التحقيق الإبتدائي وفقاً لقانون أصول المحاكمات الجزائية العراقي

المحامية: منال داود العكيدي
يعرف التحقيق الابتدائي بمعناه الواسع على انه ( مجموعة من الاجراءات التي تتخذها سلطة جمع الادلة والتحري المتمثلة في اعضاء الضبط القضائي وسلطة التحقيق المتمثلة بقاضي التحقيق والمحقق بشأن الجريمة المرتكبة لمعرفة حقيقتها وهوية مرتكبها ، وذلك تمهيدا لاحالة او عدم احالة الدعوى الجزائية الناشئة عنها الى المحكمة المتخصصة بحسب ما يقضيه القانون ) .

اما التعريف الضيق للتحقيق الابتدائي فهو (عبارة عن مجموعة من الاجراءات الرامية الى تمحيص وتدقيق المعلومات المتوفرة والتثبت من الادلة القائمة بغية اصدار القرار المناسب في القضية ) .

و العلة من التحقيق الابتدائي هي لعدم طرح القضايا على المحاكم لانها لاترتكز على اساس متين من الوقائع والقانون وهو امر فيه ضمان لمصالح الافراد وللمصلحة العامة على حد سواء اذ انه يهدف الى المحافظة على مصلحة المجتمع بتقديم مرتكب الجريمة الى المحاكم المتخصصة فضلا عن ضمان مصلحة الافراد الابرياء من ان تتخذ ضدهم اجراءات غير لازمة تهدر حرياتهم وكذلك ضمان عدم الاعتداء على المساكن وتعريض الافراد الى محاكمات غير قانونية وتقديمهم بدعاوى جزائية لم يقم الدليل فيها او محاسبتهم على افعال لا تصل الى حد الجريمة غير المنصوص عليها في القانون.

ووفقا لهذا فان المساس بهذه الحريات والحقوق من دون مسوغ كاف يشكل اعتداء صارخا على هذه الحقوق ، وقد أكد الدستور العراقي هذه الناحية في الفصل الأول/ المادة 19 ( باب الحقوق ) من الباب الثاني منه في الفقرة ثانيا : لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص ، ولا عقوبة إلا على الفعل الذي يعده القانون وقت اقترافه جريمة ، ولا يجوز تطبيق عقوبة أشد من العقوبة النافذة وقت ارتكاب الجريمة ، كما نصت الفقرة خامسا : أن المتهم بريء حتى تثبت أدانته في محاكمة قانونية عادلة ، ولا يحاكم المتهم بالتهمة نفسها مرة أخرى بعد الإفراج عنه ، إلا أذا ظهرت أدلة جديدة .

وسبب تسمية التحقيق الابتدائي بهذا الاسم هو لتمييزه عن التحقيق القضائي او التحقيق النهائي وهو التحقيق الذي تقوم به محكمة الموضوع بعد احالة الدعوى اليها وهو يشبه التحقيق الابتدائي الا من ناحية كونه لا يجري الا من قبل محكمة الموضوع في مرحلة المحاكمة . ويهدف التحقيق الابتدائي الى التثبت من الوقائع التي كونت الجريمة وفقا للاجراءات التي نص عليها القانون من اجل ترجيح الادلة والتوصل اما الى احالة المتهم على المحكمة المتخصصة اذا كانت الادلة صحيحة وكافية او اخلاء سبيله وغلق التحقيق ان لم يثبت صدور الفعل الجنائي منه او تكون الادلة غير كافية لتقديمه الى محكمة الموضوع .

وتعد اجراءات التحقيق الابتدائي على قدر من الاهمية لان الاحكام التي تصدر في القضايا المختلفة غالبا ما تبنى على ما تسفر عنه تلك الاجراءات من ادلة وقرائن ولاجل ذلك نجد ان المشرع العراقي في قانون اصول المحاكمات الجزائية رقم 23 لسنة 1971 قد احاط اجراءات التحقيق الابتدائي وكل مايتعلق به بعدة مبادئ وقواعد عامة تكفل نزاهته وحياده وتنأى عن ان تكون وسيلة للعبث بالحريات الفردية وحقوق الانسان .

ومن هذه المبادئ هي : اناطة سلطة التحقيق الابتدائي الى جهة معينة تتكفل بضمان حقوق المتهم وتحقيق مصلحة المجتمع في الكشف السريع عن حقيقة الجريمة وتتميز هذه السلطة بالكفاءة والاستقلال وحسن التقدير الذي يبعث على الطمأنينة بحسن سير التحقيق الابتدائي على الوجه المطلوب وبما يكفل حقوق المتهم في الدفاع عن نفسه .

