الإكراه:

أولى الفكر القانوني منذ القدم أهمية قصوى للإكراه إلى جانب كونه عيبًا يشوب الرضاء ويفسده، فهو يقوم على العنف أو التهديد به. وقد وجد نظام الإكراه، في الفقه الإسلامي، مكانًا رحبًا بارزًا، واهتم به رجاله اهتمامًا كبيرًا، بل لعل اهتمام فقهاء المسلمين بالإكراه يفوق إلى حد كبير الاهتمام الذي أُولي إياه في ظل الشرائع الأخرى، بل إنه يفوق اهتمامهم هم أنفسهم بغيره مما يدخل، في النظرة المعاصرة، في زمرة عيوب الرضاء.

وترجع الأهمية الكبرى لنظام الإكراه، في ظل الفقه الإسلامي، إلى أن اعتناق الدين الإسلامي نفسه بُني على الاختيار عند الفرد، فلا جبر فيه ولا قسر ولا إرغام، إذ أنه (لا إكراه في الدين) وكان طبيعيًا أن تنعكس هذه القيمة السامية على المعاملات، ليتحتم أن تقوم على الرضاء الحر، بعيدة عن الضغط والإجبار، وتوخًيا للوصول إلى هذه الغاية النبيلة، جاء القرآن الكريم يحارب الإكراه في العقود بقوله، عز شأنه ” يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل، إلا أن تكون تجارة عن تراضٍ منكم “ وجاء الرسول الأمين يقول ” إن الله رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه “.

وإذا كان الفقه الإسلامي بكل مذاهبه قد عمد إلى محاربة الإكراه في العقود، إلا أن أثره يتفاوت باختلاف تلك المذاهب، فعند الشافعية، الإكراه يبطل التصرف، حيث قالوا إن عقد المكره يكون باطلاً، كعقد الصبي غير المميز والمجنون، وتقول الجعفرية بحكم مماثل (كاشف الغطاء ج 3 ص 153) وعند الحنفية وقع الاختلاف في حكم الإكراه: فعقد المكره يقع موقوفًا على إجازته عند زفر ولكنه يقع فاسدًا عند أبي حنيفة وصاحبيه أبي يوسف ومحمد، وهو الرأي الراجح في المذهب، أما عند المالكية فالإكراه لا يمس انعقاد العقد (كما تقول الشافعية والجعفرية)، ولا يمس صحته بالفساد (كما يقول الرأي السائد عند الحنفية)، ولكن أثره يقتصر على أن يجعل منه عقدًا غير لازم، بمعنى أن يثبت للمكره خيار الفسخ، وهو رأي يتفق مع ما يقول به الفكر القانوني المعاصر الذي تبناه المشروع.

وقد حرص المشروع، في تنظيمه للإكراه، أن يقف عند حدوده التقليدية الموروثة، اعتبارًا بأنه يقوم على وسائل تهديدية توجه إلى المتعاقد، بغرض حمله على ارتضاء العقد، درءًا للأذى عنه أو عن غيره ممن يؤثر فيه إيذاؤهم، وهي من بعد الحدود التي تكون الإطار الذي عرف الإكراه في أصله عليه، سواء في الفقه الإسلامي أم في الفكر القانوني المعاصر. وترسم المادة (156) الإطار العام لنظام الإكراه، من حيث قيامه وأثره، فهي تقرر أن أساس قيام الإكراه يتركز في أن المتعاقد يرتضي التصرف تحت سلطان الرهبة أو الخوف، فهو إذا كان يرتضي التصرف حقيقة، إلا أن رضاءه به لم يأت حرًا وعن كامل اختيار، وإنما جاء عن ضغط عليه وقسر وإجبار، ورغبة منه في دفع الأذى الذي يتهدد غيره.

