سلطة التصفير وطرد لاعب، والعبوا أيها السادة…”. ( امحمد المالكي: “الدولة في المغرب العربي، الإرث التاريخي وأنماط المشاركة السياسية”. المطبعة والوراقة الوطنية. الطبعة الأولى، مراكش 2001، الصفحة 202. نقلا عن محمد معتصم: “التطور التقلداني للدستور المغربي”. أطروحة لنيل دكتوراه الدولة في القانون العام، كلية الحقوق، الدار البيضاء، 1988، الصفحة 187)

المستوى الرابع: صيانة الحقوق والحريات، وترتبط هذه النقطة –بدورها- بعبارة: “وله صيانة حقوق وحريات (المواطنين والجماعات والهيئات)”. وبالتالي، يقوم الملك بهذه المهمة مقام القضاة والمحاكم التي من دورها البارز، هو صيانة وحماية حقوق المواطنين وحرياتهم؛ وكذا بالمثل، حقوق الجماعات والهيئات بمختلف أنواعها. ويعني أيضا ذلك، إقصاء غير مباشر لدور المجلس الأعلى للقضاء، من خلال الرئاسة الملكية له. غير أن البعض، يعتبر الشعب قد فوض الملك، لأن يكون حامي حقوقه وصاني حرياته، على أساس العقد الذي يجمعهما من خلال “وثيقة البيعة”. ونشير هنا، أننا لسنا بصدد الحديث عن فلسفة تعاقدية كما صاغها المفكر جون جاك روسو، وإنما هي وثيقة يمضي عليها علماء المغرب وشخصياته البارزة وكل المنتسبين إلى آل البيت، أثناء وفاة الملك واعتلاء وريثه العرش. وبالتالي، تتضمن ضمنيا تفويضا من طرف الشعب إلى الملك، بالحفاظ على حقوقهم وصيانة حرياتهم. وكيفما كانت الأحوال، فدولة القانون والمؤسسات، هي التي يتوجب عليها -أولا وأخيرا- صيانة حقوق وحريات المواطنين بما فيها الهيئات السياسية والاجتماعية، وفق دستور ديمقراطي تعاقدي، كما تطالب بذلك بعض الجهات الشبابية والأحزاب السياسية والجمعيات بالمغرب، على إثر المراجعة الدستورية المرتقبة، والمعلن عنها غداة الخطاب الملكي لـ 9 مارس 2011.

المستوى الخامس: رمز الوحدة الوطنية والترابية، وتعلن عنها عبارة: “ورمز وحدتها”. يجمع هنا جلالة الملك، بين الوحدة الوطنية للمواطنين باعتبارهم مغاربة، والوحدة الترابية باعتبار عيشهم وسُكْناهم فوق جغرافية المغرب. وبين الوحدتين، ملك يُوَحّد بين الكل، ويضمن وحدتهم التي لا يمكن -لأيّ كيفما كان أو لأيّة ظروف كيفما كانت- أن تفرق بينهم. فالملك هو رمز وحدة الشعب المغربي. («لأن الـ “هـ” اء» المرفقة بـ «وحدتـ “ها”»، تعود على لفظة “الأمة” الواردة في العبارة ما قبل عبارة “ورمز وحدتها”). بحيث تُعبر عبارة، الملك هو “الممثل الأسمى للأمة ورمز وحدتها”، عن “وحدة الأمة”، التي يُمثلها الملك كما حللناه في المستوى الثاني. وما سيؤكد تحليلنا هذا، هو منصوص النص الأصلي للفصل 19 كما صيغ لأول مرة سنة 1962، والذي يؤكد -قبل إضافة عبارة “الممثل الأسمى للأمة” في دستور 1970- بأن: “الملك أمير المؤمنين ورمز وحدة الأمة (…)”…

