الاهمية القانونية لسرّية المـراسلات في التشريع المـغربي

لما كان الإيمان بضرورة وجود القانون داخل الجماعة ووجود سلطات تسهر على حسن تطبيقه قد تجذر في الأنفس منذ الأزل، ولما كان الإنسان قد سلّم باجتماعيته وضرورة انضواءه داخل جماعة إنسانية، فإنه سلّم أيضا بضرورة تقديم عدة تنازلات بغية تحقيق مجتمع إنساني قائم على الإنتظام والأمن والسلام. إلا أن تنازلاته تلك عن بعض من حرياته كان بهدف حفظ كثير من الحقوق، كما أن تنازله عن بعض من حقوقه كان بهدف حفظ حريته و تنظيمها.

واجتماعية الإنسان الطبعية تلك، حتمت عليه أن يكوّن شبكة من العلاقات و الروابط المتعددة الأشكال والأهداف، وأن يتواصل مع الآخر لتحقيق كثير من المآرب. وأمام تطور البشرية وتطور تلك العلاقات، كان لابد من ابتكار وخلق وسائل للإتصال حينما لايجمع الأطراف مجلس واحد. فظهرت بذلك الرسالة العادية ثم الهاتف والفاكس والتلكس والأنترنت… واللائحة طويلة وتطول.

ولم يكن من التنازلات التي قدمها الإنسان منذ إنشاء أول مجتمع إنساني، الإطلاع على أسراره. وطالما أن المراسلات أيا كانت وسيلتها تعتبر خصوصية شخصية، فإن المرء لايرضى قط أن تنتهك حرمة مراسلاته، لما في ذلك من اختراق لحقوق شخصية مقدسة تمس مجاله العملي أو الحميمي أو غيرهما.

ولأن الأمر يتعلق بحرية شخصية غاية في الأهمية، فإن الكثير من التوصيات الصادرة عن عدة منظمات دولية و هيئات حقوقية دولية وإقليمية دعت إلى وجوب احترام  وتقديس الحرية في التواصل وضمان نزاهة ومصداقية وسائل الإتصال المختلفة.
وعليه، فإن معظم التشريعات العالمية عملت على تأكيد حرصها وضمانها لسرية المراسلات، بل وأقدمت على معاقبة كل منتهك لسريتها بعقوبات مختلفة. وكان التشريع المغربي من التشريعات الأولى التي رفعت ضمان سرية المراسلات وعدم جواز انتهاكها إلى درجة الدستورية وذلك منذ الدستور الأول لسنة 1962 و إلى آخر مراجعة دستورية لسنة 1996

إلا أننا لاحظنا خروج المشرع المغربي، على غرار دول غير قليلة عبر العالم، عن هذا المبدأ الهام، وذلك “لضرورات وإكراهات حفظ النظام العام”. وطالما أن الأمر يتعلق باستثناء ضيق للقاعدة العامة، فإن المشرع المغربي أحاطها بجملة من القيود ألزم احترامها مقابل وعيد زجري في حالة العكس. إلا أن موقف المشرع المغربي ذاك لا يسلم من النقد، إذ شكل بحق ردة حقوقية، في نظر بعض المراقبين، وخطوات غير مقبولة إلى الوراء مهما كانت المبررات المدعى بها.

ولا تخفى أهمية تسليط الضوء على هذا الإشكال الإجتماعي~القانوني~الحقوقي سواء على الباحثين أو حتى على الإنسان العادي، وذلك لارتباطة الوثيق بالحياة اليومية للجميع. فمن ذا الذي يستهجن الحق في سرية المراسلات ويرضى بالتنصت على خصوصيات حياته؟ و من ذا الذي لم يعد يستعمل أي وسيلة للتواصل، خاصة مع الإستعمال المتزايد لمختلف وسائل الإتصال وبشكل خاص الهاتف النقال، الذي أضحى جهازا غير مستغنى عنه بالمرة؟ كما أن أهمية الموضوع تكمن في الرغبة في معرفة حدود الحرية في التواصل المتاحة في المغرب والمدى الذي بلغته إشكالية تسيل كثير من الحبر وتتعب كثيرا من الأصوات.