وينبغي لقيام الإكراه أن تكون الرهبة قد بُعثت في نفس المتعاقد بفعل فاعل، سواء أكان هو المتعاقد الآخر أو شخصًا آخر ممن يمكن أن يعزى عملهم إليه، على نحو ما تقرره المادة (157)، فإن تولدت الرهبة بغير تدخل من أحد، كما إذا تولدت بفعل الظروف المحيطة بالشخص، أو تولدت بتأثير مجرد الإجلال الذي يستشعره نحو شخص آخر، فإن الإكراه لا يتواجد، وإنما قد ينفتح المجال لأعمال عيب آخر من عيوب الرضاء هو الاستغلال. ويلزم أن تكون الرهبة قائمة حقيقة في نفس المتعاقد عند ارتضائه العقد، وهي تعتبر كذلك، إذا وُجهت إليه وسائل ضغط وإكراه جعلته يستشعر الخوف من أذى جسيم يتهدده، أو يتصور أنه يتهدده، هو أو أحد من الغير، في النفس أو الجسم أو العرض أو الشرف أو المال أو أية قيمة أخرى من القيم العزيزة على النفس. فالعبرة هنا هي بحصول الرهبة بالفعل، ولا أهمية بعد ذلك للأداة التي أفلحت في توليدها في النفس، فلا أهمية لما إذا كان الخطر الذي يتهدد الشخص حقيقيًا أو وهميًا، ما دام المكره قد استشعره بالفعل في ذات نفسه.

ولا تحديد للأشخاص الذين يعتبر تهديدنا بإلحاق الأذى بهم إكراهًا لنا بالنسبة إلى القرابة أو غيرها، ولم يشأ المشروع هنا أن يلجأ إلى مثل هذا التحديد. مخالفًا في ذلك ما فعلته بعض القوانين، كالقانون الفرنسي، (المادة 1113) لما فيه من تحكم غير مقبول، فالمسألة مردها إلى أثر التهديد على نفس المتعاقد، من حيث توليد الرهبة أو عدم توليدها في نفسه. وقد يشعر الفرد منا بالحب والإعزاز نحو شخص لا يمت بصلة قربى فيولد تهديده بإيذائه فادح الخوف، في حين أنه قد لا يهمه أمر أقرب الناس إليه، فلا يستشعر الخوف من أن يصيبه كبير الأذى.

والمعيار الذي يراعى في تحديد ما إذا كانت الرهبة قد قامت في نفس المتعاقد أم لم تقم، هو معيار شخصي أساسه المتعاقد المكره نفسه، فطالما أنه قد ثبت أنه قد خاف بالفعل وأن الرهبة التي تولدت هي التي دفعته إلى التعاقد، فإن الإكراه يتوافر، بغض النظر عما إذا كان من شأن وسائل الإكراه التي وجهت إليه أن تبعث الرهبة في نفس غيره أم لا تبعثها، والناس يتفاوتون فيما من شأنه أن يبعث في نفسهم الرهبة، بل إن من شأن الظروف المحيطة بهم أن تلعب في ذلك دورها، ولذلك وجب الاعتداد في تحديد قيام الرهبة في نفس المتعاقد ومدى أثرها عليه بظروفه الخاصة، كحالته من الذكورة أو الأنوثة، وسنه، وعلمه أو جهله، وصحته أو مرضه، وكذلك بكل ظرف آخر من شأنه أن يؤثر بدوره فيما يترتب من خوف في نفسه ولو كان هذا الظرف غير متعلق بذات شخصه، كما إذا وقع التهديد عليه في مكان منعزل بعيد عن الناس.

ويلزم لقيام الإكراه أن تكون الرهبة قد ولدت في نفس المتعاقد بغير وجه حق، فلا قيام للإكراه إذا بعث المتعاقد الرهبة في نفس غريمه بوسيلة يسمح بها القانون، ومن غير تجاوز للغرض الذي أباحها من أجله، وفي ذلك يتجاوب المشروع من الفقه الإسلامي الذي يبشر بأن الإكراه بحق، أو ما يطلق عليه تحت ظله (الجبر الشرعي) يقع غير مؤثر على العقد. وإذا توافرت للإكراه شروط إعماله، أنتج أثره. ويتركز هذا الأثر في وقوع العقد قابلاً للإبطال لمصلحة من جاء رضاؤه متعيبًا، وهو حكم إن خالف السائد عند الشافعية والجعفرية، حيث يقع عقد المكره باطلاً عندهم، وإن خالف ما يقول به فقهاء الحنفية من وقوع عقد المكره موقوفًا أو فاسدًا على خلاف بينهم، فهو يتفق مع مذهب المالكية، حيث يقولون بوقوع عقد المكره منعقدًا غير باطل، وصحيحًا غير فاسد، ونافذًا غير موقوف، ولكنه يكون غير لازم، حيث تثبت للمكره خيار الفسخ.