وهي مسألة متفق عليها في جميع التشريعات الجنائية في العالم وقد اتخذ المشرع العراقي موقف الفصل بين سلطتي الاتهام والتحقيق اذ يمارس قاضي التحقيق والمحقق سلطة التحقيق بينما يباشر الادعاء العام سلطة الاتهام وقد سار على نفس النهج القانون الانكليزي والفرنسي واللبناني .

ومن المبادئ الاخرى التي اقرها المشرع العراقي هو تدوين التحقيق الابتدائي بسبب استحالة الاعتماد على ذاكرة المحقق من جهة ولان اجراءات التحقيق الابتدائي وماتم التوصل اليه في التحقيق تكون دائما محل مناقشة الخصوم سواء ذلك في المرحلة الابتدائة ام في مرحلة التحقيق القضائي وقد نص المشرع العراقي في المادة 58 / اصولية على ذلك حيث يقول ( يشرع في التحقيق بتدوين افادة المشتكي او المخبر ثم شهادة المجني عليه وشهود الاثبات الاخرين ومن يطلب الخصوم سماع شهاداتهم وكذلك من يتقدم من تلقاء نفسه للادلاء بمعلوماته اذا كانت تفيد التحقيق ) .

وقد اشترط المشرع العراقي على ان تكون اجراءات التحقيق الابتدائي علنية فالعلنية في التحقيق تكسب ثقة الجمهور وتجعل المتهم بمنأى عن التلفيق وتمكنه من ان يحسن الدفاع عن نفسه كما انها تتيح للخصوم فرصة الوقوف على سير التحقيق في كل ادواره فلا يفاجأ احد بالادلة القائمة ضده في وقت غير مناسب بحيث يتعذر عليه دفعها كما انها تعد ضمانا للحريات من خلال اطلاع الراي العام على الاجراءات التي تمت في التحقيق الابتدائي.

وقد نصت المادة 57/ الفقرة أ من قانون اصول المحاكمات الجزائية العراقي على انه (للمتهم وللمشتكي وللمدعي بالحق المدني وللمسؤول مدنيا عن فعل المتهم ووكلائهم ان يحضروا اجراءات التحقيق وللقاضي او المحقق ان يمنع ايا منهم عن الحضور اذا اقتضى الامر ذلك لاسباب يدونها في المحضر على ان يبيح لهم الاطلاع على التحقيق بمجرد زوال هذه الضرورة ولايجوز لهم الكلام الا اذا أُذن لهم واذا لم يأذن لهم وجب تدوين ذلك في المحضر ) كما ان الفقرة ب من المادة عينها نصت على انه ( لاي ممن تقدم ذكرهم ان يطلب على نفقته صورا من الاوراق والافادات الا اذا رأى القاضي ان اعطاءها يؤثر على سير التحقيق او سريته ) .

وعلى الرغم من ذلك فان المشرع العراقي عد التحقيق الابتدائي سريا بالنسبة للجمهور وهذا يتطلب عدم جواز حضور الجمهور لاجراءات التحقيق الابتدائي وهو امر يجد اساسه في ان المتهم بريء حتى تثبت ادانته ومن مقتضيات تطبيق هذا المبدأ هو المحافظة على سمعة المتهم واعتباره لان العلانية تترك انطباعا سيئا لدى الجمهور عن المتهم .

كما ان على كل من يباشر التحقيق الالتزام بكتمان اسرار التحقيق الابتدائي سواء من باشر التحقيق ام اتصل به او علم به بحكم وظيفته او مهنته وكذلك الالتزام بعدم تسرب شيء من التحقيق الى الجمهور والا يتعرض المخالف للعقوبة حيث نصت المادة 236 من قانون العقوبات رقم 111 لسنة 1969 عقوبة الحبس مدة لاتزيد على سنتين او عقوبة الغرامة التي لاتزيد على مئتي دينار او باحدة هاتين العقوبتين لكل من نشر باحدى طرق العلانية اخبارا بشأن محاكمة قرر القانون سريتها او منعت المحكمة نشرها او تحقيقا او وثيقة من وثائق التحقيق اذا كانت سلطة التحقيق قد حضرت اذاعة شيء عنه .

واخيرا فان من المبادئ التي لابد من اتباعها في التحقيق الابتدائي هي سرعة انجاز التحقيق الابتدائي لغرض تهيئة القضية التحقيقية التي يجري التحقيق فيها للفصل فيها واصدار القرار المناسب بشأنها لكي لايطول وقوف المتهم امام هيئات التحقيق لمدة طويلة ثم يثبت انه بريء من التهمة المنسوبة اليه او لينال جزاءه العادل اذا كان مذنبا فضلا على ان التباطؤ في المباشرة باجراءات التحقيق قد يعرض أدلة أثبات الجريمة الى الضياع أو التلاعب أو التغيير ، وعلى هذا الأساس فأن هناك ضرورة تتطلب الإسراع في انجاز التحقيق ، إذ إن التأخير في انجازه قد يضر بمصالح الفرد والمجتمع معا.