لذلك، فإن مجرد طرح موضوع انتهاك سرية المراسلات وفتح إمكانية التنصت على المكالمات الهاتفية وغيرها من الإتصالات المنجزة بمختلف وسائل الإتصال عن بُعد، يطرح معه عدة إشكالات وتساؤلات على مستوى جدلية المنع والجواز، المستحيل والممكن. وإذا كان الممنوع لايطرح مبدئيا أية إشكاليات، فإن الجائز والممكن يطرح أكثر من إشكال من زاوية نطاق إعماله والقائمين عليه والمعنيين به، وكذا الإشكالات الكبرى المتعلقة بالمستوى الحقوقي.

ومن هنا يتضح لنا أن تناول هذا الموضوع سيتم في فصلين أساسيين، نعالج في الأول إمكانية التقاط المكالمات والإتصالات وفق التشريع المغربي، على أن نعمل في الفصل الثاني على تقدير هذه الإمكانية ووضعها في الميزان من زاوية قانونية وحقوقية.

الفصـل الأول: إمكانية التقاط المكالمات والإتصالات المنجزة بوسائل الإتصال عن بعد إن إمكانية التقاط المكالمات والتنصت عليها جاء، كما قيل، كرد فعل لما أضحى يشهـده العالم من ثورة الجريمة، إن صح التعبير، والذي لم يكن المغرب محصنا عنها. ومن تم فقد فتح المشرع المغربي الباب أمام إمكانية التنصت على المكالمات. فقد خصص بابا كاملا هو الباب الخامس من القسم الأول من قانون 22.01 المتعلق بقانون المسطرة الجنائية وكذا بموجب التعديل الذي أًدخل عليها بمقتضى قانون 03.03 المتعلق بمكافحة الإرهـاب.

إلا أن هذه الإمكانية أحيطت بلائحة طويلة من الشروط والقيود، إن على مستوى الجهات المرخص لها بممارسة ذلك الإجراء (الفقرة الأولى)، أو على مستوى المسطرة المتبعة (الفقرة الثانية).

الفقرة الأولى : الجهات المرخص لها

ربما شفعت قدسية الحرية في التواصل لدى المشرع المغربي، حينما حدد بشكل حصري وضيق الجهات التي يمكنها الأمر بالتقاط المكالمات، وكذا بالشروط المتعلقة بالأفعال المبررة لاستخدام هذا “الحـق” المثير للجدل.

فبعدما أكد المشرع المغربي في مستهل المادة 108 ق.م.ج على منع التقاط المكالمات الهاتفية والإتصالات المنجزة بوسائل الإتصال عن بُعد وتسجيلها وأخد نسخ منها أو حجزها. عاد ورسم استثناءات لهذه القاعدة وأورد الشروط الواجب توفرها واستكمالها، وضرورتها في البحث حسب تعبير المشرع المغربي.
وعليه، فإن الجهات المرخص لها بالتقاط المكالمات والإتصالات هم حصريا: قاضي التحقيق والوكيل العام للملك وفق شروط وإجراءات خاصة.
خول المشرع المغربي، لقاضـي التحقـيق، متى اقتضت ضرورة البحث ذلك، أن يأمر كـتابة بالتقاط المكالمات الهاتفية وكافة الإتصالات المنجزة بوسائل الإتصال عن بُعد وتسجيلها وأخد نسخ منها أو حجزها. ولم يشرح المشرع مدلول “ضرورة البـحث” ، كما لم يحدد حالات الضرورة تلك، مما يعني أن تقدير تلك الضرورة متروك لسلطة قاضي التحقيق.