ويثبت حق طلب الإبطال للمكره، سواء دفعه الإكراه إلى قبول التعاقد ذاته، أم اقتصر على حمله قبول شروط أقسى وأشد وقرًا مما كان يقبل بها من غيره، شأن الإكراه في ذلك شأن التدليس. على أنه إذا اقتصر دور الإكراه على حمل المتعاقد على قبول شروطه تبهظه، فإنه يترخص له، كما هو الحال في التدليس، ألا يتمسك بإبطال العقد، ويرجع على المتعاقد الآخر على أساس المسؤولية التقصيرية، إذا توافرت شروطها، بُغية أن يدفع عن نفسه ما يبهظ من شروط العقد، اعتبارًا بأنه بذلك يصل إلى تعويض عيني للضرر الذي لحقه من جراء الإكراه. ويتطلب المشروع في المادة (157) أن يكون الإكراه، الذي تعيب به رضاء المتعاقد، قد جاء من المتعاقد الآخر، أو من نائبه، أو بفعل من يُبرم العقد لمصلحته، شأن الإكراه في ذلك شأن التدليس.

وكما هو الحال في شأن التدليس، فإن المشروع يقصد بالتابع هنا كل من يعمل لحساب المتعاقد، حتى لو لم يكن تابعًا له بالمعنى الصارم لهذا الاصطلاح، وحتى لو لم يكن ملتزمًا قانونًا بأن يعمل لصالحه، بل أجرى ذلك تطوعًا منه، فإذا وقع الإكراه من شخص من الغير، ما كان له تأثير على العقد، ما لم يكن المتعاقد الآخر، عند إبرام العقد، عالمًا بحصول الإكراه، أو كان من المفروض عليه حتمًا أن يعلم به، والمكره بعد ذلك وشأنه مع من سلط عليه سيف التهديد.

والمشروع، إذ يجعل الإكراه الواقع من الغير غير مؤثر على العقد، لا يغفل عن أنه يؤدي، هو أيضًا، إلى تعييب الرضاء. ولكنه راعى مصلحة المتعاقد الآخر، وهي مصلحة يراها جديرة بالرعاية إذ الفرض أن هذا المتعاقد كان بعيدًا عن الإكراه لم يتصل به بسبب. والمشروع، بتطلبه أن يكون الإكراه متصلاً بالمتعاقد الآخر، وإن خالف الفكرة التقليدية التي تعمل الإكراه طالما كان هو الدافع إلى التعاقد، دون اعتبار بعد ذلك لمن يصدر عنه، فهو يتمشى مع الفكرة التي أخذت تسود في القانون المعاصر، والتي تُدخل في اعتبارها وجوب توفير الأمن والاستقرار للمعاملات، كلما كان الطرف الآخر في العقد بمنأى عما شاب رضاء غريمه من عيب، ثم إنه يسوي بذلك في الحكم بين الإكراه والتدليس.

وقد استوحى المشروع حكم المادة (157) من القانون المصري وغيره من قوانين البلاد العربية الأخرى التي اتبعته، ومن بينها قانون التجارة الكويتي، وذلك بعد إجراء تعديلات في الصياغة اقتضتها الملاءمة. يستثني المشروع في المادة (158) التبرعات من شرط اتصال الإكراه بالمتعاقد الآخر، كما فعل ذلك من قبل بالنسبة للغلط والتدليس. وقد قرر هذا الحكم، حرصًا منه على أن يجيء التبرع دومًا عن إرادة حرة مختارة، كما حرص من قبل على أن تجيء عن بينة من الأمر، لم يفسدها غلط، ولم يضللها تدليس.

اعادة نشر بواسطة محاماة نت .