اختلال في التعادل بين الأداءات المتقابلة

يأتي هذا العنصر وفق هذه النظرية في المقام الأول ، فهو أول ما يتجه إليه البحث عند النظر في الغبن وفق نظرية الاستغلال ، لأنه ظاهر واضح و هو سهل الإثبات ، و يتحقق هذا الشرط كما تقول المادة 129/1 مدني مصري و 130 مدني سوري : ( إذا كانت التزامات أحد المتعاقدين لا تتعادل البتة مع ما حصل عليه هذا المتعاقد من فائدة بموجب العقد أو مع التزامات المتعاقد الاخر ) .

كما أوردت المادة 214 موجبات و عقود لبناني إذا كان الغبن ( فاحشاً و شاذا عن العادة المألوفة ) .

و على هذا نرى أن القانون السوري و المصري لم يشترطا في هذا الشرط إلا الغبن الفاحش .

أما القانون اللبناني فقد وضع عليه شرطا آخر و هو أن يكون شاذا عن العادة ، و أعتقد أن القانون اللبناني قد أحسن عندما وضع هذا الشرط ، فقد تكون القيمة المادية للشء أكبر من قيمته المحددة في العقد و ربما يكون التفاوت بين القيمتين فادحاً و مع ذلك يظل مستساغاً بحكم العادات التي تحكم العلاقات بين المتعاقدين ، فليس نادراً أن يبيع الوالد عقاراً لابنه بثمن لا يتناسب مع قيمته ذلك أن العلاقة بين الأب و الابن لا تجعل الوالد يتوخى الاستغلال في تعاقده مع ابنه منفعة مادية صرفة إذ الواقع أثبت أن الوالد يتساهل كثيرا مع فلذة كبده في في المعاملات و غيرها ، وليس هذا مما يشذ عن المألوف – و فق القانون الوضعي طبعا – طالما أن التفاوت بين الموجبات لم يكن شاذا عن العلاقات التي تتحكم بالمعاملات بين الطرفين في اوسط الاجتماعي الذي يعيشان فيه .

و التعادل بين الأداءت أو الموجبات وفق نظرية الاستغلال لا ينظر فيه إلى قيمة المادية للشئ فقط ، و غنما يعتد أيضا بقيمته الشخصية أي بما يساويه في اعتبار النتعاقد ، فربما كان هناك عقار يساوي مليون بيد أنه في نظر المشتري أو البائع يساوي أكثر من ذلك لما يحوي هذا العقار على أشياء ذات طابع شخصي لدى المتعاقد فتصبح هذه القيمة الشخصية هي أس الحقيقي لقيمة العقار و لتفاوت قيمته في العقد .

بيد أني أتساءل متى كان تقديرنا للأشياء هو المقوم أو المحدد لسعر السلع أوليس قانون العرض و الطلب هو المسعر للسلع و دخل لعواطفنا و ميولنا في تحديد أسعار الأشياء كقاعدة عامة ، إذا ما أدخلنا القيمة الشخصية للشئ لتسعير الأشياء فإننا سنفتح باب الاستغلال على مصراعيه و عوضا عن جعل نظرية الاستغلال مقاومة للاستغلال تصبح مشجعة وحامية له . فربما وجد شخص لديه رغبة شديدة في شراء منزل ما بسبب قربه من عمله و أهله ، و بالتالي فإنه سوف يوفر عليه كثيرا من الوقت و المال ، فسعره الشخصي عند هذا الشخص يساوي أكثر من قيمته في السوق ، فهل يدخل في تقويم العقار هذه الأشياء الشخصية و بالتالي يصبح مجموع هذه الأشياء سعر العقار ، أم أن الذي يحدد سعره موقعه في البلد و مساحته و جودته و إلى غير ذلك من الأمور الهامة لسعر العقار .