كذلك، خول المشرع للوكيل العام للملك صلاحية الأمر بالتقاط المكالمات. غير أن سلطة هذا الأخير رهينة بموافقة الرئيس الأول لمحكمة الإستئناف، وذلك بعد توجيه التماس إليه بهذا الخصوص. كما أنه رهين بكون الجريمة موضوع البحث تدخل في خانة الجرائم التي حددها المشرع في المادة 108 من ق.م.ج وهي أن تعتبر: جريمة تمس أمن الدولة، جريمة إرهابية، أو تتعلق بالعصابات الإجرامية، أو بالقتل أو بالتسميم أو بالإختطاف وأخد الرهائن، أو بتزييف النقود أو سندات القرض العام، أو بالمخدرات والمؤثرات العقلية، أو بالأسلحة و الذخيرة و المتفجرات، أو بحماية الصحة.

واشتراط المشرع المغربي تقديم الوكيل العام للملك التماس إلى الرئيس الأول لمحكمة الإستئناف بغية إصدار أمر بالتقاط المكالمات ليس مطلقا، إذ أجاز له في حالة الإستعجال القصوى، ومتى خيف اندثار وسائل الإثبات، حسب تعبير المشرع المغربي، الإستغناء عن تقديم ذلك الملتمس مؤقتا، وأن يأمر كتابة بالتقاط المكالمات وتسجيلها وأخد نسخ منها وحجزها، مع تقييد ذلك بكون الجريمة المراد التنصت على المشتبه فيه بمقضاها، تمس أمن الدولة أو تشكل جريمة إرهابية أو تتعلق بالمخدرات والمؤثرات العقلية أو بالأسلحة و الذخيرة و المتفجرات أو بالمتفجرات وأخد الرهائن.

غير أن الرجوع إلى الرئيس الأول لمحكمة الإستئناف يبقى أمرا ضروريا، إذ يتعين على الوكيل العام للملك إشعار الرئيس الأول “فوراً” بالأمر الصادر عنه، ويبقى الرئيس الأول ذا سلطة تقدير الأمر الصادر عن الوكيل العام، وذلك بإصداره تقريرا داخل 24 ساعة يقضي إما بتأييد أو تعديل أو إلغاء قرار الوكيل العام. ولايقبل هذا التقرير أي طعن.

وهكـذا، فإذا أيّد الرئيس الأول لمحكمة الإستئناف قرار الوكيل العام للملك، فإن عملية التنصت تتم وفق الأمر الصادر عن الوكيل العام. وإذا عدّله فإن الإجراءات تتم وفق التعديلات المدخلة بموجب تقرير الرئيس الأول. أما إذا أصدر أمر بإلغائه، فإن عملية إلتقاط المكالمة توقف فورا وتضحى كل الإجراءات المنجزة كأن لم تكن بقوة القانون.

واعتبارا لخطورة إجراء التقاط المكالمات، فإن مباشرة هذه العملية تتم تحت سلطة ومراقبة قاضي التحقيق أو الوكيل العام للملك، حسب الجهة المصدرة لقرار التقاط المكالمات. هذا القرار الذي لابد له أن يحدد، بشكل دقيق وواضح، كل العناصر المحددة والمعرفة بالمكالمة أو المراسلة المراد التقاطها وتسجيلها وأخد نسخ منها أو حجزها، والعمل الجرمي المبرر لاتخاد هذا الإجراء الخطير والمدة الزمنية المطلوبة، وهي المدة التي لايجوز أن تتجاوز أربعة أشهر قابلة للتجديد مرة واحدة.

وإذا تعرفنا على الجهات المؤهلة لاتخاد قرار أمر بالتقاط المكالمات و الإتصالات المنجزة بوسائل الإتصال عن بعد، نتسائل عن الإجراءات المسطرية اللازم اتباعها لتحقيق تلك الغاية، أو بالأحرى تلك الوسيلة المزعم حماية المجتمع وحفظ النظام بواسطتها.

الفقرة الثـانية: الإجـراءات المسـطرية المتبعـة

إن إصدار الأمر بالتقاط المكالمات والإتصالات المنجزة بوسائل الإتصال عن بُعد، وفق ما سبق بيانه في الفقرة الأولى من هذا الفصل، ماهو إلا الخطوة الأولى في مسلسل مليء بالإجراءات.

