الاختصاصات القانونية للشرطة و ضمانات حقوق الإنسان في مرحلة جمع الاستدلالات

تُعد الشرطة إحدى الآليات، أو الهيئات التي يقع عليها العبء الأكبر في مجال حماية حقوق الإنسان، فدورها هو خدمة الشعب وكفالة الطمأنينة والأمن للمواطنين، وما ييسر قيام الشرطة بواجباتها هو كفالتها وضمانها تمتع أفراد الشعب بكافة الحقوق والحريات الأساسية التي كفلها الدستور والقانون لهم.

وبمجرد وقوع الجريمة تبدأ الشرطة مهمتها في الكشف عن مرتكبيها وجمع التحريات والاستدلالات التي تلزم للتحقيق في الدعوى، وأثناء قيامها بتلك الإجراءات تتقيد بحدود تتمثل في حماية الحقوق والحريات الأساسية للإنسان.

ويكون الأطراف بصفة أساسية في مرحلة جمع الاستدلالات المتهم ومأمور الضبط القضائي، وكلما توافرت الضمانات لحقوق الإنسان في هذه المرحلة كلما اقترب التشريع الداخلي من معايير وقواعد الحماية الدولية، فالإنسان يحتاج في هذه المرحلة إلى أكبر قدر من الضمانات وذلك لأمرين

1.يبلغ الصراع بين حقوق المتهم وأمن المجتمع في هذه المرحلة أشده.

2.يكون المتهم في هذه المرحلة بين أيدي السلطة المكلفة بحفظ أمن المجتمع، وجمع أدلة الدعوى.

ومرحلة جمع الاستدلالات هي المرحلة السابقة على الدعوى الجنائية، وهي تُعد بمثابة المرحلة التمهيدية التحضيرية للخصومة الجنائية، لأنها عبارة عن جمع المعلومات والبيانات الخاصة بالجريمة، عن طريق التحري عنها والبحث عن فاعليها بشتى الطرق والوسائل القانونية، وبالتالي إعداد العناصر اللازمة للبدء في التحقيق الابتدائي وهذه الإجراءات تغاير بهذا المعنى إجراءات التحقيق الابتدائي، الذي يمثل المرحلة الأولى من مراحل الدعوى الجنائية، ومؤدى ذلك أن الدعوى الجنائية لا تتحرك إلا بالتحقيق ولا تعتبر أنها قد بدأت بأي إجراء من إجراءات الاستدلال

فمرحلة جمع الاستدلالات – إذاً – من أهم مراحل العدالة الجنائية ودور الشرطة فيها محوري وهام وفعال وتأتي أهميته في استهدافه احترام القيم الإنسانية والشرعية الدستورية والقانونية، ضمانًا لكفالة الحقوق والحريات الفردية، وإصباغ المشروعية على أعمال السلطة، من ناحية والوصول إلى مرتكبي الجرائم تمهيدًا للقبض عليهم وتقديمها للمحاكمة، واستيفاء حق الدولة في العقاب وتحقيق الردع العام من ناحية أخرى وهو ما يتطلب مراعاة العديد من الاعتبارات وثيقة الصلة بحماية حقوق الإنسان وحرياته الأساسية أثناء قيام رجل الشرطة بعمله في هذه المرحلة وأهمها:

أولاً: تعزيز قدرات وكفاءة رجل الشرطة في مجال حقوق الإنسان :

تحرص وزارة الداخلية على وضع استراتيجية لحماية حقوق المواطن في كافة تعاملاته مع الشرطة والتي يتم من خلالها تفعيل الرقابة على أعمال الاستدلال، ونشر المعرفة في مجال حقوق الإنسان ضمن المناهج التدريبية بما يضمن الإلمام الكامل بمبادئ الشرعية أثناء ممارسة العمل الشرطي، ويساهم في تعزيز وتوطيد ومد جسور التعاون بين الشرطة والجمهور.

كما يتم إعداد الدراسات والبحوث العلمية بالتنسيق مع المراكز البحثية بالوزارة في موضوعات حقوق الإنسان، والمشاركة في المؤتمرات والندوات الدولية والإقليمية والوطنية المرتبطة بحقوق الإنسان وحرياته الأساسية، والاستفادة من نتائجها وتوصياتها في تفعيل آليات العمل الشرطي لتنمية الوعي والحرص لدى رجال الشرطة.