أعتقد أن القانون اللبناني قد أحسن عندما لم يأخذ بنظرية الاستغلال ( النظرية الشخصية للالتزامات لأن واضع المادة 214 جمع بين المذهب المادي و الشخصي ، فاشترط الغبن بصفته الفاحشة و الاستغلال ، و في إطار الغبن وفق نظرية الاستغلال ينظر إلى قيمة الشئ نظرة مادية لا شخصية ، و عند استعراض خاصة الاستغلال يكون تقديرها أساس التحقق ما إذا كان المغبون قد استغل فعلاً ، و كان استغلاله قد حصل بالشكل الذي حمله على القبول بالقيمة المعينة في العقد .

و يدخل في نطاق تقدير التصرف كل شرط يفرض على المتعاقد التزاماً ، حتى و لو لم يكن يقوم بمال ، و على هذا الأساس تقوم المقارنة بين التزامات الطرفين في مجموعهما ، إذ تؤخذ بعين الاعتبار الالتزامات المتعاقدين و الفائدة التي يحصل عليها المتعاقد بموجب العقد . فلو أن شخصاً اشترى قطعة من الرض و التزم في العقد بعدم البناء عليها ، فالتزامه هذا يدخل في التقدير عند تحديد المنفعة التي عادت عليه ، و مقارنتها بالثمن الذي دفعه .

و يصح أن يقع الاختلال بالمعنى الذي ذكرناه في جميع التصرفات و هو اكثر ما يكون في عقود المعاوضات إذ أن هذا المجال هو الذي يظهر فيه بوضوح الاختلال في التعادل بين الاداءات ، لأن العاقد في هذه العقود يعرف وقت العقد على وجه محدد مقدار ما يعطي و مقدار ما سيأخذ ، كما أنه من الممكن أن يتحقق الاختلال في العقود الاحتمالية على الرغم من انها تقوم أساساً على عنصر الاحتمال ، احتمال الخسارة و الكسب ، إلا أن هذا لا يحول دون أن تكون مجالاً للغبن .

أما عقود التبرع التي ينال فيها أحد المتعاقدين مقابلاً لما يعطيه و لا يقدم العاقد الاخر مقابلاً لما يناله .

إن بعض التشريعات و الفقه يريان أن عقد التبرع من نطاق الغبن وفق النظرية الشخصية ، لانعدام العنصر المادي في التبرعات و هذا ما فعله القانون المصري ، وتبعه القانون السوري إذ وضع المتشرع المصري نصاً خاصاً لعقود التبرع ، بيد أن لجنة مجلس الشيوخ حذفت هذا النص بحجة أنه من قبيل التزيد ، ذلك أن نص المادة 129 شمل التبرعات أيضاً .

أما القانون اللبناني : فقد ذهب فريق من شراحه إلى أن المتشرع اللبناني يقصر الاستغلال على عقود المعاوضات بحجة أن المادة 213 موجبات و عقود اقتصرت على ذكر هذه العقود في تعريفها للغبن بيد أنني أعتقد أن هذا التعريف تناول الغبن وفق النظرية المادية .

أما الاستغلال فقد عالجه في المادة 214 وفقاً لما يقضي به منطق الفكرة ، إذ هو أشد وطأة في عقد التبرع منه في عقد المعاوضة .

و هنا أطرح السؤال التالي : هل يجب أن يكون هناك اختلال في الموجبات حتى يكون هناك عيب ، و في عقد التبرع العاقد لا يأخذ مقابل ما يعطي أصلاً ؟ .

الحقيقة أنه ينظر في هذه الحالة لتقدير العنصر المادي إلى مقدار التبرع بالنسبة إلى ثروة المتصرف و العبرة في تقدير العنصر المادي على النحو الذي ذكرناه بوقت إبرام التصرف ، و إذا سبق التصرف وعد بإبرامه كانت العبرة في تقدير العنصر المادي وقت صدور الوعد ، وليس وقت انعقاد التصرف الموعود به حينما يبدي الموعود له رغبته في إبرامه .