وهـكذا، وفي حالة صحة مقرر أمر التقاط المكالمات سواء من حيث شكله الكتابي أو الجهة المصدرة له وتحديده الدقيق للمكالمة وأجلها، يوجه قاضي التحقيق أو الوكيل العام للملك، حسب الأحوال، طلبا الى أي عون مختص تابع لمصلحة أو مؤسسة موضوعة تحت وصاية الوزارة المكلفة بالإتصالات والمراسلات، أو من أي عون مكلف باستغلال شبكة أو مزود مسموح له بخدمات الإتصال، في إطار ظهير 7 غشت 1997 المنظم للبريد والمواصلات، وضع جهاز لإلتقاط المكالمات والإتصالات. ولابد من التأكيد على ضرورة تحرير محضرعن كل عملية التقاط للمكالمات والإتصالات وتسجيلها وأخد نسخ منها أو حجزها، يحدد فيه تاريخ انطلاق العملية وانتهاءها.

وبعد وضع التسجيلات في وعاء أو غلاف مختوم، يتم نقلها، سواء من قبل قاضي التحقيق أو الوكيل العام للملك أو الأشخاص الذين يوكل لهم أمر التحقيق أو البحث، يتم نقلها إلى معطيات كتابية، ويحرر محضر عن هذا النقل ويوضع بدوره في ملف القضية. وإذا كانت الإتصالات قد تمت بلغة أجنبية، فإن ترجمتها إلى اللغة العربية يعد أمرا إجباريا، وذلك بمساعدة ترجمان مسجل بجدول التراجمة المقبولين لدى المحاكم. وفي حالة عدم تسجل هذا الترجمان في جدول التراجمة، فهو ملزم بأداء اليمين القانونية كتابة ويتعهد بموجبه بالتحلي بصفات الأمانة والصدق واحترام السر المهني. كما أجاز المشرع الإستعانة بخبراء وذوي الإختصاص في حالة اشتمال المراسلة على رموز أو ألغاز، وذلك حتى يحقق إجراء التقاط المكالمة الغاية المرجوة من وراءه.

واعتبارا لكون المكالمة تتم في سرية تامة حتى تحقق الغاية التي أريد من وراء إباحتها، فإن المشرع ضرب على أيدي الأشخاص الذين يتم الإستعانة بهم لالتقاط المكالمة كلما تبين أنهم، بمناسبة ممارسة مهامهم، كشفوا عن وجود التقاط للمكالمة. واعتبر المشرع تصرفا كهذا يشكل جريمة يعاقب عليها بعقوبة جنحية، وهي الحبس من شهر إلى سنة وغرامة تتراوح بين 10.000 و 100.000 درهم أو باحدهما فقط، دون الإخلال بالمقتضيات الجنائية الأشد.

وإذا كانت إمكانية التقاط المكالمات محددة في الزمان والجهات المكلفة والإجراءات المسطرية، فإنها أيضا محددة في المدى. ذلك أن تلك التسجيلات والمراسلات الملتقطة يتم تبديدها بمبادرة من قاضي التحقيق أو الوكيل العام،وذلك في حالتين هما: تقادم الدعوى العمومية واكتساب الحكم الصادر في الدعوى قوة الشيء المقضي به، حسب المادة 113 ق.م.ج. وعيب هذه المادة أنها
اقتصرت فقط على ذكر سببين من أسباب سقوط الدعوى العمومية، علما أن المادة 4 من ق.م.ج تحدد هذه الأسباب في سبعة (موت الشخص المتابع، التقادم، العفو الشامل، نسخ المقتضيات الجنائية، صدور مقرر مكتسب لقوة الشيء المقضي به، الصلح متى أجازه القانون ثم التنازل عن الشكوى متى كانت لازمة للمتابعة). وبالتالي يمكن الجزم أن المادة 113ق.م.ج كانت ناقصة وغير موفقة.