ثانيًا: شرعية التحري وجمع الاستدلالات :

نصت المادة 45 من قانون الإجراءات الجنائية البحريني على أن “يكون من مأموري الضبط القضائي في دوائر اختصاصاتهم :

‌أ.أعضاء النيابة العامة.

‌ب.ضباط وضباط صف وأفراد قوات الأمن العام.

‌ج.حرس الحدود والموانئ والمطارات.

‌د.مفتشو الجمارك.

وللمحافظ في دائرة اختصاصه أن يؤدي الأعمال التي يقوم بها مأمور الضبط القضائي …..”.

ويقوم مأمورو الضبط القضائي بتقصي الجرائم والبحث عن مرتكبيها وجمع الاستدلالات التي تلزم للتحقيق والنظر في الدعوى (المادة 43 من قانون الإجراءات الجنائية).

ويُعد أول حق من حقوق المتهم أن لا تبدأ أية إجراءات لمأموري الضبط القضائي في التحري وجمع الاستدلالات عن أية جريمة إلا بمسوغ قانوني، وهذا يعطي الشرعية لتحريك الإجراءات الجنائية ضد المتهم فلا جريمة ولا عقوبة إلا بنص قانوني، ومن الأهمية أن ينصب الأمر أولاً على حماية حقوق المتهم في مرحلة التحري قبل محاسبته في مرحلة المحاكمة لأن مرحلة التحري هي التي يحتاج فيها المتهم لحماية حقوقه، لأن الحماية لو جاءت في مرحلة المحاكمة فقط تكون متأخرة وقد لا تفيد المتهم كثيرًا بعد أن تكون حقوقه قد أهدرت في مرحلة التحري

هذا وقد تعول المحكمة في تكوين عقيدتها على ما جاء بمحاضر جمع الاستدلالات من معلومات باعتبارها معززة لما ساقته من أدلة ما دامت تلك التحريات قد عرضت على بساط البحث بالجلسة

ودعمًا لقرينة البراءة باعتبارها مبدأ سيادي يهيمن على كافة مراحل الإجراءات الجنائية يفترض براءة من يخضع للاتهام حال اتخاذ أية إجراءات ماسة بحريته الشخصية.

ثالثًا: تلقي التبليغات والشكاوى :

ألزمت المادة 46/1 من قانون الإجراءات الجنائية البحريني مأموري الضبط القضائي أن يقبلوا التبليغات والشكاوى التي ترد إليهم بشأن الجرائم، وأن يحصلوا على جميع الإيضاحات اللازمة لتسهيل تحقيق الوقائع التي تبلغ إليهم أو التي يعلمون بها بأية كيفية كانت.

وواضح من هذا النص أن المشرع لم يحدد لمأمور الضبط القضائي كيفية ووسيلة الحصول على الإيضاحات اللازمة وإنما منحه سلطة ترتيب سبل الحصول على المعلومات، فعبارة (الحصول على الإيضاحات) عبارة عامة تشير إلى أن الغرض العام للاستدلال دون تحديد سبل أو وسائل الحصول على الإيضاحات المطلوبة عن الجريمة، ولذلك يصح لمأمور الضبط القضائي أن يسلك أو يتخذ أية وسيلة تأتي بمعلومات عن الجريمة بشرط أن يلتزم بالقواعد العامة لصحة مباشرة الإجراء.

وإذا قدم البلاغ والشكوى إلى مأمور الضبط القضائي وجب عليه أن يقبلها، وإلا تعرض للمسئولية التأديبية، ويجب عليه أن يثبّت جميع الإجراءات في محاضر موقع عليها منه يبين فيها وقت اتخاذ الإجراء ومكان حصوله، كما يجب أن تشمل تلك المحاضر أيضًا على توقيع الشهود والخبراء الذين سمعوا، وترسل المحاضر إلى النيابة العامة مع الأوراق والأشياء المضبوطة (المادة 46/2 من قانون الإجراءات الجنائية البحريني).

ولقد استهدف المشرع من هذا الإجراء تمكين النيابة العامة من رقابة مأموري الضبط القضائي في قيامه بأعماله، ومتابعة الإجراءات التي يتخذها حال إخطاره بالبلاغ أو الشكوى والحفاظ على الأدلة خشية التعرض للإهدار أو الضياع.

