التحكيم الذي نريد
حسان بن إبراهيم السيف
شهدت قبل أيام فصول قضية تحكيم تجارية استحكم النزاع بين أطرافها، وباءت كل محاولات الصلح فيها بالفشل، نظراً لتباعد وجهات النظر فيها، وتعاظم الخلاف بين الخصوم، وقد حكمت هيئة التحكيم لمصلحة أحد الأطراف ضد خصمه بعد مضي سنة من عقد أول جلسة عقدت في القضية، ومما سرني في تلك القضية أن الحكم فيها كان بإجماع المحكمين،

وقليلاً ما تصدر أحكام هيئات التحكيم بإجماع المحكمين لعدة أسباب من أهمها: وجود فكرة خاطئة لدى كثير من المحكمين والمحتكمين أن المحكم يمثل رأي من اختاره من أطراف القضية؛ بل قد يكون اختيارهم للمحكم مشروطاً بعرض رأيه في القضية عليهم قبل اختيارهم له، وهذا منافٍ للحيادية التي يقتضيها النظر في النزاع؛ بل هو من الأسباب الموجبة لرد المحكم عن النظر في القضية، وقد نصت المادة الثانية عشرة من نظام التحكيم على أنه” يطلب رد المحكم للأسباب ذاتها التي يرد بها القاضي” ومن الأسباب التي يرد بها القاضي، تقديمه لأحد الخصوم استشارة في القضية قبل نظره لها ؛ بل يجوز رد القاضي وكذلك المحكم ”إذا كان بينه وبين أحد الخصوم مودة يرجح معها عدم استطاعته الحكم بدون تحيز” فضلاً عما إذا ”كان القاضي قد اعتاد مؤاكلة أحد الخصوم أو مساكنته أو تلقى منه هدية قبيل رفع الدعوى أو بعده” وفقا لما نص عليه نظام المرافعات الشرعية ولائحته التنفيذية.

ومن الخواطر التي جالت في نفسي من وحي تلك القضية: أن تأخر البت في كثير من القضايا ليس كله بسبب القضاء، بل كثيراً ما يكون سببه حاجة بعض الخصوم إلى وقت طويل لجمع المستندات، و إعداد المذكرات، وغير ذلك من أسباب التأخير، ولذا فمن الظلم أن نحمل القضاء وحده هذه المشكلة على أن التأخير الذي يحدث بسبب القضاء ليس جله من القضاة أنفسهم؛ بل هو في الغالب بسبب إشغالهم بأعمال يمكن أن يكفيهم إياها غيرُهم، و الأصل أن القاضي مفرغ تماماً للعمل القضائي البحت الذي ينحصر بالنظر في القضية، والفصل فيها، وما عدا ذلك فلا شأن له به.

وعلى الرغم من أن أهم غايات التحكيم هو تقصير أمد النظر في القضية إلا أن التحكيم بوضعه الحالي يعاني مما جرى عليه العمل في القضاء من جعل درجة التحكيم أدنى من درجة المحاكم الابتدائية مما جعل التحكيم درجة ثالثة من درجة التقاضي، وبناء عليه تُنظر منازعات التحكيم من ثلاث درجات هي هيئة التحكيم، والمحكمة الابتدائية، ومحكمة الاستئناف، وقريباً ستضاف إليها درجة رابعة وهي المحكمة العليا، ولا شك أن هذا يفرغ التحكيم من أهدافه وفوائده التي لأجلها سُن نظام التحكيم، والأولى في نظري أن يكون نظر الاعتراض على حكم التحكيم من قبل محكمة الاستئناف مباشرة تخفيفاً للعبء على المحاكم الابتدائية، وتقصيراً لأمد التقاضي، وفي ظني أن هذا لا يتعارض مع نظام التحكيم بل هو مقتضاه؛ إذ إن المادة التاسعة عشرة من نظام التحكيم نصت على أنه ”إذا قدم الخصوم أو أحدهم اعتراضاً على حكم المحكمين خلال المدة المنصوص عليها في المادة السابقة تنظر الجهة المختصة أصلاً بنظر النزاع في الاعتراض، وتقرر إما رفضه، وتصدر الأمر بتنفيذ الحكم، أو قبول الاعتراض وتفصل فيه” وهنا نلاحظ أن المادة لم تحدد درجة المحكمة التي تنظر في الاعتراض؛ بل أشارت إلى الجهة المختصة، ومن المعلوم أن مصطلح الجهة إذا جاء في سياق الحديث عن الاختصاص يقصد به اختصاصها الولائي، بل إن النص في هذه المادة على أن الجهة ”تقرر إما رفضه وتصدر الأمر بتنفيذ الحكم أو قبول الاعتراض وتفصل فيه” يوحي بأن الحكم الصادر منها غير قابل للطعن، وهذا يدل على أن المنظم يريد أن يكون نظر الاعتراض من قبل محكمة الاستئناف، لأنه لم يشر بعد ذلك إلى إمكانية الطعن في القرار الصادر بتنفيذ الحكم أو قبول الاعتراض والفصل فيه، وهذا ما نأمل أن يتم الأخذ به عاجلاً في المحاكم وديوان المظالم، وآجلاً في نظام التحكيم الجديد الذي نرتقب صدوره.

إعادة نشر بواسطة محاماة نت