ولما كان المشرع مدركا لخطورة إجراء “التجسس” على المكالمات والمراسلات، لدى أحاطه بقيود وشروط دقيقة ومركزة. فإننا نتنساءل مع المتسائلين، هل شفعت هذه القيود والشروط للمشرع المغربي في مواجهته لمبدأ الحق في سرية المراسلات والحق في الإحتفاظ بالخصوصيات الشخصية؟

الفصل الثـاني: تقدير إمكانية إلتقاط المكالمات والإتصالات المنجزة بوسائل الإتصال عن بُعد

إذا كان الهدف المعلن من وراء إقحام المواد من 108 إلى 116ق.م.ج يتجلى في إكراهات حفظ النظام العام ورصد المجرمين، فإن فتح المجال أمام إلتقاط المكالمات والإتصالات المنجزة بوسائل الإتصال عن بُعد أخد بعدا سلبيا ووصمة خلل حقوقي خطير. وإذا كانت هذه الإمكانية هي استثناء من قاعدة ضمان سرية المراسلات، فإن هذا الإستثناء يحمل في طياته خروقات غير مقبولة للمكتسبات الدستورية وللحريات العامة ببلادنا. فأين يتجلى ذلك؟

الفقرة الأولـى: التنصت.. انتهاك لمبدأ دستوري

من بين أبرز الأقوال المأثورة التي تترد كثيرا، مقولة “بول فيلو” (paul villot)، الذي قال فيها: “إن أخلاق الشعب وثقافته تقرؤ في قوانينه”. مقولة تجاوزت اعتبارها مجرد تعبير عابر لتسمو إلى درجة المبدأ، اعتبارا لدلالاتها الفكرية والقانونية والأخلاقية والسياسية أيضا.

ومعلوم أن كل من أراد أن يتعرف على الواقع الحقوقي وكذا السياسي لبلد ما،  يقصد بشكل مباشر “الدستور”، باعتباره أسمى قوانين البلاد والمتربع على عرش الهرم القانوني، وأيضا المنظم لنظام الحكم ولمختلف سلطات الدولة والمجسد للحدود الدنيا للحقوق والواجبات والتي لابد للقوانين الأدنى درجة من أن تحترمها.

وطالما أننا نتحدث عن المراسلات والإتصال، كإحدى الحقوق المقدسة للإنسان. فإننا بقراءتنا للدستور المغربي، نجد أنه ضمن سريتها وأمّن الحق في ممارستها، وذلك من جهة، وبشكل ضمني، في تصدير الدستور. إذ من بين مما ورد في هذا التصدير، إلتزام المملكة المغربية بما تقتضيه المواثيق الدولية من مبادئ وحقوق وواجبات، وتشبتها بحقوق الإنسان كما هي متعارف عليها دوليا.

ومعلوم أن العديد من التوصيات والقرارات سواء الصادرة عن هيئة الأمم المتحدة أو عن مختلف المنظمات الحقوقية الدولية والإقليمية تدعو إلى ضمان سرية المراسلات وإلى إتاحة الحق في مراسلة خاصة وسرية. ومن جهة أخرى، وبشكل واضح وصريح، خصص نص مستقل في الدستور، وهو الفصل 11 من الدستور المغربي الذي نص على أنه “لا تنتهك سرية المراسلات”.

لكن يبدو أن الدستور عندنا لايعبّر عن الواقع العام بقدر ما يسرد مجرد مبادئ، أُريد أن تكون لها استثناءات جمة في القوانين العادية، في مقاربة غريبة وربما حصرية لا نظير لها. وهذا ما حصل بكل تأكيد مع ما ورد في الفصل 11 من الدستور وما أوردته المواد من 108 إلى 116 من قانون المسطرة الجنائية. إنه بصورة واضحة خرق لمبدأ دستوري ترسّخ منذ أول دستور وطني أي
منذ 1962 وحتى آخر مراجعة دستورية لسنة 1996.