و مهما قيل فإن هذا الرأي يبقى نظرياً لا يجد له سنداً في القانون اللبناني ، و لا حتى في القانونين السوري و المصري ، بل كان من واجب المتشرع أن يقنن لعقود التبرع نصاً صريحاً يجيز إبطال التبرعات تبعاً لظروف المتبرع و التبرع 0

و كثيراً ما يتبرع الزوج لأولاده من زوجته الأولى بمعظم ماله بالبيع الصوري ، ثم يتزوج بثانية و ربما ينجم عن هذا الزواج طفل أو أطفال و عندما يموت الأب لا يجد الطفل من تركة أبيه شيئاً لأن الب قد تبرع بمعظم أو بكل أمواله لأولاده من الزوجة الأولى مما ألحق بهذا الغلام الغبن الفاحش لذلك كان حل هذه المشكلة وفق انظرية الاستغلال أدعى و أوجب و ذلك لخطورة عقود التبرع و كثرة وقوعها في مجتمعاتنا .

و مما تقدم نلاحظ أن الغبن يقع في عقود المعاوضات ، و كذلك يقع في عقود التبرع ، فهل يقع أيضاً في العقود الاحتمالية ؟

العقد الاحتمالي أو عقد الغرر : هو العقد الذي لا يستطيع فيه كل من المتعاقدين أن يحدد عند إبرامه مقدار ما يأخذ أو مقدار ما يعطي لتوقف تحديد هذا المقدار على أمر مستقبلي غير محقق الوقوع .

و هكذا فإن معرفة ما يكسبه و ما يخسره أحد طرفي العقد غير معروف عند التعاقد ، بل هو أمر متوقف على حادث مستقبلي قد يقع و قد لا يقع .

و لا شك في أن عقد التأمين عقد احتمالي بالنسبة إلى طرفيه من الوجهة القانونية و إن لم يكن كذلك من الوجهة الاقتصادية .

فكيف يكون الغبن في العقود الاحتمالية ؟

يتبين ذلك من خلال هذا المثال البسيط ، فلو قام شخص بالتامين على منزله من خطر الحريق و كان هذا المنزل بعيداً كل البعد عن هذا الخطر ، بيد ان صاحبه لم يقم بعملية التأمين إلا بناء على طلب دائن ارتهن المنزل ، و اشترطت شركة التأمين بالرغم من أن خطر الحريق بعيد الوقوع بدفع أقساط مرتفعة . فاحتمال عدم تحقق الخطر هنا أرجح بكثير من احتمال تحققه و بالتالي سوف تحقق شركة التامين ربحاً فاحشاً من وراء هذا التأمين غير المتكافئ . فلا شك بأن الركن المادي و المعنوي في هذا المثال متحقق .

الركن المادي : هو اختلال الموجبات بين طرفي العقد لصالح شركة التأمين .

أما الركن المعنوي : فهو استغلال حالة المستأمن لاضطراره إلى عقد التأمين مهما كانت الظروف .

فما هو موقف القوانين العربية ( اللبناني ، السوري ، المصري ) من العقود الاحتمالية ؟

عالج القانون اللبناني هذا الموضوع بنص صريح عندما نص في المادة 221 في فقرته الأخيرة على أن العقود الاحتمالية تكون قابلة للابطال بسبب الغبن ( و جاء في مجموعة الأعمال التحضيرية القانون المصري أن العقود الاحتمالية ذاتها ، يجوز أن يطعن فيها على أساس الغبن ، إذا أجمع فيه معنى الافراط ، و معنى استغلال حاجة المتعاقد أو طيشه ، أو عدم خبرته أو ضعف إداكه ) .([1])

و هكذا يتضح أن العقود الاحتمالية تخضع لدعوى الإبطال بسبب الغبن شريطة أن يقدر عدم التعادل بين مقدار الربح و مقدار الخسارة ، لا وقت إبرام العقد بل عند انتهاء العقد ، و ذلك لصعوبة معرفة ما يحصل عليه كل من الطرفين وقت إبرام العقد ، لأن هذا يتماشى مع المنطق القائل برفع الظلم عن المغبون سواء أكان هذا الغبن عند إبرام العقد او أثناء تنفيذه أو عند انتهائه .