رابعًا: إجراء التحريات :

يُقصد بالتحريات جمع كافة القرائن والأدلة التي تفيد في التوصل إلى الحقيقة إثباتًا أو نفيًا لوقوع الجريمة ونسبتها إلى فاعلها فهي تعنى بجمع المعلومات والبيانات لإثبات الحقيقة، وتأكيد الإدانة في حق المتهم أو تبرئته مما نسب إليه من اتهام.

وللتحريات أهمية كبيرة بالنسبة لبعض إجراءات التحقيق فقد عولت المادة 69 من قانون الإجراءات البحريني على جدية هذه التحريات في الإذن بتفتيش المنازل والأشخاص لضبط الأشياء الخاصة بالجريمة التي يجري جمع الاستدلالات أو التحقيق بشأنها، فإذا كانت هذه التحريات غير جدية، فلا يجوز الإذن بالتفتيش.

على أنه يلزم كي تكون التحريات منتجة لآثارها أن تكون متعلقة بجريمة وقعت فعلاً، فلا يجوز لمأمور الضبط القضائي أن يتدخل بفعله في خلق الجريمة، أو التحريض على مقارفتها

خامسًا: إجراء المعاينات:

أوجبت المادة 50/1 من قانون الإجراءات الجنائية البحريني على مأموري الضبط القضائي أن يجروا المعاينات اللازمة للحصول على الإيضاحات المتعلقة بالجريمة، وأن يسمعوا أقوال من يكون لديهم معلومات عن الجرائم ومرتكبيها، وللمتهم والمجني عليه والمدعي بالحقوق المدنية والمسئول عنها ولوكلائهم أن يحضروا هذه الإجراءات كلما أمكن ذلك.

وليس لمأمور الضبط القضائي إكراه أحد على الحضور أمامه للإدلاء بمعلوماته، ولا يرتكب من امتنع عن الحضور، أو حضر ورفض الإفضاء بمعلومات عن الجريمة، جريمة ما، ويعلل ذلك بالطبيعة العامة لأعمال الاستدلال وتجردها من وسائل القهر

ويجوز لمأموري الضبط القضائي أن يستعينوا بالأطباء وغيرهم من أهل الخبرة ويطلبوا رأيهم شفاهة أو كتابة، ولا يجوز لهم تحليف الشهود أو الخبراء اليمين، إلا إذا خيف ألا يستطاع فيما بعد سماع الشهادة بيمين.

كما لا يجوز لمأمور الضبط القضائي أن يستجوب المتهم وإنما يجوز له سؤاله في شأن الجريمة، والفرق بين السؤال والاستجواب يخلص في أن الأول مجرد استفسار من المتهم عما يحيط به من شبهات وبيان رأيه فيها، بينما يتضمن الاستجواب مواجهة المتهم بالأدلة ومناقشته فيهابصورة تفصيلية كي يفندها إن كان منكرًا للتهمة أو يعترف بها إن شاء

ويجدر التنويه إلى أن المعاينات التي تقصدها المادة 50 إجراءات جنائية هي المعاينات التي يجريها مأمور الضبط القضائي كعمل من أعمال الاستدلال، ومن ثم وجب إجراءها في الأماكن العامة التي يباح للجمهور الدخول فيها بغير تمييز، فإذا استطالت للمساكن بطلت، وبطل ما نجم عنها من أدلة، ذلك أنها تأخذ في تلك الحالة الأخيرة حكم التفتيش المحظور على مأمور الضبط القضائي إجراءه إلا بإذن صادر من سلطة التحقيق، أو برضا حائز المسكن

سادسًا: اتخاذ الإجراءات التحفظية :

خولت المادة 72 إجراءات لمأموري الضبط القضائي اتخاذ ما يراه مناسبًا من إجراءات للمحافظة على أدلة مسرح الجريمة حتى تتمكن النيابة العامة من معاينته والاستعانة بما يحويه لاتخاذ قرارها في الواقعة، ومن صور الإجراءات التحفظية وضع الأختام على الأماكن التي بها آثار أو أشياء تفيد في كشف الحقيقة، ولهم أن يقيموا حراسًا عليها، وأن يحرزوا الأوراق والأسلحة والآلات وكل ما يحتمل أن يكون قد استعمل في ارتكاب الجريمة.

سابعًا: عدم التعرض للحريات الفردية:

الأصل أن إجراءات الاستدلال يجب ألا تمس حقوق الأشخاص وحرياتهم الفردية، وسنتعرض لهذه الحقوق ونطاق المشروعية والبطلان أثناء التعرض لها من قبل رجل الشرطة.