والأغرب ما في الأمر، هو الصمت أو بالأحرى التزكية التي حضي بها هذا “الخرق”، والذي قيل أنه جاء، من جهة، ليواكب مستجدات ضرورة الحفاظ على الأمن والإستقرار. ومن جهة أخرى، ليواكب ماخرج به المؤتمرون في مؤتمر الأمم المتحدة العاشر لمنع الجريمة ومعاملة المجرمين، والذي عقد في فيينا في أبريل من العام 2000، والذي دعى إلى “ضرورة استحداث خطط عمل وطنية…”، لكن يبدو أن مشرعنا فهم إعلان فيينا كما أراد وأدرج إجراء “التقاط المكالمات والإتصالات المنجزة بوسائل الإتصال عن بُعد وتسجيلها وحجزها” ضمن الآليات الجديدة لمكافحة الجريمة وحماية الضحايا، ناسيا أو متناسيا الفصل 11 من الدستور، وبالتالي مبدأ تدرج القوانين، المبدأ الذي يدرسه طلبة الحقوق في سنتهم الأولى داخل الحرم الجامعي.

ولم يخرج عن هذا الصمت المرتبط بخرق هذا المبدأ الدستوري، سوى بعض الأصوات الحقوقية، ومنها المجلس الإستشاري لحقوق الإنسان في تقريره السنوي عن حالة حقوق الإنسان بالمغرب لسنة 2003، والذي أبدى قلقه من هكذا إجراء رغم تشكيله مجرد استثناء وإحاطته بعدة ضمانات وقيود. لكن ماأثار الإستغراب فعلا هو أنه من بين ماجاء في ذاك التقرير، هو القلق من هذا الإجراء، وفي نفس الوقت الموافقة المبدئية والقبول المشروط للمجلس الإستشاري لحقوق الإنسان بالتنصت أو بمعنى أصح “بالتجسس” على أسرار الناس وخصوصياتهم، إذ شدد على “ضرورة تخويل صلاحية الأمر بهذا التدبير ومراقبة تنفيده للقضاء الجالس وفق شروط دقيقة..”، وذلك كما جاء في التقرير “..من منطلق دولة الحق والقانون” !
وأعتقد أن موقفا كهذا فيه كثير من التردد ويطغى عليه كثير من الغموض، بل إنه تقرير غير مستقر ومتناقض الأجزاء.

الفقرة الثانـية: التنصت.. اختراق للحريات العامة

لا تدخل الحاجة إلى التواصل، مواضيعه وأهدافه تحت حصر. ولا تقف الحرية في التواصل عند حد توفير آليات التواصل، بل يمتد إلى تحصينه من كل إمكانيات الإحاطة بمواضيعه، مهما كانت المبررات. إنه الحق الذي لا يقبل التنازل عنه، ولايحتمل حتى النقاش في مسه كقيمة وكحق. أولا لأن مواضيع المكالمات وأهدافها تتعلق بالحياة العملية والحميمية أساسا، ومجرد تصور التنصت عليها
يُطغي الإحساس بالإحراج واللارضى. وثانيا للحذر الشديد الذي سيتم التعامل به مع وسائل الإتصال. وثالثا لفقدان الثقة في وسائل الإتصال تلك، وبالتالي بروز آثار سلبية على الواقعين الإجتماعي والإقتصادي.

وإمكانية التنصت على المكالمات تأخد أبعاداً أكبر من ذلك، فبمجرد صدور قانون المسطرة الجنائية الجديد، تحدث الكثيرعن تطور باهر في نسقنا القانوني الإجرائي وعن مكتسبات لطالما نادى بها المهتمين بالشأن الحقوقي في بلادنا.

ومن بين ماصّفق له في المدونة الجديدة تنصيصها في المادة الأولى، ولأول مرة، على “قرينة البراءة”، والتي تعني ببساطة أن “المتهم بريء إلى أن تثبت إدانته”. لكن يبدو أن العكس هو الصحيح في ظل الأوضاع الجديدة، وبالتالي “قرينة الإدانة” هي الأصل وأن “المتهم مُدان إلى أن تثبت براءته”. على أساس أن التنصت اعتبر إجراءا شاذا ويخالف الإجراءات القانونية السليمة، إذ يُستدرج الشخص المستهدف إلى اتهام نفسه وإقامة الحجة على نفسه. وهي الملاحظة التي سجلها تقرير المجلس الإستشاري لحقوق الإنسان بُعيد صدور قانون المسطرة الجنائية الجديد، إذ اعتبر التنصت وسيلة إثبات غير أخلاقية وتفترض اللجوء إلى التحايل لإقامة الحجة على تورط الشخص في الجريمة، وهو الإجراء الذي لايقل خطورة عن العنف.