المستوى السادس: سيادة الدولة، وتأتي عبارة: “وهو الضامن لاستقلال البلاد وحوزة المملكة في دائرة حدودها الحقة”، لتوضح مبدأين متكاملين. الأول، يكمن في “استقلال البلاد”، حتى وإن كان يُفهم -من ظاهر هذه العبارة- بأن الملك هو الضامن الوحيد لاستقلال المغرب منذ 1956 إلى اليوم (وكذا في المستقبل)؛ فإنه –وضمنيا- يَحتمل وجها آخر، وهو الكامن في كون استقلال المغرب، كان –بالفعل- بيد المؤسسة الملكية، وذلك بفضل مساهمة عودة المغفور له محمد الخامس من منفاه سنة 1953، بجانب رموز الحركة الوطنية، ومبادرتهم جميعا في المطالبة باستقلال المغرب كمملكة في دائرة حدودها الحقة، وذلك كما كانت قبل دخول المستعمر الأجنبي إليها.
وهكذا، يؤكد أستاذ القانون الدستوري (وعلم السياسة) امحمد المالكي بهذا الصدد، بأن “المغرب، من الدول القليلة، التي لم تتحول حركته الوطنية إلى دولة مباشرة بعد الاستقلال، لوجود مؤسسة ملكية مترسخة، ومتفاعلة مع الدولة والمجتمع، ومساهمة، إلى جانب الحركة الوطنية، في سيرورة النضال من أجل التحرر واسترداد السيادة والاستقلال، الأمر الذي يفسر لماذا كانت الاستمرارية مسألة طبيعية لحظة التوقيع على أوفاق الاستقلال”.(امحمد المالكي: “الدولة في المغرب العربي، الإرث التاريخي وأنماط المشاركة السياسية”. مرجع سابق، الصفحة 200.)
أما الثاني، فيكمن في كون الملك، هو الضامن أيضا لـ “حوزة المملكة في دائرة حدودها الحقة”. وهي إشارة إلى الحدود الترابية للمغرب من خلال استرجاع الأقاليم الصحراوية بعد المسيرة الخضراء سنة 1975، فضلا عن نزاع الصحراء الذي لا يزال إلى اليوم قائما. وكل ذلك، يعني بأن الملك هو الضامن لحدود المملكة المغربية منذ الاستقلال إلى اليوم.

المستوى السابع: المشروعية التاريخية، ويتم التعبير عنها من خلال عبارة: “وضامن دوام الدولة واستمرارها”. في هذا المستوى، يُطرح السؤال التالي: مَن هي الأطراف أو الجهات المسئولة عن ضمان استمرار الدولة؟ وأي استمرارية نقصد؟
سنكتفي هنا، بما جاء على لسان الأستاذ امحمد المالكي بخصوص ديمومة الدولة المغربية التي تجر وراءها أكثر من 12 قرنا إلى حدود اليوم، وهو يؤكد بقوله: “تكتسي “المشروعية التاريخية” أهمية تُوازن “المشروعية الدينية” أو تقترب منها، إذ علاوة على الدين ومكانته في لحم المجتمع وصهر مكوناته، يصقل التاريخ ذاكرة الناس ويعمق وعيهم الجمعي، ويمنحهم قوة الاستمرارية، وإعادة إنتاج الاستمرارية. فالملكية، بهذا المعنى، تستمد مشروعيتها من ترسخها في التاريخ، وقدمها كمؤسسة وفلسفة لإدارة الدولة والمجتمع”. (امحمد المالكي: “الدولة في المغرب العربي، الإرث التاريخي وأنماط المشاركة السياسية”. مرجع سابق، الصفحة 207).

«««
وعليه، نستنتج بما لا مجال فيه للشك، بأن الفصل 19، يُعد لوحده، ضمن الدستور المكتوب لسنة 1996، دستورا شاملا لكل الفصول الأخرى بفرادته التعبيرية، كما فككناه وحللناه أعلاه؛ وأيضا، دستورا ضمنيا بحنكته الاختزالية لكل معاني السلطات الأخرى واختصاصاتها في عبارات لا يَحتمل ظاهرها أدنى تعبير صريح عن ممارسة صريحة إلا بما بَطُنَ في صَريحها، عبر النصوص –الأخرى- المكونة لبقية فصول الدستور. وإن دل هذا على شيء، أو عبر عن ممارسة أو عرف -بقدر ما دأبت المؤسسة الملكية على توظيفه حسب الظروف السياسية التي يواجهها النظام السياسي المغربي، أو يواجهها السير العادي للمؤسسات السياسية من حكومة وبرلمان وقضاء- فإن ذلك، يدل كما يُثبت، بما لا مجال فيه للدحض، بأن استخدام الفصل 19 ضمن الممارسات السياسية التي أُوّل فيها، ليس سوى عُرفا دستوريا فرضته ظروف التجارب السياسية الدستورية التي مر بها المغرب منذ دستور 1962 إلى دستور 1996،