وأخطر ما في الأمر، هو أن تصبح مع الوقت إمكانية اللجوء إلى التقاط المكالمات من أكثر الإجراءات استعمالا، وأن يصل الإستخفاف بخصوصيات الناس إلى عدم حصر اللجوء إلى هذا الإجراء في وقائع معينة، وذلك لسهولة إيجاد تبريرات اللجوء إليه، خاصة مع العبارات الفضفاضة التي استعملها المشرع المغربي في المادة 108ق.م.ج، والتي تفتح الباب أمام إمكانية التنصت في عدد كبير من الجرائم، منها جرائم فضفاضة تشمل العديد من الأنواع الأخرى من الجرائم بالضافة لإدراج المشرع لعبارة “ضرورة البحث” و التي قد تحمل أكثر من تأويل. زد على هذا وذاك تساهل مشرعنا مع منتهكي سرية المراسلات على مستوى العقوبة.

إن الثقة في معنى “الحرية” في ظل الوقائع الجديدة، أضحى أصغر من تصورها تتأرجح بين الحماية والتقديس وبين الإختراق والإستهزاء.
فليس من السهل تقبلأنه في عصر ترفع فيه شعارات الشفافية والمصداقية والليبرالية، تقبل انتهاكأ بسط الحقوق وأجلّها، إنه الحق في الخصوصية وفي احتفاظ المرء بسرية أشياء تهمه ولايرضى وصول غيره إليها.

ويثير باستغراب شديد بُند ورد في تقرير المجلس الإستشاري لحقوق الإنسان لسنة 2003، بُند جاء فيه أن مقتضيات ق.م.ج لاتتضمن أية إشارة إلى ضرورة الإخبار البعدي لللأشخاص الذين يتم إلتقاط مكالماتهم ومراسلاتهم. ونتسائل هنا، أنه حتى لو تم إدراج مقتضيات من هذا النوع، نتساءل عن فائدته طالما أنالإنتهاك قد تم والسرية فقدت مدلولها. إنه بحق تطفل واضح وصريح وغير مقبوللحرية ناشدها الجميع وتطلع إليها حتى قبل الثروة المعلوماتية المتعلقة بالإتصالات في عصرنا المُعاش.

لقد سطعت خلال السنوات القليلة الماضية جدلية الموازنة بين ممارسة الحريات وبين حفظ النظام العام. جدلية ليست جديدة بالمرة، ولكنها أضحت أكثر تداولا في مختلف المنتديات في إصرار ملحوظ ومثير. جدلية تجاذبتها الأطروحات وأضحتمحط أخد ورد وتنظيرات محيرة. جدلية كثيرا ما تنتهي بالميل إلى “حفظ النظام العام”، وإن تم التنازل والمغامرة بممارسة الحقوق المشروعة.

لكن، نعتقد أنه بوصول مبررات الإستقرار وحفظ النظام العام حد التطاول على حقوق الأفراد في الخصوصية أمر غير مقبول، لأن افتراض سوء النية في الجميع أمر غير محمود العواقب، كما أن المغالات في تصوير الواقع بهذه القتامة، قد يبلغ حد قلب موازين البراءة والإدانة ويخلف من وراءه أخطار اللاثقة بين الأفراد والسلطة.

ومهما يكن من أمر، فإن واقع الحال في مختلف دول المعمور يتجه نحو الأخذ المطلق بالتقاط المكالمات والتنصت عليها، في تمادي متواصل وتجاهل تام لنداءات المنظمات الحقوقية وتوصيات الهيئات المهتمة بحقوق الإنسان، في زمن أضحى خرق مبادئ حقوق الإنسان “موضة” قيل أن الهدف من وراءها ترصد المجرمين،خاصة وأن مبررات “مكافحة الإرهاب” أصبحت ورقة بيضاء
تُبيح اعتماد وإجازة كل الإجراءات